إستراتيجية عامة لمواجهة ظاهرة العنف

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
إستراتيجية عامة لمواجهة ظاهرة العنف


بقلم : علاء سعد حسن

يعاني عالم اليوم بصفة عامة من انتشار عدد من الظواهر الاجتماعية الخطيرة من أمثلة انتشار المخدرات والاغتصاب والعنف بكافة أنواعه وأسبابه , ولاشك أن هذه الظواهر ما هي إلا أعراض لأمراض أكبر منها مثل : الضياع العقائدي , والخواء الروحي و الانحدار الخلقي , والتفكك الأسري وطغيان عالم المادة والقيم المرتبطة بها على القيم الروحية والمعايير الأخلاقية .. وتعد ظاهرة العنف واحدة من هذه الظواهر الاجتماعية العالمية التي لم تعد تقتصر على دول أو مجتمعات بعينها بل على العكس فقد تم تصديرها إلى مجتمعاتنا الإسلامية عبر مجموعة متشابكة من العوامل منها – على سبيل المثال – وسائل الإعلام التي تركز على العنف وتنميه في الإنسان بداية من أفلام الكرتون المدبلجة وغير المدبلجة التي تقدم كل صور وأشكال العنف للناشئة مرورا بمسلسلات وأفلام الإثارة التي تعتمد على الحدث العنيف ( الأكشن ) , حتى صار العنف من مظاهر الحياة العامة في الغرب سواء في الشارع – انتشار السرقة المسلحة بالولايات المتحدة – أو في الملعب – شغب الملاعب لاسيما في إنجلترا والأرجنتين – أو في الحياة السياسية – الجيش الأحمر الأيرلندي , وحركة يونيتا الإسبانية .

غير أن ما يعنينا في موضوع هذا البحث هو العنف الفكري لاسيما المرتبط منه بالعقيدة الدينية في مجتمعاتنا الإسلامية أسبابه ودوافعه ووضع الحلول له مجتزئين إياه فقط في مرحلة الدراسة مع التنبيه إلى عدم إمكانية فصله عن المناخ الاجتماعي العام الذي يسود العالم والذي يؤثر فيه ويغذيه ..

الإرهاب أم الجريمة الفكرية ؟

ويعرف العنف المرتبط بالخلفية الفكرية على نطاق واسع باسم " الإرهاب " ، غير أننا نتحفظ على هذه التسمية لما تحمله من مدلولات شرعية إسلامية لورود فعل " ترهبون " في القرآن الكريم في قوله تعالى : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين .. " الأنفال 60

ومنعا لالتباس المعاني والمصطلحات ننوه على أن إعداد القوة هو واجب الأمة الإسلامية لتحقق الحماية وترهب العدو من مجرد التفكير في الاعتداء عليها لتحقيق السلام العالمي القائم على فكرة الردع وتوازن القوة .. وأنه من التكاليف الجماعية التي لم يخاطب بها الفرد المسلم في ذاته ولا يمكن أن يحققها بمفرده , وبالتالي لا يمكن للمسلم الفرد أن يكون إرهابيا بالمعنى الشرعي بينما هذا هو دور الدولة والأمة .. ومن هذا المنطلق يأتي الرفض لمصطلح الإرهاب , بينما يمكننا أن نطلق مصطلحا آخر هو : الجريمة ذات المرجعية الفكرية أو العقائدية أو الجريمة السياسية ويجب أن نعترف أنها جريمة سواء كان الدافع لها دينيا أو سياسيا أو فكريا وسواء كان مرتكبها شيوعيا أو صهيونيا أو مسلما[1] .

إن تسمية الحقائق باسمها هي أول خطوات العلاج , وإن ثبات المعايير ووضوحها هو ما يميز هذه الأمة , فهي لا تعرف سياسة الكيل بمكيالين كما سيتضح من هذه الدراسة ..

ولقد آن الأوان لتقف الأمة الإسلامية وقفة نبذ ومفاصلة مع أصحاب تيار العنف الديني ، لأن هذا التيار وإن اختلفت فصائله في الأسماء أو الوسائل إلا أنها تجتمع في النهاية على مرجعية فكر التكفير – مهما ادعت غير ذلك – لأنه لا يمكن للمسلم أن يستبيح الدماء إلا بكفر المستباح دمه .. وهذه قضية من أصول العقيدة وليست من الفروع التي يمكن الاختلاف فيها والتسامح في شأنها باعتبارها من قضايا الاجتهاد .. حيث أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تكفر بالكبائر ولا المعاصي :

" ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه في آية القصاص : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ، ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق " [2]

" إن أحدا من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين لو ارتكب

ذنبا أو ذنوبا كثيرة صغائر أو كبائر مع الإقامة على التوحيد لله والإقرار

بما التزمه وقبله عن الله فإنه لا يكفر به ويرجون له المغفرة قال

تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [3]

ولا يمكن أن يقع قتل بغير تكفير فلا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث من قتل نفسا بغير نفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي يستطيع أن يحكم على مثل هذه الأمور هو القاضي المسلم والحاكم المسلم ولا يترك الأمر لآحاد الناس وأفرادهم وإلا تحول المجتمع إلى فوضى يقتل كل خصم خصمه باسم الدين .. فما هي العوامل المجتمعية الداخلية التي تساهم في وجود هذه الظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية ؟!

