نحو نموذج ديمقراطي إسلامي (7)

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
نحو نموذج ديمقراطي إسلامي (7)
04-11-2007

بقلم: د. عصام العريان

مقدمة

الأسس والمنطلقات:

- تحريم استخدام العنف والقوة

- إقرار حق المعارضة السلمية

استطردنا في شرح الأسس والمنطلقات التي يقوم عليها أي نظام ديمقراطي، وبيان الدعائم والركائز التي يستند إليها بناءُ أيِّ نموذج ديمقراطي لدولة مدنية عصرية، من واقع خبرة الأمم والشعوب التي مارست هذا اللون من نظُم الحكم الحديثة في الدول الوطنية والقومية، خاصةً في البلاد الغربية المنتمية إلى الحضارة اليهودية المسيحية.

وظهر لنا بوضوح وجلاء أن الإسلام العظيم الذي جاء خاتمةً للشرائع السماوية جميعًا والذي يقول الله تعالى لنا في آخر ما نزل من آيات الذكر الحكيم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيْنًا﴾ (المائدة: من الآية 3)، هذا الإسلام بقواعده ومنهجه وتطبيقاته في عصوره الزاهرة في صدر النبوة وعهد الخلافة الراشدة، وفي الفترات المختلفة التي التزم فيها المسلمون بشريعة الله كاملةً غير منقوصة، هذا الإسلام العظيم يتفق تمامًا مع كل هذه الأسس وتلك الركائز، ولا مشكلة ثقافية أو قيمية كما يدعي بعض المبهورين بالتجربة الغربية فقط، والذين لا يرون تاريخًا للعالم قبل عصور النهضة الأوروبية، والذين لا يمدون بصرهم لا زمنيًّا ولا مكانيًّا إلى أبعد من أوروبا وأمريكا على شاطئ الأطلسي.

وعلينا أن نعترف هنا أنه مع الإقرار بهذه الحقيقة التي تمهد الطريق إلى بناء نموذج ديمقراطي إسلامي في البلاد الإسلامية ينضم إلى بقية النماذج الديمقراطية في أمريكا وأوروبا وآسيا أن هناك مشكلات وعقبات صاحبت إمكانية إقامة هذا النموذج، وهناك صعوبات تطبيقية في الأدوات والآليات المناسبة لدولة حديثة لترسيخ هذا البناء الديمقراطي.

أولى هذه المشكلات نفسية تتعلق بحالة الانهزام العسكري التي عاشتها الأمة الإسلامية وشعوبها أمام جحافل الغزاة الأوروبيين خلال القرون الأخيرة، بعد عصور من الانتصارات توقفت عند أبواب بواتيه في غرب فرنسا في العصور الأولى، ثم توقفت مرةً أخرى عند أبواب فيينا في آخر عهود انطلاق الدولة العثمانية، آخر دول الخلافة التي حملت راية الإسلام بقوة.

فالشعور النفسي بالانهزام يشكل عائقًا أمام الاقتباس من المنتصر لأسباب عديدة، أهمها:

الخوف على الثقافة الأصلية والعقيدة السليمة والتراث الحضاري، الذي انقطع تطوره في عهود الانحطاط ثم توقف تمامًا بسبب الاحتلال العسكري والسيطرة السياسية، ثم حدثت إعاقة شديدة لها نتيجةً للعهود المركّزة على إجلاء المحتل العسكري فقط دون بناء أساس على دعائم حضارية قوية.

ومنها انقسام الأمة بين محافظين جمدوا على القديم دون أي تجديد، وبين متحررين من كل تراث وعقائد زاهرة، انفلتوا من كل قيد، وانفصلوا عن الأمة تمامًا، وبين مترددين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

ومنها تبعة الجهود وضياع البوصلة تمامًا والجدال المستمر طوال قرنين من الزمان، والذي استمر إلى يومنا هذا بين مشروعين للنهضة: أحدهما حاول محاكاة النموذج الغربي الاستعماري بالكامل حذو القذة بالقذة وفشل في تحقيق آمال الأمة ولم يقتبس من الغرب إلا أسوأ ما فيه، ويكفي للتدليل على فشله ما وصل إليه التطور الديمقراطي من جانب، وحالة الاستبداد التي تخيم على معظم البلاد الإسلامية والفشل في مجالات التنمية الحضارية.. اقتصادية واجتماعية وثقافية وتعليمية؛ مما جعل بلادنا في مؤخرة الأمم في مجالات التقنية والتطور التكنولوجي، وعم الفساد وسوء الإدارة ونهب المال العام، والتفاوت الرهيب بين طبقة متخمة لا تمثل إلا أقل من 5- 10% من الأمة، وطبقات مسحوقة مطحونة يعيش أغلبها تحت خط الفقر بمئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم.

المشروع الثاني للنهضة، وهو الذي يريد الإحياء الإسلامي، يواجه عقبات ومشكلات من داخله كموجات العنف المتسرع الأهوج، الذي يشوِّه صورة الإسلام نفسه، وكالجمود على القديم، والإحجام عن التجديد في ضوء الثوابت الشرعية القطعية؛ مما حرم هذا التيار من اقتحام مجالات عديدة، وطرح تصورات إسلامية حديثة تجديدية في أهم المجالات، وهو بناء الدولة الحديثة ومعالجة آثار المرحلة الاستعمارية، وما أعقبها من مراحل الاستبداد المتسلط.

ومن هنا كانت هذه السلسلة لاكتشاف حقيقة تغيب عن الكثيرين على جانبي الحوار والجدال، وهي مدى توافق الإسلام العظيم وقواعده الأصيلة وتطبيقاته النموذجية مع الأسس والمنطلقات التي انطلقت منها النماذج الديمقراطية الغربية، ومع الدعائم والركائز التي بنت عليها الشعوب الغربية في أوروبا تجربةً حضاريةً ثريةً وغنيةً بالقيم والمبادئ الإنسانية، وبيان أنه لا حرج علينا- معشر المسلمين- في الأخذ بهذه التطبيقات الغربية في إدارة الدولة الحديثة، وأنه لا داعي لاختراع العجلة من جديد.

الذي يمكن أن يضيفه المسلمون إلى تلك التجربة هو إضفاء مصالحة تاريخية بين الدين، وهو هنا الإسلام، ذلك الاعتقاد الخالد بوجود إله حكيم قادر عليم بما يصلح عباده، أنزل لهم الشرائع، وأوضح لهم السبل لعبادته وعمارة الأرض، وبين الدنيا التي يتصارع الناس فيها على كسب المعاش في الطبقات الدنيا وعلى الجاه والسلطة في الطبقات العليا، في تجاوز تاريخي للصراع المرير الذي عرفته التجربة الأوروبية بين باباوات الكنيسة الكاثوليكية، الذين امتلكوا- في ظرف تاريخي- السلطتين الروحية والزمنية، وبين أباطرة العصور الوسطى الذين بسطوا سلطانهم على العباد بتأييد من بعض الباباوات وغضبهم في أحيان أخرى، وصراع آخر أقل مرارةً بين هؤلاء الملوك والأباطرة وبين أمراء الإقطاع وملوك المال.

هذه المصالحة التاريخية ستضيف بعدًا آخر أكثر أهميةً على تجربة الديمقراطية، وهو البعد الأخلاقي الذي ينبعث من الالتزام الديني، فلا يصبح عالم السياسة غابةً من الخداع والكذب والغش والتدليس، بل يتحول إلى عالم تحكمه قواعد ثابتة وأخلاق إيمانية، في ظل ضوابط صارمة لتداول السلطة وإدارة الشأن العام وتداول المال العام.

ونجح الغرب في تطوره منذ عصور النهضة والصراع المرير الذي طال لعدة قرون في بلورة أعمدة وركائز للبناء الديمقراطي على مستوى المحليات وعلى مستوى الدولة القومية، ثم على مستوى الوحدات الأكبر في الولايات المتحدة الأمريكية، وأخيرًا في الاتحاد الأوروبي الذي يتوسع مع الوقت، بينما نحن أصحاب القيم الأصيلة والقواعد الثابتة والدعائم القوية- التي تتضمن أسس وقواعد بناء نموذج ديمقراطي- فشلنا في اكتشاف الأدوات والآليات والوسائل المناسبة لتحويل تلك القيم الديمقراطية التداولية في مجال السياسة الشرعية إلى نظام ثابت مستقر.

فانحرفت الأمة الإسلامية مبكرًا عن الشورى واحترام التعددية والحفاظ على كرامة الإنسان، وصيانة الحقوق الأساسية للإنسان، والمحافظة على التنوع وإثراء الآراء والأفكار، إلى تسلط وقهر وتعصب وضيق أفق وانتهاك لحقوق الإنسان وإهدار لكرامته وصل بنا إلى الحالة التي يستنجد فيها جزء من أبناء الأمة بالعدو التاريخي الذي احتل أرضنا ونهب ثرواتنا، وما زال يتربص بنا لفرض الديمقراطية في بلادنا وإزاحة الديكتاتوريين الذين رعاهم ودعمهم وثبتهم في كراسيهم- باعتراف الرئيس بوش الابن- لمدة 60 سنة متواصلة، فكانت ثمار الغزو والاحتلال أشد مرارةً.

هذا الفشل دفع الغاضبين على اغتصاب السلطة والراغبين في استئناف حياة إسلامية سليمة من وجهة نظرهم منذ عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وفي مقدمتهم سيد الشهداء وسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب للخروج المسلح رافضًا توريث الحكم عبر الضغوط والإرهاب رافضًا بيعة الإكراه، وما زال موقفه هنا وخروجه محط نظر بين المؤرخين والناقدين هل هو محق فيه أم كان يمكن تجنب سفك الدماء البريئة؟!! وهل الخروج المسلح على الحاكم يحسم المسألة؟!

وتوالى الخروج على الحكام الظالمين، بسبب الصراع على السلطة ظاهرًا والأفكار الدفينة في النفوس باطنًا، مما جعل وسيلة تداول السلطة في تاريخنا مرتبطةً باستخدام القوة وهو ما لا تعرفه النظم الديمقراطية.

