أوراق الحصار المقدس

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
أوراق الحصار المقدس

02 يوليو، 2008

بقلم : الأستاذ / فهمي هويدي

أصبحت المعابر الستة سيفا مشهرا في الحصار المقدس الذي فرضته إسرائيل علي قطاع غزة‏,‏ لترغم جماهيره المليونية علي شرب أنخاب المذلة والهوان كل صباح‏.‏‏

(1)‏ كأن التاريخ يعيد نفسه‏,‏فما فعله المهاجرون الانجليز حين وطأت أقدامهم بلاد الهنود الحمر في القرن السابع عشر‏,‏ وأسسوا هناك مستعمراتهم الأمريكية التي أطلقوا عليها إسرائيل‏,‏ هو ذاته الذي فعله الإسرائيليون حين أغاروا علي فلسطين وأقاموا مستعمراتهم علي أرضها‏.‏

ذلك أنني حين أتابع التقارير الصحفية التي تتحدث هذه الأيام عن التلاعب بالمعابر‏,‏ واستخدامها في إحكام الحصار وإشاعة التجويع والإظلام وتنفيذ سياسة الموت البطئ علي سكان القطاع‏,‏ يزداد يقيني بأن الحاضر ليس سوي استنساخ للماضي‏,‏ فالانجليز اذا كانوا قد ذهبوا كإسرائيليين الي ما اعتبروه أرض الميعاد في أمريكا‏,‏ وأبادوا الشعوب الهندية هناك مستخدمين أحط الوسائل وأكثرها وحشية ونذالة‏,‏ فإن الإسرائيليين تقمصوا أرواح الأولين حين انقضوا علي فلسطين‏,‏ فتأمركوا وتفننوا في استرجاع ذات أساليب الاقتلاع والإبادة وسحق الفلسطينيين‏.‏

يسجل كتاب أمريكا والإبادات الجماعية أن جورج واشنطن الأب الأعظم للولايات المتحدة اقترح عقد سلسلة من الاتفاقيات مع الهنود الحمر للاستيلاء علي بعض أراضيهم‏,‏ مقابل الوعد بعدم المساس بما تبقي لهم من الأرض‏,‏ وأوصي بأن تكون وعود المفاوضين شخصية وغير ملزمة للحكومة الأمريكية‏,‏ ليسهل نقضها في أول فرصة‏,‏ وقد أقر أعضاء الكونجرس بالإجماع خطته‏,‏ وقال بعضهم إن هذا الأسلوب من الاتفاقيات لن يبقي للهنود في النهاية سوي معازلهم‏,‏ وأن الذين يرفضونها سيكون مصيرهم إما التهجير القسري أو الإبادة‏,‏

وبهذا الأسلوب تم تطهير الشمال الشرقي للولايات المتحدة من الشعوب الهندية‏,‏ الأمر الذي لم يبق للهنود سوي منطقة غرب المسيسيبي‏,‏ التي اعترفت الولايات المتحدة بأنها منطقة هندية ذات سيادة في الاتفاقيات التي عقدتها معهم عام‏1851,‏ لكن اكتشاف الذهب دفع الحكومة الفيدرالية الي فبركة وثيقة مزورة يتخلي الهنود بمقتضاها عن‏90%‏ من تلك الأراضي‏,‏ وحين رفضها زعماء الهنود‏,‏ وأبرزوا المعاهدة الأصلية التي كان موقعوها لايزالون علي قيد الحياة‏,‏ اتهمتهم الحكومة الفيدرالية بخرق المعاهدة‏,‏ واعتبرت تصرفهم إعلانا للحرب‏,‏ ومن ثم لجأت إلي حصارهم وتجويعهم وتدمير حياتهم‏,‏ بحيث لم يبق أمام قبائل الهنود سوي الهجرة أو الموت‏,‏ فهاجر منهم من هاجر‏,‏ وأبيد الذين أصروا علي الاستمرار في المقاومة‏. ‏‏ (2)‏ السيناريو يطبق الآن في غزة‏,‏ مع الاختلاف في بعض التفاصيل والنتائج‏,‏ ذلك أن إسرائيل لجأت إلي سياسة الحصار والتجويع لإذلال سكان القطاع وكسر إرادتهم‏,‏ منذ خرجت منه في شهر سبتمبر‏2005,‏ بعدما أدركت أن وجودها في داخله يحملها بأعباء تريد أن تتحلل منها‏,‏ وسيرا علي درب الاتفاقيات التي لا تنفذ رعت الولايات المتحدة اتفاقية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل لتنظيم استخدام المعابر لمدة سنة‏,‏ وهو ما تم في شهر نوفمبر من العام ذاته‏(2005),‏ هذه المعابر ستة هي‏:‏ معبر رفح‏,‏ وهو الوحيد الذي يصل غزة بالعالم الخارجي ــ

