إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ
24-01-2014
محتويات
مقدمة
حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاه واهْتَدى بِهُداه.
وبعد؛ فقد ذكرَ علماءُ السِّيرةِ أنَّ أبا سُفيانَ وجموعَ قريشٍ أرادُوا أن يُدخِلوا الرُّعْبَ والخوفَ في قلبِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقلوبِ المسلمينَ بعدَ غزوةِ أُحُدٍ، فقالُوا لرَكْبٍ من عبدِ القَيْسِ مَرُّوا بهم في طريقِهم إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا وَافَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنّا قَدْ أَجْمَعْنَا السّيْرَ إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ؛ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهُمْ. فَمَرّ الرّكْبُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِاَلّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: «حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».
وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».
وبقِيَ هذا الدرسُ للأمةِ كلِّها درسًا حيًّا متجددًا، من خلال آيات القرآن التي خلَّدته؛ إذ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 173- 175(.
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
معنى هذه العبارة: أنَّ الشيطانَ يُعَظِّمُ ويُضَخِّمُ شأنَ أَوْلِيَائه من أهلِ الضَّلالِ فِي صُدُورِ الناسِ، ويُظْهِرُهم بمظْهَرِ القُوَّةِ والقُدْرةِ، ويُوقِع في النُّفُوسِ أنهم ذَوُو قُوَّةٍ باطشةٍ جبَّارةٍ، وذلك ليَخَافُوهُم، وليُحقِّق بهم الشرَّ والفسادَ في الأرض، وليُخضِعَ لهم الرِّقابَ، ويُطَوِّعَ لهم القلوبَ، ويُوهِمَهم أنه لا تستطيعُ قوةٌ معارضةٌ أنْ تقفَ أمامَهم، حتى لا يرتفعَ في وجوهِهم صوتٌ بالإنكارِ، ولا يُفَكِّرَ أحدٌ في مواجهتِهم أو دفعِهم عن الشرِّ والفساد.
وإنَّ من أكبرِ أعوانِ الشيطانِ في تحقيقِ هذا التخويفِ الزَّائف: ذلك الصفَّ من الدجَّالين المنافقين مُدَّعِي الثقافةِ ومحترفي التزييفِ والإِرْجَاف ومُفْتِي الضَّلالةِ؛ الذين يقومُون بعمليةِ التَّخْذِيلِ والتَّثْبيطِ والتَّخْويفِ والتَّيْئيسِ، وضربِ مَناعةِ الأمةِ، وإضعافِ إرادتِها وعزيمتِها وقوتِها النفسية، وإشاعةِ الانهزامِ في صفوفِها.
فبسَيْفِ التخويفِ وفي ظلِّ الإرهابِ والبطشِ يتحركُ أولياءُ الشيطان، يَكْتُمون صوتَ العقْلِ والرُّشْدِ، ويُبَدِّلون القِيَمَ، ويُرَوِّعون الآمنين، وينشرونَ الفسادَ والباطلَ والضلالَ، ويَخْنُقون صوتَ الحقِّ والعَدْلِ، ويُقِيمون أنفسَهم آلهةً في الأرضِ، تَحْمِي الشرَّ وتحاربُ الخيرَ، دونَ أنْ يَجْرُؤَ أحدٌ على مناهضتِهم، بل دونَ أن يَجْرُؤَ أحدٌ على كشفِ الباطلِ الذي يُرَوِّجون له، وجَلاءِ الحقِّ الذي يسعَوْن لطَمْسِه.
