نقاش:مجد البرغوثي
1. سيرة الداعية الشهيد القائد الشيخ مجد البرغوثي ) 1964-2008م) إعداد :عبدالرازق البرغوثي
الحلقات(1+2+3+4 )
إهـــــــــداْء
"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ً" صدق الله العظيم .
أهدي سيرة هذا الداعية الشهيد الشيخ مجد البرغوثي الذي قضى نحبه شهيدا في مقر المخابرات الفلسطينية يوم الجمعة 22/2/2008 ،إلى كل من لقي وجه ربه شهيدا على أيدي الحكام الظلمة منذ سيدنا يحيى عليه السلام وسعيد بن جبير رضي الله عنه، و إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، راجيا الله تعالى أن يجعلنا من الذين يشفع لهم الشهيد يوم القيامة .
- * *
مقــــدمـــــــــــــة
- ليست الغاية من كتابة هذه السيرة تحريض الشعب الفلسطيني و الأمة العربية و الإسلامية على السلطة الفلسطينية و مخابراتها ، بل إن الهدف الأول هو التعريف بشهيد قتل مظلوما ، و افترى قتلته عليه بعد استشهاده و لفقوا عليه الأكاذيب فعليهم ما يستحقون من غضب و انتقام من الله تعالى.
- و الهذف الثاني هو توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى الزمر الحاقدة في مقار المخابرات التي تتلذذ بما توقعه في أبناء شعبها من جرائم تصدرهم شهداء أو معاقين أو مجروحي الكرامة والمشاعر إذا كانت لا تزال تنتمي إلى هذا الشعب الحر الأبي المناضل .
- و إنه لمن الظلم و نكران فضل شهدائنا توجيه الاتهام إلى حركة فتح و نسبة ما يقع من جرائم، تلك الحركة التي حولت شعبنا من لاجئين إلى ثوار مطالبين بالحرية و العودة ، و حولت مخيماتهم إلى قواعد و معسكرات للتحرير ، فكان منها الأبطال الذين قاتلوا ألعدو الغاصب أرضهم و زرعوا الرعب في مغتصباته و بين أفراد مجتمعه المستورد .
فمن يذكر بالسوء الحفنة التي تستمرئ التنكيل بالمجاهدين من شعبنا ،عليه أن يذكر بالخير أبطالا جعلوا الشعوب الحرة في العالم تنظر إلى شعبنا نظرة احترام،أبطالا منهم أبو عمار و خليل الوزير و دلال المغربي و أبطال الكرامة و ميونيخ .
- و لعل هذه الكتابات تصب جميعا في كفّ أيدي هذه الزمر الباغية عن التنكيل بأبناء شعبنا ، فهو لا يستحق مثل هذا النكران لجميله فيما قدمه من شهداء و جرحى و أسرى طيلة قرن من الزمان .
- و كذلك فقد تؤدي هذه الكتابات إلى معاقبة المجرمين المتورطين في مثل هذه الأعمال الوحشية المشينة ، بما يهدئ مشاعر ذوي المتضررين من شهداء و جرحى و معذبين جسديا و نفسيا .
- و لا ينسى الكاتب أن يذكر رجالا من أبناء فتح من كتاب هذا المنبر الإعلامي؛ يشاركون بكتاباتهم أسرة الشهيد القائد الألم و يعبرون عن إعجابهم بأخلاقيات الشهيد و يدعون له بالجنة و المغفرة، و لأسرته بالصبر و حسن العزاء ، و يستمطرون اللعنات من الله و الانتقام ممن تسبب في تصفية الشيخ .
- تربط المؤلف بالشهيد مجد البرغوثي علاقة العم والوالد والأخ والصديق والتلميذ أحيانا والمعلم أحيانا أخرى، ومع ذلك فقد التزم المؤلف الموضوعية في نقل ما ورد من معلومات يعرفها هو شخصيا، أو تناقلتها ألسنة المقربين إلى الشهيد من إخوة المبدأ، أو علاقة العداوة من الذين تسربلوا بوصمة العار حين أقدموا على اقتراف جريمتهم بتصفيته بدم بارد لئيم حاقد, وشهدوا له فيما بعد بالصلابة و الرجولة ، فقد قال أحد العاملين في المخابرات الفلسطينية لأحد المعتقلين في محافظة سلفيت:" لقد كان الشيخ مجد رجلا صلبا بكل معنى الكلمة ، إنني سمعتهم في رام الله يقولون عنه إنه كان كنزا من الأسرار لم يستطيعوا استخراج أي شيء منها ".
- في حياته كان الشيخ يذكر الله أمام ملأ يقدّر بثلاثمئة مصلّ في مسجد قريته فذكره الله تعالى أمام ملأ أكبر و أعظم تجاوز مئات الملايين من البشر عبر فضائيات العالم بأسره .
في إحدى الانتخابات البرلمانية أنفق أحد المرشحين خمسة ملايين دينار على حملته الانتخابية و عند فرز أصوات الناخبين لم يحصل ذلك المرشح الا على خمسمئة صوت ، فكان يحق لذلك المرشح الفاشل و لذوي النفوس المريضة عندما رأوا آلاف المشيعين و المعزّين من أحباب الشهيد و أصحابه بل ممن لم يكن يعرف الشهيد من شمال الضفة وجنوبها، الذين أمّوا قرية كوبر تحت سيل المطر و طيلة خمسة أيام لتقديم واجب العزاء ،و استمر توافدهم على بيت الشهيد بعد ذلك شهرا أو يزيد، يحق لهم أن يتساءلوا "كم دفع الشيخ مجد لهذه الأعداد الهائلة من مال فألف قلوبهم ليؤموا بيت عزائه بحافلات مكتظة بالرجال و النساء لا تكاد تفرغ حمولتها من الركاب حتى تعود فتمتلئ بهم مسرعين بالرجوع ليفسحوا المجال لوفود أخرى قادمة ، و كم أمضى أبناء عائلة البرغوثي من ساعات تحت الأمطار خارج ديوان العائلة إكراما و إفساحا للمعزين من خارج القرية لبدخلوا و يؤدوا واجب العزاء ، و كان أفراد أسرة الشهيد يقفون ربع ساعة و ربما نصف ساعة لا يجلسون على المقاعد إلا لثوان معدودة و هم يستقبلون الفوج الواحد من المعزين . واختصارا للقول نقول ما قاله تعالى"وألقيت عليك محبة مني " فنم يا شهيدنا قرير العين مبتسم الثغر، سعيدا بما نلت من مكانة عالية عند ربك و قد أجيب سؤلك يا مجد ،و تحقق الذي كنت تطلبه من الله السميع المجيب في صلاة قيام الليل بأن يرزقك الشهادة – كما قالت زوجتك -الصابرةالمحتسبة . أجل لقد سألت الله الشهادة صادقا فكتبها لك . و نحن نسأل الله تعالى أن يحتسبك من الشهداء الأبرار و أن يرزقنا و محبّيك شفاعتك يوم القيامة لنكون مع النبيين و الصديقين و حسن أولئك رفيقا .
و يكفي الشهداء ما وعدهم به ربهم من حياة مستمرة غير منتهية ،و يكون جزاؤهم يوم القيامة نعيما مقيما لا ينفد فقال تعالى في سورة آل عمران : " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ " صدق الله العظيم .
و يكفي ذوي الشهداء المحتسبين الصابرين ما وعدهم الله تعالى به، جزاء صبرهم على فراق أقاربهم، وحرمانهم من أعزاء اتخذهم الله شهداء ،فارتضوا بما كتبه الله فكان لهم ما يعوضهم عما افتقدوا من شهداء فقال أصدق من وعد فأنجز :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ . وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ . أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ." اللهم فاجعل الشيخ (مجداً) من شهدائك الأبرار و اجعلنا من الصابرين المحتسبين و الراضين بقضائك و اجزه عنا خير الجزاء. و أرجو من القارئ الكريم أن يعذر الكاتب إن قرأ بعض التفاصيل التي يراها إطنابا مملا ، فإن لكل كلمة حق كتبت ما وراءها من دفع تهمة باطلة وُجهت للشيخ بعد استشهاده من الخصوم .
نرجو الله تعالى أن يسدد الكاتب إلى كلمة الحق لما فيه من كشف للحقيقة رضي من رضي و غضب من غضب . و الله من وراء القصد .
