احتلال المكان نفيا لاستعادته كما كان
بقلم : محمد يوسف جبارين(أبوسامح)
الاستيطان هو عقل السيطرة .. هكذا هي فكرة الاستيلاء على المكان ، اقتلاع واحلال بناء واسكان وعيش فلا امكانية لحوار على اقتلاع ، من بناء او اجتثاث لمرتكزات البناء .. فاذا اردت استيلاء على أرض.. املأ الأرض بنيانا وناسا ..فهكذا الصهاينة يفكرون ، ويعملون ، ولا يكلون ولا يملون ، فلديهم الوعي بما يريدون ، فاليه يسعون ولا يتوقفون . انهم يعرفون كيف ينجزون ، فلا يقيمون في سبيل ذلك أية قيمة ، لغير الجهة التي اليها هم تابعون ، ومنها يستمدون ما يرجون ، وذلك في خلال سعيهم الى ما يبتغون .. فهكذا الصهيونية بما هي عليه في الواقع العملي ، وهي في سياساتها في كل ما يتصل بالاستيلاء على الأرض ، والانزراع فيها ، باستيطانها ، انما هي مشتقة من الاستعمار الاستيطاني عبر التاريخ ، فمن مدارسه تخرجت ووعت دروسه ، وهي في ممارساتها تحاكي هذه الدروس ، وتضيف اليها ، وقد جاءت موجاتها الاستعمارية الى أرض فلسطين ، منداحة بكل أحقاد التاريخ ، مدعومة من القوى الاستعمارية الراغبة في أن تظل باسطة هيمنتها على المنطقة العربية ، لضمان سيولة جريان خيرات هذه المنطقة ، في حلوق الشركات الرأسماية الضخمة في الغرب ، ولتعيق نهضة هذه الأمة ، ففي هذه النهضة ، ما يعني فقدان هيمنة وسيطرة ، ، وحجب نهب وسلب ، وتوحي النهضة تحت ظلال ايحاءات التاريخ ، ما يقلق وينذر بمخاطر تدق على بوابة الغرب ،
وأيضا لتغدو اسرائيل بالبنيوية والماهية التي تكون عليها ، قادرة على أن تكون مصدر خلل دائم ، ومصاصة دائمة لطاقات هذه الأمة وهدرها ، واعاقة مستمرة لوحدة هذه الأمة التي هي بعينها ضرورة من ضرورات هذه النهضة ، وأيضا لتكون اسرائيل أرضا.. قاعدة عسكرية متقدمة ، توفر سهولة المواجهة عند الضرورة لكل خطر يلوح وينذر بقدومه من جهة الشرق ، فتكوين اسرائيل ، ببنيويتها وماهية سياساتها، نتاج اندراج في المشترك بين الطموح الصهيوني بتجسيد حلم الدولة اليهودية وبين الاطماع الاستعمارية ، وفي داخل هذا المشترك تملك الصهيونية أن تستقطب الدعم ، لتغذية تقدمها في تجسيد حلمها ، فمن هنا ، وبمقتضى التجسيد للحلم ، يصبح اقتلاع أصحاب الأرض الأصليين ، وقتلهم ، أو تشريدهم من أرضهم ، انما هو فضاء فكرة التجسيد ، فلا يمكنه الحلم أن يكون ملموسا في الوعي والممارسة الصهيونية ، من دون أرض مفروشة بدماء الفلسطينيين ، فكينونية هذا الكيان الاستعماري اسرئيل ، لا تتجسد في واقع من دون نكبة تحل بشعب آخر هو شعب فلسطين ، فالابتسامة في وجه مستوطن صهيوني ، انما هي في أصلها آتية من داخل نزيف الدم الفلسطيني، ... ومع ذلك لا يزال السؤال على الشفاه : فأين ذهب المستعمرون الفرنسيون الذين سكنوا بناء ، وعاشواعلى أرض الجزائر ..خلعتهم الثورة من أرض ليست لهم ، ومن بناء أقاموه لاستيطان أرض غيرهم ..ذهبوا ..أصبحوا ذكرى مزعجة في تاريخ أرض وشعب انحاز الى الحرية ، فعانقته وارتفعت راياتها بين يديه وفي تاريخه .. مفخرة باقية هي الحرية في حركة شعب ،عرف كيف يعيد كتابة تاريخه .