==الخوفُ من اللهِ يُقَوِّي القلبَ ويُحَرِّر النفسَ من الخوْفِ من الخلق==\
من هنا يضعُ اللهُ سُبحانَه أيديَ المؤمنينَ على الحقيقةِ المطلقةِ في هذا الوجودِ، حتى لا يرهَبُوا أولياءَ الشيطانِ ولا يَقَعُوا أَسْرَى تخويفِهم؛ فيقول تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي أنَّ الإيمانَ باللهِ يقتضِي أنْ تُقَدِّموا خوفَ الله على خَوْفِ ما سِوَاه، وذلك باليقينِ الكاملِ بأنَّ اللهَ تعالى فوقَ كلِّ جبارٍ، وأنه تعالى لا ينازِعُه في مُلْكِه أحدٌ، ولا يتحركُ شيءٌ في هذا الكونِ إلا بأمرِه وحُكْمِه، ووِفْقَ حِكْمَتِه، وعلى ما جَرَى به قَدَرُه واقتضتْه مَشِيئتُه ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَافَعَلُوه ُفَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام 112)، وبهذه القناعةِ يتحرَّرُ الإنسانُ من رِبْقَةِ الخوفِ من كلِّ ما سِوَى اللهِ العزيزِ الجبَّارِ، قال الْمُحَاسِبِيِّ: «كُلَّمَا عَظُمَتْ هَيْبَةُ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ في صُدُورِ الأَوْلِيَاءِ، لَم يَهابُوا معَهُ غيرَه؛ حَياءً مِنْهُ عزَّ وجَلَّ أن يخافُوا معَهُ سِواه».
وبهذا ينطلِقُونَ برِسالةِ الحقِّ في الأرضِ، لا يَخافُونَ إلا اللهَ، وقد أخرج أحمد والترمذي بسند صحيح أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ»، كما أخرج أحمد وابن ماجه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ، أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالًا ثُمَّ لَا يَقُولُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى».
إنَّ العبدَ إذا تمّ خوفُه من اللّه تعالى، أزالَ ذلك الخوفُ عن قلبِه خوفَ المخلوقين، بل حوّل ذلك في قلوبِ المخلوقاتِ فصارتْ هي تخافُه.
وهذا المعنى كرَّره القرآنُ كثيرًا ليربي المؤمنين عليه، فقال تعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ (المائدة 44) وقال ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ (الأحزاب 39).
إنَّ الخوفَ من اللهِ سرُّ الشجاعةِ والإِقْدامِ وعدَمِ الاهتزازِ أمامَ التخويفِ والتهديدِ، وقد رأيْنا أنَّ الرجليْن الَّذَيْنَ أنعمَ اللهُ عليهما بالخوفِ منه وحدَه هما اللَّذان شجَّعا بني إسرائيل علَى الإقدامِ والتخَلِّي عن الجبْن، وعلى دُخولِ الأرضِ المقدَّسةِ استجابةً لأمرِ الله، فقال تعالى ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة 23)
من صُوَرِ تخويفِ أولياءِ الشَّيْطان
قَرَّر القرآنُ الكريمُ أنَّ رُؤُوسَ الضَّلاَلَةِ حين يَعجَزون عَنْ مُقَارَعَةِ الحُجَّةِ بِالحُجَّةِ، وحينَ يَسْتَفِزُّهم صبرُ الأنبياءِ والمؤمنينَ على الأَذَى، يلْجَؤُون إِلى آخرِ ما في جُعْبَتِهم من صورِ التخويفِ، وهو تَهْدِيدُ الرُّسُلِ وأهلِ الإيمانِ بالقَتْلِ وبِالنَّفْيِ وَالإِخْرَاجِ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، إِنْ لَمْ يتركوا ما جاؤوا به منَ الوَحْيِ ويَدخُلوا معهم فِي باطلِهِمْ، فقال تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ (إبراهيم 13-14)
وقد نصَّ في آياتٍ أُخَرَ على بعضِ ذلك مُفَصَّلاً، فقال عن قومِ شُعَيْبٍ: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا﴾ (الأعراف 88-89)، وقال عن قومِ لوطٍ: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ (الشعراء 167)، ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل 56)، وقال على لسانِ فرعونَ مهدِّدًا المؤمنينَ ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى. قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (طه 71-72)، .
