أستاذي الشيخ ماهر عقل .. سلامٌٌٌ عليك

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
أستاذي الشيخ ماهر عقل .. سلامٌٌٌ عليك


د. إسماعيل علي محمد

الشيخ ماهر عقل


قصيرةٌ هذه الحياة الدنيا، وأقصرُ منها مُكث الإنسان فيها.

وهناك خلق كثير منذ آدم عليه السلام حتى يوم الناس هذا لا يحصون عددا، وُلِدوا وعاشوا ما كَتب الله لهم أن يعيشوا، ثم ماتوا، وكأنهم لم يُوجَدوا في الحياة، ولم يلبثوا فيها ساعة من ليل أو نهار.

ومن الناس مَن يَقْدُم إلى الدنيا، ثم يرحل عنها وقد باركه الله وبارك في عمره، ووفقه في سعيه، وهداه إلى الطيب من القول والصالح من العمل، فإذا به يترك بعد وفاته أثرا طيبا، وخيرا ممتدا وباقيا، ينفع الله به الناسَ من بعده، كما نفعهم به قبل موته، فتبقى ذكراه خالدة في صحائف التاريخ وسجل الزمان، وتظل سيرته حية بين الناس، وآثاره معالمَ هداية، وقدوةً حسنة للأجيال، وأحسب من هذا الصنف المبارك شيخي وأستاذي العالمَ العاملَ الداعيةَ الشيخ ماهر عقل رحمه الله، أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا.

قبل عام رحل عن عالَمنا الشيخ الجليل، حيث وافته المنية وهو قائم في الميدان، يصول ويجول؛ عاملا لدينه، خادما لدعوته، مجاهدا بكل ما يستطيع في نصرة الحق، بهمة عالية، وعزيمة قوية، وثبات لا يلين، ونشاط دءوب، وحركة هادرة فاعلة راشدة، لا تعرف السآمة ولا الكلل.

لقد تذكرت حياة شيخي وجهاده ونشاطه وعزيمته ـ وأنا الذي عايشته عن قرب زمنا يقارب العشرين عاما ـ فقلت حين وفاته ـ والأسى يعتصر قلبي ـ : لقد آن لهذا الجسد أن يستريح!!

إي والله؛ فلقد كنا نحن المحيطين به القريبين منه لنعجب من ذلك النشاط الذي ينوء به العصبة أولو القوة، وتلك الطاقة المتوقدة، والحركة الدائبة، ولا يكون المرء مبالغا إذا قال بأن جهود الشيخ في الدعوة والعمل للإسلام كانت تعدل جهود كتيبة من الدعاة والعاملين، وهو الذي تُوفّي عن سبعين عاما، ولم يسلم بدنه من المرض المُُضني، والمعوِّق للحركة، لكنها النفوس العظيمة التي اصطفاها الله لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، المستمدة للعون والمدد من الله القويّ المعين.

لقد كان الشيخ ذا جهاد متواصل في سبيل التمكين لدين الله عز وجل، والاشتغال بالدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فما كان يترك مناسبة إلا واستغلها في الدعوة إلى الله، وكان له حضور دائم، ومشاركة فاعلة في الدعوة الجماهيرية والفردية في المحافل العديدة، والمجالس الخاصة والعامة، ، تناول فيها كافة الموضوعات الدعوية والجوانب الإصلاحية، من خلال الدروس والخطب والندوات والمؤتمرات، فكانت له دروس علمية منهجية في التفسير والعقيدة والسيرة والأخلاق ... وغيرها، بالإضافة إلى الخطب والمحاضرات المتفرقة بحسب ما يقتضيه المقام، وتدعو الحاجة إليه.

ولم تقتصر جهود الشيخ في مجال الدعوة والإصلاح على مصر فقط؛ بل امتدت إلى خارجها، في إطار زيارات مطوَّلة ومختصرة لدول مثل أمريكا وبولندا وغيرها.

ولقد تجسدت في الشيخ رحمه الله مقومات الداعية الناجح، سواء منها ما كان منها متعلقا بالجانب العلمي، أو الأخلاقي، أو المؤهِّلات والإمكانيات المعينة على تبليغ الدعوة والقيام بالإصلاح على خير وجه، بالإضافة إلى العُُدّة الإيمانية والروحية القوية التي منَّ الله تعالى بها عليه.