- * *
الطفولة و الصبا
- ولد الشهيد مجد عبدالعزيز مصطفى البرغوثي يوم الأربعاء 13/6/1384هـ الموافق 22/7/1964م في قرية كوبر الواقعة على مسافة 13 كيلومترا شمال غرب رام الله . وكان ثالث أبناء تلك الأسرة بعد أخيه كفاح وأخته وفاء وقبل أخيه موفق .
- وكانت أسرته فقيرة الحال لا تملك شجرا تأكل من تمره ،أو أرضا تفلحها فيعتاشون من خيراتها ، بل كان والده يعمل في بيروت في أعمال البلاط ثم انتقل إلى عمان عام 1966 ليعمل في المهنة ذاتها .
- بعد حرب حزيران عام 1967 نزحت تلك الأسرة الصغيرة بين من نزحوا من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية عامة و إلى عمان خاصة ،بصحبة كاتب هذه السطور بناء على إلحاح من رب تلك الأسرة لتلتحق به في عمان خوفا على أسرته و أخيه أن يصيبهم ما أصاب أهل دير ياسين و غيرهم عام 1948 كما كان تخوف جميع من نزحوا .
- في شهر آب 1967 عادت تلك الأسرة إلى مسقط رأسها في قرية كوبر ضمن برنامج لجنة الصليب الأحمر الدولية لاعادة النازحين . و افتتح والد الشهيد بقالة متواضعة مشاركة مع بعض الأقارب بينما بقي كاتب هذه السطور نازحا في عمان .
- عرف الطفل مجد في صغره بالجد و الرصانة و كانت تبدو عليه مسحة من التدين .
- تلقى مجد دراسته الابتدائية في قرية كوبر وأتم الإعدادية والثانوية في مدرسة الأمير حسن في بيرزيت حيث أنهى مرحلة الدراسة الثانوية عام1982 .
شباب مكتهل
- التحق مجد بمركز تدريب المعلمين التابع لوكالة الغوث في مدنية رام الله متخصصاً في الثقافة الإسلامية و اللغة العربية عام 1983 وتخرج عام 1985 ،وهناك بدأ نشاطه الديني السياسي متأثرا بفكر الإخوان المسلمين منذ عام 1983 في المركز السابق و كان معجبا ومتأثرا باأستاذه الشيخ بسام جرار .
- عمل بعد التخرج مؤذنا لمسجد قرية كوبر وكان يقوم مقام الإمام عند تغيبه ، ثم تم تعيينه إماماً عام 1991 لذلك المسجد ، و أخذ أهل القرية يلقبونه ( الشيخ) .
- كانت القرية تعجّ بالتيارات السياسية من شيوعيين و وطنيين متطرفين فلاقى شيخنا عنتا شديدا في مواجهة هذه التيارات ، يقارعهم باللسان والفكر النير ويتحمل أذاهم بصبر و طيبة خلق و معاملة حسنة حتى هداهم الله و رأى بعينييه شيوخ الشيوعيين وشبابهم وكثيرا من أبناء المنظمات الفلسطينية يصلون خلفه وتنتظمهم جميعا علاقة حميمة .
بناء أسرة
- تزوج الشيخ مجد رحمه الله عام1988 من ابنة عمته فوزية زيتاوي وهي من بلدة جماعين من قضاء نابلس، و قد استشهد والدها أحمد محمود زيتاوي برصاص اليهود عام1990 ،في مواجهات جرت بين الأعداء الذين اقتحموا مدرسة بنات جماعين الثانوية و بين أهالي بلدة جماعين الذين هبوا للدفاع عن بناتهم ، و بذلك قضى الله لها أن تكون ابنة شهيد من حركة فتح و زوجة شهيد من حركة حماس . و قد انتخب شقيقها عزات زيتاوي عام 2005 رئيسا لبلدية جماعين بأعلى الأصوات مرشحا عن كتلة الإصلاح و التغيير،و الذي في عهده حققت البلدية إنجازات ملموسة شهد له بها الخصوم السياسيون قبل الأصدقاء .
- رزق الشيخ مجد ثلاثة من الذكور هم : قسّام (1993) و محمد(1996) و معاذ(2002) ، و خمساَ من البنات:إشراق (1990) و إيمان (1991) و بشرى(1998) و أنسام(2000) و سارة (2007) التي لم تكن قد بلغت شهرها العاشر عندما حرمت والدها و هي التي ظهرت في صورة إلى جانبه و هو مسجى بالكفن و الراية الخضراء بعد استشهاده . وبذلك كنّي شيخنا(أبا القسام) أكبر أولاده .
- يلاحظ القارئ تشابها في كنية مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح في الضفة وكنية مجد البرغوثي قائد حركة حماس في منطقة رام الله كما ورد في بيان نعيه،و لم يكن أحد من عائلته يعلم بذلك، فكلاهما يكنى (أبا القسام ) .
وفي الحقيقة ليس هناك غرابة في ذلك التشابه ؛حيث إن المجاهد العربي السوري الشيخ عز الدين القسام الذي استشهد عام 1935 في أحراش يعبد في قضاء جنين؛ كان أول من فاد حركة جهادية ضد الإنجلبز المستعمرين و اليهود المستوردين ، فكان القسام رمزا لجميع المجاهدين والمناضلين من فصائل المقاومة كافة. وكذلك فإن هناك قرابة تربط المناضليْن كليْهما : فوالدة الشيخ مجد الحاجة (حليمة) ابنة عم لوالد مروان (حسيب). كما أن المناضلين كليهما من عائلة واحدة هي ( آل البرغوثي) و من القرية نفسها ( كوبر).
و قد تحدثت السيدة فدوى البرغوثي زوجة القائد الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي – فك الله أسره - إلى المؤلف أن الشيخ مجد كان من أكثر الناس اتصالا بها للاطمئنان عن صحة مروان في معتقله و يسألها بصدق و حرقة خاصة عندما أصيب مروان بمرض في سجنه .
- كان الشيخ رحمه الله ربانيّا في علاقته مع الآخرين ، فقد جعل حياته لله أولا و لم ينس نصيبه قي الدنيا ، فقد قال للمؤلف مرة و هو يحمل صحنا فيه بعض المكسرات : هل تعلم يا عم ، و الله إن حياتنا و نحن بثمانية أبناء أفضل ماديّا من حياتنا قبل أن نرزق بهم ، وهذا دليل على أن الله سبحانه و تعالى يرزقنا و يطعمنا بمعية الأولاد و لسنا نحن الذين نطعمهم .
- كان رحمه الله بارّا بوالديه يحسن إليهما و يحرص على رضاهما و لا يكاد يتناول وجبة إلا و يبحث عنهما و يأتي بهما إلى بيته ، و كثيرا ما كان يقول لزوجته : علاقتنا تبقى بخير و مستقرة بسكينة وطمأنينة ما دمت تبرّين بوالديّ ،فهذا هو الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه ، و لا أرضى أن يقال يوما : إن الشيخ مجد إمام القرية يساء في بيته إلى والديه . و لم تكن زوجنه بحاجة إلى تذكيرها برعاية حميها فهو خالها و له محبته عندها و عند أبويها و إخوانها .
- و كان رحمه الله حريصا على إشاعة جوّ من المرح في بيته و مع إخوانه ، و يتقبل النكتة التي تصيبه فيضحك لها دونما حرج تماما كأنما سجلها هو في مرمى الآخرينه. ففي زيارة لبيت الشيخ ، قال المؤلف لزوجة الشيخ – و هي ابنة شقيقته – معزيا باستشهاد والدها برصاص اليهود كما ورد آنفا: أعانك الله يا ابنة أختي على مصيبتك باستشهاد والدك رحمه الله . فأجابت بعفوية و هي تضحك : يا خالي إنني تعودت على المصائب فقد أصبت قبل عامين بمصيبة أعظم من هذه و قد تحملتها بحمد الله ، و عندما سألها المؤلف عن تلك المصيبة ، قالت ضاحكة : زواجي من الشيخ ! فضحكنا الثلاثة معا . ثم عادت لتقول : نحن نمزح ، بل إن زواجي منه أكبر نعمة من الله!
- كان يحسن إلى عمه و عماته الذين لا يقل عمر أصغرهم عن ستين عاما و يكرمهم و يداعبهم ، فكان يقول لهم و لوالده مداعبا و ممازحا : ما شاء الله ! رحم الله والدكم جدي ، توفي وترككم أيتاما و رماكم عليّ حتى أظل أطعمكم و أسقيكم !!
