أزمة مصر الحقيقية
عيداروس القصير
مقدمة
من المعلوم أن القوى السياسية المصرية كلها، تقريبا، قد ركزت نشاطها السياسي الفكري والعملي، طوال العامين الماضيين، بل تكاد تكون قصرته خلال معظم هذه الفترة، على قضية "التغيير" بمعنى الإصلاح السياسي والدستوري، لا يستثنى من ذلك النظام الحاكم نفسه.
دوافع النظام الحاكم في ذلك هي التجاوب مع متطلبات الإصلاح الذي تدعو إليه أمريكا ومشروع الشرق الأوسط الكبير من جهة ، والالتفاف حول مطالب القوى الداخلية الديموقراطية من جهة أخرى.
أما أسباب ودوافع قوى المعارضة وراء هذا التركيز، بإستثناءات ضئيلة فقد صدرت عن عاملين أساسيين،
العامل الأول الميل الليبرالي السائد منذ سنين عديدة خاصة منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي في أحزاب وقوى المعارضة المصرية،
والذي يعتبر حرية تداول الحكم والانتخابات التعددية والضمانات لحريتها ونزاهتها الحلقة الأساسية في عملها السياسي والقضية التي يجب أن تحظى بإجماع وتحالف قوى المعارضة المختلفة وأن تكون محل اصطفافها الأول والرئيسي أيا كانت القضايا السياسية أو الاقتصادية المباشرة الأخرى، وأيا كانت خلافاتها بشأنها.
أما العامل الثاني فهو أن أصحاب هذا الميل، أو أكثريتهم، وكذلك الأخوان المسلمون وكل من أراد اغتنام الفرصة، اعتبروا الخطاب الأمريكي والعالمي عن نشر الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان في الدول العربية ظرفا ملائما ودعوة لتشديد النكير على النظام الديكتاتوري في مصر والفوز بحرية تداول الحكم وما تتطلبه من حريات وضمانات دستورية وقانونية.
فمنهم من رأى تلاقيا أو تقاطعا بين المشروع الوطني للديموقراطية وبين المشروع الأمريكي والشرق الأوسطي الكبير رغم تناقض طبيعتهما وأهدافهما، ومنهم من سعى بلا مواربة إلى الاستقواء بأمريكا أو عرض نفسه على أمريكا كبديل للنظام، أو تحرك تحت مقولة تحييد القوى الدولية في الصراع مع النظام المصري حول قضايا الديموقراطية والتي هي مجرد تغليف لمقولة تحييد أمريكا القديمة الشهيرة، فليست هذه القوى الدولية، وفي واقع الأمر، إلا أمريكا والدول الكبرى التي تسيطر على مقدراتنا وتهاجم المنطقة عسكريا وسياسيا وفي القلب منها بلادنا، وتتدخل في جميع شئونها الداخلية.
علاوة على ذلك اعتبرت أغلب قوى المعارضة، خاصة المحجوبة عن الشرعية، أن الوضع الداخلي ملائم أيضا لجذب الجماهير للمشاركة الإيجابية الواسعة والعمل السياسي المباشر بالمظاهرات والمؤتمرات في معركة "التغيير"، حيث ساد بين أوساطها تقدير أو اعتقاد بأن الأمر يتطلب في المقام الأول جرأة النخبة السياسية والمثقفة المعارضة بالمبادرة إلى رفع سقف لغة فضح النظام والتحريض ضده ، وإطلاق شعار تعبوي كشعار "لا للتجديد لا للتوريث".
وسرعان ما شمل هذا التقدير حزب التجمع والحزب الناصري وجماعات معارضة أخرى وظهر المزيد من التجمعات والتحالفات والحركات "الاحتجاجية" . ومع تكرار التظاهرات و"الوقفات" الاحتجاجية وتحرك نادى القضاة وبعض أساتذة الجامعات ارتفعت الآمال بقرب نجاح الحركة، وتجلى في لغة أكثرية الأحزاب والجماعات المعارضة وممارستها ما يشبه الرهان على إمكان إسقاط النظام بالعصيان المدني أو على الأقل حمل رئيسه مبارك على عدم التجديد لدورة جديدة عندما تنتهي دورته الرابعة في سبتمبر 2005.
إلا أن النظام الحاكم لم يتردد طويلا في محاولته، سواء للاستجابة للمطالب الأمريكية والعالمية بالاتجاه لإجراء تعديلات دستورية وسياسية تسمح بتعدد القوى والأحزاب المتنافسة على التكيف والقبول بالمشروعات الاستعمارية الأمريكية والعالمية في المنطقة، أو للالتفاف حول المطالب الديموقراطية "الحقيقية" في مصر والتي تحاول جاهدة وفي مواجهة توجهات سياسية وأيديولوجية وثقافية داخلية غير ملائمة أن تفك الالتباس وتفض خلط الأوراق بين مشروع "الديموقراطية الوطنية" والمشروع الليبرالي الجديد، "ديموقراطية" الخضوع للقوى الاستعمارية، أي الحكم الذاتي في كنف وتحت وصاية الإمبريالية الأمريكية والعالمية.
هذا دافع ومغزى مبادرة الرئيس مبارك في 26 فبراير 2005 لتعديل المادة 76 من الدستور لاستبدال نظام الانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية بنظام الاستفتاء، والتي نجحت إلى حد كبير في تحقيق أهدافها. ومما ساعد على ذلك، أن المظاهرات والحركات الاحتجاجية ظلت محصورة في القلة السياسية والمثقفة وعجزت عن استدعاء جماهير الشعب للمشاركة فيها سواء قبل التعديل التعجيزي للمادة 76 أو بعد تزوير الاستفتاء عليه وإصداره.
ومع ذلك وكما هو ثابت فإن الحركات والتجمعات النخبوية الاحتجاجية التي شكلت في تلك الفترة
– ومن جاراها من الأحزاب كحزب التجمع والحزب الناصري والكرامة تحت التأسيس وغيرها.
لم تقدر مدى عزوف الجماهير عن التجاوب معها، وظلت ترفع شعار لا للتجديد داعية للعمل السياسي الجماهيري المباشر لتحقيق مطالبها ودعت لمقاطعة انتخابات الرئاسة بحجة عدم إكسابها الصفة الشرعية. أما الإخوان فناوروا بمقاطعة انتخابات الرئاسة ليدعموا في نهاية الأمر مرشح حزب الغد، ويضعفوا مرشح حزب الوفد.
فلما أذنت ساعة الانتخابات البرلمانية فإذ بالجميع يتسابقون لخوضها دون أن يجد جديد في الظروف والأوضاع والقوانين التي دعت أغلبهم لمقاطعة الانتخابات الرئاسية ، والتي كانت المشاركة فيها بمثابة تحضيرا مباشرا للانتخابات البرلمانية، وشكلت فجأة الجبهة الوطنية للتغير والتي لم تكشف عن أي جدوى أو فعالية في المعركة الانتخابية.
الفصل الأول
نتائج الانتخابات ودلالاتها
جاءت نتائج الانتخابات كما يلي :
1- تراجع نسبي لقوة النظام، تقدم ملموس للإخوان، انحسار القوى الديموقراطية([1])
أعضاء مجلس الشعب الذين يكسبون العضوية بالانتخاب 444 عضوا والمنتخبون عام 2005 هم فقط 432 عضوا ولا زال 12 مقعدا شاغرا لوقف الانتخابات في 6 دوائر، بينما كان أعضاء المجلس المنتخب سنة 2000 فقط 442 حيث كان مقعدان شاغرين.
وكانت نتائج انتخابات 2005 مقارنة بنتائج انتخابات 2000 كما يلي :
أ - تراجع عدد نواب الحزب الحاكم إلى 311 عضوا بنسبة 70% من إجمالي عدد المجلس المختارين بالانتخاب، بينما كانوا 388 عضوا بنسبة 87% من إجمالي نفس العدد في انتخابات 2000.
وتكررت ظاهرة أعضاء الحزب الفائزين مستقلين عائدين بعد الفوز للحزب. وكان نواب الحزب الحاكم الفائزين بإسمه رسميا 145 عضوا بينما كانوا 175 عضوا في انتخابات 2000 والفائزين المستقلين العائدين 166 عضوا في انتخابات 2005 بينما كانوا 213 في انتخابات 2000.
ب- فاز الإخوان بـ 88 عضوا بنسبة 20% تقريبا بدلا من 17 عضوا بنسبة 4% سنة 2000.
جـ- تراجع مجموع نواب الأحزاب والجماعات المعارضة الأخرى إلى 14 عضوا بنسبة 3% من إجمالي عضوية المجلس المنتخبة بدلا من 17 عضوا بنسبة 4% في المجلس السابق منها 6 للوفد بدلا من7 وللتجمع 2 بدلا من 6 بالمجلس السابق و2 للكرامة بدلا من 1 ولا شئ للناصري بدلا من 3 و للغد المنشق 2 وللأحرار المنشق 2.
د – المستقلون بلغوا 19 عضوا (منهم ثلاثة قوميين ناصريين في البرلمان الحالي) بينما كانوا في البرلمان السابق 20 عضوا .
وبذلك كشفت الانتخابات عن تراجع نسبي وملموس أيضا في نفوذ الحزب الحاكم بين صفوف من أدلوا بأصواتهم ، وعن استمرار التفكك في قاعدة النظام السياسية والذي ظهر في انتخابات 2000 (ظاهرة الخروج على ترشيحات الحزب في الانتخابات البرلمانية وبوادر لميول استقلالية لبعض النواب).
واستمرار التفكك، وهو أمر متوقع، يمكن أن يؤدي مع اشتداد عدم شعبية النظام الحاكم إلى انشقاق أو أكثر من نواب وأعضاء في الحزب الحاكم ممن يشكلون حاليا قاعدة النظام السياسية وانضمامهم لأحزاب أخرى أو أحزاب جديدة قد تشكل مستقبلا أو إلى جماعة الإخوان المسلمون الذين يقتربون بصورة ملموسة من تمثيل نفس القاعدة الاجتماعية للسلطة الحالية وهي الطبقة الرأسمالية الكبيرة، لكن بقناع الدين الإسلامي.
وكما هو واضح لم يكن تراجع وضع النظام الحاكم في نسبة القوى السياسية في المجتمع المصري لصالح القوى الشعبية أو لصالح القوى الديموقراطية بمختلف مراتبها وفصائلها
- هذه القوى التي لم تتمكن من الحفاظ على العضوية الضئيلة التي كانت لها في البرلمان السابق
– وإنما كان تراجعه لصالح جماعة الإخوان، والتي لا محل لاعتبارها من القوى الديموقراطية رغم رطانتها "الديموقراطية" الجديدة، واعترافها أخيرا بان الشعب مصدر السلطات وأن تكوين الأحزاب المتعددة حق مشروع وليس محرما بالنص القرآني.
فهذا الاعتراف وغيره من بنود "الديموقراطية" الإخوانية يقع في إطار تمسكهم التام بالمبدأ الأول الذي قامت عليه ولا تزال الجماعة وهو الرجوع إلى الدين كمرجعية للدولة وللسياسة وكافة مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية، وعلى الفتوى الدينية
– وليس بحث الحالة الموضوعية وفقا للواقع المعيش بنظامه الاقتصادي والاجتماعي وعلومه الحديثة والمعاصرة
– كمصدر السياسات والتشريعات. إنه المبدأ الذي يجسده شعارهم الذي دخلوا به الانتخاب "الإسلام هو الحل"، وهو ما ينسف أسس الدولة الحديثة ويحطم وحدة الشعب في مجتمع متعدد الديانات ، ويقضي حقيقة على أي حديث جدي عن الديموقراطية التي تبدأ مسيرتها الحقيقية في بلادنا بحرية العقيدة والتفكير وحق المواطنة وإلغاء كل قيد عليه بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو العرق.
2- استمرار غياب الأغلبية
بغلت نسبة التصويت26.2% من المقيدين في جداول الانتخاب بالمقارنة مع 25% في انتخابات 2000 بفارق زيادة 1.2%.
والفارق الحقيقي لا شك أنه أكثر من ذلك لأن نسبة التزوير أقل مما كانت عليه من جراء التحسن النسبي في الإشراف القضائي وفي إجراءات العملية الانتخابية وإدارتها.
ومع ذلك فنسبة التصويت لازالت ضعيفة. فثلاثة أرباع السكان أكثر من 18 سنة لا يشاركون في الانتخابات ولا في أي نشاط سياسي آخر يتطلب مشقة ووقتا ووعيا أكثر واستعدادا أعلى بكثير مما تتطلبه مشاركة بسيطة في الإدلاء بالصوت يوم الانتخاب.
أما المشاركون في النشاط السياسي الحزبي وغير الحزبي المستمر والدائم بكل فصائله ممن أدلوا بأصواتهم فهو شديد التواضع ولا يتعدى نسبة منهم تقع كما نرى في خانة الآحاد.
أما النساء فلم يحصلن إلا على 4 مقاعد فقط في المجلس الجديد رغم كل الضجيج الجاري حول تمكين المرأة والأموال الطائلة التي تصرف يوميا على مجلس المرأة واللجان والحملات المظهرية والدعائية.
ومن تحصيل الحاصل أن الجهد المكثف للقوى السياسية والصحافة حول قضايا الانتخابات والإصلاح السياسي والدستوري ، والتنديد بفساد الحكم وبالأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة للجماهير ،
ورفع سقف لغة نقد وفضح النظام الحاكم ورموزه لمدة تزيد عن عام لم يترك أثرا إيجابيا ملموسا على نسبة عزوف الجماهير عن ساحة النشاط السياسي والعام .
ولذلك يصح لنا أن نستنتج أن خطاب القوى السياسية والصحافة بوجه عام وخطاب المعارضة الديموقراطية بوجه خاص لم يؤثر – بل وقليلا ما توجه إلى أو تعامل مع – الأسباب الأعمق لابتعاد الجماهير عن العمل السياسي خاصة والعام بصفة عامة.
فإذا كان صحيحا أن عزوف الجماهير هو أساسا أو مجرد نتاج الخوف والتهيب من الصدام مع الحكومة وأجهزة الشرطة أو عدم الثقة في نزاهة الانتخابات، فما الذي يبعدها – وهي تعاني في حياتها اليومية الأمرين من سياسات الحكم القائم – عن العمل العام والسياسي بعد أن تخطت القوى المناوئة للنظام الخطوط الحمراء السابقة في نقد الحكم ورموزه ورئيسه،
وكسرت بعض القيود الصارمة على حرية التعبير الجماهيري بالمظاهرات والندوات والمؤتمرات أو عبر وسائل الإعلام من قنوات وفضائيات تليفزيونية مرئية على نطاق جماهيري واسع والصحافة الحزبية والخاصة المستقلة وهبة نادي القضاة وجمعياته العمومية للتشديد على الإشراف القضائي على الانتخابات ونزاهتها؟
ما الذي يبعدها عن المشاركة في عملية سياسية قانونية وبسيطة ولا تعترض عليها السلطة وهي الإدلاء بالصوت في صندوق الانتخاب؟ ولماذا لم تؤد الضمانات المحسنة نسبيا في الإشراف القضائي والحبر الفسفوري والصندوق الزجاجي وتوقيع الناخب في كشوف الناخبين ومراقبة نادي القضاة والمراصد المتعددة الداخلية والخارجية للعملية الانتخابية إلى رفع ملموس في نسبة التصويت؟ هناك ولا شك سبب أعمق بل أسباب متعددة.
في المحافظات الريفية ترتفع نسبة التصويت عن الـ 26% وتقترب من 50% وتتخطاها في بعض الدوائر وفي المدن تنخفض عنها لتهبط إلى 10% وما دونها في بعض الدوائر.
فالأقل تعليما وثقافة وهم سكان تلك المحافظات هم الأكثر تصويتا وهذا نتاج الترابط الأسري والعصبيات العائلية الأقوى في الريف. ومن زاوية أخرى فإن الطبقات الشعبية وفئات الطبقة الوسطى الأكثر انسحاقا وانشغالا في التلبية اليومية لاحتياجاتها المعيشة ليست أقل تصويتا من الفئات الميسورة،
فالأغلبية الغائبة تنتمي لكل الطبقات، ولا يلغي ذلك حقيقة أن الكتلة الرئيسية في هذه الأغلبية الغائبة تنتمي للطبقات الشعبية والفئة الدنيا من الطبقة الوسطى بحكم تشكيلها لأكثر من أربعة أخماس السكان،
إلا أنه يشير إلى أن يوم العمل الطويل المنهك للطبقات الشعبية لا يجعلها أقل تصويتا من الفئات غير المنهكة وغير المستوعبة في عمل يوم طويل ومجهد، وإن كان يحد ولا شك من الإمكانية أو الفرصة والوقت اللازم للنشاط الاجتماعي عامة والسياسي خاصة.
فإذا كانت الأغلبية الغائبة تنتمي إلى مستويات ثقافية وتعليمية واجتماعية مختلفة لكان علينا أن نجد أو نضع أيدينا على الأسباب الأكبر والأعمق لعزوف الجماهير عن العمل السياسي وهو ما سنرجع إليه لاحقا.
3- العوامل الأساسية المؤثرة في اختيارات الناخبين للمرشحين
إن الأهم من نسبة التصويت العامة في قياس مدى التطور السياسي للجماهير،
وعيا واستعدادا نضاليا، هي المفاهيم والعوامل التي قررت اختياراتها ومفاضلاتها بين المرشحين المتقدمين لكسب ثقتها وأصواتها.
وحسب مشاهداتنا في بعض الدوائر والتغطية الصحفية والإعلامية المصرية والعربية والعالمية للانتخابات البرلمانية المصرية 2005 فإن هذه المفاهيم والعوامل كانت كما يلي :
أ - مفهوم نائب الخدمات :
كانت قدرة المرشح على توفير الخدمات العامة للدائرة والشخصية لأبنائها المفهوم الأول أو الرئيسي في تقرير اختيارات الناخبين. وهو مفهوم ومعيار رئيسي تكشف عنه بدرجات متفاوته قليلا كل انتخابات برلمانية مصرية حتى الآن. فالنائب من وجهة النظر الشعبية الدارجة – وبصفة رئيسية – هو نقيب الدائرة ومندوبها لدى الجهات الحكومية والسلطات الرسمية وحاميها أيضا من بطش جهاز شرطتها وجهاز جبايتها، وهو أيضا لابد أن يكون ثريا أو ميسور الحال وأن يكون قادرا دائما قبل وبعد فوزه على تحقيق القدر الكافي من "اليسر" للإنفاق على متطلبات مهمته ومنها المشاركة بنفسه في تقديم الخدمات لأهالي الدائرة والصدقات للمعوزين من أبنائها. ويرجع هذا المفهوم بأصوله إلى عصر ما قبل الدولة الحديثة.
فهو مورث عن عصر النقابات الطائفية وكبير "الحتة" وفتوة الحارة "الشهم" وحاميها أو شيخ القرية أو الناحية ورجلها القوي الصالح.
وقد ساعد على استمرار هذا المفهوم بطء وسطحية وهجينية حركة النهضة والتحديث عامة والنهضة والتجديد الثقافي والفكري خاصة . ومما ساعد بصورة مباشرة على تخلف الوعي السياسي للجماهير مظهرية، وهزال جدوي، الحياة البرلمانية المصرية، بالنسبة للطبقات الشعبية خاصة، رغم عمرها المديد الذي بلغ حتى الآن حوالي 140سنة منذ إنشاء مجلس شورى القوانين سنة 1866.
فلم يبرز من جراء ذلك مفهوم النائب السياسي وظل مفهوم نائب الخدمات مهيمنا.
ومن المهم التنويه بأن هيمنة هذا المفهوم يصب في تحبيذ إما اختيار مرشحا مواليا للحكومة أو له روابط وثيقة بأهل الحكم تجعل له أكبر نصيب ممكن من الخدمات التي يجلبها للدائرة عن طريق هذه الروابط والمصالح المتبادلة، أو اختيار المرشح الذي يقوم بالعمل الاجتماعي الخيري ويدعمه كمنهج أساسي لتخفيف وطأة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بديلا عن المنهج والسياسات الكفيلة بمواجهتها وحلها حلا حقيقيا أو جذريا. وكلا الاختيارين يدعمان نفوذ وسطوة رأس المال على حياة ووعي وحركة الجماهير ويكرسان تخلفها السياسي.
ب- دور المال أو سلطان الثروة :
دائما ما كانت ثروة المرشح عاملا هاما في التأثير على إرادة الناخبين في المجتمع المصري وكل المجتمعات الطبقية بلا استثناء. وهذه واحدة من أخطر عيوب ونواقص "الديموقراطية" الليبرالية. لكن دور المال أو سلطان الثروة في الانتخابات البرلمانية المصرية 2005، وكذلك إلى حد مشابه في انتخابات 2000، قد تجاوز كثيرا هذا الدور المعتاد ليصبح القوة أو العامل الموضوعي الأول المؤثر على اختيارات الناخب. وتبدي ذلك في كثافة بل وفحش الإنفاق على الدعاية الانتخابية وعلى شراء عدد كبير من أصوات الناخبين وخاصة الفقراء أو المتسولين الذين ذهبوا للتصويت مقابل الحصول على "رزق" يوم أو بضعة أيام، علاوة على ما حصل عليه بالطبع سماسرة هذه الأصوات. ولا مجازفة كبيرة في القول بأن الأغلبية الساحقة ممن فازوا وأيا كانت صفاتهم أو أحزابهم أو جماعتهم لم تقل نفقاته الانتخابية عن مليون أو عدة ملايين ومنهم العشرات الذين انفق كل منهم عشرات الملايين من الجنيهات.
ويرجع هذا الدور المسيطر لثروة المرشح إلى تخلف الوعي السياسي للناخبين، وضاءلة عدد المنتمين منهم للأحزاب والتيارات السياسية خاصة الاتجاهات الديموقراطية والاشتراكية، وسيادة مفهوم نائب الخدمات والصدقات، وتدني نسبة التصويت والذي من شأنه رفع نسبة من يتم شراء أصواتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى إجمالي من أدلوا بأصواتهم.
جـ- جهاز الدولة :
رغم التحسن النسبي في إدارة الانتخابات البرلمانية وفي الإشراف القضائي عليها فقد شهدت وقائع وصور متعددة للتدخل والتأثير والإخلال المباشر من جانب أجهزة للدولة بسير وحيدة ونزاهة هذه الانتخابات، والتي تركت تأثيرا ملموسا في نتائجها.
جداول الناخبين لا تزال مليئة بالأخطاء والتكرار وأسماء المتوفين والقيود الجماعية، وليس لذلك مبرر أو سبب إلا استخدامها عند اللزوم في التزوير. الشرطة تارة لزمت الصمت إزاء عمليات البلطجة والعنف السافرين والشراء العلني لأصوات الناخبين المرتزقة والمتسولين كما حدث بالذات في المرحلة الأولى، وتارة تدخلت بالعدوان على الناخبين ومنعهم من التصويت لإسقاط مرشحين معينين وإنجاح غيرهم.
وتكشف تقارير صحفية وإعلامية وتصريحات بعض القضاة وأعضاء النيابة من المشرفين على الانتخابات في بعض الدوائر، وما أعلن في الجمعية العمومية لنادي القضاة عددا من وقائع التدخل والتزوير والعدوان على الناخبين،
بل وأيضا على بعض القضاة وأعضاء النيابة المشرفين على لجان فرعية لحملهم على الإخلال بسلامة وحيدة عملية إدارة الانتخابات والإشراف عليها، هذا فضلا عن التزوير السافر لنتائج بعض الدوائر،
والإشكالات التي أقامتها الدولة لمنع تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بقبول الطعن في جداول الناخبين أو صفات وشروط الترشيح عندما تكون صادرة ضد بعض مرشحي الحزب الحاكم وغيرها من صور التدخل والتأثير المباشر على نتائج الانتخابات.
ولا يقتصر تأثير جهاز الدولة على التدخل المباشر. فالتدخل والتأثير غير المباشر لا يقل أهمية وإنما يفوق تدخله المباشر. ويرجع ذلك لسببين. السبب الأول أن الحزب الحاكم ليس حزبا بالمعنى المعتاد للأحزاب السياسية وإنما هو حزب الإدارة، امتداد التنظيم أو الحزب الواحد القديم،
هيئة التحرير والاتحاد القومي وما سمي الاتحاد الاشتراكي، وهو مندمج في جهاز الدولة وكأداة لها تحركه كيف تشاء .