وأين عساكر بريطانيا في مصر .. خلعتهم ارداة شعب قرر أن يكون السيد على تراب أرضه.. وأين العجرفة الاستعمارية والأوهام والأحلام في جنوب لبنان ، خلعتها ارادة شعب عانقت روحه الكرامة والعزة والاباء.
فأن يستغفل مستعمر الزمان ، ويملأ الأرض بنيانا شاهقا أو منخفضا وناسا وعيشا وكأن الأرض سائبة ، بلا تاريخ وناس ليبقى فيها ، بحجة شموخ بنيان اقامه هو فيها..هو بذاته الفكر الاستعماري الذي لا محل له من الاعراب، في ساحات عقل تشاغله الحرية ، فالأرض تتكلم اللغة العربية ، حتى ولو ارتفع فيها غصبا بنيان المستعمرين ، الى عنان السماء .
فكما أخرج المستعمرون الناس من أرضهم ليقيموا بنيانهم ، بعد أن أخربوا بنيان حياة من كانوا فيها ، فلا أقل من أن يخرجوا من بنيانهم ، ثم أن يخرجوا بنيانهم من أرض غيرهم .
أما أن يبقوا فيها لأنه يصعب خروجهم منها ، أو لأن اللامعقول أن يخرجوا ، ولا يصح لعاقل أن يطرح لامعقولا ، على عقل ، فبذلك جعل العقلية الاستعمارية مرجعية للعقلنة يقاس عليها..وهذا نقيض الحرية ..وضد ارادة شعب أخرج من أرضه عنوة ، وأخربت بيوته قهرا وعدوانا، وفي ذلك انسحاق في مفاهيم استعمارية واندماج ولو في شق من رضوخ وخنوع ، بسبب من استشعار لعجز حيال طامع في الأرض .. مستعمر ، ما عرفت يداه غير التخريب في الأرض ، ليعيد قيامة لذاته عليها. وقد يكون ما ذكره يادين في مذكراته من أن بن غوريون ، قال له بأنه يتوجب ازالة أسوار القدس القديمة من الوجود ..لمحو كل أثر عربي في المدينة ، انما يدل على عمق الفكرة الصهيونية ، في نزعتها المبرمجة الى اقتلاع الوجود العربي ، ليس فقط في القدس ، وانما في الأرض التي تطمح الصهيونية، الى اقامة وطن قومي لليهود عليها.
وقد يدل تاريخ الصهاينة في أرض فلسطين على محو لمدن وقرى بالمئات.. ومحو آثار.. وكل ذكر لعرب ، حتى لا يبقى ما يدل ، على أن في ذلك المكان كان هناك العربي ..فبمقدار نجاح الصهيونية في مشروعها ، كانت صناعتها للكوارث لأبناء فلسطين.. وبمقدار ادعاءاتها بحقها ، فيما تقوم به ، كان زيف التاريخ. ومع كل بناء أقامته كان ينمو نكرانها لحق أصحاب الأرض الاصلين . فكذلك حال القدس فقد راحت الصهيونية ممثلة باسرائيل ، في ربط بين الدين اليهودي والتاريخ اليهودي ، على مقدار ما يتسع لليهود وعيه بهذه المدينة ، في صياغة محكمة للهوية اليهودية ..فالمدينة ، من وجهة نظر صهيونية ، هي عاصمة الهوية اليهودية ، وعاصمة التاريخ اليهودي، وعاصمة الصهيونية العالمية ..فيها تتجسد روح شعب عاد بعد شتات الى أرض آبائه وأجداده ..فبهذا الاتجاه سعت بخطط البناء لتقام أورشاليم الكبرى ..عاصمة لدولة اسرائيل ..دولة اليهود. فقد لاحت فكرة أورشاليم ( أور سالم ..مدينة سالم ..القدس ) الكبرى للصهيونية ، وكأنها الفكرة الضمان التي بها يصعب عودة القدس ، الى حالها الذي كان ، فاحتلال المكان واسكانه يعني نشأة أخرى ، لا يكون معها امكان قبول مقترح ، يعيد تفكيك تواصل قائم في داخل مدينة مترامية الأطراف .
