"عبد المنعم سليم جُبَّارة".. وقصة أعوام خلف القضبان
[21-11-2003]
مقدمة
في حواره مع صحيفة (آفاق عربية):
محاكمة بعض (الإخوان) في حادث المنشية رغم اعتقالهم قبله بشهور!
المحاكم العسكرية.. الخصم والحكم وأحكام جائرة وجاهزة مسبقًا!
إخوان فقدوا حياتهم تحت وطأة التعذيب في السجون والمعتقلات.
في السجون وضعوا (الإخوان) مع تجار المخدرات والقتلة فصاموا وصلوا.. فتم إبعاد (الإخوان)!
أجرت جريدة (آفاق عريبة) الأسبوعية المصرية حوارًا شاملاً مع الأستاذ "عبدالمنعم سليم جبارة" منذ عام تقريبًا عن حياته وذكرياته في السجون الناصرية، وهذا نص الحوار...
تحاورنا مع الأستاذ "عبد المنعم سليم جبارة" (الكاتب والمحلل السياسي), الذي قضي 20 عامًا إلا قليلاً من حياته في سجون "عبد الناصر".. فهو من مواليد 22 من أكتوبر 1930م بفاقوس الشرقية, والتحق بالإخوان المسلمين في بداية دراسته الثانوية, ثم ناله ما نال بقية (الإخوان) في العهد الناصري؛ حيث حُكم عليه بالأشغال الشاقة عام 1955م، ولم يغادر السجن إلا في نهايات عام 1974م.
ورغم أن الأستاذ "جبارة" يؤثر الصمت على الكلام، ويحتسب ما لاقاه عند ربه, فقد حاولنا معه كثيرًا لإقناعه للإدلاء بشهادته حول الثورة, آسفين لما قد أثرناه من ذكريات أليمة مرت بها مصر وأبناؤها بعد 1952م.
الالتحاق بالإخوان
- سألناه في البداية عن سر التحاقه بجماعة (الإخوان المسلمين)، وكيف كانت خطواته الأولي معهم؟
- كانت البداية في مدرسة الزقازيق الثانوية؛ حيث كان للإخوان تواجد قوي في الشرقية، وفي أغلب القطر، وكان لهم الكثير من الشُعب بها, وقد رأيت الإمام "البنا"- رحمه الله- مرات في مؤتمرات حاشدة له بالمحافظة، وكان لي معرفة بطلاب كنا نرى فيهم حسن السلوك, والخلق، والمعاملة الطيبة، والتفوق العلمي..
- صارت بداية صداقة وعلاقة تحولت إلى اقتناع بالتوجهات والأفكار القائمة على القيم والأخلاق الحميدة، وإيفاء الله حقه, وقد عاصرت اختيار الأستاذ "حسن الهضيبي" مرشدًا للإخوان بعد اغتيال "البنا"، وبحق كان اختيارًا موفقًا, فلم يكن غيره يصلح لتلك الفترة؛ فهو يعمل في صمت، وذو نظر ثاقب، وإدراك بعيد للأمور، وصلابة في الحق، وكان متواضعًا حازمًا صابرًا، قليل الكلام، كثير العمل؛ ولذلك فقد كان الأصلح لتولي هذا الأمر في ظل الظروف التي مرت بها الجماعة آنذاك.
- لا يمكن المقارنة بما لها الآن، فبالفعل كان هناك عمل سياسي في الجامعة وتواجد للأحزاب, والقوى السياسية, ونشاط حزبي مسموح به، وانتخاب لمدراء الجامعة وعمداء الكليات، وانتخابات طلابية نزيهة, وليس كما يحدث الآن.
- ولا شك أن (الإخوان) كانوا القوة المسيطرة في الجامعة، مع وجود عناصر من الوفديين واليساريين دون وجود أي صراعات بيننا, ولكن أغلب الاتحادات الطلابية كان تشكيلها من (الإخوان)، وكنت عضوًا في اتحاد الكلية والجامعة أيضًا، ومارس طلاب (الإخوان) دورًا كبيرًا في محاربة الإنجليز في القناة، وامتلأت معسكرات التدريب بطلاب الجامعة, وكان ممن استشهدوا الإخوة: "عمر شاهين"، و"أحمد المنيسي" من كلية الطب، و"عادل غانم" وغيرهم, وقد كان المناخ السياسي في الجامعة آنذاك قادرًا على خلق نماذج بارزة في العلم والخلق والسلوك, والوضع الجامعي، أفضل بكثير مما هو عليه الحال الآن.