وعندما يواجه مرشح مستقل أو مرشح حزب آخر مرشح الحزب الحاكم فهو يواجه جهاز الدولة بسطوته وما بين يديه من وسائل ترهيب وترغيب للناخبين البسطاء.
أما السبب الثاني فهو أن جهاز الدولة ومؤسساتها الدائمة التي لا تتغير بتغير الوزراء والحكومات – ورغم استقلاله النسبي المفترض في الدولة المصرية، وفي كل نظام للدولة الرأسمالية، عن المصالح الخاصة لأفراد الطبقة الرأسمالية والمصالح الضيقة لفئاتها أو شرائحها
– يصون وبفضل هذا الاستقلال النسبي بالذات المصالح المشتركة للطبقة الرأسمالية وفئاتها الأقوى السائدة اقتصاديا، كما يرعى في ذات الوقت الحدود والشروط الدنيا لحياة الطبقات الأضعف والمستغَلة والمسودة اقتصاديا، وبالتالي الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم الذي يحرسه هذا الجهاز.
إلا أن هذا الاستقلال النسبي المفترض لجهاز الدولة المصرية هو استقلال محدود وضعيف للغاية وأقل مما هو ضروري لتحقيق ما يسمى نزاهة الحكم.
ويبدو التدخل والاندماج ين جهاز الدولة وأصحاب المصالح الخاصة من الفئات الرأسمالية وأصحاب الحظوة الذين يُراد إثرائهم ظاهرا للعيان إلى حد ملموس.
ولا تقطع فترة الانتخابات بالطبع تواصل هذا الاندماج أو التداخل بل على العكس ينال مرشحي هذه المصالح أقصى مساندة ممكنة بصورة خفية أو سافرة بدرجة أو أخرى.
يُعزي البعض هذا التداخل بمجرد الفساد، وهو فساد لا شك فيه، لكن المسألة أعمق من فساد أشخاص المسئولين والحكام وتتعلق بضعف وتخلف الطبقة الرأسمالية المصرية وخاصة الفئات صاحبة مركز النقل في سلطة الدولة وعجزها عن تحقيق تراكم الأرباح والثروة الخاصة التي تحققها بدون مساندة وتجيُّز وتسهيلات أجهزة الدولة المعنية.
ومن المهم الالتفاف لحقيقة أن لجهاز الدولة في جميع الدول حتى الدول الموصوفة بالأكثر حرية وديموقراطية في عالمنا المعاصر دور كبير مؤثر على نتيجة الانتخابات ومتدخل وفاعل في كل نزاع سياسي في المجتمع. ومن المفيد التعرف على أسبابه في هذه الدول ضمن الجهد المبذول لمعرفة طريقنا إلى الديموقراطية.
جذْرْ أو مصدر هذا التأثير يظل باقيا وملموسا حتى لو التزمت الحكومة بعدم التدخل السافر أو شكلت لجنة للإشراف على الانتخابات تتمتع بقدر ملموس من الاستقلال أو حتى حكومة محايدة لإجراء الانتخابات ووفرت الإشراف القضائي من البداية للنهاية. فجهاز الدولة موجود في كل هذه الترتيبات وهو الذي يعد القوانين قبل اعتمداها ويصدر اللوائح والقرارات بشأنها.
ففي مجتمع تتعارض وتتناقض فيه المصالح بين الطبقات والفئات الاجتماعية كما تتعارض أو تتناقض التيارات والتوجهات الأيديولوجية والسياسية إزاء القضايا والمصالح الوطنية والقومية وإزاء المشاكل والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فإن جهاز الدولة الذي يقف فوق المجتمع ويبدو كما لو كان حكما بين القوى الاجتماعية وممثلا لها جميعا ليس جهازا محايدا بل متحيزا وممثلا للطبقة أو الفئات الاجتماعية المهيمنة على الاقتصاد والمجتمع ويساندها في كل صراع أو تحد تتعرض له.
فمؤسسات وأجهزة الدولة الدائمة كالجهاز الإداري (البيروقراطية) والشرطة والأمن والقضاء هي حجر الزاوية في الحفاظ على النظام الاقتصادي الاجتماعي.
ولا تغير الحكومات والوزراء الذين يتعاقبون على رئاستها العليا منطق وأهداف ونظام هذه المؤسسات وإنما يُفََعِلون أو لا يُفَعِلون بهذا القدر أو ذلك أدائها العملي لا غير ما بقي النظام الاجتماعي قائما.
لذلك فإن إدارة النظام السياسي وحكومته للمجتمع بواسطة مؤسسات وأجهزة الدولة القائمة تعني بالضرورة إدارته في إطار مصالح الطبقات والفئات المسيطرة على الاقتصاد والمجتمع ودون الإخلال بالأسس الجوهرية لهذه السيطرة، وبالتال ليس من المتصور أن تكون الحكومات ومن ورائها أجهزة الدولة ومؤسساتها محايدة أو غير متحيزة للمصالح والقوى السائدة اقتصاديا واجتماعيا التي تمتلك هذه المصالح.
والفارق في هذا المجال بين الدولة الغير ديموقراطية وبين الدولة الديموقراطية في عالمنا الرأسمالي المعاصر هو فارق بين عجز الدولة الأولى عن، وبين قدرة الدولة الثانية على، جعل انحيازها خفيا وليس مباشرا سافرا وتدخلها لطيفا ناعما وليس فظا خشنا.
هذا الفارق لا يقضي بالطبع على الإكراه والكبت السياسي في الدولة الرأسمالية الديموقراطية لكنه يخفف وطأتهما وتقييد أشكالهما المباشرة وحصر مجالات وحالات استخدامها تقييدا وحصرا واضحين وصارمين.
وهذا الفارق فارق تطور اجتماعي يقع في قاعدته في البلاد الديموقراطية تطور اقتصادي مكتمل أو شبه مكتمل للطبقة المسيطرة ، أي الطبقة الرأسمالية ،
وما يسبق ذلك وما يلحق به بصورة أساسية من تطور سياسي وثقافي. وتقوى هذه التطورات مجتمعة وبفعلها المتبادل قدرة الطبقة المسيطرة على خلق أو تفعيل آليات إزاحة الصراعات الطبقية أو احتوائها، ومن ثم تطوير وتشديد آليات الهيمنة الأيديولوجية على المجتمع، أي آليات تزييف وعي الطبقات الكادحة والمستغلة، مما يخلق بدوره إمكانية الاستغناء عن أو التقليل من الاعتماد على القمع الغليظ أو التدخل السافر في العملية الانتخابية أو غيرها من أشكال الصراع السياسي طالما أن النظام الاقتصادي الاجتماعي ليس مهددا تهديدا فوريا أو مباشرا، وتعتمد بدلا من القمع الفظ والتدخل المباشر أشكال التحيز والتدخل غير المباشرة والملتوية.
أما الدول الغير ديموقراطية فإنها كقاعدة عامة متخلفة اقتصاديا وما يسبق هذا التخلف وينتج عنه – وبصورة أساسية أيضا – من تخلف ثقافي وسياسي يجعلها غير قادرة عن الاستغناء عن الاعتماد على القهر الغليظ والتدخل الفظ في الانتخابات، ومصادرة كل نضال سياسي ديموقراطي جدي من اجل الحفاظ على سلطتها السياسية ومن ثم نظامها الاقتصادي الاجتماعي المتخلف.
إلا أنه من الثابت تاريخيا أيضا أن ظهور إمكانية الاستغناء عن القهر والقمع الغليظ وإقامة نظم حكم ديموقراطية في الدول الرأسمالية المتقدمة لا يتحقق بصورة عفوية ومن تلقاء نفسه بمجرد تطور قوة الطبقة الرأسمالية واكتمال بنيانها الاقتصادي، وإنما أقيمت هذه النظم وفي المقام الأول بفضل تطور ونضج الحركة السياسية للطبقات الشعبية والمتوسطة وفي مقدمتها الطبقة العاملة والتي انتزعت انتزاعا حقها في الاقتراع العام وغيره من الحقوق والحريات.
أما تطور الاقتصاد الرأسمالي واكتمال بنيان الطبقة الرأسمالية، فليس العامل الأول في قيام الديموقراطية، وإنما هو العامل الأول الذي جعل بقاء النظام الرأسمالي وسيطرته على الصراع الطبقي أمرا ممكنا رغم نظام الحكم الديموقراطي وما أتاحه من حريات عامة.
لقدا أتاح التطور الاقتصادي مساحات واسعة أمام الطبقة الرأسمالية للمناورة ترغيبا وترهيبا للطبقات العاملة والكادحة. وقد لعب الاستعمار والتوسع الاستعماري القديم والجديد دورا أساسيا في هذه المضمار، بما أتاحه من أرباح النهب والاستغلال الاستعماري حُوِلتْ فتات منها لبعض فئات العمال والكادحين، وبما حركه من نزعات تعصب قومي وعنصري وضد شعوب البلدان المستعمرَة أو التابعة إزاحة وتسريبا للصراعات الطبقية الداخلة في الدول "الديموقراطية"
الاستعمارية، مما أتاح بدوره ظروفا موضوعية ملائمة لتزييف وعي الطبقات العاملة والكادحة وهو العامل الثاني الذي جعل بقاء الرأسمالية رغم نظام الحكم الديموقراطي أمرا ممكنا. لذلك فإن الفارق الرئيسي، فيما يتعلق بإمكانية إقامة ديموقراطية سياسية،
بين الدولة الغير ديموقراطية وبين الدولة الديموقراطية هو : ضعف القوى الديموقراطية والشعبية وعجزها في الدولة الأولى مقابل قوة القوى الديموقراطية والشعبية وقدرتها على انتزاع الحريات وفرض النظام الديموقراطي في الدولة الثانية. فقدرة القوى الديموقراطية والشعبية هي العامل أو الشرط الحاسم في ظهور واستمرار النظم الديموقراطية، هذا الشرط الذي قد يؤدي –
وقد أدى بالفعل – إلى إقامة نظم ديموقراطية وشعبية بدرجة أو أخرى في السنوات الأخيرة في أمريكا اللاتينية في دول نهبت وفرض عليها التخلف الاقتصادي من قبل الإمبريالية الأمريكية كفنزويلا وبوليفيا والبرازيل وشيلي.
وإذا عدنا إلى الحالة المصرية نجد أن أيا من الشرطين الأساسيين اللذين نشأت على أساسهما النظم الديموقراطية ليس متوفرا حتى الآن.
فالاقتصاد متخلف وتابع ولا تملك الطبقة الأقوى المسيطرة اقتصاديا إمكانية الحكم بوسائل ديموقراطية حقيقية أي انتفاء إمكانية الديموقراطية الليبرالية. أما القوى الديموقراطية والشعبية فهي حاليا في غاية الضعف والانحسار.
كما أثبتت الانتخابات البرلمانية وكل ميادين ومجالات الصراع السياسي والاقتصادي في المجتمع المصري، وهو ما يعني حتى الآن غياب إمكانية انتزاع فوري للحريات الديموقراطية. وفرض نظام حكم ديموقراطي شعبي ولا حكم ديموقراطي لبيرالي وطني فورا ولا في الأفق القريب، ولا يزال الطريق شاقا وطويلا ومتعرجا إلى هذه الغايات.
د – استغلال الدين والمشاعر الدينية :
كان استغلال الدين والمشاعر الدينية للمسلمين من العوامل الهامة المؤثرة في الانتخابات البرلمانية والتغير الذي كشف عنه في ميزان القوى السياسية.
فقد فازت جماعة الإخوان المسلمين وتحت شعار "الإسلام هو الحل" بـ 88 عضوا من بين نحو 150 مرشحا تقدمت بهم وكانت قادرة على الفوز بأكثر من 100 عضو منهم لولا تدخل الأمن السافر في المرحلة الثالثة في عشية التصويت باعتقال كوادرها وأعضائها ومنع التصويت في اللجان الفرعية التي يتمتعون بتفوق واضح فيها في بعض الدوائر، هذا بخلاف ما تردد بقوة ومن أطراف مختلفة عن تغيير أو تزوير نتيجة الفرز في بعض الدوائر ضد مرشحي الجماعة الفائزين كدائرة دمنهور والدقي والزقازيق.
واستقطب هذا الفوز تأييد الجماهير النازعة إلى معارضة النظام السياسي الحاكم وحَجَبَهُ عن الأحزاب والقوى الديموقراطية بل وهمش وجودها البرلماني والسياسي في المجتمع المصري.
كانت العوامل الأربعة السابقة العوامل الأساسية التي أثرت على اختيارات الناخبين، يضاف إليها عامل خامس بالنسبة لمرشحي الأحزاب والإخوان، وهو مدى وجود القاعدة التنظيمية الحزبية العريضة الفعالة والمنتشرة في كل أو معظم الدوائر.
وإذا كانت هذه العوامل هي التي تحكمت في نتيجة الانتخابات لحق القول بأن الأحزاب والقوى الديموقراطية كانت خارج المنافسة تماما وبعيدة أيضا عن إمكانية إحراز أي تحسن لوضعها الهزيل في البرلمان السابق وفي المجتمع،
بل يمكننا الزعم بأن أغلب من فاز من نوابها العشرة تقريبا الفائزين مع التساهل الشديد في تعريف "الديمقراطي" فاز بصفته الفردية وبحكم روابطه وخدماته لأهالي دائرته لا بوصفه ممثلا للحزب أو القوة السياسية التي ينتمي إليها.
لقد اقتصرت المنافسة الفعلية والصراع على حصد الأصوات والفوز بالمقاعد على مرشحي الحكومة (الوطني الرسمي والوطني المستقل) والإخوان. وقد استمد كل منهما قدرته على المنافسة والفوز من أربعة عوامل من بين العوامل الأساسية الخمسة التي قررت النتائج .
اعتمد الحزب الوطني على نائب الخدمات وأجهزة الدولة والمال وجهازه التنظيمي الذي يمتلك فعالية نسبية – رغم مظهرية وانتهازية عضويته
– يستمدها من مجرد انتشاره في كل المواقع ومساندة الإدارة. أما الإخوان فقد اعتمدوا على نائب الخدمات ومخاطبة المشاعر الدينية والمال وجهازهم التنظيمي الواسع المنضبط والملتزم. واشترك الطرفان بذلك في اعتماد كل منهما على عناصر ثلاثة متشابهة هي الخدمات والمال وجهاز التنظيم الحزبي، واختلفا في استغلال الحزب الوطني جهاز الدولة واستغلال الإخوان للدين.
وحيث تعتمد الخدمات على المال لتمويلها يصح القول بأن التنظيمين المتنافسين اعتمد أحدهما وهو الحزب الوطني على المال والدولة بينما اعتمد الآخر وهو الإخوان على المال والدين. وقد يغيب عن البعض أن المال الذي اعتمد عليه الإخوان هو من نفس طبيعة المال الذي اعتمد عليه الحزب الحاكم، إنه رأس المال، رأس المال الكبير المصري وكذلك العربي والأجنبي الذي أسهم في دعم صعود الإخوان السياسي والانتخابي بصورة مباشرة وغير مباشرة.
فالأموال التي تمول نشاط الإخوان وخدماتهم وحملاتهم الانتخابية مصدرها الرئيس رأسماليين مصريين مضافا إليها الرأسماليين العرب والأجانب المؤيدين لهم.
لذلك فإن القوى الرئيسية التي خاضت الانتخابات البرلمانية والسائدة في الحياة السياسية المصرية اليوم من قبل ومن بعد الانتخابات هي تحالف رأس المال وجهاز الدولة في جانب، وتحالف رأس المال والدين الذي يعبئ المشاعر الدينية للمسلمين ويعدهم بكسب الدنيا والآخرة معا في الدولة الإسلامية المستهدفة لإزاحة التحالف القائم (النظام الحالي) والسيطرة بدلا منه على الدولة في الجانب الآخر.
فنحن إذن في وضع سياسي داخلي يتنازع فيه على تمثيل وقيادة رأس المال أو الطبقة الرأسمالية المسيطرة على الاقتصاد والدولة فريقان يختلفان حول الغلاف الأيديولوجي للدولة لا على طبيعتها الاجتماعية وسياساتها التي تشهد تقاربا كبيرا بينهما،
بما في ذلك سياستها العربية والدولية، نلمسه في موقف الإخوان من الاحتلال الأمريكي للعراق وما يسمى العملية السياسية فيه وموقفهم التهادني والبرجماتي (العملي) من التدخل الأمريكي والعالمي في الشئون الداخلية لمصر والمنطقة تحت قناع الديموقراطية أو باسم الشرق الأوسط الكبير.
إن القوى البرجوازية الديمقراطية في مصر ليست الآن خارج المنافسة الراهنة على الحكم فحسب بل وليس لها أيضا وجود أو تأثير ملموس في التطورات السياسية الجارية.
أما القوى الاشتراكية والشعبية فهي هامشية الوجود والتأثير ولابد أن تجري مياه كثيرة وغزيرة قبل أن يصبح وجودها ملموسا ودورها فعالا في حياة شعبنا، وهو ما يتوقف قبل أي شئ آخر على تحررها من المفاهيم والخطوط السياسية التي همشت دورها الذي يتوقف عليه في نهاية الأمر مستقبل بلادنا وشعبنا.
4- سمات الحياة السياسية والطابع غير الثوري للأزمة العامة في البلاد
جاء فوز الإخوان الفعلي والمحتجز ليؤكد سمات أساسية لحياتنا السياسية والثقافية.
أول هذه السمات أن الجزر والركود هو الطابع الرئيسي للحركة الجماهيرية.
هذا ما أدى – وما يؤدي – إلى أن يصب تفاقم الأزمة العامة والاقتصادية والسياسية المزمنة في صالح ما سمي "الصحوة" الإسلامية كما تقودها جماعة الإخوان المسلمون. فلقد كان – ولا يزال – صعود حركة "الإسلام" السياسي خلال العقود الثلاثة الماضية هو لازمة ووجه آخر لوضع الجزر والركود وغدا عاملا أساسيا من عوامل استمراره.
إن "الإسلام" السياسي في مصر بالذات نكوص عن الحالة العقلية أو ضرورة إعمال العقل وانطلاق الفكر اللذين تتطلبهما الحداثة. وهو صحوة الرجعية الدينية لتحافظ على وتشدد من الجوانب الرجعية والمتخلفة في واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري بحجة أن ذلك هو شرع الله، وهو تكريس لانسحاب الجماهير من مجابهة قضايا ومشكلات المجتمع الحقيقية وأسبابها الجوهرية التي يطرحها الواقع المعيش، وصرف اهتمامها إلى قضايا ومشكلات مفتعلة ووهمية أو على الأكثر "فرعية وجانبية".
وهو كذلك دعوة وحركة لإحلال أو استبدال وسائل وأشكال التضامن الطائفي أو العمل الخيري في أفضل الأحوال، بوسائل وأشكال التضامن الاجتماعي الوطني والطبقي والفئوي، وللانصراف عن الرابطة الجامعة وحق المواطنة المصرية لصالح إزكاء التمييز والتفرقة على أساس الدين وتأجيج جذوة الفتنة الطائفية لإطلاقها عند الاقتضاء لتحطيم البقة الباقية من وحدة الشعب.
ولجزر الحركة الجماهيرية الطويل في مصر أسبابه التاريخية السياسية والاقتصادية والوجدانية المستقلة عن نمو وصعود الإسلام السياسي سنعود إليها لاحقا، لكن استمراره يساهم في تشكيل التربة الصالحة لصعود هذا التيار والذي غدا كما قلنا سابقا عاملا هاما من عوامل استمرار الجزر وإعاقة نهوض الجماهير النقابي والسياسي والثقافي.
وثاني هذه السمات هو تدني وتشوش الوعي السياسي للجماهير وغياب أو غموض إدراكها للمصادر والأسباب الأساسية لمعاناتها وضعف وهوان الوطن أمام أعدائه الاستعماريين والصهاينة.
وإلا ما كان سهلا على من يستغلون المشاعر الدينية المقدسة أن يتطوعوا بالتفسيرات والحلول المضللة والساذجة وأن يجدوا رغم ذلك آذانا صاغية من جمهور عريض، ولا كان باستطاعة النظام الحاكم الحصول على عشر ما حصل عليه من أصوات الناخبين.
ولتدني وتشوش الوعي السياسي أسبابه المتعددة الممتدة ما بين عناصر وجماعات المثقفين والسياسيين وبين الجمهور الواسع من المتعلمين والأميين. فعلى مستوى السياسيين والمثقفين الذين يؤثرون بدرجة كبرى أم صغرى في جمهور المتعلمين والأميين، فالملاحظ أن التوجهات السائدة في أوساطهم لا تستند، أولا تستند بدرجة ملموسة ومنسقة، إلى الحقائق التاريخية والحالية الكبرى أو الأكثر أهمية في عصرنا وبلادنا.
ومن هذه الزاوية – فضلا عن زوايا أخرى – فهم مسئولون إلى حد كبير عن تراجع وتشوش الوعي السياسي للجماهير فالتوجهات السائدة بينهم خلال السنوات القليلة الماضية وحتى انتهاء الانتخابات البرلمانية شكلها اتجاهان يلتقيان في تزييف وتشويش وعي الجماهير رغم ما بينهما من خلاف، الأول هو تيار اتخاذ الدين المرجعية الوحيدة أو الرئيسية للسياسة والحياة.
وقد روج خطابا فكريا يسجن ويستهلك القدر الأعظم من طاقة الفرد المصري على إعمال العقل والتفكير في التعرف على ما هو حرام وما هو حلال من منظور وفهم السلف "الصالح" وبما لا يتجاوزهم مع الميل لأقلهم من حيث العمق وقيمة الفكر.
والاتجاه الثاني عصري خليط من مفاهيم النهضة والتحديث ومن تأثيرات مفاهيم الاتجاهات المحلية والعالمية الأيديولوجية التفكيكية والنفعية، التي تدعى سقوط الأيديولوجيات والمبادئ العامة والأنساق الكلية، هذه الاتجاهات التي روجها الغرب الاستعماري والسائرين في ركابه في بلادنا خلال العقدين الأخيرين، هذه الاتجاهات الأخيرة التي تتخلل بدرجة أو أخرى التيارات العلمانية وشبه العلمانية التاريخية في مصر؛ الليبرالية والقومية والاشتراكية.
ومن أهم ملامح هذا الاتجاه الملمح التفكيكي الذي يجمع ما بين القوى والأحزاب والعناصر المكونة لهذا الاتجاه العريض في التعامل مع قضايا بلادنا والمنطقة، وهي القضايا المترابطة بطبيعة الأشياء وحقائق الصراع الجارية في أبعادها المحلية والإقليمية والدولية.
ولا يضر هذا الاتجاه الوعي السياسي للجماهير ويدفع لترديه فحسب بل يترك أيضا الساحة خالية أمام التيار الديني لملء الفراغ الذي يخلقه منهجه التفكيكي والاختزالي. أما على مستوى الجمهور العريض فقد تدهور المستوى الثقافي العام ومن ثم الوعي السياسي كنتاج لانهيار مؤسسة التعلم ما قبل العالي والعالي، وانتشار النزعة التفكيكية الاختزالية في الثقافة المصرية، والصحوة الرجعية الدينية، والثقافة الضحلة المشوهة الاستهلاكية الإعلانية الإعلامية التي تروجها الدولة ووسائل الإعلام المحلية والعالمية.
ثالث هذه السمات هو أن فشل قوى التحرر والتجديد في المجتمع المصري (والعربي أيضا) في التغلب على عقبات التحرر السياسي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي يطرح منذ سبعينيات القرن الماضي بصفة رئيسية وحتى الآن ميلا عاما ماضويا (الرجوع للماضي) لاتخاذ الرؤية الدينية إطارا أو منهجا عاما لفهم أسباب هزائمنا وتدهور أوضاعنا،
ولاعتبار الدين المرجعية الوحيدة أو الرئيسية لاستراتيجية وجميع سياسات المواجهة ويستدعي على أساسها نماذج وأهداف وممارسات باتت متعارضة مع حقائق الحياة الحديثة والمعاصرة، في مقدمة هذه الحقائق موضوعات وقضايا وقوى الصراع الحقيقية على الساحتين الداخلية والدولية.