فهناك القدس القديمة وفيها المسجد الأقصى ..حيث الوعي الديني اليهودي والتاريخي ، يقول بأنه هو مكان هيكل سليمان ، ملك اليهود ولا بد لليهود من ازالته يوما لاقامة الهيكل مكانه.. لتتكمال لليهودية هويتها في اعادة هيكلة للمكان في الزمان ..تتجدد بذلك اليهودية باعادة رسم التاريخ ، بقدرات يهودية ، تعيد تشكيل الهوية اليهودية ، بكل رمزيتها التاريخية والتوراتية.
وهكذا كانت فكرة أورشاليم (القدس) الكبرى ، ممتدة في البناء الى ما يجعل القدس القديمة ، حيا من الأحياء في داخل مدينة ، ممتدة على جبال وجبال .
بل وأكثر من ذلك اشتملت الفكرة على خلخلة التجانس ، وتماسك البنية في القدس القديمة ، في احتلالات لأحياء وبنايات في عملية تفكيك مدروسة .
وذلك وفق مخطط استعماري لا يقيم لغير أهدف يسعى اليها أية قيمة.
فكل القوة وما تقوى به من قمع ، والمال والقضاء في اسرائيل مندرج في سياق تنفيذي لقكرة أورشاليم الكبرى.
وليس البناء الصهيوني في( هار حوما ) في جبل ابوغنيم مثلا ، سوى حلقة من حلقات البناء المندرجة ، في مخطط القدس الكبرى ، وقد يكون قد تم البدء بهذا المشروع الاسكاني مع مطلع التسعينات ، الا أنه لم يكن وحده المشروع الذي تسارعت به اسرائيل في استكمال بناء القدس الكبرى ، وتوسيعها الى أبعد مدى ممكن.
لكن خطورة الموقف في توسيع البناء الكثيف القائم في جبل ابوغنيم .
وهو ما كان قام المشروع الاسكاني كله في ذلك المكان من أجله.. وهو استكمال حزام من الأبنية يؤدي دورا هاما لاسرائيل ، بترسيخ فكرة أورشاليم الكبرى في الواقع العملي ، ذلك بأن حزاما كهذا ، يفصل ما بين بيت لحم وبيت ساحور وبين صور باهر وأم طوبا.
فهو بالغ الأثر على فكرة القدس عاصمة لدولة فلسطين .
فهي بحالها الذي هو عليه الآن يصعب القول ما هي ..فما هي .. هل هي التي كانت ..فأين هي.. وهل تعود سيرتها الأولى ..فكيف ..فاذا القدس عاصمة فلسطين.. ففكرة أورشاليم الكبرى استكملت كل الحلقات لكي تنفيها ..فكيف يتم نفي النفي ..لا مفر من نفي النفي .. لا مفر ..وذلك لكي تكون هناك القدس عاصمة لدولة فلسطين المستقلة.
