أحداث حي "الشيخ رضوان" في غزة لم تكن عابرة
بقلم : الدكتور عبد العزيز الرنتيسي
قد يلتمس المرء عذرا للنيابة عندما تخفق في التوصل إلى مجرم محترف تستر في جنح الظلام ولم يترك دليلا واحدا يقود إليه، أما أن تفشل النيابة في التعرف على مجرم ارتكب جريمته في وضح النهار وأمام أعين الناس بما في ذلك أعين ذوي القتيل وأعين رجال الأمن فلا عذر لها في ذلك، ولا يمكننا أبدا أن نتصور أن أجهزة الأمن التي تسارع في الكشف أحيانا عن عميل تسربل في الظلام واتصل بالصهاينة خلسة عجزت عن التعرف على هوية قاتل في وضح النهار، فتركته حرا طليقا وأخذت تلاحق الأبرياء تطلبهم للمثول أمام العدالة!!! فإذا كان المواطن العادي يعلم هوية القاتل فكيف لا تعلم ذلك أجهزة الأمن؟!!!
ومما يزيدنا ذهولا وريبة أن الأجهزة الأمنية في مدينة غزة تركت المسلحين يهاجمون البيوت، ويروعون الأطفال ، ويحرقون مكتباً إعلامياً، ويشهرون بالأبرياء عبر البيانات المتلاحقة ، ويكتبون على الجدران عبارات السب والتخوين والاتهام الكاذب ، ويسيرون المسيرات المسلحة التي أفسدت العيد على المسلمين في غزة، ومعظم المشاركين في هذه الحملة كانوا عناصر من الأجهزة الأمنية ويتحركون باسم حركة فتح، وكل هذا يجري تحت سمع وبصر السلطة.
ومما يثير علامة استفهام كبيرة أن أول من بادر باتهام حركة المقاومة الإسلامية حماس عبر الإعلام هو العدو الصهيوني ، الذي أشار بعد الحدث مباشرة أن الذين ارتكبوا جريمة القتل في حي "الشيخ رضوان" هم عناصر من حماس ، وربما كان هذا الإعلان الصهيوني بدافع الحقد على حركة حماس، وربما أراد الصهاينة أن يشعلوا لهيب فتنة لا يعلمها إلا الله ، وربما أراد العدو أن يشوش على نتائج الحوار الذي جرى في القاهرة بين حركتي فتح وحماس، والذي أدى إلى نتائج لم يرض عنها العدو الصهيوني لأنها لم تكن في صالحه، لكنه رغم ذلك لا يخلو من دلالات معينة.
ومما يثير التساؤل أيضا أن صحيفة الشرق الأوسط طالعتنا بعد الحدث بيومين بخبر على لسان الدكتور زكريا الآغا عضو اللجنة المركزية لحركة فتح قال فيه "إن المتهمين بالقتل هم من حركة حماس"، ولو التمسنا عذرا للدكتور زكريا أنه لا يعلم حقيقة الأمر، وأنه لم تكن لديه معلومات أن القاتل من فتح، فكيف يمكننا أن نتفهم اتهامه حماس بدون دليل؟!!
ومما يثير الدهشة أن كلا من المجلس التشريعي ولجنة المتابعة العليا لم تكن لهما ردة فعل غاضبة رغم علمهما الأكيد أن عناصر من حركة فتح قاموا بإطلاق الرصاص على بيوت قيادات وكوادر حركة حماس، وأحرقوا مكتبا إعلاميا في وسط غزة، وأصدروا بيانات السباب والاتهام والتهديد التي مست بحركة حماس وقادتها، وزينوا الجدران بعبارات لا تليق بشعب الانتفاضة، فأين بيانات الشجب والاستنكار والإدانة التي شاهدناها من قبل لجنة المتابعة والمجلس التشريعي يوم أحرقت بعض الخمارات في غزة ؟!!!
ولا أعتقد أن هوية القاتل كانت غائبة عن الفصائل الفلسطينية والمجلس التشريعي، وكنا نتوقع على أقل تقدير أن يدفعوا باتجاه إلقاء القبض على القاتل الحقيقي وتقديمه للعدالة، وإذا بهم يفاجئون الجميع بمطالبتهم الأبرياء الذين لم تكن لهم من جريرة إلا أن القاتل كان يستهدفهم في عملية القتل بالمثول أمام النيابة، فأصبح الأبرياء ملاحقين من قبل (العدالة) !!!،
تلك العدالة التي حكمت على المجاهد "رائد العطار" بالإعدام رميا بالرصاص رغم أنه بريء من التهمة الموجهة إليه، مما أثار الشارع الفلسطيني في حينه الذي وفر الحماية لهذا المجاهد، ولقد أوضحت مؤسسة الضمير يومها أن النيابة لم تستطع إثبات أن الذي أطلق الرصاص هو المتهم "رائد العطار"، وأن الشهود الستة الذين شهدوا ضد المتهمين كانوا شهود نفي وليسوا شهود إثبات إذ أجمعوا على أنهم لم يروا المتهم "رائد العطار" وهو يطلق الرصاص على النقيب "رفعت جودة"، وأن النيابة لم تقدم بيانات تثبت أن الرصاصة التي قتل بها النقيب جودة هي نفسها التي خرجت من مسدس "رائد العطار"، فكيف يطلب من المواطنين بعد هذه الواقعة والعديد من الوقائع الأخرى المماثلة أن يسلموا أبناءهم (للعدالة)؟!!