- و كان الشيخ أبا حنونا منفقا بسخاء على أبنائه ، يلاعبهم و يضاحكهم و يصادق بناته و يحادثهن ، فللكبار حديث و أسلوب يناسبهم و للصغار ما يناسبهم ، فكان مرضيا للجميع . و كان أكثر ما يسمع منه من حديث لأبنائه و بناته جملة تتكرر عشرات المرات يوميا و هي : هل صليت يا حبيبي؟ أو يا حبيبتي. فكان يأمر أهله بالصلاة و يذكر إخوانه و عيالهم و يدعو التاركين للصلاة بابتسامات و نصائح محببة، و مع أنه كان يصوم يومي الاثنين و الخميس من كل أسبوع إلا أنه لم يفرضه على زوجـته أو أبنائه أبدا.
- كما كان الشيخ حريصا على علاقة سويّة مع إخوانه لا يكاد يمر يوم إلا ويزورهم و سيمر في صفحات لاحقة كيف عندما كان تحت التعذيب و الشبح و نهاية حياته تقترب ساعة فساعة و دقيقة فدقيقة وهو لا يطلب من المحققين إلا الاستفسار عن أخيه الذي أجريت لعينه عملية زرع قرنية قبل شهر من استشهاد الشيخ، أو السؤال عن والدته التي كانت تبلغ من العمر ما يقارب الثمانين عاما .
- و كان الشيخ يحب في الله و يبغض في الله ، فكثيرا ما كان يبغض من يتطاول على الدين و يجاهر بالمعصية ، و لكنه يصبح أخا له حبيبا عندما يصحو ذلك العاصي و يفيء إلى رشده و يتمسك بدينه ، و تراه يتحدث عنه بمودة و حرارة كأنه وليّ حميم و يمتد حبل الصداقة بينهما فيصبحان أخوين يتزاوران ،و ترى الشيخ يكيل المديح لذلك التائب.
- كان الشيخ موضع ثقة أهل القرية حتى المختلفين معه سياسيا من أعضاء التنظيمات و الفصائل الأخرى بل كان موضع أسرارهم ، فكم طلبوا إليه التدخل لحل مشكلاتهم العائلية ،فكان سعيدا بإصلاح ذات البين بين الأقارب خاصة ، أو أبناء القرية عامة.
- هناك قصة وقعت قبل استشهاد الشيخ بعام واحد تحدّث بها أحد أبناء عشيرة الشيخ بعد استشهاده و هو ليس من الاقارب المقربين- و كان يعمل في أعمال البناء قصّارا - فقال :
عندما حوصر الشعب الفلسطيني و منعت الرواتب عن الموظفين المدنيين و العسكريين في عهد حكومة حماس و من بعدها حكومة الوحدة الوطنية؛ فتوقفت أغلبية الأعمال التي يعتمد أصحابها في كسبهم على السيولة المالية بأيدي الموظفين ، و أصبحت كغيري عاطلا عن العمل و لم أجد معي شيكلا واحدا أشتري به حليبا لطفلي الرضيع، فضاقت الدنيا في عيني كغيري من العمال ،فإذ بالشيخ مجد رحمه الله قادم نحوي و جلس على الأرض بجانبي و سألني : كيف الحال ؟ فقلت له : تحت الصفر ؟ فقال الشيخ :" اسمع يا ابن العم ؛ في آخر الشهر سيسلموننا إن شاء الله قسطا من الراتب لا يتجاوز ألف شيكل ( 170 دينارا أردنيا ) و لسوف أقسم المبلغ مناصفة بيني و بينك ، إني لا أرضى و إن الله لا يرضى أن يأكل ولدي و ابنك جائع ، و فليأكل الاثنان و ليكتفِ كلّ منهما بما يملأ نصف البطن حتى تنتهي الأزمة مهما امتدت بها الأيام ".
و يكمل راوي القصة " في آخر الشهر جاءني الشيخ و قال : جئت لأفي بالوعد الذي قطعته لك ، فقد استلمنا اليوم المبلغ الذي وعدتنا به الحكومة و أحضرت لك حصتك منه. فقلت للشيخ : الله يجزيك الخير، أبقِ ما تريد إعطائي إياه لأولادك ، فإن الله قد رزقني بورشة أقصرها و استلمت مبلغا من صاحبها سلفا ".
- هذه القصة لم يسمع بها أحد على لسان الشيخ من أهله و لا من أصدقائه ، بل حدّث بها بعد استشهاد الشيخ من لو أراد لكتمها و ستر نفسه،ولكنها شهادة لم يشأ أن يكتمها .
هذه إحدى مزايا الشيخ: صدقة بلا منّ و لا رياء ، فلا تدري شماله ما أنفقت يمينه.
- * *
- لم يرد ذكر هذه الطرائف و الأخبار البسيطة إلا لإظهار مختلف جوانب شخصية الشيخ مجد البرغوثي و ليس حصرها بجانب واحد من التدين الصارم المتزمت . و الذي يحصر تدينه بصلاة وصيام و لا يحسن المعاملة مع الآخرين و التي هي نصف الدين .
الرزق الحلال
- لم يكن راتب الشيخ يكفي عائلة تتألف من عشرة أفواه ،فعمل بالإضافة إلى إمامة المسجد أجيرا في دكان لذبح الدجاج و تنظيفه و تقطيعه ، و عمل في المزارعة في أرض الآخرين بنصيب من الثمر، و عمل في قطف الزيتون لدى مالكي أشجار الزيتون فيأخذ أجرته ثلث المحصول ليؤمن حاجة عياله ، و عمل بقالا في بقالة متواضعة ، و اشتغل راعيا للغنم .و عمل بائع خضار قرب بقالة لشقيقته التي توفي زوجها قبل استشهاد الشيخ بعام واحد تقريبا، و كان ربحه من عمله هذا بسيطا و لكنه ارتبط به كما قال للمؤلف : إنني رضيت بهذا العمل كي أظل قريبا من أختي مواساة لها بعد وفاة زوجها ، و لأن موزعي البضائع أشخاص من خارج القرية ،يأتون بسياراتهم إلى بقالتها كما كانوا يفعلون في حياة زوجها ، و بعد وفاته عزّ علي أن يأتوا فيحادثوها و يساوموا و يبيعوا و يقبضوا ،و هي وحدها ، فدرءا لأي همسة قد تقال اتخذت هذه الحرفة ، و رحم الله امرأ ذبّ المغيبة عن نفسه .
• كان الشيخ مخلصا في كل صنعة عمل فيها دون تعارض مع غيرها . فقد تذمر أحد الذين عمل معهم الشيخ إلى المؤلف بأن الشيخ يتأخر عن عمله بعد صلاة الظهر، فراجع المؤلف الشيخ حول حقيقة التذمر لافتا نظره بألا يتعارض أداء عمله الإضافي مع وظيفته الرسمية ليحلل قرشه من العملين كليهما . فأجاب الشيخ الذي لم يكن بحاجة إلى من يذكّره : سامحك الله يا عمّ،إنني لا أعمل عنده براتب شهري أو مياومة ، بل إن الاتفاق بيننا أن أجهز له أربعين طير دجاج ذيحا و تنظيفا و تقطيعا ليبيعها خلال النهار، و أنا أنجز هذا العمل كاملا في الصباح الباكر. و كثيرا ما تأخرت عنده حتى المساء إذا ما لزم الأمر و زاد الطلب . أما تأخري هذا اليوم بعد صلاة الظهر فإن خادم المسجد قد يتغيب أحيانا فأقوم مقامه في عمله، فقمت هذا اليوم بتنظيف مكان الوضوء و شطف دورة مياه المسجد و أجري على الله .
•عام 1995 عرض احد الأقارب من المتنفذين في السلطة على الشيخ منصباً في وزارة الأوقاف الفلسطينية يدرّ عليه دخلاً مجزياً ولكن الشيخ رفض المنصب وآثر على ذلك المنصب وظيفته كإمامٍ وداعية براتبها الزهيد .
بناء مسكن
- في عام 1995 أيضا عزم الشيخ على بناء بيت مستقل عن بيت أهله الذي لم يكن له فيه سوى غرفة واحدة يسكن فيها الشيخ مع زوجته و أطفاله الثلاثة . لم يكن يملك من تكاليف البناء سوى ما تقاضاه من وزارة الأوقاف الأردنية من مبالغ كضمان اجتماعي و أتعاب نهاية العمل معها بعد قرار فك الارتباط بين الضفتين ، و بعض الرواتب المتأخرة يضاف إليها رواتب من مؤسسة رعاية أسر الشهداء و الأسرى الفلسطينية أثناء سجنه عند الاحتلال .
و بينما كان منهمكا في البناء اعتقلته سلطات الاحتلال و حكمت عليه بالسجن لمدة أحد عشر شهرا .
- و هكذا وقع عبء إكمال البناء من مرحلة العقد فمراحل التشطيب المتعددة و المضنية على زوجته، ويعاونها إخوانها و إخوة الشيخ و قائمة طويلة من الدائنين .
و خرج الشيخ بعد اكتمال البيت تقريبا و قال ممارحا زوجته: ما دمت زوجة اقتصادية مدبرة سوف أبحث لي عن تهمة جديدة (محرزة) أسجن بسببها فلعلك تبنين طابقا ثانيا أثناء غيابي !!
- لقد ساق الكاتب هذا الخبر ليربط القارئ الكريم بينه و بين خبر مشابه له تماما حصل عام 2008 عندما اعتقلته السلطة الفلسطينية أثناء توسعة هذا البيت بطابق ثان . و لكن في هذه المرة لم تطل إقامة الشيخ في السجن الفلسطيني سوى تسعة أيام فقط ، و عاد إلى بيته محمولا على أكتاف الآلاف من أهله و عشيرته و أصدقائه و جماهير غفيرة من جميع أنحاء الضفة الغربية إلى أن أدخلوه في بيته بمهابة و وقار ، و لكن ... مسجى في نعش بعد أن استشهد في سجنه تعذيبا وتنكيلا على أيدي إخوانه (المناضلين) الذين سجن مع بعضهم عند سلطات الاحتلال في المرات السابقة .
- * *
جهاد و اعتقالات متواترة
- دخل الشيخ مجد سجون الاحتلال الإسرائيلي خمس مرات لفترات متفرقة يبلغ مجموعها أكثر من تسعة أعوام. كان فيها داعية بين الأسرى يدعو المعتقلين إلى إقامة الصلاة و التمسك بالدين و الأخلاق و القيم وحضور دروس التوجيه الديني والسياسي لا سيما الشباب منهم بدلا من قتل وقتهم مسمرين أمام شاشة التلفاز يتابعون البرامج التي لا تسمن و لا تغني من جوع فترات طويلة مثل (ستارأكاديمي) و غيره ،فاستجاب له الكثيرون مما شكل ألفة بينه وبين الأسرى من جميع الفصائل فانعكس ذلك على علاقته معهم خارج أسوار السجن مما جعل خيوط شبكة معارفه تمتد وتمتد من شمال الضفة إلى جنوبها ، وهذا ما ظهر جليا عند تشييع جنازته و ايام عزائه.
- عزم الشيخ على أداء عمرة عام 1998 مصطحبا أبويه فعبر والداه جسرالملك حسين ، بينما أعادت سلطات الاحتلال الشيخ عن الجسر فاتصل به بعض أقاربه مداعبين يهنئونه بسلامة العودة من العمرة في يوم واحد وطالبين منه ألا ينسى نصيبهم من الحناء و المسابح و التمر و ماء زمزم .
و من الجدير ذكره أنه بعد استشهاد الشيخ بشهر كما سيأتي لاحقا قامت مجموعة من الرجال والنساء من أبناء قرية كوبر بتأدية العمرة و إذ بهم جميعا يؤدون عمرة ثانية و يهدونها إلى روح الشهيد مجد حبا له و وفاء لإمامهم الذي حرمه من العمرة الأعداء . نسأل الله تعالى أن يكتب له أجر العمر التي صده عنها أعداء الله و أعداء دينه؛ والعمر التي أداها عنه أحبابه و أقاربه و أتباعه و طلابه .
- عام 2001 و خلال ما عرف بانتفاضة الأقصى تواترت العمليات الاستشهادية بمشاركة جميع فصائل المقاومة بشكل تنافسي أحيانا ، بل وقعت عمليات مشتركة، فقد جرت أكثر من عملية يشترك فيها بضعة عناصر من تنظيمات مختلفة ومن أبرزها كتائب الشهيد عزالدين القسام ( حماس) و كتائب شهداء الأقصى (فتح) و سرايا القدس ( الجهاد الإسلامي)،بل إن بعض الفتيات الاستشهاديات عرضن على قيادة تنظيم ما مساعدتهن للقيام بعملية استشهادية فرفض ذلك القائد فتوجهن إلى قيادة تنظيم آخر فيسهل لهن المهمة فيقمن بالعملية الاستشهادية .
- كان الشيخ ألوفا مسارعا إلى عمل الخير بشتى أبوابه، و سهلا في النقاش مع من لا يتعدى حدود الله ، و سلسا في مد جسور الصداقة و المحبة بينه و بين الآخرين : ففي شهر تموز عام 2001 استشهد الشاب علي الجولاني منفذا عملية استشهادية في تل أبيب ضد مبنى عسكري إسرائيلي، فأوحيت ألى الشيخ مجد أن لي صديقا من عائلة الجولاني و هو الأستاذ عاطف الجولاني رئيس تحرير صحيفة (السبيل ) الأردنية فقال الشيخ : وماذا تنتظر فالعزاء واجب و سوف أعزيه بمعيتك . و هكذا كان . فقد ضرب رقم هاتف صحيفة السبيل في عمان وتمت التعزية . و كذلك في محادثة بين الشيخ في كوبر و بين الكاتب في عمان امتدح الكالتب الشيخ القارئ إبراهيم الجرمي إمام مسجد عبدالله عزام في حي الهاشمي الشمالي في عمان ، فطلب الشيخ مجد من الكاتب أن يقرئ الشيخ الجرمي سلامه وهكذا كان. و تكوّن لديه مودة للشيخ الجرمي فتراه يواظب السؤال عنه دون أي لقاء بينهما.
سيرة القائد المجاهد الشهيد الداعية الشيخ مجد البرغوثي في ذكرى استشهاده الأولى بقلم . عبدالرازق البرغوثي تاريخ النشر : 2009-03-03
الشهيد الداعية الشيخ مجد البرغوثي
سيرة القائد المجاهد الشهيد الداعية الشيخ مجد البرغوثي في ذكرى استشهاده الأولى
بقلم . عبدالرازق البرغوثي
- * *
الحلقة (1)
"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ً" صدق الله العظيم
أهدي سيرة هذا الداعية الشهيد الشيخ مجد البرغوثي الذي قضى نحبه شهيدا في مقر المخابرات الفلسطينية يوم الجمعة 22/2/2008 ،إلى كل من لقي وجه ربه شهيدا على أيدي الحكام الظلمة منذ سيدنا يحيى عليه السلام وسعيد بن جبير رضي الله عنه، و إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، راجيا الله تعالى أن يجعلنا من الذين يشفع لهم الشهيد يوم القيامة .
مقدمة
- إن المؤلف تربطه بالشهيد مجد البرغوثي علاقة العم والوالد والأخ والصديق والتلميذ أحيانا والمعلم أحيانا أخرى، ومع ذلك فقد التزم المؤلف الموضوعية في نقل ما ورد من معلومات يعرفها هو شخصيا، أو تناقلتها ألسنة المقربين إلى الشهيد من أخوّة المبدأ، أو علاقة العداوة من الذين تسربلوا بوصمة العار حين أقدموا على اقتراف جريمتهم بتصفيته بدم بارد لئيم حاقد, وشهدوا له بالصلابة و الرجولة ، فقد قال أحد العاملين في المخابرات الفلسطينية لأحد المعتقلين في محافظة سلفيت:" لقد كان الشيخ مجد رجلا صلبا بكل معنى الكلمة ، إنني سمعتهم في رام الله يقولون عنه إنه كنز من الأسرار لم يستطيعوا استخراج أي شيء منها ".
