نموذج العراق الديمقراطي يتحول إلى فوضى في المنطقة!
أحدثت التفجيرات المروعة التي هزت بغداد عشية حلول شهر رمضان المبارك... وما سبقها من استهداف نائب وزير الدفاع الأمريكي ومهندس الاحتلال "وولفوتيز" وما لحقها من تفجير أمام مقر الصليب الأحمر الدولي... أحدثت تحولاً خطيرًا في مُجريات الأحداث داخل العراق وعلى مستوى المنطقة كلها.
لقد بات وشيكًا اقتناع الأغلبية بأن النموذج الديمقراطي- الذي بشر به المحافظون الجدد الأمريكيون في العراق؛ لكي تحتذي به نظم المنطقة كلها ودول الجوار بالذات والذي سيحرك الركود السياسي والتخلف الديمقراطي- يؤذن أن يتحول إلى كابوس يجثم على صدور العراقيين وفوضى عارمة تهز أركان المنطقة كلها، ويكتوي بها الجميع، حيث تبادر كل الأطراف إلى تغيير قواعد اللعبة دون النظر إلى التداعيات الجسيمة التي سوف تهزُّ الاستقرار اللازم لإحداث أيِّ تحوُّل ديمقراطي أو تغيير سلمي.
لم يستهدف الأمريكيون في الأصل إلا مصالحهم، ولم- ولن- يكونوا جادين في إحداث أية تحولات ديمقراطية حقيقية، خاصةً إذا استيقنوا أن الشعور العام بين شعوب المنطقة كارهٌ ومعادٍ لسياستهم في شأن القضية الفلسطينية أو باحتلال العراق أو بتأييد النُّظُم المتكدِّسة والفاسدة، ويبدو أن هذا الشعور يصب في صالح الاتجاه الإسلامي بكل تنويعاته؛ لأنه في صدارة المقاومة ضد السياسات الأمريكية، ومن العسير تصور أي التقاء بين الإدارة الأمريكية حاليًا وبين أي اتجاه إسلامي.
إن أي انتخابات حرة ونزيهة- في ظل أي إصلاح ديمقراطي جاد- ستأتي ببرلمانات قوية ذات أغلبية إسلامية ووطنية وقومية، رافضة بدرجات متفاوتة للسياسة الخارجية الأمريكية.
البديل المطروح- ولعله الهدف الحقيقي من البداية- إحداث فوضى عارمة في المنطقة؛ تهز العروش الراسخة، وتزلزل الأفكار والتصورات الثابتة، وتغير الحدود الموروثة منذ الحقبة الاستعمارية، وتصيب أرواح الناس وروحانياتهم في مقتل.
في ظل ذلك نفهم الإصرار على وصف ما يحدث في العراق بأنه الجبهة المركزية الأولى في الحرب على الإرهاب، ونفهم تحويل ساحة العراق إلى ميدان تلعب فيه كل أجهزة المخابرات، بحيث تختلط الأوراق ولا يفهم الوطن العربي سر استهداف الأمم المتحدة ثم الصليب الأحمر من جانب مختفٍ ومبهمٍ لا يُعلن عن نفسه مثلما كانت تتوالى في البداية بيانات المقاومة العراقية، وكذلك اختفاء شرائط "صدام حسين" ثم ظهور شرائط "أسامة بن لادن" من جديد، ثم اختفاء الجميع ولو إلى حين.
وفي غضون ذلك تبادر دولة العدو الصهيوني باستهداف سورية وقصف معسكر مهجور في (عين الصاحب) آملة في استفزاز قد يؤدي إلى انفجار جديد وفتح جبهة أخرى؛ لعلها تخفف من حدة الصراع على جبهات أخرى أو تخفف مأزق "شارون" الداخلي والخارجي.
ومع كل ذلك تأتي استجابات النظم العربية للضغوط الأمريكية في الشأن العراقي- ثم في الملف التغييري- متفاوتةً وخجولةً، ولا تؤدي إلا إلى مزيد من التردد واليأس من إحداث إصلاح جاد، بين حوار وطني في مصر يستبعد أهم قوة سياسية، وليس له أهداف محددة يجري في إطار تجميلي أو إقرار لحقوق النساء في المغرب بشأن مدونة الأحكام الشخصية في قضايا ملتهبة، ثار حولها جدل كبير، جاءت في شكل حلول وسطية، أوالاعلان عن انتخابات جزئية محلية أو بلدية في السعودية، وما حدث من تظاهرات محدودة يتم حصارها ومنعها بالقوة، أو استمرار القمع المنظَّم في بلاد أخرى.
ويأتي الاجتماع التشاوري لوزراء خارجية دول الجوار العراقي، والتردد السوري في دعوة وزير خارجية مجلس الحكم الانتقالي، وامتناع الأخير عن قبول الدعوة المتأخرة؛ ليدلل على أن الجميع ينتظر حسم الملف العراقي أولاً قبل الشروع في أية إصلاحات.
وهذا الانتظار سيطول ويطول؛ لأن العراق يتجه إلى فوضى لا تَحسم شيئًا مثلما شجع الأمريكيون والفرنسيون والأوروبيون اتجاه الجزائر إلى فوضى أهلية دمرت كل شيء وأزهقت أرواح حوالي150 ألف من شباب ونساء ورجال الجزائر تحت سمع وبصر الجميع، رغم أن السبب هو انتكاسة ديمقراطية تمثلت في عدم الاعتراف بنتائج أول انتخابات حرة تشهدها الجزائر، ولو تم الاعتراف بها لقلَّت الخسائر إلى حد كبير.