وقال عن مُشْرِكي قريشٍ: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (الإسراء 76)، وقال أيضا: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال 30)، إلى غير ذلك من الآيات.
وهل يفعلُ الانقلابيون الآنَ شيئًا إلا تكريرَ ذاتِ الأفكارِ والعباراتِ والتهديداتِ التي ردَّدها الهالكون قبلَهم في كلِّ زمان؟ ومن أواخر ذلك: سخافةُ سحبِ الجنسيةِ عن بعضِ المصريين.
تخويفٌ باطلٌ، والنصرُ لأهلِ الحقّ
إنَّ ما يُمارِسُه أولياءُ الشيطانِ من تخويفٍ ليسَ إلَّا أَوْهَامَ القُوَّةِ التي يتخيَّلون أنهم يملكونها، والتي لا حقيقةَ لها، ذلك ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ (البقرة 165)، ولهذا بيَّن الله تعالى أنه أوْحَى إلى رُسُلِه وأَعْلَمَ المؤمنينَ أنَّ العاقبةَ والنصرَ لهم على أعدائِهم، وأنه يُسْكِنُهم الأرضَ بعد إهلاكِ أعدائهم ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾.
وفي هذا المعنى جاءتْ آياتٌ كثيرةٌ، منها قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات 171-173)، وقوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (المجادلة 21)، وقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (غافر 51)، وقوله ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء 105).
ومن النماذجِ العمليةِ لذلك: ما حكاه القرآنُ من تهديدِ فرعونَ لموسى ومَنْ معه، وما انتهى إليه أمرُ الفريقين، في قوله تعالى: ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ. قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف 128)، ثم قال بعد ثماني آيات: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ (الأعراف 137)، إلى غير ذلك من الآيات. وما تهديداتُ الانقلابيين اليومَ إلا صدى صوتٍ لتهديداتِ أسلافِهم من الفراعنةِ المجرمين، وكلُّها تسقطُ أمامَ إقدامِ الثوارِ الصَّامِدين، وتحتَ أقدامِ الأحرارِ المبدعين.
سُنَّةٌ لا تَتخلَّفُ ووَعْدٌ لا يُخْلَف
إنها سنةُ الله التي مضتْ في خلقِه، ووَعْدُه الذي وعدَ عبادَه المؤمنين الذين نَزَعوا من قلوبهم كلَّ خوفٍ إلا منه وحدَه، فقال تعالى ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور 55).
أخرج الحاكمُ أنه لَمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه المدينةَ وآوَتْهُم الأنصارُ رَمَتْهُمُ العربُ عنْ قَوْسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتُون إلَّا بالسلاحِ، ولا يُصْبِحُون إلا فِيه، فقالوا: تُرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نَبِيتَ آمنينَ مُطْمَئِنِّينَ، لا نخافُ إلا اللهَ! فنزلتْ ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ الآية.
إنَّ المستقيمينَ على أمرِ الله محلُّ عنايةِ الله، يُنْزِلُ الملائكةَ لتربطَ على قلوبِهم، وتُزِيلَ تخويفَ أولياءِ الشيطانِ من نفوسِهِم ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾ (فصلت 30-31)، ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (يونس 62-64).
وبهذا التّطْمِينِ الإلهيِّ يمضي المؤمنونَ في الحياةِ، متوكِّلين على اللهِ القويِّ القادِرِ، لا تُرْهِبُهم تهديداتُ أهلِ الضلالِ التي تعلو نبرتُها كلما زاد خواؤُهم وانكشفَ ضعفُهم، واثقينَ أنه لن يحصُلَ في مُلْكِ اللهِ إلَّا ما أرادَ الله، مُدْرِكينَ أن الجُبْنَ لا يؤخِّر الأجلَ ولا يزيدُ الرزقَ، وأنَّ الشجاعةَ لا تقدِّم أجلًا ولا تنقص رزقًا، .