فهل يمكن القول بأن الثقافة الإسلامية لا تعرف التداول السلمي للسلطة وبالتالي فإن بناء نموذج ديمقراطي في البلاد الإسلامية أمل بعيد المنال؟!

أعتقد أن هذا الفرض خاطئ تمامًا لعدة أسباب:

أولاً: لم يكن هذا هو الأصل في تداول السلطة عبر التاريخ الإسلامي وكان سمة مراحل الانتقال من عهد إلى عهد أو من دولة إلى دولة على فترات متباعدة.

ثانيًا: كان افتقاد آلية سلمية لتداول السلطة مثل ما حدث في العهد الراشدي الذي تم فيه نقل السلطة بين 4 خلفاء راشدين بسلاسة ودون صراعات رغم استشهاد عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وباستشهاد علي بن أبي طالب بدأت عهود الصراعات على السلطة، وظهور الفرق الإسلامة السياسية؛ كالشيعة والخوارج.. إلخ.

ثالثًا: ظلت المدرسة الرئيسية في الفقه الإسلامي عند أهل السنة والجماعة ثم عهود طويلة من الفقه الشيعي تمنع الخروج المسلح على الحكام مع وقوع المظالم والمفاسد لأنها ترى أن المفسدة الأكبر في وجود فتنة صراع على السلطة وضياع الزمن وانتهاك حقوق الناس والهرج والمرج الذي يصاحب هذا اللون من الصراعات، مع الإقرار التام بالحق والمعارضة السلمية، وارتفاع الصوت والجهر بالحق في وجه أي حاكم ظالم مستبد.

ويمكننا هنا الإشارة إلى أن هذا الرأي الفقهي الذي يقول به جمهور الفقهاء عبر التاريخ الإسلامي يتفق الآن مع المبادئ الديمقراطية التي تمنع قيام ونشأة الأحزاب التي تمتلك السلاح أو تشكل ميليشيات عسكرية أو تنتهج العنف طريقًا للوصول إلى السلطة، وبذلك تنتهك أهم القواعد الديمقراطية وهي التداول السلمي للسلطة.

هذا المبدأ الإسلامي كان يعتبره البعض اجتهادًا خاطئًا في سياقه القديم؛ لأنه ينتهي إلى تكريس بقاء الأوضاع على ما كانت عليه؛ بما يمكن ويحتمل من ظلم أو فسق أو فساد، وكان البعض يراه اجتهادًا ناقصًا يحتاج إلى تكملة فقهية في مواجهة الظلم بطرق أخرى أو الاجتهاد لكيفية تغيير الأوضاع الظالمة والفاسدة دون الاستسلام لها، كما يؤدي الاجتهاد بعدم الخروج على الحاكم خشية الفتنة أو الفوضى في مقابلة ضرورية مع هذا الاجتهاد خاصةً في تطاول الأزمان واستمرار استبداد الحكام عبر العصور والصراعات الدامية التي حدثت بسبب تشبث الحكام الظالمين بسدَّة الحكم وعدم التخلي عنه حتى الممات، فما كان يعني استكمال الاجتهاد وبحث المسألة كلها من جميع جوانبها بالبحث في آليات تداول السلطة سلميًّا.

لقد يختلف اجتهاد العلماء المسلمين منذ استبداد الحكام بالسلطة وجريان توارث الحكم في الأسرة الحاكمة بسبب التشبث فقط بولاية العهد، دون النظر إلى أي جوانب أخرى أو بقية الشروط التي وضعها هؤلاء الفقهاء أنفسهم فيمن يتولى أمر المسلمين، وقد كانت غائبة في معظم الخلفاء والسلاطين والولاة على مدار الزمان، كان الواجب هو بحث مسألة تداول السلطة ومبدأ تغيير الحكام بالطرق السلمية أو الخروج السلمي ضد الاستبداد والظلم أو تنظيم المعارضة في الدولة الإسلامية.

كان من الممكن لمثل هذا الاجتهاد أن يثمر نظرية إسلامية متكاملة تسبق اجتهاد الدول الأوروبية وكان يمكن لذلك أن يكون بداية التطبيق الإسلامي للنظرية الديمقراطية وكنا سبقنا العالم كله في النظريات السياسية عوض أن نتوقف اليوم حيارى أمام اقتباس ما وصل إليه الغرب في إدارة المجتمعات ونظم الحكم.

إنها بضاعتنا رُدَّت إلينا فلا حرج علينا في تطويرها إسلاميًّا، ويبقى لنا في هذا الصدد من أجل بناء نموذج إسلامي ديمقراطي أن نتناول أمرين:

الأول: ما هي العقبات والمشكلات التي تقف في وجه التطبيق الديمقراطي

الثاني: ما هو موقف الإسلام من الأدوات السياسية الديمقراطية كالدستور والحزبية والمعارضة والبرلمانات والمحاكم الدستورية.. إلخ.

المصدر