- حُكم عليكم بعشرين عامًا خلف القضبان؛ فماذا كانت التهمة؟
- في أواسط عام 1954م بدأت الاعتقالات في صفوف (الإخوان)، واتسعت بعد حادث المنشية بصورة كبيرة في مختلف المحافظات، واستغل النظام آنذاك الحادث في اعتقال جموع غفيرة من (الإخوان), والغريب أن بعض من تم اعتقالهم قبل الحادث وُجِّهت لهم اتهامات من حوكموا بسبب المنشية، وهذا ظلم فادح؛ حيث تمت محاكمة أشخاص بتهمة في إطار حادث كانوا معتقلين قبل حدوثه?! ومن هؤلاء الأستاذ "محمد مهدي عاكف"، الذي حُكم عليه بالإعدام وكان معتقلا قبله!
- وفي مارس ويونيو عام 1955م اعتقل النظام المئات من (الإخوان) بتهمة تمويل أسر المعتقلين! وكان توجهًا غريبًا؛ فكيف تعتقل أناسًا فقدت أسرهم عائلها ومورد رزقها، وتم إيقاف المرتبات التي كانوا يتقاضونها، ثم تترصد لكل من يساعدهم بتهمة التمويل؟!
- ماذا بشأن الأحكام التي صدرت ضدكم؟
- للأسف كان هناك أنواع من القهر، فالمحاكمة كانت أمام محاكم عسكرية، وكان إحساس لدينا بأن هناك قائمة بالأحكام جاهزة ضدنا، وبالفعل صدرت الأحكام بحق (الإخوان)، الذين تم اعتقالهم منذ عام 1954م، وتراوحت ما بين خمس سنوات وحتي الأشغال الشاقة المؤبدة والإعدام، وتم ترحيل دفعات كبيرة لطرة والقناطر وسجون أخرى في الصعيد، والبعض بقي في السجن الحربي, وقد نالني حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة منذ عام 1955م، ولم أخرج إلا في عام 1974م.
- كشاهد عيان على ما كان يحدث خلف أسوار السجن الحربي.. ماذا تقول عن تلك الفترة؟
- مكثت في السجن الحربي ثلاثة شهور قبل المحاكمة، ذقنا خلالها أنا وإخواني شتى أنواع التعذيب تحت إشراف مسئولي الداخلية، وقد مات بالفعل أناس بسبب ذلك، أذكر منهم "محمد الديب"- رحمه الله.
- فقد كانت حصص التعذيب يومية من المساء حتى الصباح الباكر؛ حيث كان يتم التحقيق تحت سياط التعذيب بعد المغرب، وعلى سماع أغاني "أم كلثوم" وغيرها، فقد كانت السياط والكرابيج تشرّح الأجساد وتلهب الجروح, وقد تعفن جسد أحد إخواننا بسبب كثرة الضرب بالسياط مع غياب أي رعاية صحية، فلم يكن موجودًا سوى زنزانات بشعة، مخصصة للتعذيب، وغرف للصعق بالكهرباء، وأخرى مليئة بالماء، يوضع فيها السجين حتى أنفه وأجساد معلقة على (العروسة) تنهال عليها السياط في السجن الحربي، الذي كان سلخانة بالفعل للتعذيب، يقوم به زبانية، أذكر منهم أسماء، مثل: "عبد المقصود"، و"أمين"، و"شعبان" وغيرهم, كانت لهم شهرة في دنيا التعذيب، وكان "حمزة بسيوني" يشرف على ذلك، ويقول: "أين ربكم، وأنا أسجنه?" (!) فالحال قد وصل به وبغيره إلى التبجح والتكبر على الله- سبحانه وتعالي.