وشعارُهم ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر 36)، مُوقِنينَ بأنَّ ما يجري عليهم من قَدَرِ اللهِ ليس إلا ابتلاءً للتَّمييزِ والتَّمْحيص، على حدِّ ما جاء في حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أخرجه الحاكم: «إِنَّ اللهَ لَيُجَرِّبُ أَحَدَكُمْ بِالْبَلَاءِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ كَمَا يُجَرِّبُ أَحَدُكُمْ ذَهَبَهُ بِالنَّارِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ كَالذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ، فَذَلِكَ الَّذِي نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ كَالذَّهَبِ دُونَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي يَشُكُّ بَعْضَ الشَّكِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ كَالذَّهَبِ الْأَسْوَدِ، فَذَلِكَ الَّذِي قَدِ افْتُتِنَ».
وقدوةُ المؤمنينَ في ذلكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وإخوانُه من الأنبياءِ والرسُل، يُرَدِّدُون في وجهِ مَنْ يُخَوِّفُهم ما قاله أبو الأنبياءِ لمن خوَّفوه بغير الله ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام 80-82).
فأيُّ مجالٍ بعدَ ذلك لتخويفِ أولياءِ الشيطانِ للمؤمنين؟، بل القرآنُ العظيمُ يؤكِّدُ أنَّ الهلعَ والجبنَ إنما يستَوْلِي على قلوبِ أولياءِ الشيطانِ، فيخافون المؤمنينَ أكثرَ مما يخافون اللهَ ربَّ العالمين، ذلكَ أنَّ الخوفَ من المخلوقاتِ عقوبةُ نقصانِ الخوفِ من الخالقِ ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ (الحشر 13)
ويُخَوِّفُونَكَ بالَّذِينَ مِنْ دُونِه
أيُّها الثوارُ الأبطالُ طليعةَ الخيرِ في الأمَّة، لا يزالُ الشيطانُ وأعوانُه من المنافِقين والمرْجِفين يُخوِّفون المؤمنينَ من أولياءِ الضَّلالِ، على كل المستَوَيات، مستغلِّين السلطةَ التي اغتصبُوها بغيرِ حقٍّ وكلَّ وسائلِ الإعلامِ ووسائطِ التواصلِ الاجتماعيِّ في محاولةِ إشاعةِ روحِ الانهزامِ في الأمةِ وشبابِها، فنرى حربًا شرسةً ضدَّ الثوارِ وثورةِ الحريةِ عمومًا، وضدَّ الفِكرةِ الإسلاميةِ والدُّعَاةِ إليها خصوصًا، الذين لا تَدَعُ السلطةُ الانقلابيةُ المستبدةُ فرصةً إلا وتَسْعَى للتضييقِ عليهِم، وعلى دعوتِهم، وتلفيقِ التُّهَمِ الزائفةِ الكاذبةِ لهم، .
ورَمْيِهم بالإرهابِ، وإصدارِ القراراتِ الباطلةِ واختلاقِ القوانينِ الفاسدةِ لتعويقِ مسيرتِهم، والزجِّ بهم في المعتقَلاتِ والسُّجونِ، وفَصْلِهم من أعمالِهم، والتضييقِ عليهم في معايِشِهم، ومُصادرةِ أموالِهم، واستغلالِ كافةِ أجهزةِ الأمنِ في مواجهتِهم، في الوقتِ الذي تتراخَى فيه تلك الأجهزةُ عن دورِها الأساسيِّ في مواجهةِ انتشارِ المخدِّراتِ والجرائمِ الأخلاقيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، بل تُعْطِي الضوءَ الأخضرَ للمُفسِدينَ للاستمرارِ في فسادِهم وإفسادِهم، بل تستعينُ أجهزةُ أمنِ الانقلابِ بالبلطجيةِ والخارجينَ على القانونِ، ليكونوا يدَهم الضاربةَ في مواجهةِ الوطنيين المخلِصين، في سابقةٍ لا تعرفُها الأممُ الحرةُ ولا الدولُ التي تحترمُ نفسَها ومواطنيها.