لذلك يدفع هذا الميل في نهاية الأمر إلى هوة سحيقة من التخلف الاجتماعي والثقافي وقهر واستغلال الجماهير الكادحة قد يهون دونها ما نحن فيه الآن على شدة وطأة وهوان حالنا الراهن.
وقد شكلت هذه السمات الثلاث في ترابطها هذه الحالة التي تعانيها الحياة السياسية المصرية ومنذ سنين طويلة وحتى الآن وهي حالة مجتمع يعاني أزمة عامة يؤدي تفاقمها إلى المزيد من تراكم قوى استدامتها لا تراكم قوى حلها وتجاوزها أي أزمة عامة غير ثورية،
وهي حالة مخالفة لحالة مجتمعات أخرى يكون فيها الفشل مرة أو مرتين مثلا هو أكبر الدوافع لإحراز النجاح والإصرار عليه، أو يكون تفاقم أزماتها مفضيا بصورة مباشرة أو على مدى زمني محدود نسبيا إلى تراكم سريع لدوافع وعوامل حلها وتجاوزها.
هذه المجتمعات تعيش أزمة ثورية، المجتمعات التي تبلورت فيها إلى حد ملموس قوي التغيير التقدمي الجذري والثوري كما كانت عليه في السنوات القليلة الماضية عددا من دول أمريكا اللاتينية التي شرعت وبقدر كبير من النجاح في تجاوز أزماتها وفي مقدمتها فنزويلا.
وقد ظهرت هذه الحالة لحياتنا السياسية أي الطابع غير الثوري للأزمة العامة في البلاد بصورة أولية في أعقاب هزيمة 1967، وتبلورت تباعا مع تراكم تداعياتها السلبية المتمثلة في التراجع عن مشروع استكمال التحرر الوطني وبناء أسس التقدم الاقتصادي والتحرر الاجتماعي.
ففي أعقاب الهزيمة التي فاقت أسوأ التوقعات وفي ظل غياب المنظمات السياسية الديمقراطية والشعبية الجماهيرية التي قضى نظام 23 يوليو على ما كان قائما منها،
ومع التراجعات السياسية المتوالية للنظام السياسي، كان رد الفعل الدفاعي العفوي عن الذات الوطنية والقومية أمام الهجوم الاستعماري الصهيوني هو اللجوء إلى الدين للاعتصام به، وهو رد فعل أفرزه تكويننا الثقافي ذا المرتكز الأساسي الديني والذي لم يكن قد تجذر فيه الفكر التنويري والعقلاني المعاصر.
وهو رد ساهم في حينه بدور كبير في وقاية الذات من الإنسحاق التام أمام إجرام وضراوة العدو، لكنه مع ذلك لا يصلح إطارا أو منهجا عاما رئيسيا لا لمواجهة الإمبريالية والصهيونية ومخططاتهما وهزيمتهما ولا لبناء مقومات التقدم السياسي والاقتصادي والثقافي والتحرر الاجتماعي والإنساني لشعوبنا.
لذلك نمى ورسخ على المدى الأبعد عوامل الضعف في قوى تحرر وتقدم المجتمع وأدى إلى تآكلها، وهو ما نشاهده اليوم ظاهرا للعيان المباشر في الانحطاط الثقافي والسياسي الرائج وتفاهة وبدائية خطابة الفكري وخاصة صيغته الدينية الرائجة.
وهل أدل على ذلك من الفتاوى والأحاديث حول إرضاع الكبير وجماع الزوجة عارية أو بملابسها وحجاب المرأة أو سفورها ولزومها منزل الزوجية أو خروجها للعمل والمساهمة في الحياة الاجتماعية وعدم جواز إقامة واقتناء التماثيل وغيرها من عشرات القضايا الدالة على النكوص إلى جهالة وطغيان القرون الوسطى وعصر ما قبل الدولة الحديثة.
ويرجع السبب الرئيسي لاستمرار وتوطد سمة النكوص للماضي ولاتخاذ الدين مرجعية وحيدة أو رئيسية للحياة السياسية والثقافية في بلادنا إلى أن مشروع مقاومة الإمبريالية والصهيونية المؤسس على ضرورات وقوى التجديد والتحرر الاجتماعي والسياسي والثقافي قد تراجع بل تفكك وانهار خلال نفس الفترة.
لا شك أن التطورات الدولية غير الملائمة التي حدثت في ذات الفترة قد دفعت في اتجاه التراجع والتفكك، لكن تظل الأوضاع الداخلية هي المسئول الأول، وفي مقدمة هذه الأوضاع :
الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية للطبقة أو الفئات الرأسمالية المهيمنة على الاقتصاد وسلطة الدولة التي تخلت عن المشروع وارتضت التبعية والعيش في كنف الاستعمار والحدود التي يسمح بها من جهة، والاتجاهات التهادنية والتفكيكية التي سادت صفوف القوى الوطنية
والديمقراطية بعد هزيمة 1967 والتي لم تكف عن التخاذل والتراجع أمام الإمبريالية والصهيونية حتى وصلت مع احتلال العراق وحتى الآن إلى موقف عدائي وشبه عدائي من المقاومة العراقية البطلة وموقفها الملتبس (بل والمريب أحيانا) من مشروع "الديموقراطية" الأمريكي، مع استمرار وتجذر موقفها الانهزامي من الكيان الصهيوني من جهة أخرى.
الفصل الثاني
جزر الحركة الجماهيرية وأسبابه الأساسية
طوال ثلاثة أرباع القرن العشرين الأولى، على تنوع أو اختلاف مراحل التطور الاجتماعي والسياسي فيها، كانت مواقف وحركة الجماهير حول مطالبها الاقتصادية والسياسية تمر بدورات من المد والجزر، مرحلة من النشاط واليقظة والتصاعد يعقبها تراجع وخمود وركود،
إلا أن مرحلة المد ما كانت لتنهى بمكاسب كبيرة أو صغيرة أو حتى بدون مكاسب وتدخل الحركة مرحلة الخمود والجزر لبضعة شهور أو سنوات معدودة إلا لتبدأ من جديد مرحلة من نشاط ونهوض الحركة.
وخلال الربع الرابع من القرن لم تتوقف تماما بالطبع احتجاجات وتحركات الجماهير الاقتصادية كالاعتصامات أو الإضراب عن قبض المرتبات أو الإضراب عن العمل أحيانا، بل وقامت بعض أحداث وتحركات جماهيرية كبيرة بعضها اقتصادي ذا طابع سياسي كانتفاضة 18، 19 يناير 1977، أو ذات طابع سياسي كانتفاضة جنود الأمن المركزي في الثمانينيات، أو سياسية كهبة الشهيد سليمان خاطر بمحافظة الشرقية والجامعات المصرية في الثمانينيات،
ومظاهرات طلاب الجامعات المصرية ضد العدوان الأمريكي والثلاثيني على العراق 1991، وهبة طلاب مصر السياسية سنة 2000 تضامنا مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية "انتفاضة الأقصى"،
ومظاهرات 20، 21 مارس 2003 ضد الغزو الأمريكي للعراق، هذا بخلاف الانتفاضات المحلية في هذه المدينة أو تلك مما عرف أمنيا بالحوادث المؤسفة وأغلبها كانت صداما بين الشرطة والجماهير الغاضبة إثر موت أحد المواطنين جراء التعذيب أو الضرب حتى الموت على أيدي ضباط المباحث والشرطة.
إلا أن الأحداث والتحركات الجماهيرية خلال الثلاثين عاما الأخيرة بما في ذلك التحركات الكبيرة والسياسية الطابع كانت أحداثا متفرقة منعزلة عن السياق والطابع العام المقيم للحركة وهو الركود.
ولم يكن أيا منها حلقة أو بداية أو ذروة لمرحلة أو موجة يقظة وتصاعد تدريجية بطيئة أو سريعة، وإنما كانت ومضات أو شرارات احتكاك أو تصادم حاد بين مصالح أو مطامح أو مشاعر الجماهير وبين ممارسات قوى القهر والاستغلال الداخلي أو قوى القهر والاستغلال والعدوان الاستعماري والصهيوني سرعان ما انطفأت في المناخ الخامل الذي انطلقت فيه.
لقد ازدادت الحركة النقابية العمالية الرسمية تعفنا وبيروقراطية ومن ثم انصياعا للحكومة وأصحاب الأعمال وعداءً للقواعد العمالية وانعزالا عنها.
أما الحركة العمالية الواقعية النابعة من القواعد والمعبرة عنها التي بدأت في التشكل والانطلاق بإضراب عمال مصانع أسكو في شبرا الخيمة 1968 وتصاعدت في السبعينيات من القرن الماضي،
فقد تآكلت وخمدت في أواخر الثمانينيات والتسعينيات وغدا أدائها متهافتا وعاجزا أمام أخطر الاعتداءات على الحقوق العمالية التي تشهدها مصر خلال خمسين عاما تحت عناوين الخصخصة والمعاش المبكر وتشجيع المستثمرين المحليين والأجانب وحماية أمن الدولة، كما أزداد انصراف الطبقة العاملة عن، وانحسار دورها في، الحياة السياسية للمجتمع المصري.
وخلال نفس الفترة كادت تموت بل ماتت بالفعل الحركة الطلابية ومن ثم فقدت القوى الوطنية الديموقراطية والتقدمية مصدر أساسي لنموها وتجددها بالأجيال الجديدة.
ولا ينال من هذه الحقيقة – وإنما يؤكدها – بقاء وانفراد الجماعات الإسلامية بالطلاب، فاختزال مرجعية الدنيا أو السياسة وحصرها في الدين كاختزالها في مرجعية أمن الدولة يقضي على حرية الحركة والفعل والمعتقد والفكر والنقاش الحر والبحث العقلاني والعلمي، ومن ثم على وجود أو نهوض الحركة الطلابية بل والحياة الجامعية التي تستحق هذا الوصف.
وخلال نفس الفترة انخفضت كثيرا درجة تسييس الجماهير وتجمدت أو تقلصت قواعد الأحزاب والمنظمات والقوى الديمقراطية والتقديمة وانسحب من بعضها عمليا أو رسميا الكثير من أعضائها، وازداد عزوف الجماهير عن دعواتها ونداءاتها وتكرس انصراف الجماهير عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية والمحلية.
وانتشرت المراكز والجمعيات الأهلية الممولة من الخارج التي تتبنى كل منها أجندة قد يكون بعضها صحيحا إلا أنها جزئية ومنفصلة عن النضال الوطني العام وتحجب قضايا اكثر أهمية حيث لا تشجع حكومات الدول الاستعمارية ومخابراتها ومؤسساتها وشركاتها هذه الجمعيات وتمولها إلا لغرض حجب وإزاحة القضايا الجوهرية والعامة ضمن مخططها التفكيكي للمجتمع المصري والمجتمعات العربية الذي اتخذ أخيرا صيغة الشرق الأوسط الكبير.
كما تغلغلت أيديولوجيات الإمبريالية والعولمة (الإمبريالية الجماعية ) والأمركة في الطبقة الحاكمة ودائرة واسعة نسبيا من المثقفين والمتعلمين عبر منظمات المجتمع المدني السابقة،
وأيضا وأساسا، عبر القنوات الرسمية الحكومية والإعلامية ومراكز الدراسات والبحوث الصحفية والحكومية والأهلية (الممولة أجنبيا) وجمعيات ومنظمات كبار رجال الأعمال والغرف التجارية ومنظمات الأعمال المشتركة مع الدول الكبرى،
وكذلك عبر تبعية مناهج وقضايا وتوجيهات الدراسة والبحث الأكاديمي في الجامعات المصرية للاتجاهات الأكاديمية المرتبطة عضويا بمصالح الاحتكارات في الدول الكبرى الاستعمارية وبعثات الدراسة والتدريب في هذه الدول .
وأصبح المشهد الثقافي والسياسي الغالب قبل وبعد احتلال العراق في الأوساط العلمانية وشبه العلمانية مشهدا ليبراليا يطمس المفاهيم والحقائق الأساسية للنظام الإمبريالي العالمي المتجدد، وتركت بذلك الساحة للتيار الديني للرد والتصدي لعدوانية النظام الإمبريالي،
وهو في الحقيقة لا يرد ولا يتصدى وإنما ينجر ويدفع بالجماهير إلى الوقوع في فخ ما سُمي صراع الحضارات والديانات بالضبط كما يريد أعداؤنا الاستعماريون والصهاينة تقسيما لصفوفنا وتعبئة لشعوبهم لتأييد العدوان علينا بذريعة محاربة الإرهاب الإسلامي.
وكل ما سبق يجسد انحسار وتشوه مفاهيم وأساليب النضال الطبقي الشعبي والعمالي في أشكاله السياسية والاقتصادية والفكرية، وانحسار وتشوه مفاهيم وأشكال النضال الوطني سواء على الصعيد المصري أو العربي ، هذا الانحسار والتشوه هو المعيار البارز والرئيسي لجزر وركود الحركة الجماهيرية الطويل في بلادنا. فما هي الأسباب أو المصادر الأساسية التي أنتجته وتعيد إنتاجه حتى الآن؟
هناك أربعة مصادر وأسباب أساسية وهي كما يلي :
1- صعود خطاب وطريق الخلاص الفردي
تضافرت عدة عوامل منذ منتصف عقد سبعينيات القرن الماضي على إحياء وصعود خطاب وطريق الخلاص أو الحل الفردي بين أفراد جماهير الشعب.
فقد أصبح الفرد المصري يميل ميلا شديدا للنظر لمصلحة الفردية وحل مشكلات حياته وتنمية دخله ورفع مستوى معيشته بمعزل عن غيره من الأفراد، وبعيدا عن مصالحهم وعن حل أو عدم حل مشاكلهم ورفع مستوى معيشتهم، وسواء كان الأفراد الآخرين من نفس الطبقة أو الفئة أو حتى المنشأة التي ينتمي هو نفسه إليها أو من غيرها من طبقات وفئات ومنشآت المجتمع الأخرى.
وبعبارة أخرى انحسار أمله أو تعلقه أو ارتباطه بحل مشاكله وتحقيق مصلحته الفردية والأسرية في إطار وضمن الحل الجماعي الوطني للمشكلات التي يعود حلها بالنفع على مجموع الشعب، أو الحل الجماعي الطبقي للمشكلات الخاصة بالطبقة أو الفئة الاجتماعية التي ينتسب إليها.
وهو مما يفسر جزر الحركة الجماهيرية وركودها الطويل سواء تعلق الأمر بقضايا النضال الاجتماعي الطبقي في فترة شهدت اعتداءات وانتهاكات كثيفة لحقوق أساسية بل ومكتسبة مسبقاً للجماهير الكادحة وارتفاعا حادا في تكاليف المعيشة وفقرا نسبيا ومطلقا مستشريا،
أو تعلق الأمر بقضايا النضال الوطني في فترة استمر فها انتهاك السيادة المصرية وفقدان حرية القرار الوطني المستقل من جراء اتفاقيات كامب ديفيد الاستسلامية وعلاقات التبعية للولايات المتحدة الأمريكية وتصاعد العدوان الأمريكي والصهيوني على العالم العربي بأسره.
العوامل التي أحيت وصعدت نفسية وطريق الخلاص الفردي هي التالية :
أ - هزيمة 1967 وتداعياتها السياسية السلبية :
فاق هول الهزيمة كما ذكرنا أسوأ التوقعات. لكن جماهير الشعب أبت التسليم بالهزيمة وانتفضت من أعماق القرى إلى قلب العاصمة مدوية "حنحارب"، مطالبة عبد الناصر بالاستمرار في الحكم والمقاومة، ومع ذلك خذلتها سياسات النظام قبل حرب أكتوبر وخاصة بعدها؛
بتراجعاته أمام العدو، وبإصراره على مصادرة حرياتها ومبادرتها وحركتها المستقلة، ففقدت تدريجيا روحها المعنوية العالية وانفرط التفافها العريض حول أهداف :
التحرير واستكمال الاستقلال والسيادة المصرية، وبناء الاقتصاد الحديث المعتمد على الذات وبما يضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية كأولوية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وعلاقات الارتباط الحيوي بين استقلال ورقي مصر وتقدمها وبين تحرير فلسطين والدول العربية من أي احتلال أو تبعية للاستعمار.
لقد صدمت الجماهير بوهم القوة العسكرية التي أسبغها إعلام النظام على نفسه، إلا أن ما أضعف تباعا المعنويات العالية التي احتفظت بها الجماهير رغم هذه الصدمة وأسلمها لنفسية الخلاص الفردي هو تراجعات النظام ذاته عن مشروعه وثوابته السابقة فضلا عن تمسكه بسياسة مصادرة حريات الجماهير ومبادرتها تحت شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة.
كان الحفاظ على المعنويات النضالية والميول الثورية للجماهير يقتضي عندئذ طرح وبروز مشروع بديل للتحرير والتطور الاقتصادي والسياسي المستقل والتقدم والتحرر الاجتماعي.
إلا أن القوى المفترض صلاحيتها لطرحه وبناء التفاف جماهيري حوله – بعد تراجع نظام 23 يوليو السياسي – وهي القوى الشعبية والاشتراكية، كانت قد تفككت تحت ضربات النظام وأيدت أغلبية قادتها وكوادرها السابقة استراتيجية النظام؛ إزالة آثار العدوان والحل السلمي وقرار مجلس الأمن 242/ 1967.
وحتى عندما عادت لتنظيم نفسها مجددا بعد وفاة عبد الناصر واصلت نفس الموقف تحت تأثير ذيليتها للناصرية وتبعيتها الفكرية للسوفييت الذين كانوا قد تخلوا منذ سنوات طويلة عن خط المقاومة والتحرير.
حقا لقد ظهرت – ومن قبل الهزيمة – مجموعة من بين أشلاء الحركة الشيوعية ونشطت من قبيل الهزيمة وفور وقوعها للدعوة لاستراتيجية حرب تحرير تعتمد على الجيش الوطني والشعب المسلح معا،
إلا أنها حوصرت من قبل رفاقها السابقين ومن النظام الذي طاردها ونكل بها في المعتقلات ومصادر دخلها ومعيشتها.
قامت استراتيجية مواجهة الهزيمة وتحت شعار إزالة آثار العدوان على سياسة الحل السلمي وفقا لقرار مجلس الأمن 242/ 1967 وتأكيده بالقرار 338/ 1973، وهو قرار يكافئ العدو على عدوانه بالاعتراف بإسرائيل واغتصاب أراضي 1948 والمرور في قناة السويس وخليج العقبة مقابل الانسحاب من "أراضي"
وليس "الأراضي" المحتلة 1967 بما يسمح بضم أراضي أو تجريد الأراضي التي تنسحب منها إسرائيل من السلاح المصري والعربي ووجود قوات دولية وأمريكية بها كما حدث في الانسحاب من سيناء فيما بعد.
وشملت سياسة الحل السلمي من المنظور المصري الرسمي إعادة بناء القوات المسلحة لخوض جولات قصيرة ومحسوبة من القتال ضد احتلال سيناء لفتح طريق المفاوضات كلما أغلقها العدو بشروطه المشددة، كما أدت إلى تقوية الميل لمهادنة أمريكا تحت شعار تحييدها وتشجيعها على الضغط على إسرائيل،
إلا أن الأخطر من قبول هذه التنازلات رغم خطرها البالغ هو تداعياتها السياسية الأكثر انهزامية والتي أدت في عهد السادات ومبارك إلى تنازلات سياسية وعسكرية لإسرائيل وأمريكا تجاوزت إلى حد بعيد التنازلات التي أظهرتها نصوص القرارين 242، 338.
فقد خلقت مهادنة أمريكا والتنازل التاريخي الفادح أمام الكيان الصهيوني بعد الهزيمة – وفي ظل وضع سياسي داخلي يفتقد للجماهير المنظمة في أحزاب ومنظمات وطنية ديموقراطية وثورية
– التربة السياسية والفكرية والملائمة لبعث القوى الرجعية الساعية للالتحاق بعجلة الاستعمار الأمريكي وإعادة تدعيم وضع ومصالح كبار الملاك الزارعين والرأسمالية الكبيرة من جهة، وبعث القوى الرجعية الأخرى الداعية للسلفية السياسية الدينية من جهة أخرى.
وقد ساهم هذا البعث الرجعي بدوره الهام في إحباط الجماهير وإضعاف ميولها النضالية والثورية وأسلمها لنفسية الخلاص الفردي، ولا فرق كبير من هذه الزاوية بين الرجعية السياسية الدينية وغير الدينية فخطاب الإسلام السياسي يعد بمعنى من المعاني خطابا للخلاص الأخلاقي الفردي.
كان تنفيذ شروط القرار 242 على الجانب المصري والعربي يصطدم بوجود قوى وطنية ثورية فلسطينية ومصرية وعربية تنتهج استراتيجية حرب التحرير، إلى جوار وجود قوى وطنية وسطية من ناصريين وقوميين عرب وشيوعيين من المدرسة السوفيتية يدعون بإمكانية الحل السلمي وتنفيذ قرار مجلس الأمن 242 دون الالتحاق في نهاية المطاف بركب أمريكا أو الاستسلام لإسرائيل!!،
هذا بخلاف الإخوان المسلمون وجماعات إسلامية أخرى لم تعر آنذاك أدنى اهتمام بمواجهة وطرد الاحتلال وإنما ركزت جهودها على تدعيم وجودها ونفوذها مستفيدة من الضعف النسبي للنظام الذي ألحقته به هزيمة 1967. وقد أسفرت الصراعات السياسية بين هذه الاتجاهات المتعارضة –
والتي نشبت في وضع سياسي غابت فيه ولا تزال الأحزاب والمنظمات الجماهيرية الممثلة للطبقات الشعبية – عن صعود وسيطرة أكثر القوى والكتل الطبقية السياسية استعدادا للخضوع للسياسة الأمريكية والاستسلام للمشروع الصهيوني، مما فاقم بدوره انصراف الجماهير عن الشان العام الوطني والطبقي واستسلامها لنفسية وطريق الخلاص الفردي.
ب- الإفقار مع نزع وسائل النضال :
يخطئ الليبراليون عندما يتباكون على عصر ذهبي للحرية والديمقراطية تحت سلطة الاحتلال البريطاني والقصر الملكي. فلم تقم ولا يمكن أن تقوم ديموقراطية تحت الاحتلال.
فما حدث هو أن جماهير الشعب انتزعت مدى واسعا نسبيا من الحريات بنضالها وخاصة أثناء ثورة 1919 المجيدة وخلال عقد الأربعينيات. وكانت هذه الحريات تتعرض دائما لاعتداءات وانتهاكات السلطة ويقاومها الشعب في سجال لم يتوقف إلى أن حدثت مؤامرة حريق القاهرة 26 يناير 1952، ثم قيام حركة الضباط الأحرار بالاستيلاء على السلطة في 23 يوليو 1952 وتأسيس نظام 23 يوليو.
إلا أنه من الثابت تاريخيا أن نظام 23 يوليو قد بدأ مبكرا جدا في انتهاك الحريات النسبية المكتسبة سابقا.
فمنذ أغسطس 1952 بدأ بأقصى وسائل العنف والقهر نزع وسائل النضال العمالي ووسائل الكفاح المطلبي لفئات الشعب المختلفة بإعدام العاملين الشهيدين خميس والبقري بعد محاكمة صورية عسكرية في كفر الدوار عقابا وإرهابا لعمال كفر الدوار الذين اضربوا عن العمل ولعمال مصر كلها.
كما سعى منذ الأيام الأولى لفرض العسكريين (طعيمة والطحاوي) على الحركة النقابية العمالية وإفساد القادة النقابيين ورشوة الصفر منهم (كما حدث في أزمة مارس 1954 وغيرها من المناسبات) واعتقال عددا من خيرة القادة النقابيين الشرفاء والمؤسسين في الفترة 53 – 1954.
إلا أنه رغم هذه الإجراءات التعسفية والبوليسية وغيرها الكثير لم ينجح النظام تماما آنذاك في ضرب وحصار الحركة النقابية العمالية،
رغم مواصلة مطاردة النقابيين المناضلين وقمع الإضرابات العمالية بالدبابات (إضراب مصانع الشوربجي في إمبابة)، ومحاولة عزل وتصفية النقابات العامة المشكلة خارج المصانع وإحلال النقابات المصنعية محلها تسهيلا لمهمة الإدارة والأمن في السيطرة على قياداتها أو التنكيل بها، وبرغم تدخل الحكومة المباشر و الكثيف في تشكيل الاتحاد العام لنقابات عمال مصر (1956) واتحاد العمال العرب (1957).