في حين أن المعابر الخمسة الأخري تمر بإسرائيل‏,‏ وهو مخصص لحركة الأفراد خارج القطاع ـ معبر المنطار‏(‏ كارني‏)‏ الذي يقع شرق مدينة غزة‏,‏ علي خط التماس بين القطاع وإسرائيل‏,‏ وهو مخصص للحركة التجارية من وإلي القطاع‏,‏ وكذلك لتصدير الخضراوات الي الضفة الغربية ـ معبر بيت حانون‏(‏ ايريز‏)‏ شمال القطاع وهو مخصص لعبور العمال والتجار ورجال الأعمال والشخصيات المهمة ـ معبر صوفا في الجنوب الشرقي من خان يونس‏,‏ويستخدم لدخول العمال ومواد البناء من إسرائيل الي قطاع غزة ـ معبر كرم أبوسالم‏(‏ كيرم شالوم‏)‏ في جنوب القطاع‏,‏ وهو مخصص لاستيراد البضائع من مصر عبر إسرائيل‏,‏ وقد اعتمده الاحتلال لاستيراد محدود للبضائع ذات الطابع الإنساني ـ معبر ناحال عوز‏,‏ وهو مهجور ومغلق‏,‏ وتم تحويله الي موقع عسكري‏,‏ وكان مخصصا لدخول العمال والبضائع‏,‏ التركيز الأساسي في الاتفاقية كان علي معبر رفح باعتباره الأهم‏,‏ وبمقتضاها أصبح المعبر تحت إدارة مصرية ــ فلسطينية‏,‏ وإشراف ممثلي الاتحاد الأوروبي‏,‏ ولم يكن لإسرائيل وجود هناك إلا من خلال أجهزة التصوير التي تتولي مراقبة العابرين‏.‏

بالتوازي مع ذلك‏,‏ عقد اتفاق آخر بين الجانبين المصري والفلسطيني لتسهيل مرور المواطنين الفلسطينيين‏,‏ نص علي فتح معبر رفح طوال اليوم‏,‏ وعلي إعفاء الفلسطينيين الذين هم أصغر من‏18‏ سنة وأكبر من‏40‏ عاما من تأشيرة الدخول الي مصر‏.‏‏

(3)‏ ما الذي حدث بعد ذلك؟ قامت إسرائيل بخرق جميع بنود اتفاقية المعابر دون استثناء‏,‏ حيث ظل وصول الفلسطينيين الذين يسكنون في القطاع الي الضفة الغربية والعالم الخارجي محدودا للغاية‏,‏ كما أن هناك تضييقا علي عملية تدفق السلع التجارية‏,‏ وارتفاعا في نسبة القيود المفروضة علي التنقل داخل الضفة‏,‏ ولم يطرأ أي تطور اقتصادي سلمي مما كان مؤملا في الاتفاقية‏,‏ وانما تدهور الوضع الإنساني وارتفعت نسبة العنف‏,‏ نتيجة للإغلاق المتزايد لمعابر القطاع‏.‏

هذا الكلام ليس من عندي‏,‏ وانما هو نص أورده في‏30-11-2006 تقرير لمكتب تنسيق الشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية‏,‏ عن تقويم ما جري في القطاع خلال السنة الأولي من تطبيق اتفاقية المعابر‏(‏ من‏15-11-2005‏ إلي شهر‏11‏ سنة‏2006),‏ إنه التطبيق النموذجي لأسلوب اتفاقيات التسكين والتخدير التي لا تنفذ‏,‏ وإنما يكون التوقيع فيها سبيلا للايقاع بالضحية وافتراسها‏.‏

في يونيو‏2007‏ حين سيطرت حركة حماس علي قطاع غزة‏,‏ تذرعت إسرائيل بما جري لإغلاق المعابر علي الفور‏(15-6-2007)‏ محكمة بذلك الحصار المفروض أصلا علي القطاع‏,‏ وبعد شهرين ذهبت إسرائيل الي أبعد في محاولة خنق القطاع‏,‏ فأعلنته كيانا معاديا‏,‏ ورتبت علي ذلك مجموعة من القيود الإضافية‏,‏ وكان ذلك التصعيد مقدمة لقرار وزير الدفاع الإسرائيلي في يناير‏2008‏ بالإغلاق الكامل لكل المعابر‏,‏ وقطع امدادات الوقود في القطاع‏,‏ إضافة الي جميع احتياجات الغذاء والدواء‏.‏

في تقرير أصدره في فبراير الماضي مركز الزيتونة للدراسات ببيروت‏,‏ رصد دقيق للتلاعب الإسرائيلي باتفاقية المعابر منذ توقيعها في عام‏2005,‏ فمعبر رفح الذي يتصل من خلاله الفلسطينيون بالعالم الخارجي ظل مغلقا طوال عام‏2007‏ تقريبا‏,‏ فمن أصل‏365‏ يوما هي أيام السنة قامت إسرائيل بإغلاقه طوال‏308‏ أيام‏,‏ ومعبر المنطار الذي التزمت إسرائيل بالسماح بمرور‏150‏ شاحنة بضائع منه يوميا للاستيراد والتصدير‏,‏ لم تسمح بعبور أكثر من‏12‏ شاحنة فقط‏,‏ في حين ظل مغلقا بصورة كلية وجزئية طوال‏254‏ يوما في العام التالي لتوقيع الاتفاقية‏,‏ بل ورفعت تكلفة النقل فيما بين المعبر وميناء أشدود‏(40‏ كيلومترا‏)‏ الي عشرة أضعافها‏,‏ إذ وصلت الي‏7100‏ دولار‏,‏ في حين أن وصول أي شحنة من أشدود الي شنغهاي في الصين أو لوس أنجلوس‏(‏ كلتاهما تبعدعن الميناء الإسرائيلي بمسافة بين سبعة و‏9‏ آلاف ميل بحري‏)‏ لا يتكلف أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف دولار‏,‏ وما حدث مع معبر المنطار تكرر في المعابر الأخري‏,‏ حيث ظل محور المساعي الإسرائيلية هو التفنن في جعل حياة الفلسطينيين في القطاع جحيما لا يطاق‏.‏‏

(4)‏ الفرق الجوهري بين الهنود الحمر والفلسطينيين‏,‏ أن الأولين تقهقروا واستسلموا لمصيرهم‏,‏ في حين أن الفلسطينيين ثبتوا ولم يتوقفوا عن المقاومة‏,‏ لقد تذرعت إسرائيل في استمرار عدوانها بالصواريخ الفلسطينية وبخطف الجندي جلعاد شاليت‏,‏ ولكن الصواريخ لم تكن سوي رد علي جرائم الاحتلال الإسرائيلي ومن أشهرها الاجتياحات والتصفيات التي لم تتوقف‏,‏ وفي مقابل الجندي المخطوف‏,‏ هناك‏11‏ ألف أسير فلسطيني مخطوفون في السجون الإسرائيلية منذ سنوات‏.‏

أحد أوجه الشبه بين تجربتي الهنود الحمر والفلسطينيين‏,‏ أن ما جري للاثنين تم في ظل الخلل في موازين القوة‏,‏ ثم إن ما جري للهنود الحمر تم بعيدا عن الأعين‏,‏ أما الذي يحدث للفلسطينيين فإنه يتم أمام الأعين‏,‏ وكما خذل العالم القديم الهنود الحمر عن جهل أو صمت‏,‏ فإن عالمنا المعاصر خذل الفلسطينيين إما عن عمد أو تواطؤ أو خوف‏.

المصدر