إنهم لا ينسون... لماذا ننسى؟
بقلم : عبد العال الباقوري
بعض الأحداث الجزئية أو البسيطة، تكون لها في أحيان كثيرة دلالات كبيرة وعميقة، خاصة حين ترتبط لحظة وقوعها بأحداث أكبر. وهذا ما وقع ويتكرر منذ بدأ اقتتال الإخوة الأعداء في حركتي فتح و حماس .
لقد استأثر الحدث باهتمام الشارع السياسي العربي، وجذب اهتمام العامة والجماهير والناس العاديين.
وهذا دليل ـ من بين عشرات الأدلة ـ ليس على عروبة قضية فلسطين فقط، بل وعلى كونها قضية مركزية.
ووسط حدث كبير مثل هذا الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني بكل ما ترتب وسيترتب عليه من نتائج، كادت تغيب عن الاهتمام العربي أحداث أخرى، ارتبطت بحدث الاقتتال أو نتجت عنه، مع أن هذه الأحداث الجزئية حملت دلالات مهمة في الكشف عن طبيعة الحركة الصهيونية وعن أساليب وسلوك الصهاينة...
ولعل هذه الأحداث الجزئية تكون أعمق أثراً من كثير من اللقاءات والاجتماعات الفلسطينية والإسرائيلية والدولية التي يقال إنها تسعى إلى دفع عملية التسوية أو إحيائها.. وهو أمر نكاد نرى صدى له من الواقع، فقد أصبحت التسوية العادلة شبه معطلة ليس بسبب خلل في ميزان القوى العربي ـ الصهيوني بل لسبب آخر أساسي، هو الخلل والضعف في الإرادة العربية، مما جعل الحديث عن السلام يطغى على فعل السلام، وكاد يحيله إلى ضرب من الاستسلام، خاصة إذا قارنا هذا بسلوك العدو وتصرفاته تجاه أهم الوقائع وأصغرها.
فمنذ نشأت الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر وضع الصهاينة لأنفسهم قواعد وأسساً لتصرفاتهم تجاه الآخرين انطلاقاً من عدم التنازل أو التفريط أو حتى مجرد المساومة على ما اعتبروه «هدفاً استراتيجياً»، مثل التوافق على «حرمة الدم اليهودي» بمعنى أن كل من قتل «يهودياً» لا بد أن يقتل. والمثل الواضح والقريب على ذلك هو الموقف من الفدائيين الذين شاركوا في «عملية ميونيخ» التي كان هدفها احتجاز عدد من الرياضيين الإسرائيليين المشاركين في الدورة الأولمبية للمساومة عليهم ولإطلاق عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الكيان الصهيوني.
وقد أدى رفض هذه المطالب والهجوم على الرهائن وآسريهم، إلى قتل وجرح عدد من الرهائن الإسرائيليين.
ومنذ ذلك الوقت، قررت المؤسسة الحاكمة في الكيان الصهيوني الانتقام وقتل كل من شارك في هذه العملية.
وقد نجح العدو في تنفيذ عملية الانتقام.
وفي عمليات «تبادل الأسرى» ـ بصيغة أو أخرى ـ أصر الإسرائيليون على عدم إطلاق سراح أي أسير فلسطيني «على يديه دم» بمعنى أنه قتل أو شارك في قتل «يهودي» [أحرص دائماً على استخدام كلمتي إسرائيلي وصهيوني واستخدام كلمة «يهودي» هنا مرتبط بالتعبيرات التي يرددها الصهاينة أنفسهم، وهي تعبيرات زائفة وخادعة].
وقد برز هذا بشكل غير عادي في الأيام الأخيرة، حين قيل إن حكومة إيهود أولمرت صرحت، بناء على طلب من رئيس السلطة الفلسطينية، بدخول قياديين فلسطينيين إلى الضفة الغربية المحتلة، كي يشاركوا في اجتماع وأعمال المجلس المركزي الفلسطيني، ولمساندة موقف أبو مازن في صراعه ضد « حماس » وقيادتها.
وكان السيد نايف حواتمه الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والسيد فاروق قدومي القيادي البارز في حركة «فتح» في منظمة التحرير الفلسطينية، من أبرز الذين قيل إنهم سيعودون إلى الضفة المحتلة.
وما أن خرجت الأنباء الأولى حول هذه العودة، حتى انطلقت أصوات إسرائيلية عديدة تحتج على الدعوة، وترفض العودة.