ويقيت الجزائر دولة شبحية لها رئيس، بل توالى 4 رؤساء عليها، وفيها انتخابات مثل بقية دول المنطقة، وتتوالى فيها الحكومات، ولكن تأثيرها الإقليمي الهام، والدولي الواعد، والإسلامي المنتظر تبدَّد بعد عِقد من الزمان، فضلاً عن تردي أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
الدور الآن يجري في العراق حيث تم تفكيك المؤسسات التي كانت قادرةً على حسم الفوضى والإمساك بزمام الأمور كالجيش والشرطة، ويتم مطاردة الحزب البعثي الذي كان متغلغلاً في كل مرافق البلاد، وجاءت المقاومة وتصاعدت نتيجة الفشل الأمريكي في إدارة البلاد، وازداد المأزق الأمريكي الذي توقعناه منذ بداية الاحتلال، وغاب الأمن والاستقرار، وأصبحت مظاهر الفوضى العارمة هي سيدة الموقف.
وفي ظل الفوضى يتنامى الشعور الديني- خاصة الإسلامي- فيتجه الناس إلى المساجد، ويتجهون إلى الله، ويتولى الأئمة القيادة، ويتزايد الشعور بالحاجة إلى تنظيمات جديدة تُلبِّي حاجات الناس الاجتماعية، ولا يقدر على ذلك إلا الحركات الإسلامية بخبرتها العريضة.
وفي ظل الفوضى تصبح العشيرة والتكوينات القبلية هي الملاذ الآمن الذي يحقق الحماية والمنعة... الفوضى العراقية تجبر الأمريكيين على البقاء، كما أعلن الرئيس "بوش": يريدوننا أن نغادر، ولن نغادر.." ويدور مسلسل يراهن عليه الكثير، مزيد من القتلى، مزيد من الإصرار على البقاء، مزيد من المقاومة، تدخل أطراف أخرى مخابراتية، فوضى عارمة، وهكذا بات ينتظر الأمريكيون أيامًا مأساوية عديدة.
الفوضى العراقية تريح أدمغة الحكام العرب فيلتقطون الأنفاس، وينتظرون ما سيحدث في العراق، ويحاولون التجمل أمام الأمريكيين، ولكن يبدو أن هؤلاء لن يتركوهم يرتاحون كثيرًا، ويصرون على فتح كل الجبهات.
الفوضى العراقية تصيب المواطن العربي بالأسى والذهول، وتجعله يقارن بين استقرار زائف في ظل حكم ديكتاتوري مثلما في العراق تحت "صدام" وبين احتلال يقود إلى الفوضى؛ لأنه يستدعي المقاومة المشروعة التي تفتح الأبواب أمام كل الاحتمالات لتدخل أطراف أخرى.
ولكن الأمل يبقى في أن تتحول النخب العربية إلى تفكير جديد يخرجنا من حالة الفوضى إلى بعض الاستقرار، فنلتقي جميعًا على أجندة واضحة:
- تدعم حق الشعب العراقي في رفض ومقاومة الاحتلال الأمريكي.
- تسعى إلى حماية العراق أن يكون ساحةً لفوضى عارمة.
- تهدف إلى منع انتشار الفوضى إلى بقية المنطقة العربية.
- تعمل من أجل إصلاح ديمقراطي حقيقي وجاد يعطي الشعوب العربية حقها المشروع في انتخابات حرة نزيهة لا تقصي أحدًا، ولا تمنع أيَّ قوة سياسية سليمة من حقها في التنظيم والتعبير، وفي غضون ذلك كله يكون محاصرة الفوضى القائمة في [العراق] ومنع انتشارها إلى بقية المنطقة من أولى الأولويات؛ فقد جاء إسقاط المروحية الأمريكية- وسقوط 15عسكريًا أمريكيًا ضحايا للسياسة الأمريكية الخرقاء في العراق- ناقوس خطر لعله يجعل الشعب الأمريكي قادرًا على حصار المتطرفين في إدارته خاصة وزارة الدفاع.
ولعل التعويل على دور أوروبي أو دولي يتعاظم مع الوقت الذي يزداد فيه المأزق الأمريكي، ولعل المقاومة المتصاعدة والذاهبة إلى تأجج يجبر الأمريكيين على الإسراع في تشكل حكومة عراقية قادرة على ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار وإجلاء الاحتلال.
ينبغي على الجميع أن يسعى لمنع انتشار الفتنة في العراق، وأن يلملم جراح العراقيين الذين عانوا الأمرَّين تحت الاحتلال، بعد أن تصور البعضُ أنهم سيلتقطون الأنفاس بعد الحكم الدموي لـ"صدام".
العراق ميدان تجريب ومسرح للاختبارات، وعلى الحكام العرب أن يدركوا أنه لا يمكن تأجيل الاستحقاقات الديمقراطية لأي سبب كان؛ لأنَّ تمتُّع الشعوب بالحرية هو أكبر ضمان لمنع الفوضى، ولتحقيق الاستقرار، وها هي تجربة العراق ماثلة، فماذا أغنت 3 عقود من الاستبداد؟!!
- من قيادات جماعة الإخوان المسلمين
المصدر
- مقال:نموذج العراق الديمقراطي يتحول إلى فوضى في المنطقة!إخوان أون لاين