الخطوة الفعالة لنجاح النظام في إحكام قبضته على الحركة النقابية وكل المنظمات الشعبية هي القرار رقم 8 لسنة 1958 باشتراط العضوية العاملة للاتحاد القومي (ثم الاتحاد الاشتراكي لاحقا 1961) للترشيح لعضوية مجلس إدارة أي منظمة نقابية أو أي منظمة وهيئة تمثيلية منتخبة.
وتوالت إجراءات وخطوات نزع أسلحة ووسائل النضال العمالي والشعبي فاعتقل تقريبا كل النقابيين العماليين والمناضلين والشرفاء ضمن الاعتقالات الكبرى لأعضاء وأنصار الحركة الشيوعية المصرية (1959- 1964)،
والتقليس التدريجي للتصنيف النقابي للنقابات العامة الذي بدأ بـ 64 نقابة ليصل اليوم إلى 23 نقابة فقط تجمع النقابة العامة الواحدة منها في عضويتها مهنا وأعمالا غير متجانسة أو متشابهة أو مترابطة،
مما يضعف وحدة عمال النقابة العامة وتضامن نقاباتها الفرعية ولجانها النقابية، ويسهل مهمة أمن الدولة وأصحاب الأعمال في السيطرة على الحركة النقابية وإخضاعها وإنهائها كمنظمات كفاحية للعمال والأجراء، ومواصلة صارمة لمصادرة الحريات النقابية والعامة.
إلا أنه – ومن الوجه الآخر – ورغم تمكن النظام الناصري من تصفية الحركة النقابية المستقلة وتحويل النقابات واتحادها العام إلى جهاز من أجهزة الدولة للسيطرة على حركة الأجراء وقمعها وبالتالي نزع وسائل النضال المنظم الجماعي والنقابي من أيدي الطبقة العاملة (وكذلك الطبقات الشعبية الأخرى)،
فقد ظلت نفسية (بل عقلية) الخلاص الجماعي (خلاص الوطن من الاستعمار والتبعية الاستعمارية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، وخلاص الطبقات الشعبية من شروط وظروف العمل المجحفة ومن الفقر وفوارق الطبقات والاستغلال "التطلع للحل الاشتراكي") هي السائدة في صفوف الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الأخرى حتى أواخر عقد الستينيات. ومرجع ذلك الأساسي أن النظام الناصري كان لا يزال يحقق للطبقات الشعبة والمتوسطة مكتسبات اقتصادية واجتماعية من جهة وأنه كان يتبنى
"رسميا" أهداف الشعب في مقاومة الاستعمار والصهيونية وتحرير فلسطين والوحدة العربية والتصنيع والاستقلال الاقتصادي والتقدم الاجتماعي ويدغدغ - بغض النظر عن جدية وصلاحية سياساته وتنظيماته في هذا الشأن – حلم العمال والفلاحين الفقراء وسائر الطبقات الشعبية في العدل الاجتماعي بمفهوم عصرنا وهو الاشتراكية، وأن الجماهير كانت بدورها تعتقد إلى حد ملموس بمصداقية النظام وخاصة قائده عبد الناصر رغم أسلوبه الفردي والديكتاتوري في الحكم.
منذ بداية السبعينيات وحتى الآن، وإضافة إلى التداعيات السلبية لهزيمة 1967 – وخاصة تراجعات النظام المتوالية أمام أمريكا وإسرائيل التي أشرنا إليها سابقا – وإلى استمرار تحويل الحركة النقابية العمالية الرسمية إلى أداة للحكومة وأمن الدولة وأصحاب الأعمال والقمع العنيف للإضرابات والاحتجاجات العمالية ومصادرة الحريات النقابية والعامة تحت شعارات دولة المؤسسات وسيادة القانون والتعددية الحزبية المشوهة، نقول إضافة إلى كل ذلك تكاثرت عمليات بل وسياسات الدولة لإفقار الجماهير العمالية وصغار المواطنين ومتوسطيهم والفئات الكادحة الأخرى في الحضر والأرياف.
تضخمت الأسعار بصورة فاحشة ومتواصلة مع الثبات النسبي للأجور والمرتبات النقدية فانهارت بصورة متواصلة الأجور الحقيقية وقيمة الدخول النقدية الثابتة، وتنامي عجز الجهاز الإنتاجي والاقتصادي عن استيعاب العاطلين والزيادة السنوية في قوة العمل، وتهافتت سياسة تشغيل العاطلين والخريجين، ثم تم إلغاء التزام الدولة بتعيين الخريجين وتخليها عن مسئوليتها في تشغل العاملين وإلقائها على عاتق القطاع الخاص الذي لم يستوعب أعدادا ملموسة منهم،
وتدهورت الخدمات الأساسية وارتفعت تكلفتها وتفاقمت أزمة الإسكان وفاق حلها قدرة الطبقات الشعبية والمتوسطة وخاصة الشباب حتى صارت الأجور والمرتبات الحقيقية للغالبية الساحقة من السكان لا تكفي مجرد بقاء الفرد وأسرته على قيد الحياة. وغدا الاعتماد على أجر أو مرتب الوظيفة أو دخل المزارع القزمية الصغيرة للفلاحين الفقراء وأجور عملهم عند الغير يساوي التضور جوعا، فما بالك بنفقات التعليم والصحة وزواج الأجيال الجديدة من الشباب والشابات.
في ظل هذه الأوضاع المتدهورة والبائسة وإزاء فقدان الجماهير الكادحة المقهورة وسائل وأسلحة النضال الجماعي وغياب المنظمات النقابية والديموقراطية المناضلة والمقاتلة دفاعا عن الكادحين، كان نمو نفسية الخلاص الفردي والاندفاع نحو تلمس سبل الحلول الفردية أمراً لا مجال لتجنبه بالعمل في مهنة ثانية أو وظيفة ثانية وثالثة.
وامتد بذلك يوم العمل للكادح المصري إلى 15، 18 ساعة لمجرد تلبية احتياجاته الضرورية، اللهم إلا إذا وجد فرصة هجرة للعمل بالخارج تاركا ذويه للمجهول وأسوأ الاحتمالات قبل أن يأتيهم بالدخل الذي يحافظ على أو يرفع مستوى معيشتهم.
جـ- الهجرة وتصدير العمالة المصرية :
حلم الثراء والحراك الطبقي إلى مصاف الطبقة الرأسمالية أو على الأقل إلى مصاف البرجوازية الصغيرة الميسورة كان هو دافع العدد القليل للمهاجرين المصريين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إلى أمريكا الشمالية واستراليا وغرب أوربا، وكذلك كان دافع بعض من سافروا بعد طفرة أسعار البترول 1973 إلى السعودية ومشيخات الخليج. أما منذ 1974 وحتى أوائل عقد التسعينيات فقد تدفق ملايين المصريين للعمل في البلاد العربية البترولية بل وغير البترولية التي كانت تفتقر إلى العمالة المصرية النشيطة الرخيصة الأجر لمجرد توفير مصدر للوفاء باحتياجاتهم الضرورية،
بعد أن عزت فرص العمل في بلادنا المصرية للعاطلين وخاصة بعد أن أصبحت دخول المشتغلين منهم من وظائفهم أو أعمالهم الصغيرة المستقلة أقل في قوتها الشرائية مما يقيم الأود أو يوفر الحياة الآدمية الكريمة أو المستورة.
وباتت القاعدة المرعية السائدة اجتماعيا وثقافيا في الطبقات الشعبية والفقيرة في الريف والمدن، أن على الشاب الذي يبلغ سن العمل متعلما أو لم يكمل تعلميه أو أميا أن يتغرب في أحد البلاد العربية أو الأجنبية ليكمل ما ينقص أسرته من نفقات العيش الضرورية أو توفير حياة كريمة لها فضلا عن توفير نفقات زواجه وتأسيس أسرته الخاصة. وغدا الحل في الخارج لمن يجد فرصة لذلك من جهة أو العمل طول الوقت في الداخل إن وجد الفرصة لذلك أيضا من جهة أخرى، هو الملاذ الوحيد للوفاء بمتطلبات حياة الأسر المصرية.
ومن الثابت تاريخيا أن الدولة تبنت رسميا في أوائل 1974ضمن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أعلنها وزير الاقتصاد وحدد خطواتها الأساسية تصدير العمالة المصرية للخارج كتوجه رئيس لسياسة تشغيل العاطلين ولكل من لا يقبل أن يرضى براتبه أو دخله الهزيل من عمله.
لذلك أصح الحل خارج مصر أو خارج المنشأة أو المهنة الأصلية التي يعمل بها المشتغلون من العاملين، وبالمخالفة لقوانين الدولة والقطاع العام والخاص التي تحظر العمل عند الغير وبتشجيع من الدولة أو غض الطرف من جنابها، هو المصدر الأساسي للدخل الذي يعتمد عليه الكادحون من عمال وموظفين وفلاحون فقراء.
أدى ذلك في آن واحد لإطلاق وتعميم منحنى الحل أو الخلاص الفردي وإلى سحب جهد كبير من قوة العمل المصرية نسبة هامة منها عمالة ماهرة وعالية التدريب من دورها في بناء الاقتصاد المصري، وإلى إضعاف أداء وإنتاجية العمل في المنشآت الاقتصادية المصرية وفي الجهاز الإداري للدولة،
و انتشار الفساد المالي والإداري فيها، وبات العاملين في هذا الجهاز وتلك المنشآت لا يركزون بالهم ومن ثم جهدهم في أعمالهم في منشآتهم، بقدر ما يتطلعون ويتحينون الفرص إما للسفر للخارج أو توفير جهدهم في الإدارات أو المنشآت التي يعملون فيها في الصباح أو الوردية لصالح العمل الثاني والثالث الإضافي مساء أو بعد انتهاء الوردية في عملهم الأصلي. ومن النتائج التي ترتبت على استشراء هذه الميول الفردية والإنسحابية بين جماهير العاملين انصرافها عن طريق التضامن والنضال المشترك لأبناء الطبقة أو المهنة الواحدة دفاعا عن حقوقها، وكذلك ضعف دفاعها والتفافها حول الأهداف الوطنية والقومية في التحرر الوطني الفعلي والديموقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
د- سياسة نشر أيديولوجية الحل الفردي :
لم ينتشر مسعى الحل أو الخلاص الفردي بصورة عفوية نتيجة لعوامل موضوعية (الفقر وفرض الحلول الفردية كالهجرة...الخ) فحسب بل وأيضا – وأساسا – بصورة معتمدة واعية أيديولوجيا وساعية قصدا إلى النتائج السياسية التي ترتبت على انتشاره وهيمنته على غالبية الجماهير.
فإلى جوار السياسات المقررة لنزع وسائل النضال النقابي والمطلبي وسياسة تصدير العمالة كتوجه رئيس لتشغيل العاملين والزيادة السنوية في قوة العمل غذت الدولة أيديولوجية (ذهنية) الخلاص الفردي وعملت على نشرها في الثقافة الجماهيرية. تطري وسائل الإعلام الرسمية – منذ السبعينيات وحتى الآن – وتدعو العاملين الأجراء إلى استكمال الدخول الضرورية لمعيشتهم باحتراف مهنة إضافية أو القيام بعمل إضافي إلى جوار الوظيفة الأصلية، وتروج نموذج الحراك الطبقي الفردي الصاعد و"الشطارة" في تحقيق الثراء الفردي وانتهاز فرصة.
وتعددت البرامج التلفزيونية والإذاعية في إطار هذا التوجه سواء بالدعوة المباشرة الصريحة أو عبر الدراما التلفزيونية والإذاعية (المسلسلات).
عملت سياسات الدولة – ولا تزال – على تغيير بعض القيم الاجتماعية الإيجابية والجماعية التي كانت قد سادت نسبيا في المجتمع المصري، كاحترام العلم والتعليم، والاجتهاد والإتقان والكيف في العمل قبل الكم، ونبذ الفردية المفرطة والانتهازية والتقدير العالي نسبيا للتضامن والمصالح المشتركة بين أبناء الطبقة أو الفئة الاجتماعية أو المهنة الواحدة،
وإعلاء شأن التحرر الوطني والعزة الوطنية والقومية والالتفاف حول التوجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعود بثماره على مجموع الشعب لا على الفئة أو الطبقة التي تستغله وتقهره وحدها. شجعت أجهزة الدولة – ومن قمة السلطة أيضا – الانتهازية أو استغلال معاناة الجماهير في تحقيق الثراء الفردي بل والفساد عمدا، وليس بمجرد غض الطرف عنه.
فرئيس الجمهورية في السبعينيات قال بعد انتفاضة 18، 19 يناير 1977 أنا عملت للبلد سعر الشقة اللي كان ثمنها كذا ارتفع ثمنها إلى كذا....الخ،
كما برر في مناسبة أخرى ودافع عن الفساد المالي والتجاري الذي انتشر معتبرا له كطريقة عادية في مرحلة إحياء الرأسمالية المصرية، وعلى أساس أنه مستقبلا ستستخدم الأموال التي تراكمت بهذه الوسائل البدائية والفاسدة بالطريقة المعتادة والمشروعة في التراكم الرأسمالي ( أي سيتم غسلها باللغة الحالية).
لكن الفساد والوسائل غير المشروعة والهمجية لم تتوقف حتى الآن بل انتشرت، وكلما زكمت رائحتها الأنوف تقدم الدولة من آن لآخر كبشا أو بضعة أكباش فداء دون تضع حدا للسياسات والإيديولوجية التي تعيد الإنتاج الموسع للفساد والسلب والنهب الفج والمباشر.
هذا ويشكل توجه انسحاب الدولة من دورها المباشر في الاقتصاد وخطاب الخصخصة ، وخطاب المشروع الخاص الصغير لشباب الخريجين والعاطلين كتوجه الدولة الرئيسي لتشغيل الخريجين والعاطلين ، وإلقاء مسئولية التشغيل وحل مشكلة البطالة المتزايدة على عاتق القطاع الخاص مكونات هامة وأساسية في أيديولوجية وثقافة الخلاص الخاص والفردي.
ومن الواضح أن نشر ذهنية الخلاص الفردي وآليات تفعليها كان شرطا لازما وملازما للسياسة المصرية والعربية الانهزامية أمام الكيان الصهيوني والتبعية السياسية والعسكرية لأمريكا خاصة والقوى الاستعمارية العالمية عامة.
2- التفكيك الفكري السياسي، والاجتماعي
أُخضع الشعب المصري طوال أكثر من ثلاثين عاماً – ولا يزال – لعمليات تفكيك فكري وسياسي استهدفت وطالت وعيه بروابطه الوطنية والقومية الجامعة لوحدته الوطنية ولعروبته، ووعي طبقاته الكادحة بمصالحها المشتركة،
ووجود وفعالية أشكال التنظيم ووسائل النضال التي تعبر أو تحاول التعبير عن هذه الطبقات في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي رغم وجودها المحدود والمضروب عليه الحصار في تلك الفترة، كما استهدفت وفككت إلى حد كبير الوعي بحزمة السياسات والعلاقات الضرورية للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
كما جرت – ولا تزال – لشعبنا عمليات تفكيك اجتماعي استهدفت ونجحت – إلى حد كبير – في الأضرار بالقاعدة الموضوعية (الاقتصادية – الاجتماعية) لنضاله السياسي الوطني والطبقي والنضال النقابي؛ أي الأضرار بإمكانات التطور والنمو الاقتصادي التي تملكها بلادنا (فتزداد نسبة المهمشين من الشعب)، والإضرار بوضوح وتبلور الوضعية الطبقية ا لعمالية خصوصا والأجيرة عموما ( حيث يشكل الأجراء العمود الفقري لأي حركة جماهيرية ناهضة ) وذلك بإكراه العامل أو الموظف الصغير فضلا عن سائر الفقراء – ومن أجل أن يحصلوا علي الحد الأدني للمعيشة
– علي الدخول في أكثر من علاقة من علاقات الانتاج والكسب ، وهو إكراه يفقد فيه العامل تركيز جهده علي مهنة أو منشأة واحدة وتتجاذبه مصالحه الموزعة بين أكثر من جهة فيتآكل انتمائه لجماعة عمل محددة واحدة فتتآكل بدورها روابط التضامن والتعامل التي ينشأ على أساسها النضال النقابي وكل نضال عام.
أ - التفكيك الفكري والسياسي :
فعلى الصعيد الفكري والسياسي أطلقت وروجت السلطة السياسية المصرية والفئات الاجتماعية التي تمثلها منذ أكثر من ثلاثة عقود وحتى الآن
– وبدعم من الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني – خطاباً لتفكيك العلاقات والارتباطات الضرورية والتي كانت قد تشكلت إلى حد ملموس في مراحل كفاح شعبنا السابقة في ذهنه ووجدانه بين السيادة والكرامة الوطنية وبين التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، بين التحرر الوطني الكامل وبين التقدم الاقتصادي والعدل الاجتماعي، بين الاستقلال والأمن القومي المصري وبين تحرير فلسطين والدول العربية المحتلة أو الخاضعة للتبعية الاستعمارية.
الدافع لترويج هذه التوجهات التفكيكية وكما هو واضح، أغراض سياسية مباشرة انهزامية تمريراً وتبريراً للصلح الاستسلامي مع "إسرائيل" وعلاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية لأمريكا خاصة والدول الاستعمارية عامة. وقد شمل الخطاب وآليات نشره ترويج أيديولوجية الخلاص الفردي كما ذكرنا سابقاً وأيديولوجية الخلاص القطري (من القطر) المصري وهما لا تحملان أي خلاص للشعب بأي معنى حقيقي.
لم يقف الأمر عند هذا الحد فقد تبلور وراج خطاب تفكيكي عالمي بمصاحبة وفي أعقاب سقوط دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي وانطلاق استراتيجيات السيطرة الاستعمارية والهيمنة الأمريكية من عقالها وصعود ورواج أنماط التفكير ما بعد الحداثي([2]) بإجاباته غير العقلانية والتفكيكية على الأسئلة التي طرحها هذا السقوط وإعادة قراءة إنجازات الفترة من منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن (مرحلة الحداثة).
وقد وظفت الإمبريالية الإجابات ما بعد الحداثية في مخططها التفكيكي الشامل الموجه ضد أمم وشعوب وطبقات العالم المستغلة والمضطهدة بوجه عام والبلدان المستهدفة بمخططات السيطرة الإستعمارية المباشرة بوجه خاص كالبلاد العربية والإسلامية،
بحكم موقعها الاستراتيجي الحاكم على خريطة الكرة الأرضية وحيازتها لأكبر احتياطي للبترول، وروجته في مصر – كما في الدول الأخرى – بدءً بالمثقفين والسياسيين، فأنتشر بدرجات ومستويات وأشكال مختلفة في التيارات الفكرية والسياسية المختلفة دامجا داخله خطاب التفكيك المحلى الذي كانت تروجه من قبل السلطة السياسية وأجهزتها الثقافية والإعلامية،
وتم الانتشار بطريقة مزدوجة عفوية من جهة وتنظيمية واعية أيديولوجية من جهة أخرى. فقد سمح الاضطراب الثقافي والسياسي الذي شهده عالمنا عشية وغداة انهيار الاتحاد السوفيتي بملء الفكر غير العقلاني والتفكيكي الرائج الفراغ الفكري الناشئ عن الانهيار من جهة،
كما تبنت قوى الرأسمالية العالمية (الإمبريالية) مخططاً شاملاً لترويجه ووضعه قيد التنفيذ الموسع في المجتمع المصري والمجتمعات العربية وغيرها من الدول المتخلفة والتابعة ضمن طور جديد من الإمبريالية يعيد إخضاع ما يمكن إخضاعه للاستعمار القديم مرة أخرى.
روجت الإمبريالية ودوائرها الأكاديمية والثقافية ووسائل إعلامها مقولاتها المخربة والمفككة لوعي ونضال الشعوب والأمم المضطهدة تحت عناوين العولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات مثل : فك الارتباط بين الجغرافيا والسمات المحلية والقومية وبين تطور العلاقات الاجتماعية الداخلية، تفكيك مفهوم السيادة الوطنية ومفهوم ودور الدولة الوطنية،
فك حزمة السياسات والعلاقات الضرورية والمترابطة للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي وإحالتها إلى أجندات صغيرة منعزلة وحلقات منفصلة عن بعضها البعض ؛ الطفل، المرأة، البيئة، الانتخابات التعددية وتداول الحكم كمرادف للديمقراطية، حقوق الإنسان الفردية المنفصلة عن شروط كسبها ... الخ،
هذه المقولات والأجندات التي لا تستهدف إلا حجب السياسات والممارسات المسئولة عن تردي أوضاعنا السياسية والثقافية وتخلف وتدهور أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية. كما أنشأت الإمبريالية الآليات المتعددة أولاً لترويج خطابها التفكيكي الاستعماري عبر الدراسات والبحوث "العلمية" المزعومة، ومنظمات المجتمع المدني الممولة أجنبياً والتي تساهم علاوة على ذلك في استقطاب وإفساد بعض عناصر الأحزاب والجماعات أو الحلقات الديمقراطية والاشتراكية،
وإعادة تدريب وتأهيل الكوادر الصحفية والإعلامية والأكاديمية والثقافية والقانونية والإدارية والاقتصادية لتستوعب وتردد وتروج الإيديولوجية الإمبريالية الجديدة، وثانياً إنشاء آليات تفرض هذا الخطاب – إذا تطلب الأمر – عبر العقوبات الاقتصادية والسياسية أو تدبير الانقلابات أو التدخل العسكري المباشر بذرائع التدخل الإنساني وفرض احترام حقوق الإنسان أو الأقليات أو نشر الحرية والديمقراطية كما يزعم قادة أمريكا وغيرها من الدول الاستعمارية.
ودخل مخطط التفكيك الوافد طور جديداً مباشراً وأكثر توسعاً بعد احتلال العراق بطرح وبدء تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير واستهدافاته الكبرى في تفكيك الهوية الوطنية والقومية العربية، وتوطيد بناء ركائز محلية اجتماعية سياسية أيديولوجية للسيطرة الأجنبية وللتبعية الاستعمارية عبر إطلاق العنان لآليات السوق الحر (المتوحش) وتشكيل أو دعم قيام ونمو أحزاب وجماعات سياسية تتنافس فيما بينها في إطار الخضوع والتبعية للإمبريالية الأمريكية والعالمية.
ولعل مما يؤكد تسرب وانتشار تأثير الخطاب والمخطط التفكيكي في صفوف الأحزاب والقوى والجماعات الوطنية الديمقراطية والتقدمية –
وليس الليبراليين الجدد وغيرهم ممن يقبلون بعلاقات التبعية الاستعمارية وحدهم – هو طرح الكثيرون من المنتسبين لتلك الأحزاب والقوى قضية الديمقراطية والنضال من أجلها بمعزل عن القضايا والصراعات الأساسية الأخرى، والتي لا يمكن كسب الديمقراطية بدون إحراز تقدم ملموس وحاسم على طريق النضال لحلها، وخاصة قضايا النضال ضد العدو الأمريكي والكيان الصهيوني وضد التبعية للإمبريالية الأمريكية والعالمية، وقضايا النضال من أجل كسب الحريات الفكرية والسياسية والنقابية وعلى رأسها حق المواطنة الكاملة للمصرين بدون أدنى تفرقة بسبب الدين أو الجنس.
فلقد ظل مطلب الديمقراطية وبصفة أساسية في عامي 2004، 2005 – بل وقبل ذلك – معلقاً في الفراغ ومفصولاً عن القضية الرئيسية (القضية الوطنية) وعن شروطها الأولية وهي الحريات، وهذا هو أحد الأسباب الأساسية في الحصاد المر للقوى الديمقراطية في الانتخابات البرلمانية.
ب- التفكيك الاقتصادي الاجتماعي :
لا يتسع المقال لمحاولة رصد كاملة لمصادر ومظاهر التفكك – وبالأحرى التفكيك – الاجتماعي وسنركز على مصدرين نعتبرهما أهم المصادر خاصة في علاقتهما بموضوعنا وهما :
(1) تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية :
المصدر الأول وراء المصادر والأسباب والمظاهر جميعاً هو الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراكدة والمتدهورة بدءً بالوضع الاقتصادي وبصورة شبه تامة، والتي ربما تكون تسير حتى الآن من سئ إلى أسوأ.
لا نرى ثمة حاجة للتدليل كثيراً على هذا الحكم بإدراج مؤشرات الوضع والأداء الاقتصادي والاجتماعي منعاً للمزيد من الإطالة وتجنباً للخروج عن السياق العام للمقال، علاوة على أنها معروفة بصورة عامة للكافة.
يكفينا التذكير بمثلين فقط هما الصادرات والتعليم. فالصادرات السلعية المصرية التي جعلتها الدولة في مقدمة أولويات سياستها الاقتصادية لا زالت حوالي 10 مليار دولار([3]).
وهو مؤشر واضح الدلالة خاصة إذا قارناه بدولة مثل ماليزيا متوسطة التطور والتي بدأت حركتها الموسعة في التصنيع بعدنا حيث تتجاوز صادراتها الـ 90 مليار دولار، نقول هذا وبغض النظر عن رأينا في الأولويات الصحيحة للسياسة الاقتصادية في مصر.
وفي التعليم نذكر فقط بما آل إليه نظامنا التعليمي من أوضاع كارثة سواء بتفكيك الروابط الفكرية والثقافية الأساسية في وحدة الأمة بتفكيك التعليم القومي الموحد في مرحلة التعليم الأساسي، أو في فقدان المدرسة من الناحية الرئيسية لدورها التربوي والتعليمي الذي تتولاه عملياً الدروس الخصوصية، أو التدهور المزري في المستوى الثقافي والعلمي للخريج في المراحل المختلفة وفي مقدمتها التعليم العالي ... الخ.
إن ركود وجمود المجتمع المصري هو سبب ونتيجة أيضاً لعمليات وسياسات التفكيك الجارية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
(2) تفكيك وضع الطبقة العاملة وأغلبية الأجراء وتهميش الكثيرين منهم :
تشكل الطبقة العاملة والأُجراء من صغار الموظفين (البرجوازية الصغيرة الأجيرة) أغلبية قوة العمل، وهم وأسرهم أغلبية السكان.
وهم علاوة على ذلك يشتركون كمجموعات في المصانع والشركات والهيئات والإدارات الحكومية في إنتاج سلعة واحدة أو عدد محدود من السلع أو خدمة واحدة أو عدد محدود من الخدمات المتشابهة أو المترابطة.
لذلك يتسم عملهم بالطابع الجماعي ومن ثم تكون مصالحهم وحقوقهم المباشرة (وأيضاً البعيدة) مشتركة وواضحة لهم – على الأقل المباشر منها – حتى في أدنى درجات الوعي.
وهم في ذلك يختلفون عن الحرفيين وأصحاب الدكاكين والمزارع الفقيرة في الطابع الفردي والمنعزل لعملهم ومن ثم لا تكون مصالحهم المباشرة والمشتركة وتضامنهم فيما بينهم بدرجة تحقق ووضوح المصالح المشتركة وأهمية التضامن حولها عند الأجراء.
لذا يشكل طابع حركة ودفاع الأجراء وخاصة العمال عن حقوقهم ومطالبهم العنصر الأساسي الأول في نهوض أو ركود الحركة الجماهيرية في المجتمع، وبالتالي، المناخ العام والقاعدة الاجتماعية الملائمة أو غير الملائمة لنشاط الحركات والأحزاب الديمقراطية والاشتراكية.
وبقدر ما يكون وضع العمال الذين لا يملكون ما يبيعونه غير قوة عملهم محدداً وواضحاً لهم كطبقة واحدة متمايزة عن غيرها من الطبقات وكذلك وضوح وضع الأُجراء الآخرين لأنفسهم كطبقة أو فئة اجتماعية متمايزة عن غيرها من الفئات الاجتماعية، بقدر ما تكون مصالحهم المشتركة واضحة لهم ويكون ميلهم للتضامن والحل الجماعي لمشاكلهم هو الميل أو التوجه الرئيسي بين صفوفهم. أما إذا لم يكن وضع الطبقة العاملة الاقتصادي متبلوراً بدرجة كافية أو اعتراه،
لظروف مؤقتة أو لتدهور شديد في الوضع الاقتصادي العام، قدراً كبيراً من التميّع أو التفكك بأن يدخل عدد كبير من العمال (من أجل زيادة دخله) في أكثر من علاقة من علاقات الإنتاج أو العمل (كأن يكون عاملاً أجيراً وفلاحاً صغيراً أو عاملاً أجيراً وحرفياً مستقلاً أو عاملاً أجيراً وتاجراً صغيراً ... الخ)،
وتتجاذبه بذلك المواقع الطبقية المختلفة التي وضع نفسه فيها ومن ثم المصالح المختلفة المناظرة لكل علاقة من علاقات العمل أو الإنتاج ، فلابد أن يضعف عندئذ واقع ووضوح المصالح المشتركة بين مجموع العمال ، ويضعف بالتالي مستوى التضامن والميل الواعي (بل العفوي) للنضال المشترك والحلول الجماعية للعمال بوصفهم عمالاً. فمن المعلوم أن الطبقة الاجتماعية – أي طبقة – تنشأ من اشتراك جماعة من الناس في الموقع المتماثل أو المتشابه من: ملكية وسائل الإنتاج (تملك أولا تملك)، وإدارة وضبط وسائل الإنتاج وتقرير علاقات العمل (تدير أو لا تدير، تقرر أو لا تقرر،
تحوز أو لا تحوز السلطة داخل النطاق المباشر للإنتاج؛ المصنع أو المنشأة)، وشكل أو نمط الحصول على الدخل (ربح أو ريع أو أجر)، ويكتمل تشكلها كطبقة متمايزة تماماً عن غيرها من الطبقات بنمو ونضج وعيها بمصالحها المشتركة ونضالها المشترك لتحقيقها من خلال تنظيم حركتها المستقلة.
والطبقة العاملة هي من لا يملك غير قوة عمله، ومصدر دخله الوحيد هو الأجر، ثمن بيع هذه القوة. أما الموظفون الصغار وهم عادة ممن نال تعليماً عالياً أو متوسطاً ويجوز قدراً تافهاً أو قليلاً من السلطة في منشأته، فمنهم من لا يملك أيضاً غير قوة عمله ومرتبه،
إلا أن الكثيرين منهم لهم دخول إضافية صغيرة من عقار أو قطعة أرض زراعية أو شراكة في دكان. ومن الملاحظ أن هذه المحددات الموضوعية الاقتصادية والتنظيمية للطبقة العاملة خاصة والموظفين الصغار عامة قد اعتراها خلال العقود الثلاثة الماضية – ولا يزال – قدراً كبيراً من التآكل والتفكك والاختلاط بين المواقع الطبقية المختلفة بالنسبة لعدد كبير من العمال والأُجراء الآخرين.
فغالياً من أجل مجرد استكمال الدخل اللازم لنفقات الأسرة الضرورية جداً، وأحياناً وقليلاً من أجل الثراء الفردي والانتقال إلى مرتبة طبقية أعلى، دخل عدد كبير من العمال بما في ذلك عدد هام أيضاً من النواة الأساسية للطبقة العاملة – وهي عمال الصناعة والإنتاج والذين كانوا يتركزون في القطاع العام – في أكثر من علاقة إنتاجية (عامل صناعي وحائز زراعي،
عامل وحرفي، عامل وتاجر صغير ...الخ). وهو ما يمثل تفككاً للوضعية العمالية ونكوصاً في التطور الموضوعي الاقتصادي للطبقة العاملة التي باتت إعداد كبيرة منها تتجاذبها أنماط علاقات الإنتاج والكسب المختلفة والمتناقضة التي يمارسونها. وهو ما أنعكس بالسلب وإلى حد كبير على الوعي والنضال العمالي النقابي والجماعي الاقتصادي، كما أنعكس بالطبع ومن باب أولى على وعيهم السياسي ودورهم في الحياة السياسية الذي كاد يتلاشى في المجتمع المصري.
ومن الملاحظ أيضاً تزايد أعداد المهمشين المستبعدين تماماً بالبطالة الكاملة من الاقتصاد ومجال العمل الرسمي والمنظم أو القطاع غير المنظم، أو الذين ليس لهم فرصة كسب محددة أو مستقرة في القطاع الأخير، وتزايد البطالة الجزئية للعمالة المؤقتة بوجه عام.
وإيجازاً يمكننا تلخيص آليات تفكيك الطبقة العاملة اقتصادياً ونقابياً وسياسياً([4]) وكذلك الفئات الكادحة الأجيرة الأخرى وتهميشها كما يلي:
• تسريح عمال وموظفي القطاع العام بنظام المعاش المبكر وغيره من الوسائل، والانخفاض الكبير في أعداد عمال المصانع والشركات التي لم تخصخص حتى الآن، والتحول في دور الدولة في التشغيل، والاعتماد على القطاع الخاص حيث يكشف توجه هذا القطاع عن ميله الواضح للحجم الصغير من العمالة واستخدام تقنيات موفرة كثيراً للعمل الحي في عملية الإنتاج تحسباً لارتفاع التكاليف أو انخفاض الأرباح وكبح النشاط العمالي ومنع قيام نقابات،
وتخفيض أو إلغاء العمالة في الأعمال غير الإنتاجية في المصنع أو المنشأة بإحالة أعمال الإدارة أو التسويق أو الحراسة والأمن إلى نظام الكراء ونظام المهام من خلال شركات ومقاولين، وهو مما يفاقم مع استمرار ركود الاقتصاد المصري وتعمق تخلفه وتبعيته البطالة فضلاً عن تفكيك الطبقة العاملة وضرب نضالها النقابي.
• خروج أعداد من العمال من موقع العمال إلى موقع الإنتاج الصغير (فتح دكان، وورشة صغيرة .....الخ)، أو إلى القطاع الاقتصادي غير المنظم، أو الجمع بين وضعهم كعمال أُجراء ومواقع أخرى وذلك لأسباب مختلفة تظافرت رغم هذا الاختلاف في تفكيك وزيادة التباين بين الكادحين والأُجراء وتهميشهم من أهمها :
- المدخرات من عوائد الهجرة للبلاد العربية.
- توظيف البعض مبلغ المعاش المبكر في مشروع صغير.
- جمود الأجور النقدية وانخفاض الأجور الحقيقية مما استدعى البحث عن مصدر إضافي للدخل من عمل أو مهنة احتياطية.
- تزايد أعداد المهاجرين العائدين من الخارج وضيق فرص العمل ووجود بطالة كبيرة كاملة وجزئية، واستيعاب القطاع الخاص لعدد محدود ممن سرحوا من القطاع العام (تقدر بعض الدراسات أنه 10 –15% فقط) ([5]) والباقي منهم تحول لحرفي أو لبائع في محل صغير أو متجول أو عاد إلى قريته. وأغلبهم، هم وغيرهم، من العاطلين مهمشين. حيث لا يعملون على نحو منتظم وينتقلون من عمل إلى أخر أو من حرفة إلى أخرى إذا وجدوا الفرصة لذلك.
• انتقال العمال بين أكثر من نشاط خلال فترات قصيرة والعمل بعقود مؤقتة بسبب البطالة وتعسف بعض أصحاب العمل وجشعهم، وتنقل العمال بين أكثر من علاقة إنتاجية في ضوء المتاح من فرص العمل (العمل في منشأة كبيرة أو صغيرة، في قطاع منتظم أو غير منتظم ... الخ) يؤثر كثيراً على استقرار حياتهم ووعيهم ورؤيتهم المستقبلية لطبقتهم ومجتمعهم.
• توجه أصحاب الأعمال الرئيسي في المدن الجديدة لعدم إقامة العمال بجوار أعمالهم في هذه المدن وانتقال العمل يومياً من قراهم أو مدنهم البعيدة إلى أعمالها ثم العودة إليها، حرصاً من جانب أصحاب الأعمال وتحسباً من ظهور حركة عمالية نقابية وتكثيفاً لاستغلال العمال وقهرهم.
• استغلال صاحب العمل المعروض الزائد من العمل لتخفيض الأجور والضمانات (بل ونسفها تماماً)، ولإثارة المنافسة بين العمال حول فرص العمل المحدودة لتشغيل من يقبل بالأجر الأدنى وبدون ضمان، بل وبالتوقيع على استمارة فصله مقدماً أو على وصل أمانة لتهديده بالطرد والحبس إذا طالب بحقوقه، وتشغيل الإناث بأجور أقل من أجور الذكور لنفس الأعمال.
• بطش أمن الدولة وتنكيلهم بالمضربين عن العمل أو المعتصمين احتجاجاً على سوء أحوالهم وكثافة استغلالهم، والقيود الصارمة البوليسية على النشاط النقابي ومطاردتهم للعناصر القيادية الشريفة والمخلصة في صفوف العمال، وملاحقة من يطالب بحقوقه أو يسعى إلى تنظيم دفاع العمال عن حقوقهم وتأسيس نقابة لهم – أو حتى التفكير في ذلك – في المدن الجديدة، ويتم ذلك في تعاون وتلاحم وثيق بين الأمن وأصحاب الأعمال الكبار، وذلك في ظل تقاعس وخيانة الحركة النقابية الرسمية واتحادها العام للقاعدة العمالية وجميع الأجراء.
وما ينطبق على العمال ينطبق على صغار الموظفين من حيث تعدد مواقعهم الطبقية ومهنهم (موظف وفلاح صغير، موظف وتاجر صغير أو حتى بائع متجول...الخ) فيضعف تضامنهم ونضالهم النقابي في أعمالهم الأصلية.
3- نمو جوانب التخلف ومواطن الضعف في الثقافة المصرية الحديثة
لن يغيب عن انتباه القارئ للصفحات السابقة أن نمو أوجه التخلف ونقاط الضعف في الثقافة المصرية العامة والسياسية هو قاسم مشترك في الأسباب الأساسية لضعف وانحسار التيارات والقوى الديمقراطية والتقدمية وركود الحركة الجماهيرية.
إن تخلف – بل وتدهور – الثقافة قاسم مشترك في كل من تدني الوعي السياسي للجماهير، وتشوش وعي قسم هام من السياسيين والمثقفين وتخلف وعي قسم كبير أخر منهم، وأشكال ووسائل التضامن أو الصراع الاجتماعي المتخلفة التي تلجأ إليها الجماهير وعزوفها عن أشكاله ووسائله المتقدمة الطبقية والمهنية الفعالة، ومعايير الاختيار والمفاضلة بين المرشحين في الانتخابات، وعزوف الجماهير المتعلمة والأمية عن العمل السياسي والعام والنقابي، وردود أفعال الجماهير على ما تواجهه البلاد من هزائم أو انتكاسات أو تهديدات وطنية أو قومية أو أزمات سياسية واجتماعية أو على ما تواجهه في حياتها وأعمالها من إفقار واستغلال وتعسف واضطهاد،
وطابع الأزمة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير الثوري، والميل الماضوي لاتخاذ الرؤية الدينية إطار مرجعياً لمواجهة عقبات التحرر السياسي الوطني والديمقراطي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والذي لا يعدو كونه انسحاباً من الميادين الحقيقية للمواجهة وإغراقاً في الوهم لن يؤدي استمراره إلا إلى أحد أشكال الانتحار الجماعي للأمة، وتخلف الثقافة عامل أساسي في فشل قوى التحرر والتجديد الاجتماعي في التغلب على عقبات التحرر والتقدم وإعادة صياغة مشروع المقاومة والتحرير والتقدم وتعميمه بين الجماهير.
إذ أن مصادر التخلف الفكري والثقافي المستحدثة وأبرزها التفكيك والثقافة الإعلامية الإعلانية السطحية الاستهلاكية والتسلية المخدرة، وثقافة الخنوع والاستسلام والخلاص الفردي الوافدة أو التي تنميها وتغذيها السلطة السياسية والطبقة الاجتماعية التي تمثلها قد تسربت إلى دوائر عريضة من الجماهير، بل وإلى بعض قوى التحرر والتجديد ذاتها بروافدها المختلفة، بينما أصبحت القلة القليلة الداعية للمشروع محاصرة بين هذه القوى الأخيرة وبين التخلف الثقافي القديم المنبعث على نطاق واسع بقناع الصحوة الإسلامية.
والتراجع والتخلف الثقافي في صوره ومصادره المتعددة هو انعكاس لتدهور أوضاع مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإفقار واستغلال واضطهاد طبقاتها الكادحة، وغدا التخلف بدوره عاملاً أساسياً من عوامل استمرار هذا التدهور.
والقوى التي تقف وراء تخلفنا الثقافي والفكري والعلمي هي القوى الاستعمارية والصهيونية من جهة، وقوى الإسلام السياسي التي تستثمر تدهور أوضاعنا وفشل مشروعات التحرر والحداثة السابقة في ترويج مشروعها الذي لا يُروج إلا ببعث الثقافة المتخلفة القديمة.
والسؤال الذي يتعين طرحه هنا هو لماذا وجدت الأفكار والثقافة المختلفة، الرجعية والاستعمارية، التربة الملائمة لانتشارها الواسع خلال الثلاثين عاماً الماضية؟ أو بعبارة أخرى لماذا لم ينتشر انتشاراً ملموساً في مواجهة هذه الثقافة الرجعية والاستعمارية ثقافة ناقدة ومفسرة لأوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتدهورة تفسيراً صحيحاً ومقاوما لها،
وطارحا لبديل أو بدائل صحيحة وطنية ديمقراطية أو شعبية تحظى باقتناع الجماهير والتفافها؟ هناك ولاشك أسباب عديدة وراء انتشار الثقافة المتخلفة والرجعية وانحسار الثقافة الوطنية والديمقراطية والعقلانية منها : تأثير ثقافة سعودية وخليجية ذات محتوى ديني رجعي طاغ ونزعة تلفيقية أو متهادنة مع الغرب المستعمر وعدائية للوجه العلمي والتقدمي في الثقافة العربية والعالمية، هذا التأثير الوافد مع المصريين العاملين بهذه الدول وتحويلاتهم،
تأثير وسائل الإعلام العالمية والمصرية والعربية، انهيار النظام التعليمي المصري وتدهور المستوى العلمي والثقافي للأستاذ والطالب والخريج، تظافر الدولة والتيار السياسي الديني منذ عهد السادات وحتى الآن في تعميم وهيمنة الخطاب الديني وفي وجهه الرجعي والهابط والرديء حتى صار بعض وعاظه ودعائه نجوم ولامعة يحجب بريقها المصنوع والمدفوع كل مفكري ودعاة العقل والاستنارة والوطنية والديمقراطية والتقدم والعدل والتحرر الاجتماعي، ويحجب رموز هذه المبادئ لا في الجيل الحالي فحسب، بل والأجيال السابقة حتى جيل رواد النهضة المصرية الثقافية :
الطهطاوي ومحمد عبده ولطفي السيد ومنصور فهمي وعلي عبدالرازق وطه حسين وأحمد أمين وغيرهم.
من هذه الأسباب أيضاً تبني كثير من الأدباء والمثقفين منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي للاتجاهات اللاعقلانية والتفكيكية والنفعية التي راجت آنذاك في الغرب،
مما ساهم في المزيد من تآكل المكونات والعناصر الوطنية والديمقراطية والعقلانية والتقدمية والنضالية في الإنتاج الأدبي والثقافي وفي عزل المثقف والأديب والفنان عن الحقائق الجوهرية في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفي النيل من دور الفن والأدب والثقافة في تغييره تغييراً نضالياً وعلمياً وتقدمياً.
إلا أن أهم الأسباب سببان أساسيان جوهريان لولاهما لما كان تأثير الأسباب السابقة بالكم والكيف المتحققين أمراً ممكناً.
السبب الأول: هو أن نهضتنا الثقافية أو ثورتنا الثقافية الديمقراطية قد تعثرت وتراجعت أثر توقف مد ثورة 1919 وبروز اتجاهات التهادن مع المستعمر البريطاني والعرش، وفشل المحاولات المتكررة التي قادها الوفد لإقامة حكومة نيابية تمثل الشعب في ظل الاحتلال وسيطرة كبار الملاك، فتراجعت عقلانية الفكر وعلمانية السياسة اللتان واكبتا نهوض الحركة الوطنية الجماهيرية قبل وبعد ثورة 1919 لصالح نزعة توفيقية تبرز فيها الاتجاهات المنافية للعقل والحرية،
وتتغلب فيها منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي السلفية التراثية على اتجاهات استيعاب الفكر العلمي الحديث مخلفة بذلك مناخاً معادياً للتحرر الفكري وملائماً لاستمرار وبعث السلفية ودورها التخريبي في تكريس رتابة الجماهير وخمود همتها،
والاحتفاظ بجذوة الفتنة الطائفية متقدة – ولو تحت الرماد – لتستخدم كحاجز ضد التحرر العقلي والسياسي للجماهير([6]).
أما السبب الثاني فهو أن منجزات حركة الثقافة المصرية الحديثة والتي استطاعت تياراتها أن تواصل نسبياً تطويرها والبناء عليها، حتى بعد توقف مد ثورة 1919 وتراجع الثورة الثقافية الديمقراطية،
مستفيدة من بعض نصوص دستور 1923 والتناقضات بين الفئات الحاكمة والقصر الملكي والاحتلال البريطاني، هذه المنجزات قد حُجبت وقُيدت حركتها إلى حد ملموس في ظل نظام 23 يوليو بمصاحبة وفي تناقض بيِّن مع منجزاته الإيجابية التي التقت مع آمال الجماهير، وذلك من جراء موقف النظام من الحريات والديمقراطية وإجهازه الفوقي على تعدد الأحزاب وحرية الصحافة والنشر والتعبير وطبعه للفكر والثقافة بطابع واحد.
فقط كانت حركة الثقافة الحديثة قد حققت بعض المنجزات الهامة والأساسية أهمها ازدهار التيار العلماني وقد شق مجراه في معظم العلوم الاجتماعية،
وكان رواده الأوائل أمثال لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وحسيين هيكل وسلامة موسى وإسماعيل مظهر قد خاضوا معارك ضارية ضد الفكر السلفي والإقطاعي، وتطور الفكر الديني على أيدي علماء إجلاء من أمثال علي عبدالرازق وأمين الخولي وأحمد أمين وسعاد جلال، وظهور الفكر الاشتراكي وتطوره من الفابية (سلامة موسى) إلى الاشتراكية الديمقراطية (محمد مندور ولويس عوض) إلى الماركسية عند قطاع عريض من مثقفي أربعينيات القرن الماضي([7]).
وقد أدت مصادرة الحريات في الفترة الناصرية (والتي استمرت طويلاً بعدها وحتى الآن بمصاحبة إهدار المنجزات الإيجابية لتلك الفترة) إلى تقييد حركة ومنجزات الثقافة المصرية الحديثة وتقليل انتشارها بين الجماهير العريضة، باستثناء بعض الفنون التي رعتها الدولة في الستينات،
فتركت فراغاً ملأته الثقافة الرجعية الدينية المحلية فضلاً عن الثقافة الاستعمارية الوافدة اللتان تظافرنا في حصار الثقافة الوطنية الديمقراطية والعلمية وفي حصار وتهميش القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية.
4- مخزون الحزن والإحباط المتراكم
تجرع شعبنا الكادح لآلاف السنين ألواناً متواصلة ومتراكمة من القهر والإذلال الداخلي والخارجي أورثته مخزوناً هائلاً من الحزن والإحباط ومن ثم العجز والقعود عن المقاومة أو المواجهة الإيجابية.
كانت تقطع هذا القعود كما هو ثابت تاريخياً وعلى فترات متباعدة لحظات انتفاض عارضة يائسة كان الموت فيها أخف وأكرم من عذاب الحياة. وربما كان هذا المخزون المترسب في الذاكرة الجمعية للشعب المصري هو السبب في روح الفكاهة والسخرية الظاهرة لديه كي يتغلب على أحزانه الدفينة غير المحتملة ويسترد بها بعضاً من كرامته المنتهكة.