مذبحة طرة
- أعرف أنكم ممن نجوا من مذبحة (ليمان طرة) الشهيرة؛ فماذا حدث؟
- انتقلنا بعد السجن الحربي إلى (طرة)، وكنا نتكبد المشقة في العمل بالجبل، فهناك ما يُسمى بمقطوعية لابد من إنجازها، وإلا فالعقاب والتأديب، هذا بالإضافة إلى التضييق الذي كنا نلاقيه من إدارة السجن في الوقت الذي كان معنا في العنبر مساجين يهود، متهمين في أحداث تفجيرات بعض دور السينما، إلا أنهم كانوا يعاملون معاملة حسنة، ويقدم لهم ما يريدون, بينما كنا نعامل بصورة قاسية، ويتم تفتيشنا بصورة مهينة، وتتطاول إدارة السجن على من يزورنا، وقد حدث احتكاك مع الأهالي الزائرين قبل الحادث، وتم تحويلهم إلى قسم الشرطة، كما تضاعف التضييق علينا؛ وهو الأمر الذي جعلنا نطالب بتدخل المسئولين للتحقيق في ذلك، فقد كان هناك أدلة على تهديد حياتنا؛ ولذلك طلبنا من إدارة (الليمان) عدم خروجنا للعمل في الجبل في أول يونيو 1957م، وأن تضمن لنا حماية أرواحنا، إلا أن مدير السجن- وكان يُدعى "سيد والي"- جاء ومعه كتيبة السجن تحمل الجنازير والسلاح، وشعرنا بنيات مبيتة لإجبارنا على الخروج للجبل واغتيالنا، بزعم أننا كنا نخطط للهروب؛ ولذلك أخبرنا مدير السجن بأننا لا نرفض العمل، ولكن نريد تأمين حياتنا وحضور النيابة أو أحد المسئولين، فأمرنا أن ندخل الزنزانات، وتم إغلاقها علينا، وبعد فترة من الوقت- وأذكر أن الحادث كان يوم السبت في أول يونيو من عام 1957م- بدأت بنادق كتيبة السجن تحصدنا الواحد تلو الآخر، وتم فتح أبواب كل زنزانة على حدة، وأجهزوا على من فيها بالعصي وغيرها، واستشهد البعض بالرصاص، والبعض من كثرة الضرب بالعصي الغليظة، ومن أصيبوا اصطحبوهم- بعد معركة بشعة بين طرف مسلح بصورة كاملة والآخر أعزل تمامًا- وأجهزوا عليهم في أثناء خروجهم لمستشفي الليمان، وأذكر ممن استشهدوا:
- الأخ "أحمدي عبده متولي"، وكان طالبًا في كلية الزراعة، والأخ "مسعد شوقي"، والأخ "مصطفى حامد"، وكان طالبًا في الثانوية العامة، و"سيد صوان" من المحلة، ولا تسعفني ذاكرتي الآن لتذكر باقي الشهداء، الذين وصل عددهم إلى 21 شهيدًا و23 مصابًا، أفلتوا من القضاء عليهم، أذكر منهم الأخ "أحمد رمزي"، الذي أصيب برصاصة في جانب فمه، وخرجت من رقبته، وكُتبت له الحياة، أما أنا فقد شاء الله ألا أكون في الزنزانات الأولي، التي انهمرت عليها النيران تحصد من فيها، إلا أننا رأينا إخوانًا لنا يستشهدون أمامنا في جريمة بشعة، بالتأكيد كان للداخلية دور فيها، وباركت هذا العمل، كما وصل إلى علمنا فيما بعد، وأذكر "أحمد صالح داود" (من عناصر المباحث المشهورة آنذاك)، والنقيب "عبد اللطيف رشدي"، و"عبد العال سلومة" (من ضباط الليمان)، و"سيد والي" (مدير السجن)، وهم أسماء بارزة في ارتكاب مذبحة (طرة).
- ماذا حدث بعد المذبحة؟ وكيف كان شعوركم إزاء ذلك؟
- كان هناك تسليم مطلق لله- عز وجل- وأن ما حدث في طرة لم يوهن من عزيمتنا وإيماننا بالله، فهي أمور ابتلى الله بها عباده، ولكن لماذا هذا العدوان الفاحش على أناس عزل لم يفعلوا شيئًا، حتى يصل الأمر إلى ارتكاب مجزرة ضدنا، سوى الرغبة في القضاء على أناس يقولون: "ربنا الله"؟!
- أما بشأن ما حدث بعد انتهاء المذبحة، فقد تم ترحيلنا إلى سجن القناطر، واستقبلنا بحفاوة منقطعة النظير بالضرب بالكرابيج والعصي، فكانت ليلة لا تُنسي؛ حيث كنا في حال يُرثى لها، ورغم ذلك كان التعذيب وجبة شبه يومية، وهناك حفلة ضرب لنا في الذهاب والإياب لدورة المياه أو غيرها إلى أن هدأت الأمور بعد شهور بعض الشيء, وفي عام 1958م تم ترحيلنا إلى سجن الواحات حتى عام 1964م، ثم إلى سجن (قنا)؛ حيث كان "خروشوف" (رئيس الاتحاد السوفيتي) قادمًا في زيارة لمصر.
- ويقال: إنه اشترط الإفراج عن الشيوعيين المعتقلين، وكان من المحرج للنظام أن يفرج عنهم ونبقى في سجن الواحات، فقاموا بترحيلنا إلى سجن (قنا)، وأفرجوا عن الشيوعيين، وقضينا هناك قرابة عشر سنوات حتى عام1974م، وكانت إدارة السجن تعتبرنا معارضين، يجب التضييق عليهم, إلا أنه بعد حدوث النكسة فوجئنا بمدير السجن يأتي إلينا، ويطلب منا أن ندعو للبلد قبل أن تضيع، فالحال بالفعل كان يدعو للرثاء، وكشفت النكسة الدعاية الكاذبة التي كان يجري ترويجها، وزيف الشعارات التي كان يرفعها، وبدأ الشعب يفيق، حتى إن حراس السجن بدءوا يسألون: ماذا جنى هؤلاء؟ ولماذا نعذبهم؟ وكانوا يطلبون منا الدعاء لهم وللبلد.
- ما حقيقة مساومتكم بالإفراج عنكم مقابل تأييد "عبد الناصر"؟
- بدأت الضغوط علينا في سجن الواحات، وعلى أهالينا أيضًا؛ لتوقيع أوراق التأييد للحاكم، وهذا- بالتأكيد- سيعقبه خطوات أخرى، فالتأييد لم يكن كافيًا، بل لابد أن يتنصل المؤيد من فكره، ويدين ما تفعله الجماعة، ثم يُطلب منه أن يتجسس على الآخرين، فهذا هو الثمن الذي يجب دفعه لإثبات التأييد والولاء للحكم, والبعض رضخ لذلك، فالمحنة كانت قاسية، ورغم ذلك لم يفرج عنهم إلا بعد سنوات! ولكن كان هناك من رفضوا ذلك، وكان يشار إليهم بعد الإفراج عنا من ضباط السجن بأن هؤلاء هم الرجال الذين ثبتوا على موقفهم.
- لماذا كانت إدارة سجن (قنا) تتخوف منكم لدرجة أنها فضلت باقي المسجونين عليكم؟
- يعد سجن (قنا) سجن المبعدين، وبعض إخواننا عذبوا فيه, فالمعاملة كانت سيئة، فقاموا بتوزيع (الإخوان) على زنازين تجار المخدرات والقتلة في وقت من الأوقات، في محاولة لإفساد (الإخوان)، ففوجئوا بعد فترة أنهم بدءوا يصلون ويصومون يومي الاثنين والخميس، وتغيرت طباعهم وأخلاقهم، فخشيت إدارة السجن من ذلك، فقامت بفصلهم عن (الإخوان)، ورغم ذلك فبعض الضباط كانوا إذا سنحت لهم الظروف يعاملوننا معاملة حسنة فهم يطبقون الأوامر التي تأتي لهم، ولا يجد مبررًا لذلك سوى أنه عبد المأمور، وأذكر أحد السجانة- ممن كانوا متعاطفين معنا- كان يقول: "إننا لم نرَ منكم شيئًا معيبًا، وأنتم في ابتلاء، ولن يتخلى الله عنكم"!
ختم القرآن
- كيف كنتم تقضون يومكم في المعتقل طيلة عشرين عامًا؟
- في (طرة) كنا نخرج للعمل في الجبل الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية ظهرًا، ثم العودة إلى الزنازين وإغلاقها علينا حتي اليوم التالي, ويتم توزيع الوجبات علينا، والمكونة من ثلاثة أرغفة لكل فرد، و (أروانة) فول أو عدس لكل زنزانة، وللأسف فقد كان الفول مليئًا بالسوس لدرجة كبيرة، حتى كان البعض يمزح بأننا نأكل سوسًا بالفول..
- والحمد لله، حفظت والكثير من (الإخوان) القرآن في السجن، وكنا نختمه معًا مرات عديدة، وغير ذلك لم يكن هناك أي وسائل للترفيه في السجن، ومن الممنوع أن تذهب لمكتبة السجن، أو تأخذ فرصة لممارسة الرياضة, فلا يتحمل مثل هذا العذاب إلا من كان مؤهلاً نفسيًّا وقلبيًّا لهذا الأمر, وقد مرت علينا بفضل الله السنوات كلحظات.