في حياته كان الشيخ يذكر الله أمام ملأ يقدّر بثلاثمئة مصلّ في مسجد قريته فذكره الله تعالى أمام ملأ أكبر و أعظم تجاوز مئات الملايين من البشر عبر فضائيات العالم بأسره . في إحدى الانتخابات البرلمانية أنفق أحد المرشحين خمسة ملايين دينار على حملته الانتخابية و عند فرز أصوات الناخبين لم يحصل ذلك المرشح الا على خمسمئة صوت : فكان يحق لذلك المرشح الفاشل و لذوي النفوس المريضة عندما رأوا آلاف المشيعين و المعزّين من أحباب و أصحاب الشهيد الذين أمّوا قرية كوبر تحت سيل المطر طيلة خمسة أيام لتقديم واجب العزاء و استمر توافدهم على بيت الشهيد بعد ذلك شهرا ، يحق لهم أن يتساءلوا "كم دفع الشيخ مجد لهذه الأعداد الهائلة من مال ليؤموا بيت عزائه بحافلات مكتظة بالرجال و النساء لا تكاد تفرغ حمولتها من الركاب حتى تعود فتمتلئ بهم مسرعين بالرجوع ليفسحوا المجال لوفود أخرى قادمة ، و كم أمضى أبناء عائلة البرغوثي من ساعات تحت الأمطار خارج ديوان العائلة إكراما و إفساحا للمعزين من خارج القرية لبدخلوا و يؤدوا واجب العزاء ، و كان أفراد أسرة الشهيد يقفون ربع ساعة و نصف ساعة لا يجلسون على المقاعد إلا لثوان معدودة و هم يستقبلون الفوج الواحد من المعزين . واختصارا للقول نقول ما قاله تعالى"والقيت عليك محبة مني " فنم يا شهيدنا قرير العين مبتسم الثغر سعيدا بما نلت من مكانة عالية عند ربك و قد أجيب سؤلك يا مجد ،و تحقق الذي كنت تطلبه من ربك السميع المجيب في صلاة قيام الليل بأن يرزقك الشهادة – كما قالت زوجتك -الصابرةالمحتسبة . أجل لقد سألت الله الشهادة صادقا فكتبها لك . و نحن نسأل الله تعالى أن يحتسبك من الشهداء الأبرار و أن يرزقنا و محبّيك شفاعتك يوم القيامة لنكون مع النبيين و الصديقين و حسن أولئك رفيقا . و يكفي الشهداء ما وعدهم به ربهم من حياة مستمرة غير منتهية ،و يكون جزاؤهم يوم القيامة نعيما مقيما لا ينفد فقال تعالى في سورة آل عمران : " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ " صدق الله العظيم و يكفي ذوي الشهداء المحتسبين الصابرين ما وعدهم الله تعالى به، جزاء صبرهم على فراق أقاربهم وحرمانهم من أعزاء عندما اتخذ أعزاءهم شهداء فارتضوا بما كتبه الله فكان لهم يعوضهم عما افتقدوا من شهداء فقال أصدق من وعد فأنجز : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ . وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ . أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ."
الطفولة و الصبا
- ولد الشهيد مجد عبدالعزيز مصطفى البرغوثي يوم 22/7/1964 في قرية كوبر الواقعة على مسافة 13 كيلومترا شمال غرب رام الله . وكان ثالث أبناء تلك الأسرة بعد أخيه كفاح وأخته وفاء وقبل أخيه موفق. وكانت أسرته فقيرة الحال لا تملك ما تملكه أسر القرية من أشجارمثمرة أو أرض تفلحها، بل كان والده يعمل في بيروت في أعمال البلاط ثم انتقل الى عمان عام 1966 ليعمل في المهنة ذاتها .
- في شهر حزيران بعد حرب عام 1967 نزحت تلك الأسرة الصغيرة بين من نزحوا من الضفة الغربية إلى عمان خاصة و الضفة الشرقية من الأردن عامة ، بناء على إلحاح من ربّ تلك الأسرة لتلتحق به في عمان خوفا على أسرته و أخيه أن يصيبهم ما أصاب أهل دير ياسين و غيرهم عام 1948 و كذلك كان تخوّف الجميع .
- في شهر آب 1967 عادت تلك الأسرة إلى مسقط رأسها في قرية كوبر ضمن برنامج لجنة الصليب الأحمر الدولية لإعادة النازحين . و افتتح والد الشهيد بقالة متواضعة مشاركة مع بعض الأقارب .
- عرف الطفل مجد في صغره بالجدّ و الرصانة وكانت تحلّيه مسحة من التديّن .
- تلقى مجد دراسته الابتدائية في قرية كوبر وأتم الإعدادية والثانوية في مدرسة الأمير حسن في بيرزيت حيث أنهى مرحلة الدراسة الثانوية عام1982 .
شباب مكتهل
- التحق مجد بمركز تدريب المعلمين التابع لوكالة الغوث في مدنية رام الله متخصصاً في الثقافة الإسلامية و اللغة العربية عام 1983 وتخرّج عام 1985 ،وهناك بدأ نشاطه الديني السياسي متأثرا بفكر الإخوان المسلمين عام 1983 في المركز السابق على يدي بعض أساتذته جزاهم الله خيرا .
- عمل بعد التخرج مؤذّنا لمسجد قرية كوبر وكان يقوم مقام الإمام عند تغيّبه ، ثم تمّ تعيينه إماماً عام 1991 لذلك المسجد و أخذ أهل القرية يلقبونه ( الشيخ) .
- كانت القرية تعجّ بالتيارات السياسية من شيوعيين و وطنيين متطرفين فلاقى شيخنا عنتا شديدا في مواجهة هذه التيارات. يقارعهم باللسان والفكر النيّر ويتحمل أذاهم بصبر و طيبة خلق و معاملة حسنة حتى هداهم الله و رأى الشيخ بعينيه شيوخ الشيوعيين وشبابهم وكثيرا من أبناء المنظمات الفلسطينية يصلّون خلفه وتنتظمهم به علاقة حميمة .
الى اللقاء في الحلقة (2) إن شاء الله سيرة القائد المجاهد الشهيد الداعية الشيخ مجد البرغوثي في ذكرى استشهاده الأولى إعداد : عبد الرازق البرغوثي تاريخ النشر : 2009-03-12
الشيخ مجد البرغوثي
سيرة القائد المجاهد الشهيد الداعية الشيخ مجد البرغوثي في ذكرى استشهاده الأولى إعداد : عبد الرازق البرغوثي
- * *
الحلقة (2)
بناء أسرة
- تزوج الشيخ مجد رحمه الله عام1988 من ابنة عمته فوزية زيتاوي وهي من بلدة جماعين من قضاء نابلس، و قد استشهد والدها أحمد محمود زيتاوي برصاص اليهود عام1990 في مواجهات جرت بين الأعداء الذين اقتحموا مدرسة بنات جماعين الثانوية و بين أهالي بلدة جماعين الذين هبوا للدفاع عن بناتهم ، و بذلك قضى الله لها أن تكون ابنة شهيد من حركة فتح و زوجة شهيد من حركة حماس . و فد انتخب شقيقها عزات زيتاوي عام 2005 رئيسا لبلدية جماعين بأعلى الأصوات مرشحا عن كتلة الإصلاح و التغيير،و الذي في عهده حققت البلدية إنجازات ملموسة أعجب بها الخصوم السياسيون قبل الأصدقاء .
- رزق الشيخ مجد ثلاثة من الذكور هم : قسّام (1993) و محمد(1996) و معاذ(2002) ، و خمساَ من البنات:إشراق (1990) و إيمان (1991) و بشرى(1998) و أنسام(2000) و سارة (2007) التي لم تكن قد بلغت شهرها العاشر عندما حرمت والدها و هي التي ظهرت إلى جانبه و هو مسجىبالكفن و الراية الخضراء بعد استشهاده . وبذلك كنّي شيخنا أبا القسام أكبر أولاده .
- يلاحظ القارئ تشابها في كنية مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح في الضفة وكنية مجد البرغوثي قائد حركة حماس في منطقة رام الله كما ورد في بيان نعيه،و لم يكن أحد من عائلته يعلم ذلك، فكلاهما يكنى ( أبا القسام ) .
وفي الحقيقة ليس هناك غرابة في ذلك التشابه ؛حيث إن المجاهد العربي السوري الشيخ عز الدين القسام الذي استشهد عام 1935 في أحراش يعبد في قضاء جنين؛ كان أول من فاد حركة جهادية ضد الإنجلبز المستعمرين و اليهود المستوردين ، فكان القسام رمزا لجميع المجاهدين والمناضلين من فصائل المقاومة كافة. وكذلك فإن هناك قرابة تربط المناضليْن كليْهما : فوالدة الشيخ مجد الحاجة (حليمة) ابنة عم لوالد مروان (حسيب). كما أن المناضلين كليهما من عائلة واحدة هي ( آل البرغوثي) و من القرية نفسها( كوبر). و قد تحدثت السيدة فدوى البرغوثي زوجة القائد الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي – فك الله أسره - الى المؤلف أن الشيخ مجد كان من أكثر الناس اتصالا بها للاطمئنان عن صحة مروان في معتقله و يسألها بصدق و حرقة خاصة عندما أصيب مروان بمرض في سجنه .
- كان الشيخ رحمه الله ربانيّا في علاقته مع الآخرين ، فقد جعل حياته لله أولا و لم ينس نصيبه قي الدنيا ، فقد قال للمؤلف مرة و هو يحمل صحنا فيه بعض المكسرات: هل تعلم يا عم ، و الله ان حياتنا و نحن بثمانية أبناء أفضل ماديّا من حياتنا قبل أن نرزق بهم ، وهذا دليل على أن الله سبحانه و تعالى يرزقنا و يطعمنا بمعية الأولاد و لسنا نحن الذين نطعمهم .
- كان رحمه الله بارّا بوالديه يحسن إليهما و يحرص على رضاهما و لا يكاد يتناول وجبة إلا و يبحث عنهما و يأتي بهما إلى بيته ، و كثيرا ما كان يقول لزوجته : علاقتنا تبقى بخير و مستقرة بسكينة وطمأنينة ما دمت تبرّين بوالديّ ،فهذا هو الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه ، و لا أرضى أن يقال يوما : إن الشيخ مجد إمام القرية يساء في بيته إلى والديه .و لم تكن زوجنه بحاجة إلى تذكيرها برعاية حميها فهو خالها و له محبته عندها و عند أبويها و إخوانها .
- و كان رحمه الله حريصا على إشاعة جوّ من المرح في بيته و مع إخوانه ، و يتقبل النكتة التي تصيبه فيضحك لها تماما كأنها له دونما حرج . ففي زيارة لبيت الشيخ ، قال المؤلف لزوجة الشيخ – و هي ابنة شقيقته – معزيا باستشهاد والدها برصاص اليهود كما ورد آنفا: أعانك الله يا ابنة أختي على مصيبتك باستشهاد والدك رحمه الله . فأجابت بعفوية و هي تضحك : يا خالي إنني تعودت على المصائب فقد أصبت قبل عامين بمصيبة أعظم من هذه و قد تحملتها بحمد الله ، و عندما سألها المؤبف عن تلك المصيبة ، قالت ضاحكة : زواجي من الشيخ ! فضحكنا الثلاثة معا . ثم عادت لتقول : نحن نمزح ، بل هي أكبر نعمة من الله!
- كان يحسن إلى عمه و عماته الذين لا يقل عمر أصغرهم عن ستين عاما و يكرمهم و يداعبهم . فكان يقول لهم و لوالده مداعبا و ممازحا : ما شاء الله ! رحم الله والدكم جدي ، توفي وترككم أيتاما و رماكم عليّ حتى أظل أطعمكم و أسقيكم!!
- و كان الشيخ أبا حنونا منفقا بسخاء على أبنائه ، يلاعبهم و يضاحكهم و يصادق بناته و يحادثهن ، فللكبار حديث و أسلوب يناسبهم و للصغار ما يناسبهم ، فكان مرضيا للجميع . و كان أكثر ما يسمع منه من حديث لأبنائه و بناته جملة تتكرر عشرات المرات يوميا و هي : هل صليت يا حبيبي؟ أو يا حبيبتي. فكان يأمر أهله بالصلاة و يذكر إخوانه و عيالهم و يدعو التاركين للصلاة بابتسامات و نصائح محببة، و مع أنه كان يصوم يومي الاثنين و الخميس من كل أسبوع إلا أنه لم يفرضه على زوجنه أو أبنائه أبدا.
كما كان الشيخ حريصا على علاقة سويّة مع إخوانه لا يكاد يمر يوم إلا ويزورهم و سيمر في صفحات لاحقة كيف عندما كان تحت التعذيب و الشبح و نهاية حياته تقترب ساعة فساعة و دقيقة فدقيقة وهو لا يطلب من المحققين إلا الاستفسار عن أخيه الذي أجريت لعينه عملية زرع قرنية قبل شهر من استشهاد الشيخ، أو السؤال عن والدته التي كانت تبلغ من العمر ما يقارب الثمانين عاما .
- و كان الشيخ يحب في الله و يبغض في الله ، فكثيرا ما كان يبغض من يتطاول على الدين و يجاهر بالمعصية ، و لكنه يصبح أخا له حبيبا عندما يصحو ذلك العاصي و يفيء إلى رشده و يتمسك بدينه ، و تراه يتحدث عنه بمودة و حرارة كأنه ولي حميم و يمتد حبل الصداقة بينهما فيصبحان أخوين يتزاوران .
- كان الشيخ موضع ثقة أهل القرية حتى المختلفين معه سياسيا من أعضاء التنظيمات و الفصائل الأخرى بل كان موضع أسرارهم ، فكم طلبوا إليه التدخل لحل مشكلاتهم العائلية ،فكان سعيدا بإصلاح ذات البين بين الأقارب خاصة ، أو أبناء القرية عامة.
- قصة وقعت بعد استشهاد الشيخ تحدّث بها أحد أبناء عشيرة الشيخ و ليس من الاقارب المقربين- و كان يعمل في أعمال البناء قصّارا - فقال :
عندما حوصر الشعب الفلسطيني و منعت الرواتب عن الموظفين المدنيين و العسكريين في عهد حكومة حماس و من بعدها حكومة الوحدة الوطنية؛ فتوقفت أغلبية الأعمال التي يعتمد أصحابها كسبهم على السيولة المالية بأيدي الموظفين ، و أصبحت كغيري عاطلا عن العمل و لم أجد معي شيكلا واحدا أشتري به حليبا لطفلي الرضيع، فضاقت الدنيا في عيني كغيري من العمال ،فإذ بالشيخ مجد رحمه الله قادم نحوي و جلس على الأرض بجانبي و سألني : كيف الحال ؟ فقلت له : تحت الصفر ؟ فقال الشيخ :" اسمع يا ابن العم ؛ في آخر الشهر سيسلموننا إن شاء الله قسطا من الراتب لا يتجاوز ألف شيكل ( 170 دينارا أردنيا ) و لسوف أقسم المبلغ مناصفة بيني و بينك ، إني لا أرضى و إن الله لا يرضى أن يأكل أولادي و أولادك جياع ، و هكذا حتى تنتهي الأزمة مهما امتدت الأيام بنا". و يكمل راوي القصة " في آخر الشهر جاءني الشيخ و قال : جئت لأفي بالوعد الذي قطعته لك ، فقد استلمنا اليوم المبلغ الذي وعدنا به الحكومة و أحضرت لك حصتك منه. فقلت للشيخ : الله يجزيك الخير، ابق ما تريد إعطائي إياه لأولادك ، فإن الله قد رزقني بورشة أقصرها و استلمت مبلغا سلفا . هذه القصة لم يسمع بها أحد على لسان الشيخ من أهله و لا من أصدقائه ، بل حدث بها بعد استشهاد الشيخ من لو أراد لكتمها و ستر نفسه،ولكنها شهادة لم يشأ أن يكتمها .
هذه إحدى مزايا الشيخ: صدقة بلا رياء و لا منّ فلا تدري شماله ما أنفقت يمينه.
- * *
لم يرد ذكر هذه الطرائف و الأخبار إلا لإظهار مختلف جوانب شخصية الشيخ مجد البرغوثي و ليس حصرها بجانب واحد من التدين الصارم المتزمت . و الذي يحضر تدينه بصلاة وصيام و لا يحسن المعامملة التي هي نصف الدين . الرزق الحلال
- لم يكن راتب الشيخ يكفي عائلة تتألف من تسعة أفواه ،فعمل بالإضافة إلى إمامة المسجد أجيرا في دكان لذبح الدجاج و تنظيفه و تقطيعه ، و عمل في المزارعة في أرض الآخرين بنصيب من الثمر، و عمل في قطف الزيتون لدى مالكي أشجار الزيتون فيأخذ أجرته ثلث المحصول ليؤمن حاجة عياله ، و عمل بقالا في بقالة متواضعة ، و اشتغل راعيا للغنم .و عمل بائع خضار قرب بقالة لشقيقته التي توفي زوجها قبل استشهاد الشيخ بعام واحد تقريبا، و كان ربحه بسيطا و لكنه ارتبط به كما قال للمؤلف : إنني قبلت بهذا العمل كي أظل قريبا من أختي مواساة لها بعد وفاة زوجها ، و أن موزعي البضائع من خارج القرية يأتون بسياراتهم إلى بقالتها كما كانوا يفعلون في حياة زوجها ، و بعد وفاته عز علي أن يأتوا فيحادثوها و يساوموا و يبيعوا و يقبضوا ،فدرءا لأي همسة قد تقال اتخذت هذه الحرفة ، و رحم الله امرأ ذبّ المغيبة عن نفسه .
- كان الشيخ مخلصا في كل صنعة عمل فيها دون تعارض مع غيرها . فقد تذمر أحد الذين عمل معهم الشيخ إلى المؤلف بأن الشيخ يتأخر عن عمله بعد صلاة الظهر، فراجع المؤلف الشيخ حول حقيقة التذمر لافتا نظره بألا يتعارض أداء عمله الإضافي مع وظيفته الرسمية ليحلل قرشه من كلاهما . فأجاب الشيخ الذي لم يكن بحاجة إلى من يذكره : سامحك الله ،إنني لا أعمل عنده براتب شهري أو مياومة ، بل إن الاتفاق بيننا أن أجهز له أربعين طير دجاج ذيحا و تنظيفا و تقطيعا ليبيعها خلال النهار، و أنا أنجز هذا العمل كاملا في الصباح الباكر. و كثيرا ما تأخرت عنده حتى المساء إذا ما لزم الأمر و زاد الطلب . أما تأخري هذا اليوم بعد صلاة الظهر فإن خادم المسجد قد يتغيب أحيانا فأقوم مقامه في عمله، فأقوم بتنظيف مكان الوضوء و شطف دورة مياه المسجد و أجري على الله
سيرة القائد الشيخ مجد البرغوثي في ذكرى استشهاده الأولى الحلقة (3) بقلم:عبدالرازق البرغوثي تاريخ النشر : 2009-03-20
سيرة القائد المجاهد الشهيد الداعية الشيخ مجد البرغوثي في ذكرى استشهاده الأولى
بقلم . عبدالرازق البرغوثي
الحلقة (3)
- هناك قصة وقعت قبل استشهاد الشيخ مجد رحمه الله بعام واحد تحدّث بها أحد أبناء عشيرة الشيخ بعد استشهاده - و هو ليس من الاقارب المقربين- و كان يعمل في أعمال البناء قصّارا - فقال :
عندما حوصر الشعب الفلسطيني و منعت الرواتب عن الموظفين المدنيين و العسكريين في عهد حكومة حماس و من بعدها حكومة الوحدة الوطنية؛ فتوقفت أغلبية الأعمال التي يعتمد أصحابها كسبهم على السيولة المالية بأيدي الموظفين ، و أصبحت كغيري عاطلا عن العمل و لم أجد معي شيكلا واحدا أشتري به حليبا لطفلي الرضيع، فضاقت الدنيا في عيني كغيري من العمال ،فإذ بالشيخ مجد رحمه الله قادم نحوي و جلس على الأرض بجانبي و سألني : كيف الحال ؟ فقلت له : تحت الصفر ؟ فقال الشيخ :" اسمع يا ابن العم ؛ في آخر الشهر سيسلموننا إن شاء الله قسطا من الراتب لا يتجاوز ألف شيكل ( 170 دينارا أردنيا ) و لسوف أقسم المبلغ مناصفة بيني و بينك ، إني لا أرضى و إن الله لا يرضى أن يأكل أولادي و أولادك جياع ، و هكذا حتى تنتهي الأزمة مهما امتدت الأيام بهذه الأزمة". و يكمل راوي القصة " في آخر الشهر جاءني الشيخ و قال : جئت لأفي بالوعد الذي قطعته لك ، فقد استلمنا اليوم المبلغ الذي وعدتنا به الحكومة و أحضرت لك حصتك منه. فقلت للشيخ : الله يجزيك الخير، ابق ما تريد إعطائي إياه لأولادك ، فإن الله قد رزقني بورشة أقصرها و استلمت مبلغا من صاحبها سلفا .
- هذه القصة لم يسمع بها أحد على لسان الشيخ من أهله و لا من أصدقائه ، بل حدث بها بعد استشهاد الشيخ من لو أراد لكتمها و ستر نفسه،ولكنها شهادة لم يشأ أن يكتمها .
- هذه إحدى مزايا الشيخ: صدقة بلا رياء و لا منّ ، فلا تدري شماله ما أنفقت يمينه.
- * *
لم يرد ذكر هذه الطرائف و الأخبار إلا لإظهار مختلف جوانب شخصية الشيخ مجد البرغوثي و ليس حصرها بجانب واحد من التدين الصارم المتزمت . و الذي يحصر تدينه بصلاة وصيام و لا يحسن المعاملة مع الآخرين و التي هي نصف الدين .
الرزق الحلال
- لم يكن راتب الشيخ يكفي عائلة تتألف من تسعة أفواه ،فعمل بالإضافة إلى إمامة المسجد أجيرا في دكان لذبح الدجاج و تنظيفه و تقطيعه ، و عمل في المزارعة في أرض الآخرين بنصيب من الثمر، و عمل في قطف الزيتون لدى مالكي أشجار الزيتون فيأخذ أجرته ثلث المحصول ليؤمن حاجة عياله ، و عمل بقالا في بقالة متواضعة ، و اشتغل راعيا للغنم .و عمل بائع خضار قرب بقالة لشقيقته التي توفي زوجها قبل استشهاد الشيخ بعام واحد تقريبا، و كان ربحه من عمله هذا بسيطا و لكنه ارتبط به كما قال للمؤلف : إنني قبلت بهذا العمل كي أظل قريبا من أختي مواساة لها بعد وفاة زوجها ، و أن موزعي البضائع من خارج القرية يأتون بسياراتهم إلى بقالتها كما كانوا يفعلون في حياة زوجها ، و بعد وفاته عز علي أن يأتوا فيحادثوها و يساوموا و يبيعوا و يقبضوا ،و هي وحدها ، فدرءا لأي همسة قد تقال اتخذت هذه الحرفة ، و رحم الله امرأ ذبّ المغيبة عن نفسه .
- كان الشيخ مخلصا في كل صنعة عمل فيها دون تعارض مع غيرها . فقد تذمر أحد الذين عمل معهم الشيخ إلى المؤلف بأن الشيخ يتأخر عن عمله بعد صلاة الظهر، فراجع المؤلف الشيخ حول حقيقة التذمر لافتا نظره بألا يتعارض أداء عمله الإضافي مع وظيفته الرسمية ليحلل قرشه من كلاهما . فأجاب الشيخ الذي لم يكن بحاجة إلى من يذكّره : سامحك الله ،إنني لا أعمل عنده براتب شهري أو مياومة ، بل إن الاتفاق بيننا أن أجهز له أربعين طير دجاج ذيحا و تنظيفا و تقطيعا ليبيعها خلال النهار، و أنا أنجز هذا العمل كاملا في الصباح الباكر. و كثيرا ما تأخرت عنده حتى المساء إذا ما لزم الأمر و زاد الطلب . أما تأخري هذا اليوم بعد صلاة الظهر فإن خادم المسجد قد يتغيب أحيانا فأقوم مقامه في عمله، فقمت هذا اليوم بتنظيف مكان الوضوء و شطف دورة مياه المسجد و أجري على الله .
- عام 1995 عرض احد الأقارب من المتنفذين في السلطة على الشيخ منصباً في وزارة الأوقاف الفلسطينية يدرّ عليه دخلاً مجزياً ولكن الشيخ رفض المنصب و آثر وظيفته كإمامٍ و داعية براتبه الزهيد .
سيرة الداعية الشهيد الشيخ مجد البرغوثي الحلقة (7) إعداد : عبدالرازق البرغوثي تاريخ النشر : 2009-05-08
سيرة الداعية الشهيد الشيخ مجد البرغوثي
الحلقة (7)
إعداد : عبدالرازق البرغوثي
- ترى هل علمت يا أبا عمار أن الذين اتهموا باغتيالك بالسم و وأدوا ملف استشهادك قد نكلوا من بعدك بالشيخ مجد و غيره من المجاهدين حتى من أبناء فتح في كتائب الأقصى و وأدوا ملفات استشهادهم ؟، ومن يدري فلعل الذين أمروا بتصفيتك هم أنفسهم الذين اتخذوا قرار تصفية الشرفاء المجاهدين بعد اغتيالك ؟؟.
إنني أقول جازما: إنك يا أبا عمار ما كنت لترضى بفعلتهم النكراء التي خدمت العدو، و أنت الذي كنت متهما عند العدو بعد كل عملية استشهادية أنك تسجن المجاهدين من باب و تخرجهم من الشباك ، و كان الإسرائيليون يطلقون على عمليات الاعتقال في عهدك بسياسة"الباب الدوّار". و في عهدك أيضا وقف رجال الشرطة الفلسطينية إلى جانب إخوانهم المواطنين بل أمامهم في أحداث النفق في صيف عام 1996 ، و اشتبكوا مع جنود الاحتلال و قتلوا من الأعداء ما قتلوا ، و قدموا منهم الشهداء الأبرار . و لا ينسى القارئ ما روجته وسائل إعلام العدو في ذلك الوقت أنها حصلت على تسجيل لياسر عرفات في أحد اجتماعاته ببعض المسؤولين الفلسطينيين يقول فيه" إذا بقي الإسرائيليون على تعنتهم و عنادهم في إنكار حقوقنا في إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس فسيأتي اليوم الذي نصبح فيه كلنا خليل الوزير ويحيى عياش " .
و جاء الفرج من الله
- أُطلق سراح الشيخ في دفعة من الأسرى في منتصف حزيران عام 2005 وجرى لهم تكريم في مقاطعة رام الله تحت رعاية السيد رئيس السلطة الفلسطينية عرفانا بتضحياتهم .
و يا للعجب و الألم في آن واحد معا يا سيادة الرئيس محمود عباس ،أن يتم إعدام الشيخ مجد البرغوثي في سجن مخابرات السلطة الفلسطينية، بعد عامين تقريبا من تكريمك إياه مع زملائه المحررين، و لماذا أعدم ؟ على التهمة نفسها التي سجنته سلطات العدو بسببها و هي تجنيد و تدريب عناصر لكتائب القسام ، و لعدم اعترافه بالتهمة فإن محكمة العدو و مع جورها و بغيها لم تحكم عليه سوى عشرين شهرا ، و أطلق سراحه قبل انتهاء محكوميته بشهرين مع إسقاط الغرامة عنه .
- قبل 1500عام قال طرفة بن العبد و هو راعي إبل في الجاهلية :
و ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
فكيف حين يكون الضرب بالحسام المهند بأيدي ذوي القربى ؟
- كتب أحد الذين عرفوا الشيخ في سجن النقب عن تجربته مع الشيخ :
" لقد عشت مع الشهيد مجد البرغوثي خلال فترة الاعتقال.. وقد كنا في سجن النقب الصحراوي... لقد كان الشهيد دمث الخلق...دائم البسمة...خادما لإخوانه...يحب المزاح مع المعتقلين للترويح عنهم.. كان خطيبا..وإماما ولم يكن تصادميا في يوم من الأيام، وكان وحدويا.. وأحب الآخرين حتى أبناء فتح كانت علاقاته بهم قوية وأخوية.. وانا اكتب هذه السطور تسبقني دموعي، فلا استطيع تمالك نفسي... فرحمك الله يا أبا القسام. "
- * *
إلى هنا انتهى كلام الشاهد و المدوّن على أحد مواقع الإنترنت حتى لا يفتخر المجرمون الذين صفّوه لأنهم قتلوا قائدا عدوانيا يتربص بأبناء فتح الدوائر وأنه كان ينوي الانقضاض على عرش السلطة !!.
- و دليلا على صدق ذلك الشاهد الذي لا يعرفه الكاتب أو أحد من أقارب الشيخ يجدر ذكر ما قاله الشيخ للكاتب عن قسام نجل الأسير مروان البرغوثي : عندما كنت أسيرا في سجن(عوفر) كنت ألتقي بقسام مروان و كان أسيرا كذلك ، و كنت أظنه شابا منعما مرفها قبل أن أعرفه ، و لكنني رأيت فيه رجلا حقيقيا بأخلاقه و أدبه ، و لم يكن يخاطبني إلا بعبارة " يا عمّي " و كنت بدوري أعامله كأحد أولادي .
و كما سيرد في موضع آخر من هذه السيرة سيرى القارئ أن قسام نجل مروان كان بين الذين هبوا ساعة الإعلان عن استشهاد الشيخ رحمه الله و اشتبكوا مع الأمن الرئاسي .
إذن ،هذه نظرة الشيخ إلى شباب فتح على لسانه هو ، و على لسان زميله السابق في سجن النقب .
- توطدت علاقة الشيخ مجد مع أهل قريته و قرى أخرى و بالعاملين مع أجهزة السلطة من أقاربه ، بل كان مستودع أسرارهم و حلاّلا لمشاكلهم العائلية تجمعهم جميعا أواصر القربى و معاناة الأسْر عند الأعداء ،و لم يكن اختلاف الرأي و الرؤية ليفسد للودّ قضية ؛ و ظلت نظرة الجميع إلى الشيخ كمرجعية فقهية لهم في أمور الدين و الدنيا ، و هذا ما انعكس على موقفهم عندما استشهد الشيخ في سجون السلطة فكان أول من هب للاحتجاج على تلك الجريمة أبناء العشيرة من المنتسبين للأجهزة الأمنية .
خِطبة ابنة الشيخ
- في نهاية عام 2006 طلب عم الشيخ يد ابنته الكبرى (إشراق ) خطيبة لابنه (إباء) فأجاب : يا عمي ، أنت أبي و أبو العروس و أبو العريس فافعل ما تراه مناسبا و نحن موافقون . ثم سأل الشيخ زوجة عمه عن ابنها الخاطب حول التزامه بالصلاة و عن كونه مدخنا أو غير مدخن ، و عندما عرف أن الخاطب ملتزم بالصلاة وغير مدخن سرّ الشيخ و أبدى قبولا زائدا بالمصاهرة .
- إذن كان اختبار الشيخ لمن طلب خطبة ابنته يتألف من سؤالين :التزامه بالصلاة ،و اجتنابه التدخين .
ثم تأتي شهادة الطبيب الشرعي عند السلطة على شاشة تلفزيون فلسطين عن سبب وفاة الشيخ مجد البرغوثي بأنه "كان مدخّنا شرها" ، و الطبيب نفسه كان مدخنا !!! و حدث أبناء قرية الطبيب عارورة أن هذا الطبيب أشعل سيجارة وما أن انتهى منها حتى خرّ ساقطا على الأرض مصابا بجلطة حادة ، تشبه أعراضها ما لفقه هو على الشهيد مجد ، و توفي الطبيب بعد استشهاد الشيخ بشهرين ، و نعيه نشر في الصحف الفلسطينية يوم 21/4/2008.
شهيد يستشرف الشهادة
• في شهر نيسان عام 2007 استشهد الشاب محمد البرغوثي وهو من بلدة عابود شمال غرب رام الله على أيدي اليهود الغاصبين ،و عندما جرى للشهيد حفل تأبيني شارك فيه فصائل المقاومة فكان الشيخ مجد ممثلا لحركة حماس ، و خطب هناك خطبة ارتجلها و كانت مؤثرة تبدي صورة حقيقية لنظرة الشيخ إلى الشهادة و الشهداء ، و كأنها تخترق حجب الغيب إلى عام قادم .و قد أهداها أبناء بلدة عابود إلى أسرة الشيخ مجد بعد استشهاده مسجلة و مصورة بالفيديو على قرص حاسوب و هي منشورة على الإنترنت. و جاء فيها:
"... الحمد لله الذي شرف شعبنا بشرف الجهاد و الرباط على ثرى فلسطين ، الحمد لله الذي أكرم شعبنا بكرامة الشهداء . السلام عليكم أيها الأوفياء لعهدة الشهداء ... و إننا أمام هذا الحشد المبارك لنطمئنّ بإذن الله عزّ و جلّ أن عهدة الشهداء ما ضاعت ، و أن دماءهم ما ذهبت هدرا ... إن كل كلامنا يبقى هباء في الهواء ؛صغيرا أمام قطرات دماء الشهداء . إن أقلامنا؛ و كلامنا يبقى صغيرا حقيرا أمام من كتبوا قضيتهم بدمائهم ، أمام من فدوا قدسهم بأرواحهم ، أمام من قال فيهم ربهم "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ً" . و ممن قال فيهم ربهم " و الشهداء لهم أجرهم و نورهم" نورهم هناك في الآخرة ، و نورهم هنا يظللنا يضيء للحيارى الطريق ، و يعلن أن بلادا مات فتيتها لتحيا محال أن تضيع هذه البلاد . لا لن يعيد بلادنا غير دم حرّ أبيّ طاهر من مسلم"
- * * *
- لقد كان يُشهد للشيخ بجودة خطبه حتى لو كانت مرتجلة أداء و قدرة إقناع ، و كان يدعى للخطابة في قرى كثيرة مختلفة و كذلك في مواعظه عند تلقين الموتى، و قد سمعت احد الشباب الشيوعيين يقول مازحا : سأوصي إذا مت أن يلقنني الشيخ مجد لتسامحه في الدعوة و القدرة على الإقناع .