1- التشتت الفكري ( عدم وضوح الرؤية الشرعية والفكرية لهذه الجرائم ) وعدم الموائمة بين القيم النبيلة للإسلام وغاياته الكبرى من العزة والعالمية والتمكين والواقع المرير من هيمنة الحضارات الظالمة وسيادة الفساد العقائدي والخلقي ، والإيمان التام بالغايات والأهداف مع الجهل المطلق بالوسائل المشروعة لتحقيق هذه الغايات .. وهو تشتت في النهاية يجعل العقل يرفض المظالم ويأمل في الخلاص بأي وسيلة مهما كانت العواقب .

2- التذبذب العاطفي .. لاشك أن الشباب الذي يؤمن بجدوى العنف ينطلق من خلفية إسلامية وله بكل تأكيد رصيد من الأخلاق الإسلامية تجعل الشعوب الإسلامية والمجتمعات تتعاطف معه نظرا لعاطفتها وحبها للإسلام ذاته وتتعاطف معه ثانيا لأنها ترى الظلم والباطل في جانب أعدائه وتتعاطف معه ثالثا لتعرضه للبطش والتنكيل الشديد من الدوائر الأمنية وتتعاطف معه رابعا ليأسها من وجود مخرج آخر أو متنفس لحالة الانسداد التي تعيشها المجتمعات الإسلامية , وهذا التعاطف الاجتماعي يشكل بيئة اجتماعية صالحة لتحرك هذا الشباب واختبائه وتخفيه فإن من يرشد عن شاب ملتزم ولو كان يمارس الجريمة الفكرية يتهم في وسط هذا المجتمع بالعمالة والخسة وتفرض عليه العزلة المعنوية .. لابد إذا من تأسيس العاطفة على منهج الشرع لا على الهوى ، وربط المجتمع بالفهم الصحيح بموقف الإسلام الثابت من هذه الظاهرة الخطيرة ..

3 – تضاد المرجعيات واختلافها : وهي معضلة حقيقية تواجه الأمة الإسلامية في العصر الحديث ، ومنذ السقوط الحقيقي للخلافة الإسلامية ( ونقصد بالسقوط الحقيقي للخلافة هو سقوط مرجعيتها للفكر الإسلامي وهو سقوط ولا شك حدث قبل سقوط الخلافة السياسية الرمز عام 1922 م ) ، فما تكاد تخرج من إشكالية السنة والشيعة وتتغلغل داخل الفكر والمرجعية السنية إلا وتجد السنة أنفسهم منقسمين انقساما حادا في المرجعية الإسلامية ، ولا نقصد بالانقسام هنا : الانقسام الفقهي والمذهبي ولا الانقسام في الوسائل والأساليب ولا الانقسام الذي يفرضه اختلاف البيئات والعقول والثقافات .. لكنه انقسام حاد في المفاهيم الإسلامية الأساسية قسم الأمة إلى فرق لا تعترف كل فرقة بأحقية الفرقة الأخرى في الوجود ، وانقسم الإسلام إلى : الإسلام الرسمي أو إسلام الدولة ، وهو في الغالب إسلام يتم تسييسه وتحديد نصوصه من قبل النظم الحاكمة لدغدغة المشاعر الإسلامية للشعوب والمجتمعات المسلمة لكسب ولائها لهذه الأنظمة ، والإسلام المعتدل وهو فكر يرفض الواقع المعاش ويدعو للخروج من الأزمات الراهنة للأمة باعتماد أسلوب الدعوة والحوار والحكمة والموعظة الحسنة ويمارس العمل المدني على اختلاف أنواعه ودرجاته من السياسي إلى الاقتصادي إلى الاجتماعي .. وهكذا ، وتيار العنف وهو تيار له مرجعيته المختلفة مستفيدا بالطبع من الأسباب المختلفة التي نقدمها من خلال هذه الدراسة .. وتكمن المشكلة الحقيقية للأمة في تضاد مرجعيات هذه التيارات المختلفة والانقسامات الحادة بينها ونفي علماء ومفكري ومنظري كل تيار للآخر ، مما يصيب الأمة بالدوار ويفقد المرجعيات موثوقيتها ومصداقيتها ، ولا تعرف المجتمعات والشعوب من أين تأخذ دينها ، ولئن كانت الشيعة قد اقتربت إلى حسم هذه الإشكالية وكونت ما يعرف :بالمجلس الشيعي الأعلى ويعتبرون مدنا مثل قم والنجف مراكز ثقل ومرجعية علمية وتاريخية لهم ، فإن السنة ما زالت تعاني من هذا الانقسام والتضاد في الفكر وغياب المرجعية السنية الموحدة ..