ولم تكن اعادة هيكلة القدس على ما يندرج في قصة الصورة المتخيلة صهيونيا لدولة اسرائيل ، كما تراها هي مقصورة على ما يعزز هذه الهيكلة ، في عملية نفي لأي نوع ، من امكانية انتزاع القدس الشرقية ، من السيادة الاسرائيلية ، بل الهوية اليهودية وما تندرج فيه من أساطير تؤسس للعقيدة اليهودية والهوية الاسرائيلية ، استدعت التحويط لحق مزعوم لهذه الهوية في جوانب الأقصى ، ومن تحته ، وبكل ممكن متاح من سيطرة ، يمكنها أن تنساق في سجل اتفاق قادم مع الفلسطينيين .. فلكم فوق الأرض ولنا تحت الأرض .. فهذه الجملة التي ألقى بها براك على مسامعياسر عرفات في كامب ديفيد ، فما كان من عرفات ، الا أن قال بأنه لم يكن ثمة هيكل في القدس ، وانما الهيكل كان في نابلس ، وقد ذكر هذا دينس روس في مذكراته( كتاب ..السلام المفقود) ، عن تلك المباحثات التي رعاها الرئيس الاميركي كلينتن ، ومع أن دينس روس يصف ما قاله ياسر عرفات بكلمة أساطير ، وبأنه ينكر حقا لليهود في هويتهم ، الا أنه بذلك يكشف حقيقته ، وحقيقة الانحياز الكامل لادارة أميركية لجانب الأسطورة في الزعم اليهودي ، بحق في هوية لا بد من تجسيد لها في واقع ، فمن وجهة نظر العقيدة الاسلامية ، فان سليمان مسلم ، وبنص القرآن ، ولا علاقة لغير المسلمين به ،
فالمسلمون أحق به ، وكل زعم لغيرهم به ، انما هو الباطل الذي يتنافى مع عقيدة الاسلام ، فكل صلة بسليمان من جانب يهود أو غيرهم ، انما هي منكورة من وجهة نظر الاسلام ، ويكفي العرب والمسلمين ، بأن الدين وحقائق التاريخ وعلوم الآثار ، كلها في جانبهم ، لتبقى الأسطورة ، والزعم الذي لا يجد ما يؤيده ،غير جملة الزعم ذاتها التي تفتقر الى أدنى دليل ، على غير كونها الزعم الباطل ذاته ، ناهيك الى سير التاريخ وما كان عليه ، وما لجملة الشك المتنافذ في حيثياته ، التي يفال عنها بأنها كانت ، وليس ما يدل عليها سوى حرف قلم قال بها ، بعد مرور ثمانيمائة عام تخللها في خلال ذلك ، كل ما يجعل الشك يقربها من السرد القصصي والفكري ، المشتق من خليط فكر ، ووهم ورغبة كاتب ، ارتأى قوله باللون الذي شاء .
فالأسطورة ، ليست مشتقة من حقيقة ، ولا يلامسها اليقين بحال ، وانما هي في القناعات مقيدة بعقيدة ، يرسم معالمها ايمان ، لا يقيم للحقيقة حين تناهزه ، سوى القذف بها في سلة المهملات ، فهي كما تتبدى له ، نتاج الآخر المنفي في نطاق الاعتقاد بالاسطورة .
ولقد يتغافل دينس روس ، وكل من يدور في دائرة المساند للفعل الصهيوني ،عن حقيقة نشاطه ، لكنه لا يملك أن لا يكون مكشوفا ، كما الدائرة التي تحركه أو يتحرك في خلالها ، ولا يستطيع الا أن يقر بأنه ولفيف الدوائر تلك انما هو المضاف ، في فعل الاخضاع الصهيوني ، تيسيرا للأطماع الصهيونية ، فلعلها بالغة ما تريد في التوسع والسيطرة ، فكل حروب اسرائيل ، انطلقت من داخل حضن أوروبي، أو أميركي داعم ومساند ، من البداية حتى النهاية ، وأيضا الاستيطان والتوسع فيه ، في الأراضي الفلسطينية ، انما كان ولم يزل يجري تحت غطاء من مساندة أوروبية وأميركية ، ترى من واجبها أن لا تعترض اسرائيل ، في استكمال مشروعها في تدعيم أمنها وفي ترسيخ هويتها ، في عملية استيطان تبدل في حقائق الجغرافية السكانية ، في الاتجاه الداعم لهذا الأمن وهذه الهوية .
وأحسب بأن تمييز الواقع ، بكل ما يعج به من متغيرات ، انما يستدعي وعيا فلسطينيا حركيا ، يستجيب لهذه المتغيرات ، بما تمليه المصلحة الفلسطينية ، وما تقتضيه من واجب يلح على أدائه ، فمطلوب المواجهة ليس تشرذما ، ولا عقلية مأخوذة بتشكيل حكومة ، وما تتيحه من نصيب ، يصب في عروق هذا الفصيل أو ذاك ، بل الوحدة المتحركة باستراتيجية تحرير ، لا تدع منصة دولية الا وتعمرها بحقها في الحرية ، ولا تدع عقبة الا وتنزلها في وجه التوسع الصهيوني في الأرض ، وهي وحدة فعالة ، فكل فصيل له دوره ، وكل في تناغم في خلال السير نحو الحرية .
المصدر
- مقال:احتلال المكان نفيا لاستعادته كما كانالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات