احتشموا أيها السادة
ادعو إلى بعض الاحتشام في طقوس استقبال السنة الميلادية الجديدة، ذلك ان احدا لا يتخيل ان تحترق غزة وتغرق في بحر من الدماء والاشلاء، في حين تقام الاحتفالات الصاخبة والماجنة في مختلف العواصم العربية، التي يحييها نجوم الغناء والطرب والرقص، فتعانق غزة الموت بينما الساهرون العرب يتبادلون الانخاب وهم يترنحون ذاهلين.
لا أخفي ان في نفسي شيئا ازاء العملية من اساسها، ذلك انني رغم ترحيبي بفكرة الترويح التي تشيع البهجة والسرور بين الناس ـ في حدود ما هو عفيف ومشروع بطبيعة الحال ـ فإن لدي حساسية خاصة ازاء مبدأ التقليد الأعمى لنمط الحياة الغربية، ما جعلني اعتزل هذه المناسبات بصفة دائمة، وهو موقف ظل محل حفاوة وتشجيع طوال الوقت من جانب زملائي، حين كنت أعمل ضمن سكرتارية التحرير في «الأهرام» لأنني كنت الوحيد الذي لا يتأذى من السهر بالجريدة حتى الفجر في ليلة رأس السنة، الامر الذي يتيح لزملائي ان يسهروا «على راحتهم» خارجها، وفي وقت لاحق لم اتخل عن تحفظي، لكنني تعاملت مع المسألة باعتبارها بدعة شاعت في بعض الاوساط، وربما جاز لنا ان نتعامل معها بحسبانها من «عموم البلوى».
لست في صدد مناقشة المسألة الآن، لان لدينا ما هو اهم، ذلك اننا هذا العام بالذات امام ظرف شديد الخصوصية، يتمثل في المذبحة الدائرة في غزة، التي يفترض ان تستنهض الأمة وتستنفرها، فتحرك فيها نوازع التضامن بكل مظاهره، والحد الأدنى للتضامن يتمثل في التعبير عن احترام المشهد ووقاره من خلال الاقدام على فعل يترجم تلك المشاعر، او الامتناع عن الفعل الذي يستهين بها او يخدشها.
لقد احترمت كثيرا وقدرت ما أقدمت عليه مجموعة الخرافي الكويتية، التي تنفذ مشروعا عمرانيا كبيرا على شاطئ البحر الأحمر، حيث نشرت إعلانا على الصفحة الأولى في «الأهرام» أمس الأول (29/12) نعت فيه ضحايا مجزرة غزة، ودعت شرفاء الامة وقادتها إلى الوقوف إلى جانب المحاصرين، من ابناء الشعب الفلسطيني، ثم اخبرت المتعاملين معها بأنها قررت إلغاء الحفل الغنائي الذي كان مقررا اقامته بمناسبة رأس السنة في مشروع «بورت غالب» الذي تنفذه، احتراما لمشاعر الشعب الفلسطيني واعرابا عن التضامن معه.
هذا موقف نبيل لا ريب، فيه تعبير كاف عن التضامن واحترام اللحظة التاريخية، ولا اعرف كم عدد الجهات التي بوسعها ان تحذو حذوه،ادري ان ثمة جهات عديدة ترتزق من هذه المناسبة، وقد يحملها الالغاء بما يضرها او بما لا تطيقه، لكني اذكّر بأن اهل غزة يدفعون من دمائهم وحياتهم ثمن مقاومتهم الذل والركوع امام الصلف الاسرائيلي، ولا غضاضة في ان يتحمل الراغبون في التضامن معهم اثمانا تقل عن ذلك بكثير، ولعلك لاحظت ان دعوتي الاساسية انصبت على «الاحتشام» الذي يحتمل مراتب واشكالا عدة، يمثل الامتناع حدها الاقصى، لكننا مع ذلك اذا كان لنا ان نعذر مشروعات القطاع الخاص، فإننا لا نستطيع ان نعذر الحكومات، خصوصا تلك المسيطرة كليا او جزئيا على أغلب القنوات الفضائية. واذا كان القطاع الخاص مهموما بفكرة الربح والخسارة المادية، فإن الحكومات محكومة بالحسابات السياسية بالدرجة الأولى.
ما أريد ان اقوله بوضوح ان احتشام القنوات التلفزيونية العربية في ليلة رأس السنة بمنزلة فرض عين لا ينبغي التحلل منه، واستمرارها في برامجها المعتادة على النحو الحاصل الآن لا يمكن ان يفترض فيه البراءة او حسن النية، بل ان المضي في السهرات الليلية العابثة في هذه الظروف لا يمكن ان يفسر الا بأحد احتمالين:
التواطؤ للتستر على الجريمة المرتكبة، او السعي لصرف انتباه المشاهدين عن واقع المذبحة، عن طريق إلهائهم بمغريات اخرى.
ومع الأسف فإن بعض القنوات العربية اتبعت ذلك النهج منذ بدأت المذبحة يوم السبت الماضي، وتعاملت مع المجزرة وكأنها حادثة وقعت في قارة او كوكب بعيد عنا، وكانت تلك في حدود علمي سقطة كبرى ادت الى تراجع نسبة المشاهدين، وتحولهم الى محطات أخرى احتشمت وتضامنت، والتزمت بالتعبير عن ضمير الامة وليس بموالاة اعدائها.
سنرى من ينجح في اجتياز الاختبار بنجاح في ليلة رأسالسنة؟