4 – فصل التفسير العملي للشرع عن النصوص.. من المسلم به أن نصوص الإسلام من قرآن وسنة ثابتة لا تغيير فيها ولا تبديل لكن هذه النصوص تنقسم إلى ما هو قطعي الثبوت مثل كل القرآن الكريم والسنة الصحيحة ، ومنها ما هو ظني الثبوت مثل بعض الأخبار ، ثم النصوص قطعية الثبوت تنقسم إلى قطعي الدلالة وهي المحكمة , وظني الدلالة وهذا مناط الاجتهاد والتأويل .. والقرآن عند الأصوليين _ أصول الفقه _ حمال أوجه ، ومن هنا احتاج القرآن الكريم على وجه الخصوص كما احتاجت السنة المطهرة إلى التفسير .. وإن أعظم تفسير للكتاب والسنة هي السيرة النبوية حيث أن السيرة النبوية هي التفسير العملي للكتاب والسنة وهي تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم وفهم صحابته رضوان الله عليهم للنصوص .. وإن عزل النص عن جو التطبيق العملي يجنح بنا عن الفهم الصحيح للإسلام ويجعل أصول الدين تختلف باختلاف البيئات والمفاهيم , فالولاء والبراء مثلا ثابت بنص القرآن الكريم : " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم ... " الآية 22 المجادلة ، "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " المائدة 51 .

ولكن لكي نفهم كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه النصوص نقرأ سيرته مع عبد الله بن أبي بن سلول ، وسيرته مع العاص زوج ابنته زينب ، وعمه العباس في غزوة بدر ..

إن تهميش دراسة السيرة النبوية المطهرة تحيد بدارس العلوم الشرعية عن الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة .. والعودة إلى دراسة السيرة المطهرة بمثابة رجوع المحكمة في تفسيرها لنص من نصوص القانون إلى حكم سابق لمحكمة أعلى منها في الدرجة , وهذا منهج اعتبره أئمة الأمة عند الاختلاف في تأويل النص يقولون :" وهذا ما قضى به أبو بكر وعمر " وهكذا .. فلابد من دراسة السيرة واعتمادها كمنهج أساس وأولي وإستراتيجي لفهم نصوص الإسلام ولعل هذا ما جعل الصحابة يعلمون أبناءهم المغازي والسير كما يعلمونهم السورة من القرآن ، فالسيرة هي المذكرة التفسيرية للنص قرآنا وسنة..

5 – الخلط بين الثوابت والمتغيرات فالحق والعدل قيم ثابتة والمحبة والعداء عناصر متغيرة ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) فصلت 54، ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ) الممتحنة 7 ،وجاء في الأثر " احبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما " ولذا قاس الإسلام العداوة على العدل وليس العكس ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .. ) المائدة 8 فالعدل مقياس ثابت يجب تحكيمه في كل الشؤون مع الحبيب أو العدو وبهذا المقياس الثابت نوصف العنف بأنه إجرام ، ومن هنا أيضا نؤمن بأن أمة الإسلام تكيل القضايا بمكيال واحد ، وأن العدل يسري على المسلم وغير المسلم [4]،.. لم يسقط الله تبارك وتعالى حرمة الأشهر الحرام لارتكاب بعض الصحابة رضوان الله عليهم [5] مخالفة فيها ولكنه أكد على المخالفة ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام واخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل .... ) البقرة 217، ووفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المشركين الذين قتلهما الصحابي الجليل عمرو بن أمية بن الضمري عند نجاته من حادثة بئر معونة التي استشهد فيها سبعون من صحابة النبي قتلهم المشركون من قبائل سليم غدرا وغيلة ، ومع ذلك وفى النبي صلى الله عليه وسلم بدية القتيلين المشركين وقد كان قد أجارهما ، ولم تصرفه المصيبة العظيمة التي حاقت بأصحابه[6] عن الوفاء ( ... ولا تزر وازرة وزر أخرى ... ) الأنعام 164 ، ولقد رأينا كيف نصر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القبطي المصري على الوالي المسلم ( الصحابي الجليل عمرو بن العاص ) وابنه قائلا : اضرب ابن الأكرمين .. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار .. وكيف حكم القاضي بدرع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لليهودي حين اختصما إليه ، وهكذا ظلت أمة الإسلام أمة العدل المطلق .. إن فهم طبيعة الثوابت والمتغيرات يجعلنا نراجع مفاهيم عقود الأمان التي يعطيها الولاة لرعايا بعض الدول ، والمؤمنون كالجسد الواحد يسعى بذمتهم أدناهم ويجير أدناهم على أعلاهم .. وإن خالفت هذه العقود التي يوقعها الولاة مصلحة الأمة في بعض الأحيان وجب مراجعة الولاة أنفسهم فيها ، والجهاد جهرا بكلمة الحق في وجوههم والصبر على أذاهم المحتمل على أنه أعلى مراتب الجهاد " كلمة حق عند سلطان جائر " ، ولقد أمن أحد الجنود المسلمين أهل قرية في فتوح العراق فأقره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على أمانه ولم يخفره فيه .. ومن قبل أجار النبي صلى الله عليه وسلم المشرك بن هبيرة في فتح مكة لإجارة أم هانئ له وقال : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ[7]

6 - ابتسار أدبيات الإسلام وأدبه ، واقتصار الأدب الإسلامي – شعرا ونثرا وأناشيد وفنون أدبية مختلفة - في معظمه على أدب الجهاد والمواجهة وحده ، وغياب معاني الحياة الكريمة في ظلال الإسلام .. صحيح أن أمة الإسلام أمة مجاهدة ، وأن الجهاد في سبيل الله تعالى ذروة سنام الإسلام ، لكن الثقافة الإسلامية ثقافة رحبة فسيحة تسعى إلى تمتع المسلم بمباهج الحياة الدنيا في غير إسراف ولا محرم ولقد جاءت آيات كثيرة من القرآن الكريم تلفت نظر المسلم إلى الجمال في الكون والطبيعة وخلق الله تعالى ( فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها .. ) النمل 60 ، ( والأنعام خلقها لكم فيها دفئ ومنافع ومنها تأكلون ، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) النحل 5 – 6 ، ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة .. ) الأعراف 32 .. والقرآن الكريم مليء بالمواضع التي تحث على الجمال وتنمي الذوق والشعور بالمتعة والبهجة في ظلال ما خلق الله تبارك وتعالى ، والرسول صلى الله عليه وسلم يضع غناءا للعرس (أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم ) ويحث عائشة أن تزف به نساء الأنصار ، إن الأنصار يحبون اللهو أي الغناء المباح .. ، ويسمح بلعب الحبشة في مسجده ، ويسمح باللهو يوم العيد ، ويفرح للفأل الحسن ، ويغير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن ، ويرفض اسم حرب ومرة ويقول أنهما أبغض الأسماء إلى الله[8] ، وعندما أراد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن يسمي ابنه – سبط النبي – حربا يقول له : بل هو حسنا ، فيسميه الحسن ، ويوم فتح مكة مر سعد بن عبادة وكانت معه راية الأنصار على أبي سفيان فقال سعد : اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا ، فنزع النبي صلى الله عليه وسلم الراية منه وجعلها لابنه قيسا وقال : اليوم يوم المرحمة اليوم تعظم فيه الكعبة اليوم أعز الله قريشا [9] فثقافة الإسلام ثقافة الرحب والسعة ، وليست ثقافة الضيق والضجر ، ثقافة الحياة لا ثقافة الموت وحده ..

7 - التشبث ببعض مقولات العلماء والأئمة التي قيلت في ظروف خاصة ولأسباب خاصة ، وجعلها دينا رغم تعارضها في الظروف الطبيعية مع صحيح الكتاب والسنة ، مثل تخصيص بعض العلماء والأئمة بعض الأقوال والمواقف لإغاظة العدو وتخويفه مما لا يصلح إلا في هذا الموقف أو ذاك ولا يمكن اعتباره منهج إسلامي عام ولكن هذا من باب ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي دجانه في الحرب : هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن[10] ، فمن مثل هذه الأقوال التي انتشرت بين الشباب فصارت بينهم كأنها شعارا في الحياة قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله  : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، وهي عندما أطلقها ابن تيمية في وجه الطغاة في ظروف خاصة لم يقصد بها بالتأكيد مخالفة صريح القرآن حيث أن الإسلام جاء لإسعاد البشر في الدارين الدنيا والآخرة : (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة.... ) الأعراف 32، ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما أحسن الله إليك ... ) القصص 77 ، ولقد جعل الله تبارك وتعالى دعاء المؤمنين ( ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) البقرة 201 ، ويبين الله تبارك وتعالى أجر المهاجرين في الدنيا قبل الآخرة فيقول ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) النحل 41 ، ويصف الله نعمته على نبيه إبراهيم عليه السلام فيقول : ( وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) النحل 122 ، ولقد ورد قوله صلى الله عليه وسلم : هذه الدنيا خضرة حلوة فمن أخذها بحقها بورك له فيها[11] .. ومن الأقوال المأثورة في ظروف خاصة بالحرب والجهاد وصارت مثلا يتداوله الشباب على أنه منهج الإسلام : قول خالد بن الوليد رضي الله عنه يخوف قائد الروم : لقد جئتك بقوم يحرصون على الموت كما تحرصون أنتم على الحياة ، وقول أحد الصالحين : إن الأمة التي تحسن صناعة الموت توهب لها الحياة .. لكن منهج السنة المشرفة يعلمنا صناعة الحياة والحرص عليها وتعبيدها لله تعالى فيقول صلى الله عليه وسلم : إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها[12] ، ومن هنا كان دعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ربه أن يرزقه الشهادة بعد طول عمر في طاعة الله وعبادته ، فلم يكن هم المسلم الموت وحده بل الحياة والموت كلاهما لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) الأنعام 162 .. ومما سبق من أمثلة نجد أن بعض مأثورات وأدبيات الثقافة الإسلامية قد تم صياغتها في ظروف غير طبيعية وهي في الحقيقة لا تناسب سوى هذه الظروف مع مراعاة الحذر عند تناقل مثل هذه المأثورات فترد إلى منابع الإسلام الصافية قرآنا وسنة فإن وافقتها ، وإلا علمنا أنها قولة حق لا تقال إلا في مثل هذا الموقف ..

8 - ضعف الخطاب الديني وهشاشة هذا الخطاب وافتقاده إلى المنطق العميق والموضوعية والبحث والمزاوجة بين العلوم الشرعية وعلم الاجتماع وعلم النفس الحديث ( المنهج التربوي في احتواء الأزمة وتربية الأمة ) ، من ناحية ، ومن ناحية أخرى افتقاد هذا الخطاب للعمق في دراسة الظواهر الاجتماعية ، والمعالجة السطحية للمشكلات المعاصرة دون التعمق في سبر أغوارها والكشف عن أسبابها الحقيقية ودوافعها الأصلية ونتائجها المستقبلية ، مع ضعف الثقافة الدينية الموثقة ، وغلبة النقل غير الموثق ولا المؤصل على شباب الإسلام ،.. لقد وضع الإسلام قواعد التوثيق العلمي ، والحفظ للنصوص والأخبار والآثار ، وأهم ما وضعه الفكر الإسلامي في ذلك هو مبدأ تواصل سلسلة الرواة ومبدأ الجرح والتعديل للرجال ، ووضع لكل من العلمين قواعد وأصول ثابتة ، لكننا نجد اليوم الشباب الإسلامي ينقل الخبر والفتوى نقلا على عواهنه بلا تأصيل ولا توثيق وتنتشر الإشاعات العلمية ، وتلصق الفتاوى الشرعية بعلماء ربما لم يسمعوا بها من قبل ، دون تثبت ولا روية .. ويمتلأ الشارع الإسلامي بمصطلحات شرعية مختلفة لا يفهم مردديها المعني الدقيق لها ، وتتداخل فروع العلم الإسلامي فيخلط البعض بين أصول الفقه وأصول الاعتقاد ، ويكفر بعض المسلمين بعضا بالبدع والمعاصي ، ويتصدى للفتوى شباب الدعوة وهم أساسا ناقلي علم وفتوى وليسوا علماء ولا مفتيين ، وتختلط الأدوار والأفكار والمفاهيم في الساحة الإسلامية بلا ضابط ولا رابط ..

9 - موسمية العلاج وهامشيته وتغليب النص السياسي على المواجهة الشرعية والفكرية : يضاف إلى هشاشة الخطاب الإسلامي وضعفه في مواجهة تحديات التطرف والعنف ، ما يعرف بموسمية العلاج ، فلا نسمع الدعاة والخطباء ولا نرى الكتاب والمفكرين يتناولون قضايا العنف والتنطع إلا في مناسبات معينة وفي أعقاب حوداث العنف كرد فعل لهذه الحوادث ، علما بأن المنهج الإسلامي منهج أصيل في مواجهة الغلو في الدين : إياكم والغلو في الدين .. هلك المتنطعون ، وهو منهج يحتاج إلى تأصيل دائم وتربية مستمرة على هديه وثوابته ، لتخريج جيل من الشباب المسلم المتمسك بتعاليم الدين المبتعد في الوقت ذاته عن براثن الغلو والتطرف والعنف ، وإنما عندما تأتي المواجهات الشرعية والفكرية والدراسات المنهجية كرد فعل لحوادث العنف ، في وقت تشتد فيه الحملات الإعلامية العلمانية المنادية بإقصاء التدين وتجفيف منابعه ، وفي ظل المداهمات الأمنية بحثا عن الجناة ، يبقى الانطباع في النفس بأن منهجية الحل الإسلامي لمواجهة الظاهرة إنما تتناغم مع هذه الحملة على الإسلام فتأول اجتهادات العلماء على غير وجهها الصحيح ، وتوظف الفتوى لتغطية التحرك السياسي والأمني ، مما يقلل من أثرها في الفكر والشعور ، وقد يؤدي إلى رفضها من بعض الشباب الغض المتحمس ، فتساهم ردود الفعل هذه في تنامي الظاهرة لا في القضاء عليها .. ومن هنا وجدت الحاجة المستمرة إلى تأصيل منهج الإسلام بوسطيته واعتداله في جو هادئ بعيد عن المؤثرات وغير مرتبط بالأحداث الجارية ، مع التأكيد على ثوابت العدل الإسلامي وإعطاء كل ذي حق حقه ، وبالطبع ليست هذه دعوة لتجاهل الأحداث وعدم مواجهتها أو التعقيب عليها ، ولكنها دعوة لاستمرار هذه المواجهة الشرعية والفكرية في كل الظروف والأحوال ، ولعل من أقدار الله تعالى أن تأخر إكمال إعداد هذه الدراسة عدة أسابيع عن مواكبة الحدث ( تفجيرات الرياض والدار البيضاء على وجه الخصوص ) ، ليبقى الأثر المستمر لمواجهة دائمة ومستمرة لفكر العنف مرتبطا بالروافد الفكرية له بصرف النظر عن الفعل المادي على الأرض ..

10 – حالة المراهقة الفكرية وعدم وضوح الرؤية التكتيكية وعدم استخلاص نتائج التجارب السابقة التي انتهت جميعها بالفشل .. ولعل من الجدير بالذكر في هذا السياق التذكير بأن كل محاولات العنف المرتبط بالفكرة السياسية أو الخلفية الدينية قد فشلت في المنطقة ولم تصل إلى أهدافها المنشودة ، وإذا كانت أهداف جماعات العنف على أساس ديني واضحة في إقامة الحكومة الإسلامية ، ووصول الإسلاميين إلى السلطة ، وإصلاح فساد المجتمع .. فلقد آن الأوان أن يقف منظروا هذا التيار وقفة صدق مع أنفسهم ويقدمون إلى أنصارهم وإلى الأمة الإسلامية كشف حساب بما تحقق من نتائج وما تم إنجازه من أهداف مقارنين بين الإيجابيات والسلبيات ، ونحن إذ نترك لهم هذه المهمة التقويمية الواجبة ، نؤكد على أن أقصى نجاحات هذا التيار تمثل في تحقيق اغتيالات لبعض الشخصيات السياسية البارزة ، سرعان ما تستطيع المؤسسات الحاكمة في الدول المختلفة سد فراغها بشخصيات علمانية أخرى ربما أكثر تطرفا وأشد حذرا وأعمق مواجهة مع هذه التيارات ومع غيرها من التيارات الإسلامية ، خشية تكرار حوادث الماضي ، وفي هذا المجال لابد من دراسة مستفيضة واعية ومستمرة لتجارب الحركات السابقة مثل مراجعات الجماعة الإسلامية ( مصر ) ، ومثل كتاب ( دعاة لا قضاة ) للأستاذ حسن الهضيبي مرشد الإخوان الذي أسس للمفاصلة مع فكر التكفير في نهاية الستينات من القرن الماضي ، وجعل هذه المراجعات من أصول المواجهة الفكرية والحركية مع تيار العنف .. كما نلفت النظر أيضا إلى ظاهرة عجيبة تثير سؤالا هاما : من يقف وراء انتشار كتب التطرف العلماني فيما عرف بحملة تجفيف المنابع مع انتشار كتب التطرف والعنف المؤسس على الدين في نفس الوقت الذي يتراجع فيه انتشار كتب الفكر الإسلامي المستنير الذي يمثل الإسلام تمثيلا واعيا ودقيقا ؟

ومن اللافت للنظر أيضا الانتشار الساحق لكتاب الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – ( معالم على الطريق)[13] مقارنة بمحدودية انتشار كتاب مثل ( دعاة لا قضاة ) للهضيبي .. رغم صدورهما في فترة زمنية متقاربة ومرحلة فكرية واحدة تقريبا !! .. والتركيز إعلاميا على تصريحات الظواهري ورفاقه وتسليط الأضواء عليها بشدة مع تهميش وحصار مراجعات الجماعة الإسلامية إعلاميا في ذات الوقت !

فمن هي الجهات المستفيدة من تصعيد لهجة العنف والخطاب المتطرف لاستغلاله في صنع ردود فعل علمانية وسلطوية أكثر تشددا تعمل على إقصاء قيم الإسلام عن واقع الحياة ؟

11 – غياب المصارحة السياسية وتجاهل وسائل التعبير المختلفة .. أو ما يعرف بظاهرة الانسداد السياسي المرتبط باستبداد الأنظمة الحاكمة ، وهي ظاهرة تهمش دور الأحزاب والقوى السياسية وتفقدها فاعليتها ، وتفرض على أصحاب النشاط السياسي والتوجهات المختلفة اللجوء اضطراريا للعمل السري ، مع عدم استيعاب مختلف الفصائل في خارطة العمل السياسي ، وما ينتج عن ذلك من نشوء الجيوب السياسية ذات المرجعيات المختلفة ، وتتنامى هذه الجيوب تحت الأرض معتمدة على عدم خضوع أفكارها النظرية للاختبار التطبيقي العملي ، لعدم وجود غطاء سياسي لممارسة عملها العلني الذي يتيح للمجتمع اختبار أطروحات ورؤى هذه التيارات والحكم عليها إما سلبا أو إيجابا وبالتالي رفضها أو قبولها لتمثل الشعب تمثيلا حقيقيا وفق نسب تواجدها في الشارع السياسي .. مع عدم وجود الشفافية السياسية الكاملة بين رجال الحكم والنخب الثقافية والفكرية مما لا يتيح لهذه الكوادر الاطلاع على الموقف السياسي والارتباطات الدولية والداخلية بشكل كامل يمكنها من ممارسة دورها الحقيقي في التوجيه والتأثير على الرأي العام وحشده لدعم موقف سياسي موحد – كما يفعل الغرب على اختلاف أحزابه تجاه القضايا المصيرية الكبرى – يضاف إلى ذلك تسييس مؤسسات المجتمع المدني لتخدم توجهات النظم الحاكمة ، بما في ذلك المؤسسة الإعلامية مما يفقدها دورها في قياس الاتجاهات ووضع الاستراتيجيات وتوجيه الرأي العام توجيها حرا ، وتظل بوقا ناطقا باسم هذه النظم ..

12 – اعتماد الحل الأمني وحده كحل وحيد للقضاء على ظاهرة الجريمة الفكرية المرتبطة بالخلفية الدينية .. فرغم التغطية الإعلامية الهزيلة والخطاب الديني الهامشي الذي يصاحب مواجهة هذه الظاهرة يظل الحل الأمني هو الحل الفاعل وربما الرهان الوحيد لدى الدوائر السياسية .. وهو حل يفشل غالبا لكل ما قدمنا سابقا من عوامل تساعد أو تقدم غطاءا أمنيا وتعاطفا نفسيا مع الجناة ، وإن كنا في هذه الدراسة نؤكد على اعتبار هذه الأعمال جرائم يجب محاكمة مرتكبيها محاكمات عادلة أمام القضاة الطبيعيين وفي ظروف عادلة تماما مع جعل آخر الدواء الكي .. إلا أننا مع ذلك لا ننفي الظروف والعوامل الأخرى التي تدعم هذه الظاهرة خاصة على المستوى الفكري ، وتبقى مشكلة الحل الأمني دائما في قضية الشك والتعميم والمواجهة الشاملة التي تكسب أعداء جددا للأنظمة القائمة على القمع البوليسي والتعذيب لانتزاع الاعتراف ، وبالتالي تكسب أنصارا جددا لفكر العنف وناشطيه .. إن المساواة في العقاب بين الجريمة وبين الشروع أو التفكير فيها ، يسارع بالتأكيد في ارتكابها ، كما يجب التذكير في هذا المقام بضرورة مراجعة وسائل الحل الأمني لأن التطور الحادث في أساليب تنفيذ جريمة العنف ينحو الآن نحو اعتماد العمل الانتحاري ، فإن الذي يضحي بروحه في سبيل قضية – بغض النظر عن عدالة قضيته – يصعب التعامل معه أمنيا .. ولكن لا بد من اعتماد استراتيجية متكاملة مفادها : إن شعور الجناة بالخوف من عاقبة الاجتهاد الخاطئ والفكر المضلل في الآخرة يجعلهم يتريثون ويراجعون أنفسهم ، أكثر مما يخافون من مواجهة المصير المفجع – ثلاثية القتل السجن التعذيب - على أيدي الأمن الذي يكسبهم نوعا من البطولة والنشوة في تحدي السلطة والتمرد عليها ..

13 – عمل القوانين الاجتماعية .. فلابد من التأكيد على أن لعلم الاجتماع قوانين لا تقل رسوخا وثباتا عن القوانين الفيزيائية والرياضية ، ومن هذه القوانين الاجتماعية التي تحكم مسألة انتشار العنف المؤسس على خلفية دينية في المجتمعات الإسلامية : أن لكل فعل وافد وضاغط على المجتمع ( أو لكل ظاهرة اجتماعية غريبة ومفروضة ) رد فعل مضاد له في الاتجاه ويختلف مقدار رد الفعل شدة وتطرفا باختلاف مقدار الضغط الحادث في الفعل الأصلي وما يتيحه المجتمع من وسائل التفيس والتصريف والاستيعاب عبر المؤسسات المدنية .. أو ما يعرف بين العامة : بأن الضغط يولد الانفجار .. إن امتلاك دعاة العلمانية وفلول الفكر الاشتراكي زمام الثقافة والفن والإعلام والتوجيه والتأثير ، والدعوة المستمرة للانتقاص من قيم الإسلام في مجتمعات مسلمة عقيدة وفكرا وشعورا يمهد أقوى وأهم بيئة صالحة لنمو ظاهرة العنف ، وإن كنا نجرم رد الفعل العنيف شرعيا ، إلا أنه يبقى وفق قوانين الاجتماع سنة حتمية لدفع التطرف والغلو العلماني المفروض على مجتمعاتنا والمدعوم من دوائر غربية وصهيونية تمثل العداوة الطبيعية والتاريخية للأمة الإسلامية .. ولا يمكن تصور حلا حقيقيا لظاهرة العنف الفكري على خلفية دينية إلا بإجراء مصالحة حقيقية بين طبقات المجتمع الواحد .. مصالحة بين الأنظمة الحاكمة والشعوب ، ومصالحة بين النخب الثقافية وتراث الأمة وحضارتها وثقافتها .. ولقد آن الأوان لتأخذ مؤسسات المجتمع المدني المختلفة دورها الحقيقي في مسؤولية إصلاح المجتمع .. وأن تعتمد الأنظمة الحاكمة على هذه المؤسسات لمواجهة الظواهر الخطيرة ، مع إشراكها في المسؤولية عن القرار السياسي .. علما بأن الحكمة وظروف المرحلة ستفرض على الجميع – أنظمة حاكمة ومؤسسات اجتماعية – احترام الواقعية والتدرج في التعامل مع الظروف المحيطة ، فلا يمكن أن يتصور عاقل أن تفعيل دور المؤسسات المدنية وإشراك النخب الفكرية الإسلامية في دوائر اتخاذ القرار سيؤدي حتما إلى مواجهة بيننا وبين الغرب .. بل أزعم أنه على العكس سيؤدي إلى نشوء علاقة موثوقية بين مجتمعاتنا الإسلامية وبين الغرب تمتد جسورها وأواصرها بين قطاعات المجتمع كلها ولا تنبني على استبداد أنظمة معينة فقط ، بحيث إذا سقط نظام شعر الغرب بالقلق بشأن مصالحه المدنية في هذا المجتمع ..

وبعد رصد هذه العوامل لابد من الإشارة إلى عدة حقائق منها :

1- عالمية هذه الظاهرة الاجتماعية بحيث لا يفهم من مثل تلك الدراسات الهادفة إلى بحث العلاج الموضعي إتهام أمتنا أو تخصيصها بالجريمة الفكرية ، أو استخدام العنف المسلح .

2- أنها أساسا ظاهرة وافدة علينا ، لا تمثل موروثاتنا القيمية والثقافية تمثيلا حقيقيا ، ويعد الغرب المتشنج في رفض هذه الظاهرة ونمط إعلامه ونماذج الشخصيات التي تقدمها أدابه وفنونه أهم مصادر تصدير هذه الظاهرة إلينا ، ولعل الفيلم السينمائي الأخير الفائز بجائزة مهرجان كان السينمائي والذي يصور تغلغل ظاهرة العنف في الحياة الأمريكية نموذج واضح لهذا النمط من الثقافة الغربية .

3 - أن تجريم أعمال العنف لا يمكن سحبه بأي حال من الأحوال على فريضة الجهاد الإسلامي المشروع والثابت والذي هو من أعظم فرائض الدين ، وليست دعوة لتمييع قضايا الأمة على العكس من ذلك جاءت هذه الدراسة للتفريق بين الجهاد المشروع بشروطه وضوابطه الشرعية ، والجريمة الفكرية ، مع التأكيد الدائم على دعوة الأمة – كل الأمة – بالأخذ المستمر بكل أسباب القوة والعزة والتمكين والسعي لتحقيق رسالتها السامية في تعبيد الأرض لله ..


علاء سعد حسن

كاتب وباحث اسلامي

مجلة المجتمع والنور الكويتيتين


[1] - لقد شدد فضيلة الدكتور صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام ورئيس مجلس الشورى السعودي غير ذات مرة على ضرورة تسمية الأمور بمسياتها فالإسلام إسلام ، والإجرام إجرام ( جريدة المدينة السعودية 19 / 4 /1424 - خطبة الجمعة 27/4/1424هـ )

[2] - العقيدة الواسطية ج1/ص40

[3] - اعتقاد أئمة الحديث ج1/ص64

[4] - القرطبي 6\110 ودلت الآية على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم وإليه أشار عبد الله بن رواحة

[5] - سرية نخلة بقيادة عبد الله بن جحش

[6] - إن السيرة النبوية المطهرة لم تشهد فقدان هذا العدد الكبير من الشهداء دفعة واحدة إلا في غزوة أحد وبئر معونة ، فالفجيعة يومئذ كانت عظيمة ومع ذلك لم تثني النبي عن الوفاء بدم المشركين الذين قتلهما عمرو خطأ معتقدا أنهما من بني عامر ( فقه سيرة للبوطي ص 199 )

[7] - متفق عليه – البوطي 281

[8] - ( وأبغضها إلى الله حرب ومرة ) الحديث رواه أبو داود والنسائي

[9] - الرحيق المختوم للمباركفوري ص 401 بتصرف – لا حظ دلالة الألفاظ عنده صلى الله عليه وسلم

[10] - الرحيق المختوم 254

[11] - مسند الإمام أحمد – المعجم الكبير

[12] - مسند الإمام أحمد ولفظه : ثم إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها

[13] - مع التنويه على أن أية قراءة متأنية لكتاب المعالم في ضوء فهم فكر سيد قطب والإطار الفكري لجماعة الإخوان التي مات رحمه الله وهو يعتنق فكرها تنفي بالتأكيد أي علاقة بين الكتاب وبين التأصيل لجماعات العنف

المصدر