احتلال بأثر رجعي مدته 7 آلاف سنة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
احتلال بأثر رجعي مدته 7 آلاف سنة


بقلم : فهمي هويدي

يصعب على أي انسان سوي أن يفترض البراءة في مقاصد تلك الحملة الوحشية التي لم تترك شيئا في العراق إلا وانقضت عليه وحاولت افتراسه، ولم يقف ذلك عند حدود الحاضر والمستقبل، وانما طال الماضي أيضا، حتى بدا وكأنه غزو «بأثر رجعي» امتد الى القرن الخامس قبل الميلاد، واستهدف الانتقام من العراق بمحوه تماما، واعادته الى نقطة الصفر، كما قال بحق روبرت فيسك محرر «الاندبندنت»، و«انشائه من جديد»، على حد تعبير تركي الحمد في «الشرق الأوسط».

ادري ان الزلزال الذي ضرب الحاضر والمستقبل بمثابة كارثة حلت ليس بالعراق وحده، وانما بالامة العربية كلها، وأنه بعدما اكل «الثور الابيض»، فان الدور سيحل على الباقين واحدا تلو الآخر، واذا كانت السهام قد صوبت بسرعة نحو سورية، فلا يظنن احد انه سيكون ناجيا من الطوفان، الا اذا ركع وامتثل، وقنع بحصته في اعادة «التشكيل». ورغم ان ما جرى حتى الآن يمثل مشهدا عبثيا بامتياز، الا ان اغتيال الماضي، والجهد الذي بذل لمحو الذاكره العراقية يعد شيئا لا يصدق، يضاعف من العبثية ويصيبنا بالذهول المقترن بالفجيعة والدهشة.

الجريمة تتابعت فصولها على النحو التالي:

اثناء حرب الخليج الثانية في عام 91م حين تعرضت بغداد للقصف الامريكي اختفت بعض الكنوز الاثرية العراقية، وبيعت في السوق السوداء بأوروبا والولايات المتحدة، الامر الذي اثار انتباه تجار التحف والعصابات المتخصصة في سرقة الآثار، وهو ما تكرر مع افغانستان حين احتلتها القوات الامريكية في عام 91. وحين بدا ان الولايات المتحدة عازمة على مهاجمة العراق واسقاط نظامه تحركت العناصر المستفيدة من تجارة الآثار لاقتناص الفرصة، وطبقا لما ذكرته دومينيك كولين، خبيرة الاثار بالمتحف الوطني البريطاني، فقد عرف ان اجتماعا عقد في واشنطن قبل اشهر من بدء الحرب، ضم من جانب تحالف تجار التحف الامريكيين والمحامين المختصين بالفن والدين، الذين يطلقون على انفسهم اسم «المجلس الامريكي للسياسات الثقافية»، وكان الطرف الآخر في الاجتماع هو بعض المسؤولين في وزارة الدفاع (البنتاجون)، في الاجتماع عرض ممثلو التحالف المذكور على مسؤولي وزارة الدفاع ان يقدموا مساعداتهم في حماية التراث في العراق، غير ان هذا العرض فسره علماء الآثار ـ والكلام للخبيرة البريطانية ـ بحسبانه اشارة الى وجود «اجنده» خفية لتسهيل الحصول على القطع الاثرية العراقية النادرة بعد الحرب. يؤيد ذلك الاحتمال أن اعضاء التحالف ادلوا بتصريحات بعد الاجتماع قالوا فيها ان القوانين العراقية «مبالغ فيها واستحواذية»، وطالبوا بتخفيف القيود المفروضة على التعامل مع الآثار، (الاهرام القاهرة 4/19).

اثناء الحرب تجاهلت القوات الامريكية كل التنبيهات والتحذيرات. وعلى حد تعبير عالم الآثار الروسي البروفيسور بيوتروفيسكي، فان القادمين من بلاد لا يزيد عمرها على 300 سنة، ولم يسمعوا عن ميلاد ما بين النهرين أو حضارتها الممتدة، عبر التاريخ الانساني، لم يعيروا أي اهتمام للكنوز الاثرية التي يزخر بها العراق، وكل ما حرصوا على حمايته وتأمينه، لم يتجاوز حدود وزارة النفط وآباره.

لقد قصفت بداية متحف بغداد بقذيفة اطلقتها دبابة امريكية، وفتح المتحف الاغلى حضاريا في العالم على مصراعيه امام عملية النهب والسلب والتدمير، التي طالت متحف الموصل ايضا، وقدر عدد القطع الاثرية والنادرة التي اختفت من المتحفين بحوالي 1700 قطعة. احرقت المكتبة الوطنية ايضا، التي تضم تاريخ العراق المكتوب، كذلك احرق مركز الوثائق الوطنية، ومكتبة وزارة الاوقاف وبها عشرات الآلاف من حجج الوقف، وكذلك مكتبة الاذاعة والتليفزيون، ونهبت كل الاعمال الفنية الموجودة بصالة صدام للفنون، وكانت نتيجة هذه الحملة البربرية ان اختفى تاريخ العراق تماما، وحسب ما قال لي احد اساتذة التاريخ في لندن، فانه لم يعد بمقدور أي باحث عراقي ان يعد اطروحة للدكتوراه عن تاريخ بلاده، وما عاد بوسع أي باحث ان يعرف شيئا عن الاوقاف في العراق ولا عن الملكية العقارية فيها، بعدما اختفت أو احرقت كل الوثائق التي تخصها. انه العودة الى نقطة الصفر، التي قد تجعل اجيال المستقبل يتوهمون ان العراق ظهر الى الوجود فقط في العشرين من مارس 2003، تاريخ الغزوة الامريكية.

حدثت تلك الجريمة البشعة تحت اعين القوات الامريكية التي وقفت تتسلى بالمنظر وغير مبالية به، وقد فضحها الصحفي البريطاني روبرت فيسك حين روى ما شاهده بعينيه في مقاله نشرتها «الاندبندنت» في 4/15، وكتب ما نصه: ذهبت الى القوات التي تحتل البلاد ودخلت مكتب الشؤون المدنية بالبحرية الامريكية واخبرتهم ان النيران تشب بالمكتبة الوطنية ومكتبة علوم القرآن بوزارة الاوقاف وأنها على بعد خمس دقائق منهم وكتبت لهم العنوان بالعربي والانجليزي ورسمت لهم خارطة الموقع وقلت ان ألسنة اللهب يمكن مشاهدتها عن بعد ثلاثة اميال، وعدت وانتظرت في الموقع امام المكتبة المحترقة نصف ساعة فلم يحضر أحد.

حين عرف امر الفضيحة وتكشفت ابعادها، قدم مستشار الرئيس الامريكي للشؤون الثقافية استقالته من منصبه، كما استقال معه اثنان من اعضاء اللجنة الاستشارية التي يرأسها، ونشرت صحف السبت 4/19 تصريحات لمستشار الرئيس مارتن سوليفات قال فيها، ان ما جرى في بغداد كارثة تاريخية تفوق ما فعله هولاكو بها قبل سبعة قرون. وتحركت اليونسكو في باريس (بعد اسبوع من وقوع الجريمة)، واتخذت عدة قرارات لحماية التراث العراقي (لم نسمع صوتا لمؤسساتنا الثقافية ؟). واعلن البروفيسور الامريكي ماك جيرجيبسون خبير الآثار العراقية ان «القوات الامريكية تتحمل مسؤولية ما حصل»، واضاف ان عملية النهب رتبت في الخارج وان بعض الآثار المنهوبة وصلت الى اوروبا (اعلن في باريس ان الجمارك الفرنسبة احتجزت 500 قطعة من القطع التي نهبت وهربت). ولذر الرماد في العيون فان الولايات المتحدة قالت انها سوف ترسل فريقا من عناصر الشرطة الفيدرالية الى العراق للمشاركة في تحقيقات عملية النهب والسرقة.

غير ان ذلك كله لا يكفي، بل ربما يكون ذريعة لاغلاق الموضوع وطي صفحته بهدوء، بعد امتصاص مشاعر الصدمة والغضب، ولا مجال هنا للمقارنة بين الضجيج الذي هز ارجاء الكرة الارضية حين هدمت حركة طالبان تمثالي بوذا في افغانستان، وبين الاصداء المتواضعة نسبيا للجريمة الكبرى التي وقعت في بغداد، رغم ان ما فعلته طالبان اقل من عشر معشار ما سكت الامريكيون عليه في العراق.

ان تشكيل لجنة تحقيق دولية فيما جرى، ومحاسبة المسؤولين عنه، تمثل الحد الادنى من التعامل المسؤول والجاد مع الجريمة التي تشير بعض الدلائل الى ان في الامر تعمدا يتعذر تجاهله. واذا لم يثبت العمد فالقدر المتيقن ان ثمة اهمالا جسيما من جانب القوات الغازية في حماية الكنوز العراقية التي نهبت واحرقت. كما ان ثمة لغطا كثيرا حول العناصر التي قامت بالعملية، ولا يمكن ان يحمل الرعاع واصحاب السوابق بكل المسؤولية في هذا الصدد، حيث لا مصلحة لهم في احراق المكتبة الوطنية أو دار الوثائق وامثالها.

ان من حق العالم ان يعرف المسؤول عما جرى والمستفيد من الجريمة التي ارتكبت في العراق بحق الانسانية جمعاء، ومن واجب مؤسسات الشرعية الدولية ان تحاسب وتدين من يثبت تورطه في الجريمة الحضارية البشعة. وأي اجراء دون ذلك يظل اسهاما في تمرير الفضيحة ولفلفتها.

حين قرأت في صحف صباح السبت الماضي ان الولايات المتحدة ارسلت الف خبير تحت امرة احد الجنرالات للقيام بمسح العراق، قلت ان تلك هي الدفعة الثانية من المبعوثين، الذين تكفلت دفعتهم الاولى بمسح ذاكرة العباد، وجاء الدور على الثانية لكي تقوم بمسح البلاد. انه «التحرير» في أعلى درجاته.

المصدر