- كيف كانت حياتكم بعد الإفراج عنكم؟
- تم الإفراج عنا عام 1974م بقرار من "السادات"، الذي كان يرغب في كسب الشارع والإخوان، وقد بلغت من العمر 44 عامًا، وأخذت أبحث عن وظيفة، فقد نجحت في دبلومة معهد التربية في (التيرم) الأول، ثم صدر قرار باعتقالي، إلا أنني استطعت اجتياز امتحانات (التيرم) الثاني، وأنا هارب والأمن يترصدني، وشاء الله ألا يقبضوا عليَّ حتى اجتزت الامتحانات بتقدير (جيد جدًّا)، وتم اعتقالي في أثناء إحدى زياراتي لبلدتي (فاقوس)، وبعد انتهاء فترة اعتقالي ذهبت إلى وزارة التربية والتعليم للبحث عن ملف تعيينات دفعة 1955م، فلم أجده، ووقع في نفسي أن هناك أيدٍ خفية وراء ذلك، وقبل خروجي من الوزارة عدت فطلبت من الموظف المسئول ملف تعيينات دفعة 1956م، فوجدت خطاب فصل خاصٍّ بي، وما يقول بأن فصل فلان و7 آخرين لسوء سلوكهم، رغم أن قرار الفصل المذكور صدر بعد أيام من التعيين، وذلك حسب التاريخ المؤرخ، وما دام لي خطاب فصل، فهذا يعني وجود خطاب تعيين، وبالفعل اعتبرته الوزارة دليل تعيين لي، وأعادوا توظيفي، ثم طلبت مساواتي بزملائي، فقدموا لي تسوية مادية، ولكني كنت أريد تسوية أدبية، فقالوا لي:
- "ابحث عن أحد خريجي دفعتك لنحدد الدرجة الوظيفية، التي تريدها"، ووجدت أحد زملاء دفعتي بمحافظة البحر الأحمر، وصل إلى درجة موجه ثانوي، فقاموا بتسويتي مثله! وكان ذلك من تيسير الله، فإذا أراد الله لك خيرًا فلو اجتمعت الأمة على أن تمنعه ما منعته، ثم تمت إعارتي لدولة الإمارات، وكان ذلك مقصودًا؛ حيث كانوا عندما يرغبون في إبعاد شخص يقدمون له إعارة للخارج, وبعد ذلك قدمت استقالتي لرغبتي في التفرغ للعمل الصحفي؛ حيث كنت أعمل في مجلتي (الدعوة) و (لواء الإسلام).
- في ظل استمرار احتفالات الدولة بالثورة لمدة عام، يُصرُّ البعض على القول بأن "عبدالناصر" لم يكن يعلم بما يحدث في سجونه!
- أنا لا أصدق، فكل ما يجري في البلد يجري بعلم حاكمه، وإذا كان ما يرددونه صحيحًا، فهذا لا يشرف حاكمًا, كما أن ضباط الثورة كانوا مشاركين في محاكمات (الإخوان)، ومن تمت محاكمتهم، مثل: "إبراهيم الطيب"- رحمه الله- و"يوسف طلعت"، وغيرهم كانت آثار التعذيب واضحة عليهم وهم أمام "جمال سالم" في محكمة الشعب, وكان إذا حاول أحد الإخوة ذكر ما حدث من تعذيب له يرفع الضابط رئيس المحكمة الجلسة، ويأمر بسحبه إلى السجن، ثم يتم تجهيزه للمحاكمة مرة أخرى! فهل يقال بعد ذلك إنه لم يكن يعلم بما يحدث، وقد تم إصدار أحكام بإعدام "عبدالقادر عودة"، و"يوسف طلعت"، و"إبراهيم الطيب", و"هنداوي دوير"، و"محمود عبداللطيف"، والشيخ "محمد فرغلي" في عام 1954م، بينما أعدم "سيد قطب"، و"طلعت هواش"، وغيرهم عام 1965م، وكنا سنحاكم في تلك القضية رغم أننا موجودون في الواحات 1964م, وقد أتوا بنا إلى (طرة) في 1965م ليضمونا إلى قائمة المتهمين، ولكنهم وجدوا الأمر مفضوحًا ومكشوفًا، فأعادونا مرة أخرى لسجن (قنا).