وكان المفترض أن يتجاوز عصر الدولة الحديثة وظهور الصناعة الحديثة في مصر والكفاح والثورة ضد الاستعمار والإقطاع – أو يخفف بدرجة ملموسة
– هذه الوراثة الحزينة المحبطة للوجدان الشعبي كنتيجة لانحسار أو تراجع أشكال الاستغلال والقهر القديمة. ذلك لأنه وبرغم ظهور شكل جديد للاستغلال هو الاستغلال الرأسمالي وبقاء أشكال قديمة وظهور أشكال جديدة للقهر والتسلط الخشنة والناعمة، فقد أتاح العصر الحديث في بلادنا موضوعياً الطابع الجماعي المتزايد للعمل وأشكال ووسائل التضامن والصراع الاجتماعي التي يفرزها كالنقابات والأحزاب وأشكال التنظيم المختلفة،
كما أتاح النشر والصحافة والتعليم العام والفني والعالي والحاجة للتطور الفكري والثقافي والعلمي المتواصل.
وكل ذلك فتح آفاقاً جديدة أمام جماهير الطبقات الكادحة للنضال والدفاع عن حقوقها والمشاركة في العمل العام والسياسي والتخلص تدريجياً من الإحباط والقعود المترسب في الذاكرة والوجدان الشعبيين.
وهو ما ظهر جلياً في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين رغم الحدود الضيقة التي كانت عليها – ولا تزال – حداثة الدولة والاقتصاد والثقافة المصرية.
إلا أنه حدث ما أعاق هذه الآفاق وحجبها عن بصيرة جماهير الشعب ورَاكم في وجدانها أحزاناً وإحباطات ومهانات جديدة مست مشاعرها الدفينة وذاكرتها التاريخية عن حقب طويلة قديمة من القهر وإنسداد آفاق الخلاص، مضيفة أحزان ومهانات وإحباطات اليوم إلى مثيلتها في الماضي القريب والبعيد، طامرة بذلك الميول الثورية والنضالية الجماعية لطبقات الشعب، دافعة لعزوفها الحالي الكبير والطويل عن النضال السياسي الوطني والطبقي بل وعن النضال الاقتصادي والنقابي الفعال.
هذا هو الحصاد الأكثر مرارة ووطأة واستمراراً للإخفاقات فالانتكاسات فالهزائم التي طالت الأهداف الوطنية والقومية ومطامح الشعب في التطور الاقتصادي والسياسي والعدالة الاجتماعية في الحلقة الأخيرة من ثورته الوطنية الديمقراطية التي أفتتحها نظام 23 يوليو .
بدأت إخفاقات وانتكاسات حلقة 23 يوليو بأوجه القصور في منهاج و سياسات النظام في المرحلة الناصرية ممثلة بموقفه من الحريات الديمقراطية، وعدم الحسم الواضح والمستقر لمسألة العدو الرئيسي الخارجي وهو الاستعمار الأمريكي وبروز ميل المساومة والمهادنة معه في بعض سنوات المرحلة،
وموقفه التهادني التلفيقي من الثقافة الرجعية المحلية في صيغتها الدينية والذي أبقى على ثقلها الكبير في الثقافة السياسية للجماهير في ظل قمع التيارات الفكرية العلمانية والتقدمية والاشتراكية الجذرية والحقيقية، وخطة التصنيع التي لم تعط الأهمية الواجبة والكافية للصناعات الثقيلة وصناعات وسائل الإنتاج، ثم هزيمة 1967 والتراجع السياسي الذي أعقبها أمام الصهيونية بالموافقة على قرار مجلس الأمن 242 لسنة 1967.
واكتملت الهزيمة للحلقة الأخيرة من الثورة المصرية، حلقة 23 يوليو باستغلال القوى الرجعية وخلفاء عبدالناصر في السلطة السياسية في الحقبة السادتية المباركية هذه الإخفاقات والانتكاسات وهزيمة 1967 للتنكر لأهداف الشعب في استكمال التحرر الوطني والديمقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والعدالة، وللإطاحة التامة بها. وهو ما رفع بمقاييس كبيرة مخزون الحزن والإحباط المقعد عن الفعل بين الجماهير.
ففي ظل استمرار فقدان الجماهير للمنظمات السياسية والنقابية الجماهيرية والكفاحية القادرة على توحيد الشعب وشد أزره في النضال لحماية الحقوق الوطنية والقومية ومطامح الشعب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية،
أُضيفت انتكاسات وإحباطات الحاضر إلى مثيلتها أو مشابهاتها في الماضي القريب والبعيد لإعادة إنتاج وتكريس ركود الحركة الجماهيرية وانحسار أو ضآلة تأثير القوى الوطنية والديمقراطية والشعبية في التطور السياسي والاقتصادي للمجتمع.
إن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحالية المقترنة بالقيود الصارمة على حرية الحركة والتعبير للطبقات الكادحة وعل الحريات العامة، والاحتلال الأمريكي للعراق وتخاذل النظام السياسي المصري والعربي الرسمي أمام المشروع الأمريكي والعالمي الذي بُنى على هذا الاحتلال للوصاية الشاملة على مصر وكل الدول العربية، والعجز أمام
– بل التواطؤ مع – حرب الإبادة اليومية للشعب الفلسطيني لفرض المزيد من استيطان أراضيه واستمرار الاحتلال للباقي منها، ومكافأة الكيان الصهيوني على ذلك بالدفاع عن حقه المزعوم في أراضي فلسطين، وباتفاقيات التطبيع كاتفاقية الكويز التي يمثل عقدها وكذلك التبرير الذي ساقته الحكومة المصرية له مهانة كبيرة جديدة للكرامة والعزة الوطنية المصرية .
إن كل ذلك إضافات لانتكاسات ومهانات الماضي القريب بحصار العراق 13 عاماً بعد حرب أمريكية دولية شاركت فيها قوات مصرية بحجة زائفة هي تحرير الكويت ولانتكاسات ومهانات أقدم في الزمن كاحتلال جنوب لبنان وبيروت دون أن يحرك النظام المصري أو العربي ساكناً،
وكعقد الصلح الاستسلامي في كامب ديفيد الذي أبقى سيناء رهينة لجيش العدو الصهيوني والقوات الدولية (الأمريكية) ووضعمصر في أسر التبعية لأمريكا.
وهي إضافات لهزيمة 1967 وتداعياتها السلبية والمحبطة والتي لم تحررنا منها حرب أكتوبر بانتصارها الجزئي المجهض عسكرياً والمستثمر سياسياً فقط في تمرير الصلح الاستسلامي مع إسرائيل والخضوع السياسي لأمريكا.
وكل الانتكاسات والاخفاقات السابق ذكرها استدعت وأحيت اخفاقات ومهانات أسبق أنتجتها الإجراءات المنافية للحريات الديمقراطية المصاحبة للإنجازات الوطنية والاجتماعية الإيجابية للمرحلة الناصرية، والتي صدرت وطبقت كما لو كانت تفضل ومنحة من أعلى فحرمت الجماهير من المشاركة الفعلية في تحقيقها وحمايتها وتطويرها، وغيرها من أوجه القصور المشار إليها للمرحلة الناصرية.
ولحقت الانتكاسات والاخفاقات السابق ذكرها بنكبة ومهانة هزيمة الجيوش العربية عام 1948 واغتصاب 78% من فلسطين، والتي عجزت الشعوب العربية جراء السياسات الخاطئة في مرحلة أولى والانهزامية في مرحلة تالية التي انتهجتها الطبقات والأنظمة السياسية الحاكمة وحتى الآن عن الرد عليها رداً حقيقياً وفعالاً، مما دعم وجود الكيان الصهيوني العنصري والذي كان ولا يزال أداة رئيسية لإبقاء مصر والدول العربية تحت الاحتلال أو التبعية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي.
لقد كان أُفول الحلقة الثالثة في الثورة الوطنية الديمقراطية (نظام 23 يوليو في المرحلة الناصرية) والاخفاقات التي سبقته والانتكاسات التي صاحبته، والاستسلام الذي أعقبه، امتداداً بصورة محددة لاخفاقات وانتكاسات الحلقتين الأولى والثانية في هذه الثورة (الثورة العرابية، ثورة 1919).
فقد اشتركت هذه الحلقات الثلاث رغم ما بينهما من اختلافات وفوارق أساسية في اعتماد قيادتها على نظرة وحيدة الجانب والسير على ساق واحدة وإن يكن بصورة مختلفة في كل حلقة، ففشلت كل منها في تحقيق أهدافها الأساسية رغم المكتسبات الجزئية الهامة التي حققتها.
ففي سنة 1882 انهزمت الثورة العرابية واحتلت مصر لأن الانتصار على الاستعمار كان مستحيلاً في إطار الخلافة العثمانية والسلطة الخديوية، ولم تدرك الثورة على نحو واضح أن التحرر من الأثنين شرط أساسي ضروري، واحتويت ثورة 1919 ...
وأنحسر تيارها وانتهت إلى التهادن مع المستعمر لأن قيادتها أخطأت في الاعتماد بصورة أساسية على إقامة حكومة نيابية لا يمكن أن تمثل الشعب بحق في ظل الاحتلال وسيطرة سادة الأرض، وفي الاعتماد على النضال السياسي والقانوني دون غيرهما من الوسائل، وعجزت عن رؤية الخطر القادم ممثلاً في الحركة الصهيونية في وقت مبكر([8]).
لامست اخفاقات ومهانات الحاضر والماضي القريب مشاعر الحزن والاحباط المترسبة عن الماضي البعيد والأبعد لتكثف في صفوف جماهير الشعب المصري شعوراً مفرطاً بقلة الحيلة فأنسحبت إلا قليلاً من ميدان المواجهة الإيجابية مع من يقهرها ويقف عقبة أمام مطالبها وحقوقها.
لكن القعود الدائم ليس من سنن الحياة، وقعود شعبنا النسبي في الثلاثين عاما الأخيرة مرحلة عابرة في تاريخه وإن طالت، ومثلما تمرد وانتقض ونهض وثار في الماضي القريب والبعيد فإنه سيعاود الكرَّة قصر الزمن أو طال،
وهاهي الآن بعض نبضات الحيوية تظهر هنا وهناك تتلمس طريقها لإحياء حركة الشعب، والمهم أن تنجح الكرَّة القادمة فيما فشلت فيه المرات السابقة، ولن يتحقق هذا من تلقاء نفسه وبتغيرات موضوعية عفوية فقط وإنما أساساً بجهود واعية فكرياً وسياسياً وفعالة في الممارسة العملية.
يتضح من العرض التحليلي السابق أن ركود الحركة الجماهيرية الذي مثل الأرضية وشكل الظروف غير الملائمة لنشاط القوى الديمقراطية والاشتراكية لم يكن نتاج عوامل موضوعية صرفة مستقلة عن إرادة هذه القوى، وإنما كان نتاج تفاعل عوامل موضوعية وذاتية (فكرية وثقافية وسياسية) معاً.
لذلك تتحمل القوى الاشتراكية بوجه خاص والديمقراطية بوجه عام قسطاً هاماً من المسئولية عن استشراء ودوام ركود الحركة الجماهيرية أقله ما كان يجب عليها القيام به في زمن الركود أو المهمة التي يتطلبها ويتيحها زمن الركود وهي بناء نواتها الفكرية والتنظيمية الصلبة،
لا استعداداً فقط لزمن النهوض والفوران الجماهيري، وإنما أيضاً لإمكان الاستفادة من ومضات أو شرارات النزوع الجماهيري للنضال والمقاومة التي يطلقها بين آن وأخر هذا الحادث أو ذاك حتى في زمن الركود ولا تجد الطليعة السياسية التي تذودها بالوعي والخبرة.
وهذا ما جعل أزمة مصر العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وطابعها غير الثوري المنوه عنه سابقا، وفي جوهرها، أزمة القوى الوطنية الديمقراطية والاشتراكية ذاتها، أزمة وجودها الضعيف ونفوذها المنحسر بين الجماهير وتأثيرها الضئيل في مجرى التطورات السياسية والاقتصادية الماسة بالمصالح الوطنية ومصالح الطبقات الشعبية المباشرة والأساسية.
فهي القوى الوحيدة المعبرة عن الشعب، ووجودها الضعيف وتأثيرها الهزيل يعني أن مصير الشعب لا يزال بأيدي من يضلله ويقهره ويستغله،
بينما يعني وجودها الملموس وثقلها المتصاعد في الحياة السياسية وجود القوى القادرة وحدها على حل الأزمة العامة المزمنة في البلاد، وعلى توفير الشروط الفكرية والثقافية السياسية لنهوض الحركة الجماهيرية ولتحويل الطابع غير الثوري للأزمة العامة إلى طابع ثوري، وعلى جعل انتصار الشعب أمرا محققا عندما تصل حركته إلى مرحلة النهوض العام ولحظة النفير العام .
الفصل الثالث
ما العمل لتجاوز أزمة القوى الديمقراطية والاشتراكية ؟
الإحياء وإعادة البناء للقوى السياسية الديمقراطية والشعبية هو الشعار الأساسي المعبر بدقة عن متطلبات مجابهة وضع الضعف بل والانحسار لهذه القوى، وهو يركز بالضبط أهم ما يحتاجه تجاوز أزمتها. فلا توجد في مصر حاليا أحزاب ومنظمات سياسية ديمقراطية وشعبية جماهيرية، وإنما الموجود أحزاب وتجمعات أو جماعات أو مجموعات أو حلقات أو أشخاص منفردين من المثقفين المعزولين عن الطبقات والفئات التي يدعون أو يرغبون ذاتيا في التعبير عنها.
وهى – أو أغلبيتها – علاوة على ذلك لا تملك، كما أشرنا في المقدمة وكذلك تحت عنوان التفكيك وفى صفحات أخرى، الإجابات الكافية الملائمة أو الرؤية الشاملة الصحيحة المتسقة للواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. أما الأقلية التي تقترب بدرجة أو أخرى من الرؤية الصحيحة فإنها
– وفي أغلبيتها أيضا – تفتقد همزة الوصل بينها وبين الجماهير لعدم إتباعها لخطة وأساليب نضال وعمل ملائمة وقادرة- في الظروف المحددة التي تحيط بها- على توسيع روابطها بالجماهير وعلى رفع وعيها واستعدادها وتنمية وإطلاق مبادراتها النضالية.
ومن الواضح أنه بدون وجود منظمات سياسية وديمقراطية ونقابية، معبرة بحق عن مصالح ومطامح الجماهير الشعبية، منطلقة في ذلك دائما من الحقائق الأساسية القائمة للواقع الاقتصادي والسياسي، قادرة على كسب تأييدها وتنظيمها في النضال تحقيقا لمصالحها وآمالها،
يظل مصير هذه الجماهير بأيدي من يفقرها ويستغلها. لذلك فإن المواجهة الحقيقية للأوضاع الأساسية التي تعانى منها البلاد وشعبها تبدأ بمهمة إحياء وبناء منظمات الشعب السياسية والنقابية الكفاحية.
وإذا حدث تغير في النظام السياسي أو نظام الحكم تحت ضغوط داخلية وخاصة أجنبية، وقبل أن توجد هذه المنظمات بصورة فعالة على الساحة السياسية الجماهيرية سيكون التغير في أيدي نفس القوى المسئولة عن معاناة شعبنا وهوان بلادنا حتى وإن ارتدت ثيابا جديدة ومثلتها رموز جديدة.
حقا يشكل ركود حركة الجماهير وانسحابها الكبير من معترك النضال الاقتصادي أو السياسي بأسبابه المتعددة السابق ذكرها محيطا وظرفا غير ملائمين تنطلق في ظلالهما دعوة الإحياء والبناء، لكن ليس هناك من طريق أخر غير النضال تحت هذا الظرف وفى ذلك المحيط إلا القعود والاستسلام للأمر الواقع المرير. والنجاح ممكن بشرط أن نعرف مهامنا المحددة وأين يقع مركز الثقل فيها.
فليس ضعف وانحسار وجود وتأثير القوى الديمقراطية والاشتراكية مجرد نتيجة لخمود همة الجماهير وانسحابها، بل هو اليوم أيضا سبب أساسي لاستمرار خمود حركة الجماهير، بل وكان أحد الأسباب الأصلية في بدء واستمرار الركود الطويل الحالي. فغياب الدور الفعال للقوى السياسية والنقابية الكفاحية هو ما جعل الركود والخمود الجماهيري أمراً لا مجال لتجنبه في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي فرضت على شعبنا وبلادنا .
وعلاوة على ذلك سنحت أكثر من فرصة وأطلقت أكثر من ومضة أو شرارة للنزوع النضالي للجماهير خلال العقود الثلاثة الماضية ممثلة بالهبات والانتفاضات الجماهيرية العفوية الاقتصادية أو ذات الطابع السياسي التي أشرنا إليها سابقا، لكنها ذهبت أدراج الرياح فقمعت أو خمدت ولم يصبح أيا منها بداية أو مقدمة لموجة أو مرحلة نهوض أو صعود للحركة الجماهيرية لأنها لم تجد
– كما أشرنا سابقاً - الطليعة السياسية التي تلبى احتياجات نزوع الجماهير النضالي من الوعي والخبرات التي تنظمه وترشده.
إن ركود الحركة الجماهيرية يؤدى إلى حصار وعزل وانحسار القوى السياسية والنقابية المعبرة عن الشعب، وانحسار هذه القوى يكرس ويدعم بدوره وضع الركود.
فكيف يمكن في ظل هذا العائق الكبير الذي يشكله الركود على إمكانات النضال السياسي والنقابي، علاوة على القيود التي يفرضها نظام الحكم غير الديمقراطي وترسانة تشريعاته وقوانينه المنتهكة للحريات، أن تجرى عملية إحياء وبناء القوى السياسية والنقابية الكفاحية ؟
هذه هي الإشكالية التي تجابه مهمة الإحياء والبناء التي تتطلبها بإلحاح مشكلات شعبنا وأوضاعه المتدهورة في جميع المجالات الأساسية، فما هو السبيل لحلها ؟
لاشك أن الإحياء والبناء أو إعادة البناء في ظل وضع الركود وتحت نظام الحكم الديكتاتوري وقوانينه المصادرة لحركة الشعب السياسية والنقابية وفى مجابهتها مهمة ممكنة التحقيق رغم العوائق والمصاعب الشديدة التي تعترضها .
هذا ما أكدته التجربة التاريخية في مراحل سابقة من تاريخ مصر الحديث وكذلك التجربة العالمية، والنجاح في ذلك وقدره يتوقف على الخطة الملائمة والمناسبة التي ينتهجها المعنيون بإنجاز المهمة وبمدى حزمهم وإصرارهم على تنفيذها.
فالناس تصنعهم الظروف وهم أيضا يصنعون ظروفهم وتاريخهم لكنهم لا يصنعونه على هواهم وإنما وفقا للأوضاع التي يصادفونها وتقرر إلى حد كبير حدود حريتهم وفعلهم كما ذهب كارل ماركس بحق. فما هي متطلبات وأسس هذه الخطة اللازمة لإحياء وبناء القوى السياسة والنقابية المعبرة عن المصالح الأساسية والبعيدة لشعبنا وليس المصالح المباشرة أو العارضة والمؤقتة فقط؟
منطلقات وأسس الأحياء والبناء
1- أفق فكري سياسي شامل لقضايا وأهداف المرحلة
يجب أن تستند الخطة إلى أفق فكري سياسي أو استراتيجية مصرية للتحرر الوطني الفعلي والكامل وللتحول الديمقراطي الشامل وللتقدم الاقتصادي والاجتماعي المعتمد على الذات كأساس ولإقرار وضمان حقوق الطبقات الشعبية والمتوسطة الاقتصادية والاجتماعية كأولوية أولى للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
إن كل هذه القضايا والأهداف مترابطة ويستند كل منها للآخر ولا سبيل للتقدم تجاه تحقيق أيا منها تقدما حقيقيا دون تقدم مماثل أو ملائم على الأقل في النضال من اجل القضايا الأخرى.
فما يحتاجه شعبنا ليس تفعيلا للسياسات القائمة الخاطئة والفاشلة للدولة من خلال تداول الحكم بين المتنافسين عليه ، وإنما سلطة وطنية ديمقراطية توحد وتعبئ الشعب لمقاومة التدخل والعدوان الأجنبي المحتمل وتحرر مصر من الاتفاقيات والأوضاع والسياسات المنتهكة لاستقلال الوطن وسيادته وحرية قراره وتفتح طريق التقدم وتحمي وترسخ حق بلادنا وشعبنا في طريق التطور الذاتي المستقل وفقا لمصالحهما واختيارهما.
ونؤكد مجددا ما سبق لنا تأكيده بأن معركة كسب الديمقراطية، خاصة في الظروف الحالية تحديدا، ظروف التدخل العسكري والسياسي الأمريكي في المنطقة الذي يقتحم بصورة موسعة مصر وغيرها من البلاد العربية تحت ستار الحرية الديمقراطية المهتوك، هي جزء لا يتجزأ من معركة مقاومة الإمبريالية والصهيونية والتبعية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي،
كما نؤكد أن مشروعنا الوطني للديمقراطية متناقض تناقضا عدائيا مع المشروع الأمريكي للديمقراطية المزعومة، وأن صيغتنا الصحيحة للديمقراطية هي "الديمقراطية الوطنية"([9]).
لذلك فإن الشعارات التي تتردد علنا أحيانا ومواربة غالبا عن تحييد القوى الدولية (تحييد أمريكا) أو تقاطع المصالح الوطنية مع المصالح الأمريكية في قضية الديمقراطية في مصر هي شعارات ضالة ومضللة وتخدم أهداف العدو الأمريكي أيا أيا كانت نوايا من يرددها أو يعمل سرا بمقتضاها.
2- الإحياء والبناء يشمل الوعي والتنظيم وخبرات الممارسة العملية.
إن وجود منظمة أو قوة سياسية واعية ونشطة ومبادرة، وتنتهج المبدأ الأساسي في القيادة الجماهيرية "من الجماهير .. وإلى الجماهير" وفق لمستوى وعي الجماهير واستعدادها النضالي وللتوجيه القيادي المحسوب بعناية، هو عامل هام من عوامل مكافحة ركود الحركة الجماهيرية بما يتيحه من نجاحات ولو جزئية متتابعة تضعف من تأثير العوامل المنتجة لاستمرار الركود بما فيها التخلص تدريجيا من مخزون الإحباط المقعد عن الفعل الجماهيري.
كما يشكل تململ القاعدة الجماهيرية من العمال وصغار الموظفين في منشآت الإنتاج والخدمات، أو طلاب الجامعات والمعاهد التعليمية أو من الفلاحين الفقراء أو غيرهم من الكادحين، وظهور ميل نضالي نقابي أو سياسي بين صفوفها ظرفا ملائما لإحياء أو بناء المنظمة ولنضالها والتحامها بالجماهير تتحدد درجة ملاءمته بمقدار قوة هذا الميل وطابعه. ولا تستطيع القوة أو المنظمة السياسية القيام بعملها النظامي المعتاد من دعاية وتحريض وتنظيم بين الجماهير،
ولا أن تستفيد من ومضات الوعي أو شرارات التمرد أو النزوع النضالي أو الثوري للجماهير إلا إذا كانت حائزة لمستوى تطور ملموس في الميادين الثلاثة لفعالية القوة السياسية وهي الوعي، والتنظيم، وخبرات الممارسة العملية.
ومن الثابت أن جميع أحزاب أو تجمعات أو جماعات أو حلقات القوى السياسية الديمقراطية والاشتراكية تفتقد الحد المناسب الأدنى من التطور في جميع الميادين الثلاثة أو في اثنين أو واحد منها في أفضل الفروض. ففي مجال الوعي تنزع أغلبية هذه الأحزاب والجماعات إلى إصلاح ليبرالي لنظام الحكم بل وشخصنة معركة الديمقراطية عازلة لها عن روابطها التي لا تنفصم بمقاومة الإمبريالية والصهيونية والتبعية والإفقار والتخلف الاقتصادي، هاربة بمطالبها للأمام منفصلة عن جماهير الشعب، متصورة
– أو أغلبيتها – أن مزاعم أمريكا والدول الثمانية الكبار في مشروع الشرق الأوسط الكبير عن الحرية والديمقراطية تشكل ظرفا أو شرطا ملائما يعوض انسحاب الجماهير من المعركة أو عدم استجابتها العملية لنداءات التغيير الليبرالي المشخصن([10]).
