هل سيطلع العصاميون الإصباح؟!

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
هل سيطلع العصاميون الإصباح؟!
د. الواعى.jpg

بقلم: أ. د. توفيق الواعي

نعم هناك أفراد وأناس نابهون, وآخرون فاشلون خائبون, ولكل منهم خصائص وملامح، كما أنه توجد هناك شعوب ناهضة وسابقة, وأخرى متقاعسة ومتخلفة, ولكل منها أفكار ومناشط, وتصورات ومذاهب, تستقيم أو تنحرف, تضيء أو تخبو حسب استعدادات الأفراد والأشخاص وقدراتهم النفسية والعقلية واجتهاداتهم الاجتماعية والحياتية, واستعداداتهم الشخصية والفكرية, تلك التي جعلت المجتمع يطلق عليه أوصافًا صارت أمثلة تصور حقائق, وتبرز أوصافًا ومناشط, بجهد الإنسان نفسه, وعمله وسعيه دون سواه؛ حيث يطلقون على النابهين الذين يبرزون ويبذون غيرهم (عصاميون) فأطلقت الكلمة على كل من ينجح ويصل إلى مراتب عالية بجده واجتهاده، ولا يعتمد في ذلك على غيره من عشيرة أو قبيلة, أو حتى إرث, وقد أشار إلى هذا الجهد الناهض قوله تعالى في أصحاب تلك الطبائع ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).

وقد نسب المفهوم العام للكلمة إلى عصام بن شهبر الجرمي حاجب النعمان بن المنذر الذي نوَّه به الناس؛ لأنه بعقله وجهده وعمله العظيم صار المقدم في الدولة, والموجه لها, فنوَّه به النابغة الذبياني؛ حيث قال:

نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكر والإقداما

وجعلته ملكًا همامًا فتعالى وجاوز الأقواما

ومن هنا اتخذت نفس عصام مثلاً لمن يرفع قدره بنفسه لا باكتساب غير متكل على الآخرين من قومه، ولا على مفاخرهم، وعكسها كلمة "عظامي"، أي يعتمد على عظام أجداده.

أما في عصرنا الحديث؛ فإن مفهوم الكلمة قد تغيَّر رغم ثبات القالب اللغوي، فببساطة وبصورة مبدئية يمكن أن أعرف العصامي على أنه "شخص يؤسس عملاً حرًّا خاصًّا به، أو ينمي عملاً اشتراه أو ورثه. وما يميز هذا الشخص هو طموحه وإنجازاته الواضحه والمختلفة عن المألوف في محيطه".

ولكن العصامية ذات الصبغة الاقتصادية أخذت الحيز الأكبر في هذا المصطلح، وحتى نضع التعريف العلمي للعصاميين والمنطلق من واقع التجربة، ونربط ذلك بالمفهوم العالمي، فيمكن أن نعرف العصاميين كالتالي:

"بأنهم أشخاص غير نمطيين يؤسسون مشاريع جديدة، أو ينمون أعمالاً موجودة، مشاريع وأفكار رائدة فريدة من نوعها أو اعتيادية ولكن بطريقة مختلفة، يتميزون بأنهم باحثون عن النجاح، متفوقون، مجازفون، رواد، مبادرون، مبتكرون، يشيدون مشاريع أكبر منهم، يقتنصون الفرص ويحدثونها لغيرهم".

ونحن هنا في الأمة العربية نستطيع أن نشير بالفخر والاعتزاز إلى عدد كبير من الجيل العصامي الذين أخرجتهم هذه الصحراء القاحلة، وحققوا ما حققوه من النجاح في مجال الأعمال، وكثير منهم يبذون أقرانهم في أي مكان في العالم.

ولأنهم كثر فسأكتفي بمثالين فقط، ولأنه أتيح لي مؤخرًا الاستماع، أو الاستمتاع بمذكرات الشيخ سليمان الراجحي الصوتية، ورغم كثرة الأمثلة التي تدل على عصاميته، إلا أنني سأتوقف عند مثل واحد فقط: عندما كان عمر الشيخ سليمان 10 سنوات كان يعمل حمَّالاً في سوق الخضرة، رأس ماله "زنبيل" من الخوص، يحمل بضاعة المتسوقين إلى بيوتهم، مقابل مبلغ نصف قرش، ويذكر في مذكراته أنه في إحدى المرات حمل "كبد حاشي"، والزنبيل على رأسه، وإلى أن وصل إلى بيت صاحبها، نزفت الكبد دمًا على غترته وثوبه الوحيدين، ولذلك ذهب إلى ما يسمى الحسو (وهو مكان البئر بجانب المسجد)، وكان الموسم هو فصل المربعانية وهو الأبرد، وقام بغسل ثوبه وغترته، ثم لبسهما، وأخذ يركض في الشارع ذهابًا وإيابًا؛ لكي تنشف ثيابه سريعًا، ويتحاشى قسوة البرد, هذا هو الرجل الذي أصبح فيما بعد صاحب المليارات والتجارات والأراضي الشاسعة.

وفي لقاء فهمي هويدي مع أردوغان قال:

كان ذلك هو لقائي الثاني مع الرجل، إذ التقيته في المرة الأولى عام 1994 م حين انتُخب رئيسًا لبلدية إسطنبول ممثلاً عن حزب "الرفاه"، وجرى الحوار آنذاك حول مشكلات المدينة ومحنتها، بعد أن شاع الفساد في إدارتها وتدهورت مرافقها.

لم يكن يتحدث كعمدة منتخب فحسب، وإنما كعاشق للمدينة وحافظ لشوارعها، التي اضطرته ظروفه العائلية في سنه المبكرة؛ لأن يتجول فيها بائعًا للبطيخ والسميط والمياه الغازية؛ لكي يوفر مصروفات تعليمه التي عجز أبوه عن احتمالها، إذ كان الأب الذي ينحدر من أصول جورجية يعمل جنديًّا بسيطًا في خفر السواحل.

وهي المهنة الوحيدة التي أجادها منذ نزحت أسرته من شواطئ البحر الأسود؛ لكي تستقر في إسطنبول، بعدما قتل الجد في سنة 1916م أثناء صد الحملة الروسية والأرمنية التي استهدفت أراضي الدولة العثمانية في سنوات أفولها.

ولا أعرف إن كان لقب الأسرة له علاقة بهذه الخلفية أم لا، ولكن صاحبنا "الطيب" ظل يعرف طوال الوقت باسم "أردوغان" الذي يعني في اللغة التركية "الفتى الشجاع" ("أر" تعني القوي أو الشجاع و"دوغان" هو الطفل).

استطاع الطيب أن يكمل تعليمه حتى التحق بإحدى المدارس "إمام وخطيب"، شأنه في ذلك شأن غيره من أبناء الأسر المتدينة؛ لكنه تخصص في الاقتصاد وإدارة الأعمال، وتخرَّج في المعهد العالي الذي صار الآن جامعة "مرمرة".

ثم ألقى بنفسه في خضم العمل السياسي، تاركًا ملاعب كرة القدم التي لمع نجمه فيها، وتحوَّل إلى عنصر ناشط في حزب الرفاه الإسلامي الذي أسسه أستاذه نجم الدين أربكان؛ الأمر الذي أوصله إلى منصب عمدة إسطنبول، وقاده بعد ذلك إلى السجن في سنة 1998 م؛ حيث أمضى فيه ستة أشهر بعد اتهامه بالإساءة إلى العلمانية.

ثم كان فيما بعد حاكم تركيا ومنقذها وفتاها الشجاع وقائدها, ومخلصها من الفساد النفسي والاقتصادي والتعليمي الذي كاد أن يودي بها اقتصاديًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.

هؤلاء هم العصاميون الذين ترفعهم أعمالهم وتقودهم إلى المجد, لا هؤلاء المتعطلون الذين يهلكون أنفسهم وأممهم ويلهيهم الفساد, ولهذا انعدم الإبداع في العالم العربي، وولت الشفافية، وضعفت وسائل المراقبة؛ فانتشرت الجريمة والرشوة وشراء الذمم واستغلال المناصب لأغرض شخصية, وتحوَّل الإعلام من أداة للتوجيه وكشف الانحرافات إلى أداةٍ للانحراف ووسيلة للفساد, وضاعت جهود المخلصين في العفن وتمرَّغت في الأوحال وضاع كل شيء, وتخبط الناس وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا, وانطفأت المصابيح، وانكسفت الشموس وعم الظلام, واحتار الناس, واختلط الحابل بالنابل، وقتلت كل أمة عصامييها بل وسحلتهم وشردتهم لا في سبيل شيء, أو ثمنًا لشيء؛ ولكن رغم كل هذا الضباب والظلام سيطلع الفجر ويظهر الإصباح، ويصحو العصاميون على حي على الفلاح، ويفرح المؤمنون بنصر الله.

المصدر


قالب:روابط توفيق الواعى