أما الجانب العلمي؛ فقد كان الشيخ رحمه الله يتمتع بالعلم الوفير، ولم يكن محصورا في فرع معين أو تخصص محدود، بل كان موسوعيََّ المعرفة، وكان ذا نهم دائم في الاستزادة من العلم خاصة العلم الشرعيّ، كالتفسير والسنة والسيرة والتاريخ والفقه والعقيدة والمذاهب وغيرها، وكان ذا نفَس طويل في القراءة، وأذكر أنه قال لي ذات مرة ـ في حوالي سنة 1990م ـ : ألا يمكن أن تقرأ هذا الكتاب في ليلة أو ليلتين؟

وكان يشير ليلتها إلى كتاب: " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، ولقد صفا للشيخ رحمه الله علم كثير، وتجمع لديه مخزون وفير، الأمر الذي ساعده في دعوته وعمله.

وجدير بالذكر أنه اضطلع بمهمة الإفتاء لمدة تربو على عشر سنين، حينما كان يعمل " واعظا أول " بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة، وقد شهد له بهذا الرسوخ العلمي كلُّ من خالطه وجالسه من أهل العلم.

كانت لدينا مناسبة في كلية أصول الدين والدعوة بالمنصورة ـ وهي مكان عملي ـ وقد دُعِي إليها الشيخ رحمه الله، وكنت بصحبته، ( كان ذلك في عام 1999م ) وقد برز علمه الغزير من خلال بعض المناقشات العلمية يومها، وكان محلَّ تقدير جميع الأساتذة، وكان إذا لقيني عدد من الأساتذة بعدها ذكروا الشيخَ وأثنوا على علمه، وأذكر أن عميد الكلية وقتها قال لي: إن أمثال الشيخ من العلماء الفقهاء في هذا الزمان قليلون، وكان أحد الأساتذة كلما رآني سألني عن الشيخ وحمّلني إليه السلام، مثنيا عليه، وناعتا له بأنه " رجلٌٌ حجة ".

وبهذه المناسبة فإني أنصح نفسي وإخواني من أهل العلم والدعوة بأن يحرصوا على طلب العلم، والاستمرار في تحصيله، والاستزادة منه دون انقطاع، حتى وإن كان يسيرا في بعض الأحوال والظروف، فإنه لا شك سيكون زيادة في الرصيد العلمي والمخزون المعرفي للمرء، ولا يستصغر أحدنا أو يقلل من قدْر أية معلومة مهما كانت ضئيلة؛ بل يواصل، ولسوف تعظم ـ بإذن الله ـ ثروته العلمية وتزداد مع الأيام، وما أحكم ما قاله أحد العلماء قديما:

اليوم شيئ وغــــــدا مثله

من لُقََط العلم التي تلتقـــط

يُحصِّل المرء بها حكمة

وإنما السيل اجتماع النقط

وأما أخلاق الشيخ الحسنة؛ فكانت بادية في كل تصرفاته، ومع جميع الناس؛ البعيد منهم والقريب، فكان عفّ اللسان، بشوش الوجه، لين الكلام، وصولا لرحمه خاصة من يقطعه منهم، عطوفا على الفقراء والمحتاجين، بيْتُه قبلة لكل صاحب حاجة، خاصة بعد أن انتًخب وصار عضوا بمجلس الشعب عن دائرة كفر صقر وأولاد صقر بمحافظة الشرقية ( في دورة عام 2005م )، وكان يُلقِي السلام على من عرف ومن لم يعرف، كما كان جريئا في الحق لا يخشى في الله تعالى لومة لائم، وكان رحمه الله ذا حظ عظيم من الصبر في جميع أحواله؛

صبر على النعمة فلم يغترّ بما وسّع الله عليه في الرزق، ولم يطْغ أو يتبطر، بل كان مثالا للشاكر المتواضع، وصبر على الابتلاء، حيث ابتلِي بالاعتقال والسجن ظلما، لا لشيء إلا أنه يدعو إلى الله، وينادي بإصلاح الدنيا بالدين، ويقول ربي الله، وهذه ضريبة يدفعها الدعاة إلى الله والمصلحون في كل زمان ومكان، وكان من أبرز أخلاقه رحمه الله الكرم والسخاء، كما كان عفيفا عزيز النفس أبيٍّا، لا يذل نفسه لغير خالقه، ولا يخشى إلا مولاه، فهو متواضع في غير ذلة، عزيزا في غير تكبر، وكان يتواصل مع الناس يشاركهم في أفراحهم وأحزانهم بدرجة كبيرة جدا، وكان حسن المظهر، طيب الرائحة على الدوام ... وبالجملة فقد كان الشيخ رحمه الله مثالا للعالم الداعية الذي يعمل بعلمه ويطبق ما يدعو إليه، لا سيما في مجال الأخلاق، ولذلك كان لدعوته القبول، ولكلامه التقدير، ولشخصه الاحترام والتبجيل حتى ممن يختلفون معه.

وأما إمكانيات الشيخ ومقدرته على تبليغ الدعوة؛ فيمكننا أن نقول ـ دون أدنى مبالغة ـ : إنه كان عملاقا في هذا الجانب؛ فقد حباه الله تعالى بأسلوب جذاب، وفصاحة عالية، وبلاغة راقية، وأداء مؤثر، وقدرة على الإقناع والاستمالة، وفقه دعوي متين، وإحاطة واسعة وبصيرة نافذة بمنهج الدعوة، مع حكمة عظيمة تعصم ـ بتوفيق الله ـ من الانحراف عن النهج القويم والصراط السوي في الدعوة والإصلاح، وكان خبيرا بالنفوس وطبائعها ومداخلها، وأحوال المدعوين وواقعهم، فكان الشيخ يخاطب المتعلمين بما يقنعهم ويستميلهم، ويخاطب العوام بما يُُفْْهِمُُهم ويؤثّر فيهم ويجذبهم، ويخاطب غير المسلمين بالخطاب الذي يناسبهم، هذا فضلا عن مراعاة مقتضى الحال، وكلها أمور لا يراعيها إلا الموفقون ممن رزقهم الله علما وفهما، ونحسب أن الشيخ منهم؛ فقد أثمرت جهوده بفضل الله أطيب الثمار.

ثم إن الشيخ رحمه الله كان موصولا بربه في ليله ونهاره، فكان يكثر من ذكر الله لا يفتر، وكان صوّاما قوّاما، حتى إن الله أكرمه فقبضه إليه وهو صائم، كما كان زاهدا، لا يعير الدنيا ومظاهرها أدنى اهتمام، وقد تجلى هذا في تزويجه لبناته؛حيث كان جُُلّ اهتمامه محصورا في أن يختار لكل واحدة منهنّ مَن يتوسم فيه الصلاح، ويظن فيه التقوى، وقد كنت أحدَ الذين أحسن بهم الشيخ الظن ـ وإني دون ذلك وأسأل الله أن يغفر لي ويجعلني عند حسن ظن الناس بي ـ وزوّجني كبرى بناته، ورفق بي، ويسّر لي كثيرا من الصعاب، ولم أكن أملك من متاع الدنيا الكثير، شأني شأن ملايين الشباب الذين يتخرجون من التعليم ويحفرون في الصخر بأظافرهم، ليشقوا طريقهم أملا في الوصول إلى حياة رغيدة، معتمدين على الله، آخذين بالأسباب، مستبشرين بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

أما بعد : فإذا كنتُُ أقف هذه الوقفة بعد عام من رحيل شيخي وأستاذي الكبير فضيلة الشيخ ماهر عقل رحمه الله؛ فقد قصدتُ أن أُضَمِّنها بعضا من ملامح سيرته، تذكيرا بقدر أحد علماء الأمة الإسلامية ودعاتها المجاهدين، الذين كانوا ولا يزالون ملء السمع والبصر، راجيا أن تكون معالم رشاد، ومنارات هدى على طريق العلم والدعوة للأجيال.

وإذا كان شيخنا الفضيل قد فارقنا بجسمه فإنه سوف يظل معنا دائما بأعماله الطيبة، وآثاره الصالحة، وتوجيهاته النافعة، وسيرته الزاكية.

لعل من المصادفة الحسنة التي قدرها الله لي أن أول خطبة حضرتها لشيخي وأستاذي ـ وكنت يومها صبيا دون العاشرة ـ كانت شرحا لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... " ومنهم : " ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ".

اللهم إنك تعلم أني أحببت عبدك " ماهر " في الله منذ قديم الزمن، فاجمعني وإياه في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يا أرحم الراحمين.


د . إسماعيل علي محمد

  • الأستاذ بكلية أصول الدين والدعوة بالمنصورة ـ جامعة الأزهر – وزوج إبنة الفقيد .

المصدر