وفي مجال التنظيم الخاص بالقوة المذكورة، فيمكن الاستدلال على ضعف وضآلة قاعدته وتدني فعاليته العملية من الضعف الواضح الثابت طوال سنتين في قدرتها على التعبئة والحشد في مظاهراتها ووقفاتها الاحتجاجية وندواتها ومؤتمراتها التي لا تكاد تضيف جديدا لا في عدد الحاضرين ولا في النتائج السياسية والعملية الأخرى، رغم أن هذه المظاهرات والندوات والمؤتمرات استغرقت جل إن لم يكن كل نشاطها طوال ذلك الوقت.
أما في مجال خبرات ومهارات الممارسة العملية وأسلوب القيادة الجماهيرية فإن الحركات الاحتجاجية وغيرها من الأحزاب والقوى قد كشفت عن نقص بَيِن تجلي في نزعتي القفز على الواقع للأمام أو النكوص للوراء "فهم من حيث بلغوا الذرى!! في التحريض على التغيير المباشر للنظام السياسي والتعويل في ذلك على ميول الجماهير الكامنة المهيأة – كما ظنوا –
للانطلاق على عجل للانضمام إليهم هبطوا بتحريضهم إلى نضال (سياسي) ينبثق بصورة عفوية من تطلع جماهير الشعب الكادحة للحصول من الدولة القائمة على بعض الإصلاحات للتخفيف من معاناتهم الاقتصادية([11]). وقد سحبوا في ذلك، وهم يطالبون بتغيير رأس النظام ونظام حكمه ، من مجال الصراع الجاري مع النظام أهم قضايا الطعن في شرعيته وهي؛ الموقف من الاستعمار الأمريكي والعالمي والصهيونية والتبعية، ومن المقاومة العراقية والفلسطينية،
ومن قبوله بالوضع الطرفي المهمش للاقتصاد المصري في الاقتصاد العالمي، وقبوله لمشروع الشرق الأوسط الكبير والاشتراك في الهياكل والآليات المشكلة لتنفيذه، واشتراكه في حلف الأطلنطي الاستعماري تحت اسم "الحوار الأورومتوسطي"، ومتجاهلين – ولا نقول متواطئين في – قضية النضال ضد تدويل قضايانا الداخلية الذي صار الوسيلة والآلية الأساسية للقضاء على فتات الاستقلال السياسي للدولة المصرية وغيرها من الدول العربية ،
ومتحالفين أو متعاونين في أنشطتهم السياسية والجماهيرية كافة مع المنظمات والجمعيات الأهلية الممولة من الدول الاستعمارية والتي يشارك البعض منهم في قيادتها وعضويتها، مثلما يشارك قادة وأعضاء هذه المنظمات والجمعيات في عضوية تلك الأحزاب والحركات "الاحتجاجية" الجديدة.
3- الميدان الرئيسي للأحياء والبناء في اللحظة الراهنة :
تشمل مهمة أحياء وبناء القوى السياسية الديمقراطية والاشتراكية جميع ميادين فعالية القوة السياسية كما ذكرنا في النقطة السابقة. إلا أن الميدان الرئيسي من ميادينها اليوم هو ميدان الوعي السياسي للجماهير والطليعة السياسية وللطليعة قبل الجماهير،وإلي أن يتحقق هذا الوعي بالقدر المناسب .
يعني ذلك أن مسألة الوعي السياسي لجماهير الشعب عامة ولطلائعه السياسية خاصة – وكما أوضحنا تحت أكثر من عنوان فيما سبق – غير منجزة في حدها الأدنى الذي يجعل أشكال النضال ووسائلها المتعددة وفي مقدمتها النضال السياسي تصب في المجرى الرئيسي، وهو بناء أساس الانتصار على الاستعمار والصهيونية والتخلف والتبعية والديكتاتورية السياسية من جهة،
وعلى كل أشكال الرجعية الداخلية سواء تلك الممثلة في مشروعات الدولة الدينية لالإخوان المسلمين وغيرهم من الجماعات الإسلامية المتعصبة، أو تلك المخلفات الباقية من القرون الوسطى في الدستور المصري الحالي وبعض القوانين واللوائح المصرية.
ومن الثابت تاريخياً وعملياً أنه بدون إحراز التقدم المناسب والكاف في ميدان الرؤية السياسية الاستراتيجية والخطة أو الخطط المناسبة لتحقيقها، فإن النجاحات المحققة أو التي يمكن تحقيقها في ميادين فعالية القوة السياسية لن تكون محدودة فحسب بل تكون بلا مستقبل.
فكم من النجاحات التي حققناها وغيرنا من المناضلين الاشتراكيين والوطنيين على امتداد مصر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب؛ في المدن والقرى، في الأحياء السكنية والمناطق الصناعية، في المصانع والحقول والمكاتب ووسائل النقل والمواصلات ومؤسسات الخدمات، وفي الجامعات والمعاهد التعليمية والتي توقفت واندثرت،
وذلك نتيجة لتهافت أو ضعف أو اهتزاز الرؤية السياسية الاستراتيجية ولعدم مناسبة الخطط المتبعة قبل أي عامل آخر من عوامل اندثارها، كالقمع والإرهاب البوليسي أو العيوب الشخصية لبعض القادة.
كانت الرؤية الاستراتيجية والخطط التي تناسبها منذ مجيء نظام 23 يوليو وطوال الخمسين عاماً التالية، ناهيك عن الفترة السابقة عليها، محل خلاف سواء على صعيد القوى الوطنية بأسرها من جهة، أو على صعيد المنظمات والحلقات الاشتراكية من جهة أخرى.
لكن ما يواجهنا اليوم في هذا الميدان ليس مجرد الخلافات القديمة أو بالأحرى رواسبها،
وإن كان جمود التطور السياسي خاصة غياب القوى السياسية الشعبية الجماهيرية واستمرار وجود الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية الداخلية والخارجية دون تغير جذري جعل لهذه الرواسب استمرارا ملموسا في جدال القوى السياسية والثقافية الراهن.
لكن هذه الرواسب ليست اليوم – وعلى أهميتها – العائق الوحيد ولا الأول على طريق التفاف القوى الوطنية والديمقراطية حول رؤية مشتركة وبرنامج مشترك بحد أدنى مناسب قادرين على تعبئة القوى السياسية والثقافية للشعب في حفر مجرى التطور السياسي تجاه أهداف ومطامح الشعب الوطنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتحفيز ومساعدة حركته على المشاركة السياسية وعلى تنظيم أكثر وعيا وفعالية لنضاله الاقتصادي والنقابي.
فأخطر من رواسب الماضي السياسي على مهمة الوصول إلى هذا البرنامج وتلك الرؤية والالتفاف العريض حولهما، الخطرين الكبيرين الجديدين اللذين أثرا بالسلب في وعي وفعالية النخبة السياسية والمثقفة والطلائع السياسية القائمة الممثلة في الأحزاب والمنظمات والجماعات السياسية المختلفة، كما أثرا تأثيرا سلبيا عن طريق هذه الطلائع وتلك النخب وعن طريق وسائل الإعلام والنشر المرئية والمسموعة والمكتوبة في وعي جماهير الشعب واستعدادها النضالي.
الخطر الأول هو الحركة الواسعة للإحياء الثقافي الديني الرجعي.
أما الخطر الثاني فهو الثقافة التفكيكية بمصدرها الخارجي ، الإمبريالية القومية والمشتركة ( العولمة ) ، ومصدرها المحلي ممثلا في الخطاب التفكيكي الذي روجه نظام الحكم منذ عهد السادات وحتى الآن الذي أشرنا له من قبل .
هذا علاوة علي التفكيك الاجتماعي للمواقع العمالية والكادحة الذي انعكس في صورة تدني تفكيكي في وعي هذه الطبقات بمصالحها الحقيقية وأساليب النضال الفعالة للدفاع عنها على نحو ما ذكرناه من قبل.
تشكل الثقافة الدينية الرجعية المنبعثة عقبة كؤود أمام نضال جماهير شعبنا. فهي تضفي على صراعنا الوطني والقومي مع الاستعمار والصهيونية والتبعية
– على غير حقيقته – طابعا دينيا هو بالضبط ما يريده الاستعمار والصهيونية تبريرا لعدوانهما على الدول العربية والإسلامية تحت فرية مكافحة الإرهاب الإسلامي أ وتبريراً وتسويغاً لإقامة دولة لا يجمع بين أفرادها سوى رابطة العقيدة الدينية على أرض الغير وهي إسرائيل .
ولا يساهم هذا التصور الخاطئ في تضييق القوى المناصرة لحقوقنا وكفاحنا الوطني داخل الدول الاستعمارية وغير الاستعمارية فحسب ، بل وأيضا في إضعاف وحدتنا الوطنية في الداخل المشكَلة من شعوب متعددة الديانات.
وهي في قضايا الاقتصاد تقبل – من الناحية الجوهرية – نموذج النمو التابع المتخلف الذي تروجه الدول الإمبريالية والعولمة الاقتصادية الإمبريالية وتفرضانه على دولتنا وجميع الدول المتخلفة اقتصاديا والتابعة سياسيا واقتصاديا.
وهذه الثقافة الرجعية ستعيدنا – إن لم يوقف مدها وتنزوي – في قضايا الحرية والديمقراطية والعلوم والبحوث الفلسفية والاجتماعية – ودون أدني مبالغة – لجهالة وظلام القرون الوسطى في ظل الخلافة العثمانية والعصر السابق عليها.
أما الثقافة التفكيكية فهي تنتشر أساسا في أوساط معتنقي الثقافة الحديثة بتياراتها الليبرالية والقومية واليسارية ، وباعتبارها ثقافة ما بعد الحداثة أو الصورة الأحدث للثقافة الحديثة.
وقد حدث هذا الانتشار إما ولعا بالموضة – والموضة ليس قاصرة على عالم الأزياء وحده – أو لإحساس مملى عليهم بالدونية إزاء المركزية الأوربية أو دول "الديمقراطية العظمى" كما يتوهمون.
ويتجلى هذا الإحساس بالدونية والولع بالموضة الإيديولوجية والسياسية – مهما كانت تفاهتها ولا عقلانيتها أو تعارضها مع مصالح بلادنا وأوضاعها الخاصة – في مجالات وقضايا عديدة؛
يتجلى في القاعدة التي تتسع باستمرار لمنظمات وجمعيات المجتمع المدني التي تحمل أجندات متعددة صغيرة ممولة من ومرتبطة بالخارج الاستعماري والتي استقطبت عددا هاما من مثقفي الحداثة واليساريين السابقين المعتزلين خاصة من جيلي السبعينيات والثمانينيات، وفي مقاومة الدعوة للاصطفاف الوطني العام ضد الاستعمار الأمريكي والصهيوني والتبعية الاستعمارية في أعقاب احتلال العراق وشهر سلاح التدويل وإعادة رسم الخرائط السياسية ضد جميع الدول العربية،
كما تجلى في المحاولات المستميتة حتى اللحظة لفك الارتباط بين الإصلاح السياسي والدستوري أو النضال من اجل الحرية والديمقراطية وبين النضال الوطني ومقاومة التدخل والتهديد الأمريكي ودعم المقاومة المسلحة في العراق وفلسطين وإعداد شعوبنا فكريا وسياسيا لاحتمال حمل السلاح دفاعا عن الأراضي أو الكرامة الوطنية، وفي الوقوف ضد التمييز الواضح بين جبهة العدو الأمريكي والصهيوني وأعوانه أو مهادنيه وبين جبهة الشعب وقواه الوطنية والديمقراطية .
وتجلي الولع بالموضة والنظرة التفكيكية والتبعية الفكرية لما ينتجه الغرب (الاستعماري) أخطر ما تجلى في عالم السياسة في مصر في حركة كفاية التي تشكلت في خريف 2004 بسبب العدد الكبير نسبيا في قيادتها وعضويتها من العناصر المنتمية تاريخيا للقوى الوطنية القومية الناصرية أو التقدمية.
فهي لم تسحب القضايا الوطنية من مجال الصراع مع النظام الحاكم حول قضايا الحرية والديمقراطية فحسب، بل وأُعجبت بنموذج الثورات المصنوعة في معامل خبراء المخابرات ووسائل الإعلام والإثارة الاستعمارية في صربيا وأوكرانيا وجورجيا بل وقلدته،
وأطرى منسقها العام و بعض قادتها وأعضائها الثورة الأوكرانية المزعومة، وحاولت اتخاذ شارة صفراء تقليدا للشارة البرتقالية في أوكرانيا، ورفضت بعناد أن تضع في شعارها التعبوي "لا للتجديد – لا للتوريث" لا لأمريكا أو لا للتدخل الأجنبي والتدويل، بل ودعت إلى تحييد القوى الدولية (يعني تحييد أمريكا) كما جاء في مقال معنون "دليل المواطن الصالح إلى التغيير والعصيان المدني الناجح" منشور بجريدة الكرامة بدون توقيع مما يعني أنه باسم هيئة تحرير الجريدة([12]). فمن هي أمريكا الدولة أو الإدارة أو الاحتكارات غير العدو الأمريكي؟
في ظل هذا الواقع الثقافي لا مجال يعول عليه كثيراً لحسم الخلافات أو تقريب الشقة بين الفرقاء وصولا لرؤية وبرنامج مشتركين وخطة للعمل تناسبها من خلال الحوار أو الجدال المباشر أو غير المباشر بين النخب أو الطلائع السياسية والمثقفة، ولا للوقوف في وجه المد الثقافي الرجعي الديني والشحن الطائفي الذي يمارسه غلاة المتعصبين الدينيين،
ولا للحد بصورة فعالة من انتشار الثقافة التفكيكية والسطحية الإعلامية الإعلانية بين الجماهير. ولا نعني بها القول دعوة لنبذ الحوار والجدال المباشر ومحاولات الائتلاف والتحالف بين قوة وأخرى كلما كان ذلك ممكنا ومنتجا بين الفرقاء، وإنما نعني لفت الانتباه بقوة إلى أن أي تطور هام وملموس في حياتنا السياسية يتطلب لكي ما يتحقق،
وقبل أن يتحقق، تطورا في حياتنا الثقافية وواقعنا الثقافي .
إن نهضتنا أو ثورتنا السياسية المنشودة تتطلب نهضة أو ثورة ثقافية موازية بل وسابقة إلى حد ما لنظيرتها السياسية. تقتضي هذه الدعوة معالجة طويلة ومستقلة وتتطلب جهود ومشاركة مثقفين أكفاء وجادين ومسئولين وذوي ضمير في مجالات الثقافة والإبداع وما يمكننا أن نشير إليه فقط في هذا المقال أو الكراس هو التوجهات التالية :
1- مهمة التغلب على الجوانب الرجعية والمتخلفة والتفكيكية والاستعمارية الوافدة والسطحية والمبتذلة في ثقافتنا يجب أن توضع في مكانة متقدمة جدا في أجندة القوى السياسية والثقافية الوطنية والديمقراطية.
2- إحياء التيار العلماني في الثقافة المصرية والعمل على ازدهاره وتغلغله في جميع العلوم الاجتماعية والفلسفية مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية الوطنية والقومية،
المنفتحة في ذات الوقت على الأخذ والعطاء مع المشترك الثقافي التقدمي لشعوب العالم أجمع أي الثقافة العالمية، والمناهضة في ذات الوقت للثقافة الاستعمارية، ثقافة العولمة الممثلة لثقافة الإمبريالية والاحتكارات والوجه الرجعي للحضارة الرأسمالية العالمية المعاصرة.
3- إحياء وتطوير وإكمال حركة تجديد الفكر الديني في اتجاه : تذليل أي قيد على حرية الفكر والبحث العلمي والعقيدة والتقدم الاقتصادي الاجتماعي، وأبعاد الدين عن السياسة، وفصل الدين عن الدولة – فالدولة هيئة اعتبارية لا دين لها وهي والوطن للجميع
– واعتبار الدين مسألة خاصة تتعلق بعلاقة الفرد بالله، مع احترام المقدسات والمشاعر الدينية، وحرية ممارسة الشعائر الدينية لجميع الديانات وعلى قدم المساواة، وتأكيد وحدة مصالح الشعوب والطبقات المظلومة في العالم أجمع وعَيرْ الديانات والثقافات المختلفة.
4- إحياء وتطوير ونشر الفكر الاشتراكي والثقافة الاشتراكية تلبية لتطلع وطموح جماهير الطبقة العاملة وجميع الطبقات الكادحة المفقرة والمثقفين الإنسانيين الثوريين لإنهاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وتحقيق العدل والحرية،
ودحضا للنظرة الطبقية الاستعلائية الاستغلالية تجاه الإنسان الكادح، والتي تعتبره مجرد يد عاملة وليس إنسانا كامل الصفات والاحتياجات والحقوق كغيره من البشر غير الكادحين وغير المستغلين. على أنه من الضروري في هذا السياق التأكيد على ضرورة قيام مهمة الإحياء والتطوير على نقد التجارب الاشتراكية السابقة، وعلى الربط بصورة ملائمة بين النظرية الاشتراكية والحقائق العامة الماركسية التي تبنى عليها هذه النظرية وبين الممارسة الواقعية في بلادنا للصراع الطبقي والوطني، وإن تمتزج هذه الحقائق العامة بخصائص شعبنا المصري وأمتنا العربية وأن ترتدي شكلا وطنيا محددا.
على أن ضرورة الثقافة الاشتراكية لا تقتصر على مجرد تمهيدها وتبشيرها لمستقبل اشتراكي، فلها دور قيادي وحاسم في المرحلة الحالية وفي ثورتنا السياسية والثقافية المنشودة المقبلة رغم أن هذه الثورة لم تتخط بعد حدود الثورة الوطنية الديمقراطية – والتي في الأصل ثورة برجوازية من حيث أساسها الاقتصادي – وأننا مازلنا في مرحلة استكمال هذه الثورة،
وإن قضية إقامة الاشتراكية والثورة الاشتراكية ليست المهمة المباشرة المطروحة أمام نضال جماهير شعبنا الكادحة لعدم توافر شروطها الموضوعية (تخلف الاقتصاد والتناقض مع الاستعمار والصهيونية بوصفه التناقض الرئيسي) وشروطها الذاتية (تأخر وعي وتنظيم الطبقة العاملة والطبقات شبه العمالية).
ومرجع الأهمية الأساسية بل والحاسمة للثقافة الاشتراكية والنظرية الاشتراكية بالشروط التي أوضحناها حتى في إطار الثورة الوطنية الديمقراطية في العصر الراهن (عصر الإمبريالية والاستقطاب الدائم في المنظومة الرأسمالية العالمية بين المراكز المهيمنة والأطراف المتخلفة اقتصاديا والتابعة) هو دور التحليل الطبقي والنظرة الماركسية للعالم في كشف الحقائق الأساسية والجوهرية للحضارة الرأسمالية السائدة عالميا وتناقضاتها الأساسية الدولية والمحلية المتشابكة.
ومن المعلوم أن هذه الحقائق والتناقضات تبنى عليها وفي ضوئها الرؤية الاستراتيجية والبرنامج اللازمان لتحقيق استكمال الثورة الوطنية الديمقراطية، إذا كان لهذه الثورة أن تنجز بحق إنجاز جذريا يحقق للبلاد استقلالها الوطني الكامل ويملكها حقها بلا منازع في التطور الذاتي المستقل وفقا لإرادة ومصالح شعبها.
5- إحياء الثقافة الوطنية الديمقراطية العلمية وهي النهر الكبير الذي تصب فيه الروافد الثقافية السابقة أو هي بمثابة جبهة ثقافية تشكلها هذه الروافد.
هي ثقافة وطنية تناهض الإمبريالية والصهيونية وتدعو لتحقيق استقلال مصر الكامل وصيانة كرامة شعبها وأمتها العربية،
وتحمل خصوصياتنا الوطنية والقومية لكنها منفتحة على الثقافة التقدمية والاشتراكية العالمية وكذلك على ثقافات جميع الأمم الأخرى بما فيها البلاد الرأسمالية الاستعمارية، تأخذ وستأخذ منها الكثير، ولكن ليس بصوره آلية، وإنما ما يفيدنا ويناسبنا فقط وتلفظ ما لا يفيدنا ويضرنا.
وهي ثقافة ديمقراطية تحترم وتصون وتنمي حرية الرأي والفكر والعقيدة وتستهدف تحقيق مصالح وحماية حقوق أغلبية السكان وهم أبناء الطبقات الكادحة وإعطائها الأولية الأولى في السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وتثقيف هذه الطبقات من العمال والفلاحين وسائر الفئات الفقيرة بهذه الحقوق وبوسائل وأشكال النضال الفعالة لتحقيقها،
والتوسع في ذلك حتى تغدو هي نفسها ثقافتهم الخاصة.
وهي ثقافة عقلانية وعلمية تناهض الأفكار الإقطاعية وغيرها من الأفكار الرجعية والجهل والخرافات وتعترف وتلتزم بموضوعية الحقيقة والبحث عنها في وقائع الأشياء والظواهر المبحوثة.
ومن الواضح وفقا للسمة العلمية والسمة الديمقراطية لثقافتنا المنشودة أنها والجبهة الثقافية المطلوب إقامتها وبنائها كفيلق من فيالق الجبهة العامة للتحول السياسي الوطني الديمقراطي أو الثورة السياسية المنشودة لا تضمان بأي حال أية اتجاهات أو نزعات رجعية متبقية من الماضي الإقطاعي ومعادية للتقدم والتحرر الاجتماعي وحرية الفكر والعقيدة والمواطنة الواحدة، الكاملة المتساوية، كما لا تضمان أية اتجاهات ونزعات رجعية إمبريالية وافدة من الخارج.
كما لا يجوز أن يضم أي ائتلاف أو جبهة للقوى الديمقراطية أيا من الاتجاهات والنزعات الرجعية المذكورة المحلية والأجنبية.
وبالنسبة للإخوان وعلى الرغم من مطالبتهم في البرلمان وخارجه برفع بعض القيود على الحريات من جهة فإنهم يتمسكون بل ويطالبون بأكثر الأغلال ثقلاً على الحريات والديموقراطية من جهة أخرى.
لذلك لنا الحق في اتهامهم بأنهم لا يستهدفون من دفاعهم عن بعض الحريات حاليا إلا تسهيل مهمتهم في استكمال عناصر القوة التي تسمح لهم بفرض طغيانهم. لذلك لا تندرج العلاقة معهم في إطار جبهة القوى الديمقراطية، طالما تمسكوا بهدف إقامة الدولة " الإسلامية " ،
واعتبار الشريعة المصدر الوحيد أو الرئيسي للتشريع ومصادرة حرية الفكر والإبداع والعقيدة، واعتبار الأقباط أهل ذمة وليسوا مواطنين كاملي الحقوق والواجبات كغيرهم من المواطنين دون أقل تفرقة.
ليست هذه دعوة لمقاطعتهم أو لاضطهادهم، وإنما دعوة لإدراج علاقة القوى الديمقراطية بهم في إطار جواز عقد "الاتفاقات المؤقتة" معهم في هذه القضية أو تلك من قضايا الحريات أو غيرها من القضايا السياسية وكل على حده وكلما أمكن ذلك.
ولا يمنع ذلك كما هو واضح من التعاون مع الجماعات الإسلامية الرجعية وفي مقدمتها الإخوان المسلمين في قضية فلسطين، دون أن نوافق بالطبع على اعتبار الصراع العربي الإسرائيلي – كما يعتبرونه – صراع أديان ولا على كراهية اليهود بوصفهم يهودا لا بوصفهم صهاينة فقط.
كما أنه من المقبول والضروري إقامة تحالف أو جبهة معادية للاستعمار معهم إذا كانوا مستعدين لذلك وبحد أدنى مشترك مقبول من الاتفاق.
إلا أن هذا الاحتمال صار محاطا بعلامات الاستفهام الكبيرة والشكوك بعد تعاون إخوان العراق مع سلطة الاحتلال الأمريكي وموقف إخوان سوريا من التهديد الأمريكي بالتدخل العسكري فضلا عن السياسي، الذي لا يستهدف النظام السوري بقدر ما يستهدف إخضاع سوريا لحكمه المباشر ومشروع الشرق الأوسط الكبير ودعم الاحتلال الصهيوني للجولان.