وردد المعترضون اتهامات كثيرة تركزت على السيد نايف حواتمه بشكل خاص، وأعادت إحياء ذكرى عملية فدائية نظمها فدائيو الجبهة الديمقراطية وكتبت صحيفة «يديعوت أحرونوت» تقريراً موسعاً بعنوان «ابعثوا حواتمه إلى احتفال الذكرى في معالوت» و«معالوت» هذه مستوطنة في أراضي فلسطين 48، جرت بالقرب منها في العام 1974 عملية فدائية حملت اسم المستوطنة، واتهمت الصحيفة الإسرائيلية الأمين العام للجبهة الديمقراطية بالمسؤولية عن «سلسلة طويلة من العمليات الإرهابية القاتلة في السبعينيات».
ولم تخف الأصوات الإسرائيلية الهائجة تهديدها بالانتقام من حواتمه، فقد أوردت «يديعوت أحرونوت» في 5 تموز (يوليو) الحالي على لسان إسرائيلي يدعى ساس كوهين قوله: «إني أدعو نايف حواتمه إلى الاحتفال بذكرى القتلى في عملية «معالوت»، فليأت ليرى الدمعة المنهمرة من عيون العائلات.
وبعد ذلك يجب تطييره من هنا».
وأشارت الصحيفة إلى أن «ساس» هذا فقد في هذه العملية عمه وزوجة عمه وابنهما وهو في الرابعة من عمره.
أما حاييم أسولين فقال إن نبأ التصريح بدخول حواتمه إلى الضفة الغربية أثار القشعريرة في جسده، وأضاف: «هذا الرجل (أي حواتمه) مسؤول عن قتل رفاقي في معالوت وعن إصابتي الشديدة وإلى اليوم، لا يسعني أن انطق باسمه.
يدي التي قطعت والجراح التي في جسدي تذكرني يومياً: كيف أصبت وكيف رأيت رفاقي يموتون أمام ناظري.
ولا يمكن غفران أمر كهذا، وبالتأكيد لا يمكن نسيانه» وذكر «حاييم» أنه سينظم مظاهرة مضادة.
وفي التقرير نفسه، ذكرت «يديعوت أحرونوت» أن حواتمه علق على ردود الفعل داخل إسرائيل بقوله إن «اليمن المتطرف في إسرائيل لا يزال يفكر بمفاهيم السيد والعبد، ولهذا لن يتحقق أي سلام» كما أشارت إلى أن الجبهة التي يقودها حواتمه، وهي الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كانت أول منظمة فلسطينية تبنت مبدأ الحل الوسط ودولتين لشعبين في حدود 1967 وحل عادل لمشكلة اللاجئين. أما تساهي هنغبي رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست (البرلمان) فقال إن الزيارة الوحيدة التي ينبغي السماح بها لنايف حواتمه، فهي عند اقتياده إلى ما سماه «محاكمة عادلة»، وكرر القول نفسه أفيغدور ليبرمان وزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة أولمرت الحالية، وقال إنه يجب السماح بدخول حواتمه إلى الضفة الغربية «من أجل اعتقاله وزجه في السجن» ووصفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن قدومي من أكبر المعارضين لاتفاق أوسلو ونتائجه.. وقد اعترض حواتمه على الشروط التي وضعها الإسرائيليون، ورفض الدخول المؤقت لحضور جلسات المجلس المركزي الفلسطيني، وفعل الأمر نفسه فاروق قدومي والأعضاء القياديون الآخرون الذين تم التصريح بدخولهم.
ولعل هذه الضجة الإسرائيلية تؤكد لنا أن الصهاينة لا ينسون، ويحاولون دائماً استغلال ذاكرتهم واستثمار ذكرياتهم في رفض السير في الطريق إلى «تسوية عادلة» على النقيض من ذلك، فإن حكاماً عرباً يلقون بتصريحات تسيل غزلاً في القيادات الإسرائيلية الذين يصفونهم بأنهم «رجال سلام» مع أن الإسرائيليين أنفسهم يرون في قادتهم صورة مغايرة تماماً لذلك.
والأخطر من ذلك عربياً إنه يجري الحديث عن «السلام» صباح مساء، وتتكون منظمات تتغنى بالسلام، وترتل تراتيل السلام، وتقيم معسكرات للسلام، تجمع مواطنين عرباً مع إسرائيليين!!
وفي حين، يؤكد العدو لنفسه ولنا أنه لا ينسى، نتسابق نحن إلى النسيان، تحت رايات الدعوة إلى «السلام» وليته يكون سلاماً حقيقياً، وليس ضرباً من الوهم، نخادع أنفسنا به.
إن أحداً لا يعارض سلاماً حقيقياً يعيد الحقوق ويحرر الأراضي المحتلة، ويحقق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ويضمن حق العودة.. وهو ما يرفضه الصهاينة ويقاومونه.
باختصار، إنهم لا ينسون، فلماذا ننسى؟
هذه هي القضية.
المصدر
- مقال:إنهم لا ينسون... لماذا ننسى؟المركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات