أولمرت فم الذهب
2008-09-18
بقلم : معتصم حمادة
لم يأت أولمرت بجديد وهو يعلن موت فكرة إسرائيل الكبرى
أما تحذيره من خطورة إعاقة الوصول إلى السلام (كما قال) فليس إلا من قبيل ذر الرماد في العيون. عندما غادر إيهود باراك رئاسة الحكومة في آذار (مارس) 2001 لصالح خصمه شارون، وصفه أصدقاؤه المراقبون بأنه تميز عن غيره من رؤساء حكومات إسرائيل بمسألتين: الأولى أنه حاول أن يصل مع الفلسطينيين إلى تسوية للصراع (وإن كان في الوقت نفسه أحجم عن تقديم استحقاقات هذه التسوية وبقي مترددا في عدد من القضايا الرئيسية مما افشل مفاوضات كامب ديفيد).
والثانية انه حاول أن يضع حدا لنفوذ المتدينين في إسرائيل، من خلال وضع دستور للبلاد، بما في ذلك وضع تعريف من هو اليهودي.
وفي هذا الصدد يقول أصدقاؤه المراقبون إن الأحزاب العلمانية في إسرائيل خيبت آمال باراك وبقيت عينها الانتخابية على المتدينين، فتركته يخوض وحيدا معركته دفاعا عن علمانيته.. فخسر المعركة.
ويبدو أن إيهود أولمرت، وهو يحزم حقائبه لمغادرة رئاسة الحكومة، ورئاسة كاديما، يحاول في اللحظات الأخيرة من عمره السياسي ان يصنع لنفسه مظهرا سياسيا يميزه عن سواه من رؤساء حكومات إسرائيل (إلى جانب مظهر الفساد طبعا!) فأطلق تصريحاته المعروفة أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست: أعلن موت فكرة إسرائيل الكبرى ودعا للتخلي عنها. مع استعداد لإبداء نوع من الأسى إزاء ما حل باللاجئين الفلسطينيين.
يخطئ من يعتقد أن أولمرت هو أول من يطلق موقفا للتخلي عن مشروع إسرائيل الكبرى .
(إسرائيل فوق كل الأرض الفلسطينية من البحر إلى النهر)، فقد سبقه إلى ذلك شمعون بيريس يوم كان وزير للخارجية في حكومة رابين (التي وقعت اتفاق أوسلو مع عرفات ومحمود عباس). ففي كتابه الشهير عن «الشرق الأوسط الجديد» والذي نشر في باريس عام 1993 دعا بيريس إلى صفقة سياسية (تسوية تاريخية كما وصفها) يتخلى الإسرائيليون بموجبها عن مشروع إسرائيل الكبرى، فينسحبون من أجزاء من القطاع والضفة (دون تفكيك للمستوطنات) مقابل أن يتخلى الفلسطينيون عما اسماه مشروع تدمير إسرائيل والقبول بكيان خاص بهم في المناطق التي ستنسحب منها إسرائيل. وأن يتراجعوا، في الوقت نفسه، عن المطالبة بعودة اللاجئين إلى مناطق 48. ومع التطورات المتلاحقة تحولت أفكار بيريس إلى العنوان العريض للمشروع السياسي الإسرائيلي.
وعلى خلفية هذا المشروع أدار باراك مفاوضات كامب ديفيد مع الرئيس الراحل ياسر عرفات والرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون. وبفعل التردد الإسرائيلي وصلت المفاوضات إلى الطريق المسدود. فترك الفلسطينيون طاولة المفاوضات وذهبوا إلى الانتفاضة لإحداث توازن جديد في العلاقة مع إسرائيل، يعزز القدرة الفلسطينية على فرض إرادتها على الجانب الإسرائيلي.
القوى الإسرائيلية المسماة بقوى السلام التقت مع أفكار بيريس، فكتب عاموس عوز (من حركة السلام الآن) في أيار (مايو) 2000 في «الموند» الفرنسية يدعو لقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل مقابل أن يتخلى الفلسطينيون عن المطالبة بعودة اللاجئين إلى داخل الدولة الإسرائيلية. وقال عوز يومها إن عودة الملايين من هؤلاء سيحول إسرائيل إلى دولة ذات أغلبية فلسطينية، فيصبح للفلسطينيين دولتان ويفقد اليهود دولتهم. والتقى عوز مع بيريس ورابين، وآخرين، في الرأي القائل، إن منح الفلسطينيين كيان خاص بهم هو الذي يضمن بقاء إسرائيل دولة يهودية.
ولعل هذه الفكرة هي المحور الرئيسي الذي قام عليه مشروع شارون للانفصال أحادي الجانب، والذي لأجله انسحب من الليكود وبنى كاديما، بعد أن فشل في إقناع رفاقه القدامى، إن الاحتفاظ بالفلسطينيين تحت الاحتلال (الفلسطينيون وليس الأرض) من شانه أن يغرق إسرائيل بالملاين منهم وان يقضي عليها دولة يهودية. لذلك دعا إلى الانفصال عن الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه ضم أراضيهم إلى إسرائيل.
والتقى شارون وبيريس، وآخرون، فانسحبوا من العمل، لصالح مشروع تسوية تاريخية مع الفلسطينيين على مراحل، لا يتم الانتقال إلى المرحلة اللاحقة قبل التأكد من حسن تنفيذ الفلسطينيين للمرحلة السابقة والالتزام الكامل باستحقاقاتها.
الفارق بين باراك وأولمرت أن الأول حاول الوصول مع الفلسطينيين إلى حل عبر مفاوضات تتم دفعة واحدة. آما الثاني فقد دخل المفاوضات، وعمل في الوقت نفسه على منعها من التقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام عبر التعنت والمراوغة، والاستغراق في الجزئيات، والتهرب من الاستحقاقات الكبرى؛ ومراعاة الوضع الحكومي الهش على حساب مقتضيات الحل مع الفلسطينيين. كما تخلى، في الوقت نفسه عن مشروع معلمه شارون (الحل أحادي الجانب) بعد أن أثبتت تجربة لبنان (تموز / يوليو 2006) خطورة مثل هذا الحل، وضرورة الوصول إلى اتفاق مع الفلسطينيين يلزمهم باستحقاقات سياسية وأمنية لصالح إسرائيل.
إذن، لم يأت أولمرت بجديد وهو يعلن موت فكرة إسرائيل الكبرى, أما تحذيره من خطورة إعاقة الوصول إلى السلام (كما قال) فليس إلا من قبيل ذر الرماد في العيون. فالتاريخ لن يتردد في أن يسجل أن أولمرت يوم كان رئيسا لبلدية القدس، بذل كل الجهود لتهويد المدينة. ويوم صار رئيسا للحكومة عطل الوصول إلى تسوية، وحول المفاوضات إلى عمل عقيم وواصل مشاريع التهويد،لكن في عموم الضفة الفلسطينية هذه المرة ليقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، متصلة إقليميا، وقابلة للحياة.
أما بشان اللاجئين، فإن أولمرت كرر على مسامعنا الموقف الإسرائيلي «التقليدي» الداعي إلى إسقاط مطلب العودة. ولعل بعض «الجديد» ـ إذا اتفقنا على وصفه بالجديد ـ هو تلويحه باستعداد إسرائيل لإبداء «بعض الأسف» لما حل باللاجئين من نكبات،؛ دون أن يعني ذلك أنها تحمل المسؤولية السياسية والقانونية أو الأخلاقية أو التاريخية عن مصيرهم هذا. بالمقابل ساوى بين حالة اللاجئين الفلسطينيين، وبين المهاجرين اليهود من الدول العربية إلى إسرائيل، متجاهلا أن الفلسطينيين طردوا من أرضهم، وأن اليهود العرب كانوا ضحية الدعاية الصهيونية، وأنهم حسب الخطاب اليهودي «عادوا» إلى إسرائيل وبالتالي فهم ليسوا لاجئين.
المأساوي في موقف اولمرت أنه يلقى تأييد أطراف فلسطينية فاعلة ووازنة في مقدمتها الفريق المفاوض الذي يدعو إلى تسوية تقوم عل المقايضة بين الدولة وحق العودة؛ في إطار تنازلي تاريخي شديد الخطورة من شانه أن يحول الصراع من كونه فلسطينيا إسرائيليا إلى كونه فلسطينيا ـ فلسطينيا، لأن الجميع يدرك أن ملايين اللاجئين، وإلى جانبهم غير اللاجئين لن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يتابعون المسيرة التنازلية للفريق المفاوض.
إن تصريحات أولمرت تؤكد أننا مازلنا أمام لعبة أميركية ـ إسرائيلية تحاول على الدوام، في نهاية كل رحلة تفاوضية، أن تنسب الفشل إلى الجانب الفلسطيني وان تتهمه بأنه لم يتحل بالشجاعة اللازمة لإنجاح المفاوضات. هذا ما جرى مع الرئيس عرفات. ومع الفريق الحالي. مع أن الأخير قدم تنازلات تجاوزت بمسافات الخطوط الحمر الفلسطينية.
وهو ما يؤكد أن إسرائيل مازالت ترفض الاستجابة لاستحقاقات العملية التفاوضية، وأن هذا السبيل التفاوضي، في صيغته الراهنة، لن يؤدي إلى حلول تضمن لشعب فلسطين حقوقه وتحرره من الاحتلال والاستيطان والتشرد واللجوء.
ومما لا شك فيه أن تصريحات أولمرت تستهدف الداخل الإسرائيلي أيضا، قبل ساعات من انتخاب خلف له في الحكومة وكاديما، مع تقدير احتياطي باحتمال اللجوء إلى انتخابات تشريعية مبكرة، تتبارى فيها البرامج السياسية لاستقطاب الصوت الانتخابي.
ولعل أولمرت، وهو يغادر موقعه يراهن أنه سيعود يوما ما إلى نادي السياسيين في إسرائيل. كما عاد بارك بعد هزيمة نكراء ألحقها به شارون. وكما عاد أرييه درعي الزعيم السابق لشاس، بعد أن توارى عن الانتظار في غياهب السجون بتهمة السطو على المال العام.