وثقافتنا الحديثة الوطنية الديمقراطية العلمية هي – وبصفة أساسية – استمرار جدلي لثقافتنا القديمة، امتداد وتطوير لكل عقلاني وديمقراطي وتقدمي أبدعته ثقافة الشعب المصري في الماضي بهذا القدر أو ذاك،
وهو مختلف اختلافاً أساسياً عن الإنتاج الثقافي الرجعي غير العقلاني للطبقات المستغِلة والحاكمة في العصور القديمة والإقطاعية الخراجية، أنها الثقافة التي تمتص الخلاصة الديمقراطية والتقدمية لثقافتنا القديمة وتلفظ شوائبها ومخلفاتها الرجعية الإقطاعية .
إنها تؤكد من خلال دراسة الماضي الثقة الوطنية بالذات وتحترم تاريخنا وتطوره الجدلي وتضعه في مكانه الصحيح علميا ولا تمجد الماضي على حساب الحاضر وتؤمن بالتطور من الأدنى إلى الأعلى في المجتمعات البشرية، فهو قانون عام من قوانين التطور الاجتماعي أيا كانت التعرجات والالتفافات التي يشق بها التطور مجراه الصاعد.
4- توطيد الصلات بالجماهير
السياسة والنشاط السياسي – وبالتعريف – يبتغي،و يقوم على، الاتصال بالجماهير، وعقد الصلات الوثيقة معها. ويكرس السياسي خاصة عندما يكون اشتراكيا بالذات –
أو هذا هو المفترض – نشاطه وأغلب وقته لإيجاد هذه الصلات وتوطيدها. فعمل الحزب أو المنظمة السياسية، خاصة تلك التي تعتمد وصولا لأهدافها على حركة ووعي الجماهير وحدهما، مكرس وبصفة دائمة ومتواصلة بأشكال النضال المختلفة من دعاية وتحريض وتنظيم لنسج شبكة صلاتها بالجماهير وتوسيعها وتوطيدها باستمرار كسبا لتأييدها وتطوير لمشاركتها في النضال من أجل تحقيق أهداف الحزب أو المنظمة السياسية وبرنامجها.
ومن الواضح لأي مراقب أن كل من الأحزاب والجماعات السياسية الديمقراطية والاشتراكية – وعلى تفاوت قوتها ونفوذها – مقارنة ببعضها البعض – محدودة، وبعضها ربما تكون منعدمة، الصلات مع الجماهير. هناك كما أشرنا سابقا أسباب موضوعية مستقلة عن إرادة هذه الأحزاب والجماعات، فضلا عن استمرار القيود الأمنية الصارمة منذ عشرات السنين وحتى الآن على القواعد الجماهيرية في منشآت الإنتاج والخدمات والجامعات والمعاهد التعليمية وفي القرى والأحياء السكنية في المدن،
والتي تشكل عقبات شديدة أمام التوجه للاتصال بالجماهير والعمل بن صفوفها. لكن هذه القوى مسئولة أيضا بعد الأمن عن تكريس عزلتها وضعف صلاتها بالجماهير، وتضييع فرصها وإمكانياتها في تطوير وعي وحفز حركة الجماهير النضالية عامة ومشاركتها في العمل السياسي خاصة. فكيف يحدث هذا وفي أي ميدان أو وجه من أوجه ممارسة السياسة؟ وكيف يمكن التغلب عليه؟
كيف تعزل القوى الديمقراطية والاشتراكية نفسها؟
أ - جذر العزلة
جذر استمرار العزلة وتفاقمها بين الجماهير منغرس في الخط السياسي السائد في هذه القوى، رغم الطيف الواسع من الاختلافات الثانوية أو الأساسية على مستوى الرؤية الاستراتيجية أو مستوى الخطة أو الخطط السياسية. وقد أشرنا سابقا إلى جوانب متعددة في هذا الخط. والأثر يدل علي المسير .
والأثر – أثر تطبيق الخط السياسي – هو عدم عزلِهِ سياسات الطبقة السائدة ونظامها السياسي جماهيريا بدرجة ملموسة، بل عُزلة القوى الديمقراطية والاشتراكية بصورة ملموسة، وذلك لأن عزل سياسات النظام يتوقف بالضبط على المسألة التي لا تعطيها هذه القوى حقها وأولويتها وهي بناء الوعي الجماهيري بالعلاقة بين العدوان والتدخل الأجنبي وفقدان السيادة الوطنية وسياسات التبعية وبين التخلف الاقتصادي والاجتماعي وقضايا البطالة والتعليم والصحة والمواصلات وغيرهما،
وإن النضال من أجل لقمة العيش وتربية الأولاد ورعاية الأسرة يقتضي نضالا جبارا ضد التدخل الأجنبي وإدارة شئوننا من الخارج وضد فئات الرأسمالية المصرية الخاضعة والقابلة بذلك والتابعة في سياساتها للقوى الأجنبية الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا.
وقد سبق لنا في أوراق ومناسبات متعددة نقد الاتجاهات التي تسحب من ساحة الصراع السياسي في مصر أخطر نقاط الطعن في شرعية النظام السياسي وسياساته، كما نقدنا التصور الذي استشرى في صفوف هذه القوى بأن مجرد التنديد في الصحف المستقلة والحزبية أو في المظاهرات النخبوية والرمزية بالأوضاع الاقتصادية المتدهورة للجماهير سيجذب الجماهير إلى ساحة المعارك السياسية أو بأن التنديد بالاستبداد والفساد في الوقفات الاحتجاجية الصغيرة المتكررة أو أثناء الانتخابات البرلمانية هو الدواء الشافي لحركة الجماهير الراكدة.
وينطبق نفس هذا المنهج والسلوك السياسي الاختزالي التبسيطي على الموقف من جماعات الإسلام السياسي والإخوان المسلمون.
فقد ظن الكثيرون أن مجرد التذكير بتاريخها الإرهابي العنيف، أو التشكيك في مقولاتها الجديدة – المشكوك فيها بالفعل – عن قبول التعددية الحزبية والنظام الديمقراطي، ودون التصدي المباشر لفكرها وأخطر مقولاتها القديمة المستمرة التي تجند بها أعضائها أو توقع بها ضحاياها وتكسب بها أنصارها المتزايدين، نقول ظن الكثيرون أن هذين الأمرين كافيان لوقف مدها.
ألا يحمل هذا المنهج الاختزالي التبسيطي في طياته نظرة متعالية على جماهير شعبنا البسيطة والتي من الثابت أنها تصغي وتعطي تأييدها لخطاب أو رؤية شاملة حتى إذا لم تضع في واجهتها أو تبث مرارا في متنها مسألة انخفاض الأجور وارتفاع الأسعار أو البطالة؟
في حالة الإخوان فإنهم ينتشرون ويحصدون أعدادا كبيرة من أصوات الناخبين بخطاب الخلاص الأخلاقي الديني وشعار الإسلام هو الحل،
الذي لا يقدم حقيقة أي حل، لكنه خطاب شامل يعطي إجابات ماضوية وانسحابية تستعيض بها الجماهير عن هزائمها الحاضرة في هذه الدنيا، وعن فقدانها لراية أو خطاب معاصر مواكب لأوضاعها ومعاناتها ملبٍ لطموحاتها الكامنة إلى حياة دنيوية آمنة من العدوان والاستعمار والفقر والجهل والقهر والمرض والاستغلال.
أما في حالة النظام الحاكم فإنه يحصل على الأغلبية العظمى من أصوات الناخبين، لا بسطوة جهاز الدولة فقط، وإنما أيضا وإلى حد ملموس بموجب خطاب أو رؤية للحياة والخلاص فيها مفاده : أن عالمك هو أولادك وأسرتك الصغيرة، والآخرين وسيلة لغايتك الخاصة،
وخلاص الجميع هو أن يحل كل منهم مشكلته بوسائله الفردية، أما القبلة التي يجب أن تتوجه إليها أبصارنا وطموحاتنا فهي المشروع الخاص التجاري الهدف، والدولة الناجحة والذكية هي من لا تزج بشعبها – كما يزعم هذا الخطاب –
في مشروعات كبرى ونضالات كبرى باسم الاستقلال أو السيادة الوطنية أو الوحدة القومية أو محاربة الصهيونية أو الثورة الاقتصادية والاجتماعية أو الكرامة الوطنية، وإنما من تمالئ الكبار في هذا العالم وتطأطئ الرأس لهم وتؤدي بعض الخدمات مقابل عمولة أو إعانة أو تخفيض الديون. والخطاب غايته الأصلية؛ تربية الأولاد ورعاية الأسرة ،غاية نبيلة ومشروعة، لكنها تختزل احتياجات وصفات هذا الكائن الذي اسمه الإنسان،
أما وسائله وقيمه فهي هابطة وغير أخلاقية وغير منتجة في التحليل لا على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع. ومنطق هذا الخطاب هو ما كان يردده عدد ليس قليلا من عمال حلوان تبريرا لانتخابهم الرئيس مبارك، فما بالك بالمناطق الأخرى والأرياف.
ومن الواضح أن هزيمة هذه الخطاب في فكر وسلوك الجماهير الفقيرة بالذات هو أحد ركائز طريق الخلاص الحقيقي للشعب وعزل سياسات حكم الطبقة الرأسمالية وكيلة وشريكة رأس المال الأجنبي التي تسيطر على اقتصادنا ودولتنا.
فإلى أي حد قمنا نحن أو غيرنا من القوى الديمقراطية بنقد وفضح هذا الخطاب على المستوى الجماهيري؟
ب- النفس القصير والتعجل قفزا على الواقع
كشفت معظم الأحزاب والمنظمات والجماعات الديمقراطية، وليس حركة كفاية وجدها، خلال العامين الماضيين على وجه الخصوص وحتى الآن، وعلى أوضح ما يكون، عن نفس قصير وتعجل قفزا على الواقع المعقد غير الناضج أو غير المهيأ لتغيرات سياسية أساسية وسريعة.
لا شك أن من أسباب العجلة، وعدم الاكتراث الحقيقي بتقدير موضوعي مسبق للقوى الذاتية الديمقراطية واستعداد الجماهير للمشاركة، الفكر السياسي الذي صور لأصحابه أن مجرد انتخاب رئيس الجمهورية انتخابا مباشرا في انتخابات تعددية،
وإلغاء حالة الطوارئ دون ثمة ضمان لاستبدالها بقانون آخر محقق نفس الأغراض، أو إلغاء القوانين الأخرى والنصوص المقيدة للحريات المبثوثة في متون قوانين أخرى عديدة سيكون مفتتحا حقيقيا لتغير سياسي شامل أو بداية حقيقية لمواجهة المشكلات الأساسية والمزمنة لبلادنا وشعبنا.
ومن أهم أسبابه أيضا الطابع النخبوي المثقف المعزول عن القواعد الجماهيرية لقادة دعوات التغيير الغامضة والملتبسة والذي يجعل أصحابه ينطلقون من رغباتهم الذاتية وطموحهم الشخصي، وليس من الواقع الذي سيواجههم الانطلاق منه – وبالقطع
– بضرورة التزود بنفس طويل، والتركيز في النشاط السياسي والجماهيري العملي على قضايا هامة تتطلب خوض معارك ضارية وناجحة قبل الإقدام علي مهمة إقامة نظام حكم ديمقراطي وحكومة ديمقراطية، وهي قضايا الحريات.
وكان من المنطقي وتحصيل الحاصل أن يكون التغيير المطالب به شكليا وأن يحقق لهم النظام السياسي الحاكم ما طالبوا به دون يقظة للأولويات، ساحبا البساط من تحت أقدام حركة التغيير
– الموضة العالمية، ومن القوى الديمقراطية في الانتخابات البرلمانية – هو والإخوان المسلمون - مكرسا عزلتهم وبمساعدة منهم من حيث لا يدروا.
جـ- إسراف اللجوء لوسائل قليلة النتائج في الوضع الراهن
لا يقيد السياسي نفسه بأسلوب معين من أساليب النضال، فكل أشكال ووسائل النضال السياسي والجماهيري جائزة ولا غنى عن أي منها بشرط أن تتفق أو تتلاءم في الظرف المحدد لاستخدامها مع قوى الحزب أو الحركة التي تستخدمها، وأن تدعم قوة هذه الحركة.
ومن الأقوال التي صارت مأثورة قول القائد المفكر الكبير والممارس السياسي العظيم لينين أن "الاشتراكية (يقصد الحزب الاشتراكي) لا تقيد يدها، لا تقيد نشاطها بأي مشروع أو أسلوب يوضع سلفا من مشاريع أو أساليب النضال، فهي تعترف بجميع وسائل النضال على أن تتلاءم وقوى الحزب الواقعة وتتيح الحصول عليها في ظروف معينة"([13]).
فهناك إذن شرطان ضروريان للجوء إلى استخدام أسلوب ما من أساليب النضال هما، أن يتلاءم مع قوى الحزب (أو الحركة السياسية) الفعلية وان تسمح هذه القوى باستخدامه بقدر ملموس من النجاح، وأن يؤدي استخدامه إلى إنماء أو دعم قوة الحزب أو الحركة.
هذا يعني مثلا في حالة تنظيم القيام بمظاهرة أن تجتذب تأييد الجماهير للمشاركة بقدر ملموس وتكتسب تعاطف دائرة أوسع ممن لم يشاركوا فتشكل بذلك قوة ضغط على الحكومة والجهات المعنية الأخرى، إن كانت، فتتدعم بذلك قوة الحزب أو الحركة.
لكن سياسيين كثيرين في بلادنا يبدو أن لهم معايير وأقوال أخرى بشان أساليب النضال وشروط استخدام أحدها في ظروف محددة. فأحزاب وقوى متعددة خاصة الكرامة وكفاية والغد وجماعات يسارية وأخرى تحمل شعارا يخفي أكثر مما يفصح هو "من أجل التغيير"،
وإلى حد ما حزبا التجمع والناصري بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال مشاركتها في كفاية وجماعات "من أجل التغيير" الأخرى، قيدت نفسها لما يزيد عن عامين بأسلوب معين بل وأسرفت – دون مبرر موضوعي أو جدوى عملية – في استخدامه هو أسلوب التظاهر والوقفات الاحتجاجية.
وبالطبع لا خلاف من حيث المبدأ على أهمية المظاهرات في تشكيل قوة ضغط جماهيري على الحكم أو غيرها من الجهات وكأحد وسائل قياس قوة القوى السياسية المختلفة واتجاهات وميول الجماهير النضالية،
وفي ظروف المد العالي للحركة الجماهيرية تصبح المظاهرات وسيلة أساسية لحسم الصراع حول قضية أو عدة قضايا كبيرة أو حتى وجود أم عدم وجود النظام السياسي مع شروط أخرى بالطبع، كما قد يكون
– خاصة في ظروف الركود والجزر – مجرد مظاهرة صغيرة يقوم بها حزب أو حركة سياسية معينة أو بعض أفراد جماعة من جماعات العمل أو غيرها من الجماعات كتعبير رمزي عن موقفهم وإعلان مطالبهم.
ولكن وفي جميع الحالات وكما ذكرنا سابقا يجب أن تسمح قوة الجهات الداعية والمنظمة للمظاهرة بتنفيذها بقدر ملموس من النجاح،
وأن تدعم المظاهرة قوة هذه الجهات والحركة الجماهيرية التي تبغي إطلاقها أو تصعيدها. وهذه الأمور لم تتوفر بقدر ملموس في بداية مسلسل مظاهرات "التغيير" ولا في أي مرحلة من مراحله.
لقد بدأت بنحو ثلاثمائة متظاهر واستمرت هكذا بضعة مئات على الأكثر ثم تراجعت وانكمشت، ولم تتخط مظاهرات عديدة منها خانة عشرات المتظاهرين.
ومع ذلك استمرت المظاهرات دون حتى فترة كافية للإعداد بين مظاهرة وأخرى، فكاد القيام بمظاهرة أو وقفة احتجاجية والتحضير لمظاهرة أو وقفة تالية يستغرق كل نشاط ووقت المنظمات والجماعات المواظبة على التكرار المسرف بلا عائد حقيقي،
بل صارت الاستجابة له من قبل الجماعات الأخرى تسبب ضررا حقيقيا أقله استنزاف الجهد والوقت اللازم إنفاقه في مجالات وأساليب نضال أخرى ضرورية، وقد تكون أكثر إلحاحا، لتطوير قوى الحركة السياسية والنقابية للشعب تطويرا يجعلها قادرة على القيام بعمل جماهيري أكثر فاعلية وعائدا بما في ذلك تنظيم القيام بمظاهرات جماهيرية واسعة ومؤثرة.
إن تركيز النشاط على المظاهرات المتلاحقة وعلى فترة زمنية ممتدة قد يكون جائزا فقط عند قيام، أو عندما نكون على وشك قيام،
وضع سياسي جديد نتيجة وفعل متبادل بين قوى الحركة السياسية للشعب وبين جماهيره تغدو معه مظاهرات الآلاف وعشرات الآلاف ممكنه وتتضاعف مع استمرار التظاهر أعداد المتظاهرين بمقاييس هائلة قد تقترب معها ساعة الحسم للقضية أو القضايا التي حركت موجة المظاهرات والإضرابات. أما تكرار المظاهرات القزمية والفاشلة بصورة متلاحقة فإنه يثير سخرية الخصم واستهانته بقوة الحركة علاوة على استنزاف الجهد والوقت بلا طائل.
كيف تتغلب القوى الاشتراكية والديمقراطية على عزلتها؟
1- تصحيح الخط السياسي العام ليكون حجر الزاوية فيه – وبوضوح – تحقيق التحرر الوطني الكامل لمصر والتحول الديمقراطي الشامل والتقدم الاقتصادي والاجتماعي المعتمد أساسا على الذات وضمان وأولوية حقوق الطبقات الكادحة الاقتصادية والاجتماعية وإقامة سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية القادرة على تحقيق هذه الأهداف ،
فضلا عن الالتزام بروابط الكفاح الوطني المشترك والمصالح المشتركة بين الشعوب العربية وإقامة الوحدة العربية على أسس الاستقلال الوطني والديمقراطية والاختيار واحترام الخصوصيات والفوارق الوطنية والثقافية بين الأقطار العربية علاوة على حقوق الأقليات القومية.
2- تنشيط وتطوير السياسات الجماهيرية في ميادينها الثلاثة الأساسية وهي : سياسة مساندة وتطوير وتنظيم النضال الاقتصادي والنقابي، وسياسة كسب الحريات السياسية والنقابية والفكرية، وسياسية مقاومة الاستعمار والصهيونية والتبعية والتدخل الأجنبي والتدويل، ودعم المقاومة العربة المسلحة للاحتلالين الأمريكي والصهيوني،
وإعداد شعبنا وبلادنا فكريا وسياسيا لإسقاط اتفاقيات كامب ديفيد واستكمال تحرير سيناء وحمايتها من العدوان الصهيوني والأمريكي، ورفض القواعد والتسهيلات العسكرية للقوى الاستعمارية ورفض حلف الأطلنطي الاستعماري العدواني وكل أشكال وصور الاشتراك فيه أو التعاون معه.
ومن المهم للغاية الاهتمام بنقل تركيز الحركة العملية إلى ميدان السياسة التي تجتذب أوسع الجماهير إلى ساحتها – وبمرونة – من بين السياسات الثلاث، ودون ان نتوقف أبدا عن الربط في الدعاية والتحريض وأيا كانت السياسة محل تركيز الحركة العملية بين هذه السياسات الثلاث، وتوظيف كل منها في خدمة الأخرى.
3- ضرورة الاعتراف والتمسك بكل أشكال ووسائل النضال على أن يتناسب الأسلوب المستخدم في كل ظرف محدد مع قوى الحركة الواقعية وينميها كما ذكرنا سابقا.
4- العمل على نقل ثقل العمل السياسي إلى مواقع حياة الجماهير في منشآت الإنتاج والخدمات والإحياء والقرى السكنية والقيام في أوساطها بأعمال الدعاية والتحريض والتنظيم، مع الاهتمام في المرحلة الحالية بالذات – مرحلة ركود وجزر الحركة الجماهيرية – بالعمل من داخل الجمعيات والمؤسسات الشرعية والنقابات أيا كانت القيود والتدخلات الأمنية والإدارية فيها،
والقيام بالعمل الدؤوب الطويل الأجل للتأثير في العوامل الموضوعية والذاتية المؤثرة في ميول الجماهير ونتاج تفاعلها لإمكان إقامة مرتكزات الحركة الاشتراكية والديمقراطية داخل القواعد الجماهيرية.
5- اغتنام لحظات أو شرارات النزوع الجماهيري النضالي التي تطلقها بين الحين والآخر حوادث الارتطام بين حقوق وكرامة أبناء الشعب وبين شراسة وتعسف السلطة للالتحام بالجماهير، وحفز ومساندة مبادرتها النضالية ودفاعها عن نفسها ولتوسيع آفاق نزوعها الكفاحي بالوعي والخبرة، والتعلم منها وتعليمها وفقا لمبدأ القيادة من الجماهير وإلى الجماهير.
________________________________________ ([1]) الأرقام مصدرها موقع برنامج الأمم المتحدة الانمائي ومجلس الشعب المصري على الإنترنت ومصادر صحفية بالنسبة للبيانات التي لم تتضح في أرقام الموقعين المذكورين.
([2]) ما بعد الحدائة : نمط من التفكير يعتبر القضايا التي نتبناها وضعناها نحن بأنفسنا ولم نستقيها من عالم موضوعي خارجنا، وأن مفهوم الحقيقة هلامي، ويمكن للمجتمع البشري الحياة في مجتمع ثقافي دون اهتمام بمسألة المنهج والحقيقة،
وعلى هذا المجتمع أن يهتم بأفكار زمانه فقط وأن يجعل الحديث عن التعميم والكليات جزءاً من الماضي العقيم وأن نتعامل مع المعطيات التي نواجهها عن طريق تجزئتها وأخذ كل جزء على حده.
وكما هو واضح يترتب على الأخذ بهذا التفكير أسوأ النتائج.
فإنكار إمكان معرفة الحقيقة "أو حتى اعتبارها فكرة منظمة للبحث " سيؤدي إلى غياب أي أسس لتأييد أو رفض ممارسات سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية تواجهنا، كما تؤدي سياسات دفع الاختلاف (عكس الترابط) إلى أقصاها كما يذهب هذا التفكير إلى استبعاد أي تحليل موضوعي كلي يسمح برؤية الواقع التاريخي والمعاش في ترابطه وشموله ليصبح التاريخ والواقع المعاش مفككاً لا رابط بين جوانبه وأجزائه المتعددة. وللقارئ غير المتخصص أو غير التابع للموضوع نحيل إلى مقالتين مترجمتين بالعربية وهما : مفهوم الحقيقة بين الحداثة وما بعدها
– د. توفيق شومر – مجلة الدستور الأردنية، الماركسية والتفكيكية – كيت سوبر – ترجمة سعيد العليمي
– مجلة الطريق القاهرية – ديسمبر 2004.
([3]) التقرير السنوي عن سنة 2003/2004 – البنك المركزي المصري.
([4]) من المراجع المؤيدة لهذا التلخيص ما جاء بكتاب الطبقات الاجتماعية ومستقبل مصر – الباحث الرئيسي د. عبدالباسط عبدالمعطي ،صـ 284 – 291، دار ميريت، 2002، القاهرة.
([5]) الطبقات الاجتماعية صـ 285 – مرجع سابق.
([6]) مقال : المهمة الملحة للفكر العربي – عيداروس القصير – مجلة مصرية. عدد 5 – ديسمبر 1982 – القاهرة.
([7]) الافتتاحية – مجلة مصرية – عدد 7 – ديسمبر 1984 – القاهرة.
([8]) مقال المهمة الملحة للفكر العربي – مصدر سابق.
([9]) الديمقراطية الوطنية – إصدار ثاني للجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية – أبريل 2006، الإصدار الأول ضمن كراسة "دروس الصراع حول الاصطلاح السياسي والدستوري سبتمبر 2005.
([10]) راجع : لا للامبريالية والتبعية ..لا للدكتاتورية والإفقار – اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية والرابطة الشعبة العربية – فبراير 2005،
الديمقراطية برنامج وطني ديمقراطي شعبي (الحريات قبل الديمقراطية) – اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية – مايو 2005 – دروس الصراع حول الإصلاح السياسي والدستوري – اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية – سبتمبر 2005.
([11]) دروس الصراع حول الإصلاح السياسي والدستوري – مصدر سابق.
([12]) الكرامة – العدد الأول – 27/9/2005.