ومما زادنا ذهولا وريبة تلك الأحداث المتلاحقة من مسيرات، وبيانات، واعتداءات ، وشتائم ، وترويع الآمنين والأطفال في بيوتهم من خلال مهاجمة تلك البيوت بالرصاص الحي تارة قبل الفجر وأخرى في وضح النهار، وجميع هذه الأحداث كانت تجري باسم حركة فتح ، التي لم تستنكر ذلك، ولم تنف أبداً أن الذين يمارسون هذه الاعتداءات ينتسبون إليها ، ففي بيان صدر عن حركة فتح إقليم غرب غزة بتاريخ 5/12/2002 قال البيان "الجيش الصهيوني قتل محمد الدرة في حضن أبيه وحماس قتلت علام وأبيه"، وذكر البيان أسماء خمسة أبرياء من شباب المسجد وقدمت لكل اسم بلقب"المجرم الخائن"، وهدد البيان الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي اتهم أيضا بعملية القتل التي قام بها عناصر من فتح.
وفي بيان صادر عن حركة فتح بتاريخ 6/12/2002 بعنوان (ترويج الأكاذيب لا يقلب الحقائق والوقائع على الأرض)، جاء فيه "فإن حركة حماس تعمل على ترويج الأكاذيب بهدف قلب وتزوير الحقائق والوقائع على الأرض، وتضليل الرأي العام والمواطنين الذين شاهدوا مجريات الحدث المؤسف على الأرض".
وفي بيان صادر عن حركة فتح بتاريخ 9/12/2002 أصرت حركة فتح على اتهام حماس متهمة إياها بأنها ذات (تاريخ إجرامي !!!!)، وذلك رغم اتضاح الرؤية من خلال خروج آل القتيل عن صمتهم، وتوجيههم الاتهام شفويا إلى أحد عناصر فتح.
وفي بيان صادر عن حركة فتح بتاريخ 11/12/2002 بعنوان (نعم لوأد الفتنة وسيادة القانون) قالت فتح "فإن حركة فتح أكدت منذ البداية على رفضها وإدانتها لهذه الجريمة البشعة ..
والتزامها بضبط النفس وعدم السماح بتدهور الأوضاع والانجرار وراء الاستفزازات والصدام الداخلي"، وهذا البيان الذي جاء بعد أسبوع من الأحداث، وبعد الإعلان الشفوي لآل القتيل عن اسم القاتل الحقيقي وهو من عناصر فتح يشهد تراجعا في الأسلوب وتوجيه الاتهام، إلا أنه يعتبر كل الممارسات التي قام بها عناصر من فتح التزاما بضبط النفس، وعدم السماح بتدهور الأوضاع والانجرار وراء الاستفزازات !!!
ولما اتضحت الحقيقة وزال الغموض وانقشع الضباب تحركت لجنة المتابعة والتي لم تلتئم رغم المجازر المتتابعة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، وتحرك معها المجلس التشريعي وكل همهم من هذا الالتئام مسح شعارات الانتفاضة عن الجدران، ولما كانت هذه الشعارات تمثل إعلام الانتفاضة فعندئذ تكون الرسالة واضحة أن الحدث الذي بدأ بإراقة الدم في حي "الشيخ رضوان" إنما أراد اغتيال الانتفاضة، ولذا فإننا سنكون قريبا أمام مشهد درامي آخر حتى تنقض عرا الانتفاضة واحدة تلو الأخرى، وفي كل مرة قد يصل التوتر مداه، وقد ينجح شارون – لا قدر الله - في النهاية في ضرب وحدة الشعب الفلسطيني.
إن الحدث الأخير وما تمخض عنه من تداعيات يجعلنا ندق ناقوس الخطر، فالحدث لم يكن عابراً ، ولم يكن خطأ عفويا من أحد كوادر فتح، لأن الحدث كان بداية لسلسلة من الاستفزازات فشلت في جر حماس لمعركة داخلية تدرك حماس أنها أقصر الطرق لإجهاض الانتفاضة، وبدلا من التصدي للعابثين بأرواح الأبرياء من قبل كل من يعنيهم الأمر كان التوجه نحو مسح الانتفاضة عبر مسح الشعارات ، وإن لم أكن مخطأ وأسأل الله أن أكون مخطأ فنحن أمام أيام صعبة تحتاج منا إلى صبر الواثق بنصر الله، لأن الذين يطلقون الرصاص على الأبرياء مازالوا على قيد الحياة، ولذا فإننا سنشهد غدا جنازة مظهر آخر من مظاهر الانتفاضة .
المصدر
- مقال:أحداث حي "الشيخ رضوان" في غزة لم تكن عابرةالمركز الفلسطينى للإعلام