- كيف ترون ما يُثار حول الثورة وضباطها في ذكراها الخمسين؟
- هناك أخطاء كثيرة دون شك، وهناك حقائق، وما يحدث من احتفالات أشبه بزفة لم نخرج منها بشيء، فحتى الآن لم يؤرخ للثورة بشكل علمي وموضوعي، ولم تتكشف كافة حقائقها حتى الآن، ولم يتم توضيح إيجابياتها وسلبياتها، فهناك من يطمس دور "محمد نجيب"، وينكر دور (الإخوان)، ويلصق التهم بهم بشأن حادث المنشية، الذي كان ملفقًا للإخوان؛ للقضاء عليهم، وكسب التأييد والتعاطف لـ"عبدالناصر"، ولكن انظر إلى حال الإنسان المصري في ظل رفع شعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؛ فهل طبق رجال الثورة بالفعل ذلك؟ وهل مصادرة الحريات، وترويع الناس، وانتهاك حقوق الإنسان هو الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية?! وهل استمرار المحاكمات العسكرية حتي اليوم لخيرة أبناء البلد له أي علاقة باحتفالات الدولة بالثورة?! هذه تساؤلات تحتاج إلى إجابة من القائمين على الأمر.
دور (الإخوان)
- بماذا تفسرون الإصرار على إغفال دور (الإخوان) في الثورة؟
- هناك مخاوف من إفساح المجال للإخوان، أو التحدث بصدق عن دورهم في الثورة؛ خوفًا من اكتسابهم مزيدًا من الشعبية، وللأسف فالنظام مُصِرٌّ على موقف ظالم ضد (الإخوان)، ليس له ما يبرره، وليس في صالح البلد والنظام نفسه، خاصة في ظل الظروف والأجواء الراهنة، التي وضعت فيها أمريكا النظم الحاكمة والشعوب في المنطقة في مواجهة حرب، صارت لا تفرق فيها بين حاكم ومحكوم، بل صارت تستهدف الجميع، ومن ثم لابد أن يتغير الأمر ويُفسح المجال لكل الآراء والقوى السياسية دون توجيه اتهامات بلا أي سند.
- والقول بأن (الإخوان) يعملون للاستيلاء على الحكم، إنما هو من قبيل الاتهامات الزائفة، فالحكم وسيلة وليس غاية أمام الله وأمام الشعب، والوصول إليه يجب أن يكون بالطريق الشرعي؛ أي من خلال انتخابات نزيهة حرة، يختار فيها الشعب من يختاره، ويمنح ثقته فيها لمن يراه أهلاً لها، وهو مسئولية بالفعل، ولكن يجب إشراك جميع التيارات والقوى السياسية، وإجراء انتخابات نزيهة دون تزييف إرادة الشعب؛ حتي يمكن إصلاح حال البلد.
- هل استطاع (الإخوان)- من وجهة نظركم- تجاوز آثار الماضي فيما يتعلق بعلاقتهم مع الناصريين؟
- بدايةً، فهذه مرحلة يجب تقويمها بصورة موضوعية، أما بشأن ما تطرحه فليس في ذهن (الإخوان) ثأر أو غيره، ومصلحة البلد هي الغالبة والراجحة، واليوم هناك تنسيق مع الناصريين, والناصريون حريصون على التنسيق مع (الإخوان) بعكس أحزاب أخرى نكصت على عقبيها؛ خشية غضب الحكومة، كما أن موقف الناصريين من القضية الفلسطينية موقف وطني، وأعتقد أن الانطلاق من مصلحة البلد يحتم أن نتعاون جميعًا، وفي هذه المرحلة بالذات؛ لتلافي خطر يهدد الجميع.
- هل راودكم أي إحساس بالندم بعدما يقرب من 20 عامًا خلف الأسوار؟
- ما حدث وجرى في سبيل الله، وما كان لله دام واتصل، وما عند الله خير وأبقى، نحن لا نقيس ما حدث بمقاييس الزمن، ولكن بمقاييس الدعوة ورضا الله- عز وجل- فهذه لحظات وأيام، نسأل الله أن تكون في سبيله، وقد عوضنا الله عنها، ونعمه علينا لا تُعد ولا تُحصى داخل وخارج السجن, وهذا يشعرك أنك على الحق، ولتذهب الدنيا بما فيها، وليبقى ما يرضي الله، فهو سبحانه الغاية، وهو أعظم مأمول وأكرم مسئول.
* نقلاً عن جريدة (آفاق عريبة)- 29 من أغسطس 2002م.
المصدر
- حوار: "عبد المنعم سليم جُبَّارة".. وقصة أعوام خلف القضبان موقع اخوان اون لاين