وأكثرُ ما يُثيرُ الأسَى في نفوسِ المخلصينَ هو توريطُ الجيشِ المصريِّ في هذه الحربِ الظالمةِ والحملةِ الشرسةِ لزرعِ الخوفِ في نفوسِ المواطنينَ، في الوقتِ الذي يتخلَّى فيه عن دوْرِه الأساسيِّ في حمايةِ حدودِ الوطنِ، إلى الحدِّ الذي جعلَ الصهاينةَ يُرَوِّجونَ أنَّ الجيشَ المصريَّ شريكٌ استراتيجيٌّ لهم، مما يُنْذِرُ بكارثةٍ عُظْمَى في مجالِ الأمنِ القوميِّ للأمة، نسألُ اللهَ أن يُجَنِّبَ مصرَ آثارَها.
وإذا كانتْ مُهِمَّةُ القضاءِ حمايةَ حقوقِ الناسِ، وبخاصةٍ حمايةُ الضعفاءِ في مواجهةِ الأقوياءِ؛ فإنَّ واقعَ الحالِ ينطقُ بأن قسمًا من القضاةِ صارَ مجردَ ذراعٍ لأجهزةِ الأمنِ التي لا عملَ لها إلا تلفيقَ التُّهَمِ للشرفاءِ، وصار جزءٌ من القضاءِ أداةً لمواجهةِ الوطنيينَ الأوفياءِ، ووسيلةً للضغطِ على المخلصينَ من أبناءِ الأمةِ من الثوارِ الشرفاء، وكلُّ ذلكَ مما يسعَى الانقلابيُّون والمرجِفُون لتخويفِ المؤمنينَ والشبابِ الثائرينَ به، حتى يتوقَّفوا عنِ المطالبةِ بحرِّيَّتِهم، ويمتنِعوا عن السَّعْيِ لِنَيْلِ كَرَامَتِهم واستعادةِ شرعيَّتِهم، في وطنٍ حُرٍّ عزيز.
ولكِنَّا نقولُ لِكُلِّ أولئك المخوِّفين: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ (الزمر: 36-37).
ونُبَشِّرُ الصادقينَ المخلصينَ بما بشَّرَنا به القرآنُ العظيمُ ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ (آل عمران 111)، ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ (آل عمران 120)، ونوصيهم وأنفسَنا بوصيةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لابْنِ عَبَّاسٍ فيما أخرجه الترمذى بسند صحيح: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ».
فانطلِقُوا أيُّها الثُّوارُ الأحرارُ المبدِعون في ثورتِكم المباركةِ، وجدِّدُوا شبابَها، وأعيدُوا إشعالَ جَذْوَتِها من جديدٍ، وتوحَّدُوا على الأهدافِ التي انطلقتُم من أجلِها قبل ثلاثِ سنواتٍ، وهي العيشُ والحريةُ والعدالةُ الاجتماعيةُ والكرامةُ الإنسانيةُ، ولا تنخدِعوا بمحاولاتِ الانقلابيين لتفتيتِ صفوفِكم، ولا تَنازَعُوا فتفشلُوا وتذهبَ رِيحُكُم، وثِقُوا أنَّ نصرَ الله قريب ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف 21).
اللَّهُمَّ إِنَّكَ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ، نَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَكَ، ونَسْأَلُك بِقُدْرَتِكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِك، أنْ تُبَدِّلَ عُسْرنا َيُسْرًا، وخَوْفَنا أَمْنًا، وضِيقَنا سَعَةً، وهَمَّنا فَرَجًا، وأنْ تُمَكِّنَ لَنا دِينَنَا الَّذي ارْتَضَيْتَ لنا.
والله أكبرُ ولله الحمدُ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ على سيِّدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.