نحو بناء نموذج ديمقراطي إسلامي (6)

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
نحو بناء نموذج ديمقراطي إسلامي (6)
18-10-2007

بقلم: د. عصام العريان

الأسس والمنطلقات- دولة العدل والقانون- المواطنة

تُعَدُّ سيادة القانون وإقامة العدل بين كل المواطنين على قدم المساواة أحد أبرز ملامح أي نظامٍ ديمقراطي، وهي أساس مشروعية الحكم وسند بقاء الدولة نفسها، ويبالغ بعض دعاة الديمقراطية الغربية كنموذج حضاري حينما يعتبرون أن المواطنة اختراع غربي أوروبي، أو أن إحقاق العدل وإقامة دولة القانون لم تعرفه البشرية قبل بزوغ نجم الحضارة الأوروبية الغربية.

والحقيقة أن البشرية لم تعرف القانون العادل الذي يقيم المساواة بين الناس إلا عندما نزلت الشرائع السماوية.. يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25)، وقد عرف المسلمون معنى المواطنة قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، بمعنى انتماء الفرد إلى مجتمعٍ ما، بغض النظر عن دينه أو جنسه أو قوميته؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)﴾ (الأنفال)، وهذه الآية تحوي الكثير من المبادئ والقواعد التي ترسي أساس المواطنة، وهو الانتقال والإقامة في مجتمع المسلمين، وبموجب هذه المواطنة فإن أحد أهم حقوقها هو النصرة والدفاع والحماية، والمساواة في الحقوق والواجبات- كما تقدَّم من قبل- مَعْلَم مهم من معالم الدولة الديمقراطية، والإسلام يكفل هذه المساواة بين كل مَن ينتمي لمجتمع المسلمين.

أما المساواة أمام القانون والخضوع لأحكام القضاء من جانب كل المواطنين، حكامًا ومحكومين، مؤمنين وكافرين، طائعين وعصاة، فهو ما يفخر به المسلمون في تاريخهم وعصورهم الزاهرة؛ فها هو الإسلام ونبيه- صلى الله عليه وسلم- يقرر: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

ويغضب أشد الغضب عندما يشفع لديه حبيبه وابن حبيبه أسامة بن زيد في امرأة شريفة من بني مخزوم سرقت لكي يعفيها من قطع يدها كعقوبةٍ مقررة.. فيقول- صلى الله عليه وسلم-: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (رواه البخاري).

ويساوي في القضاء العادل والدفاع عن المدينة المنورة وبين كل ساكنيها وقاطنيها من المؤمنين، المسلمين واليهود والكافرين أو المنافقين، وبين الجميع في تحمل أهم واجبات الدولة الحديثة التي أقامها في المدينة، وهما: إقامة العدل وحماية المجتمع من الجرائم، والثاني: الدفاع عن الدولة الوليدة ضد المعتدين عليها من غير أهلها.

ويشهد تاريخ الإسلام وقائع عديدة تطبيقية لهذا المبدأ المهم والخطير، منها ما سطَّره التاريخ بأحرفٍ من نور كيف قضى القاضي شريح لليهودي ضد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في درعٍ مسروقة، كما تدل الوقائع على غضب علي بن أبي طالب نفسه في مجلس القضاء عندما خاطبه القاضي بلقب أبي الحسن بينما نادى غريمه باسمه المجرد.

هذه الوقائع المتكررة في صدر الإسلام في عصوره الزاهرة هي التي جعلت أئمة الفقه يقررون حقيقةً كونيةً لخصوها في عبارة جامعة: "إن الله ينصر الأمة العادلة وإن كانت كافرةً، وإن الله يهزم الأمة الظالمة وإن كانت مسلمةً".

وهذه القاعدة تُبيِّن أن الأمم إنما تبقى وتزدهر بدوام العدل وسيادة القانون، وأن الأمم تندثر وتُمحى وتنهزم عندما يسود الظلم والفساد؛ لأن الله تعالى لا يحب الفساد ولا يحب المفسدين.

حاكمية الشريعة

قبل قرون عديدة من معرفة الأمم والشعوب مبدأ سيادة القانون وما يسمَّى "المشروعية العليا" جاء الإسلام ليقرر قاعدةً أصوليةً أصَّلتها كل الشرائع السماوية التي نزلت من عند الله تعالى؛ فهي "حاكمية الشريعة الإلهية"، وتستمد الشريعة السماوية الإسلامية قدسيتها في أن مبادئها العامة وأصولها المستقرة وبعض أحكامها التفصيلية هي من عند الله تعالى وليس للبشر فيها إلا الاجتهاد في الفهم والاجتهاد في التطبيق.

وهذا المبدأ يجعل الجميع خاضعًا لها خضوعًا تامًّا، فلا ينفك أحد- مهما كان- عن تطبيق الشريعة الإسلامية، لا حاكمًا ولا محكومًا، لا مشرِّعًا وضعيًّا أي عضوًا في مجلس الشعب أو قاضيًا أو فقيهًا شرعيًّا أو حقوقيًّا، ولا مواطنًا عاديًّا، ولا مواطنًا يتمتع بأي درجة من الامتياز، فلا حصانات أمام الشريعة الإسلامية الإلهية.

ويكفي إقرار النبي- صلى الله عليه وسلم- نفسه لهذه القاعدة عندما طالبه أحد الصحابة بالقصاص منه لأنه آلمه عندما ضربه في بطنه فآذاه، فما كان منه- صلى الله عليه وسلم- إلا أن كشف عن بطنه الشريف ليقتص منه الصحابي الجليل في ساحة الميدان قبل النزول للمعركة، فما كان من الصحابي إلا أن قبَّل بطن النبي- صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "إنني أقبل على الموت وأردت أن يكون آخر عهدي بالدنيا أن أمسَّ جسد النبي الشريف صلى الله عليه وسلم".

ولكنه قعَّد القاعدة العظيمة في أن القصاص حق مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو ما قرره النبي- صلوات الله وسلامه عليه- نفسه في آخر حياته عندما خطب في الناس يدعوهم لأخذ حقوقهم من قبل أن يلقى ربه في حديث طويل يخاطبهم فيه: "من كنت أخذت منه مالاً فهذا مالي يأخذ منه ما شاء، ومن كنت اقتدت منه فهذا حقه فليقتد منه.." إلخ الحديث الطويل المشهور.

ومن عظمة هذه الشريعة أنها جاءت صالحة لكل زمان ومكان، فلم تحتو على تفاصيل كثيرة إلا في بابين فقط هما: الأحكام التفصيلية في شأن الأسرة من خطبة وزواج وطلاق وميراث ورضاع وخلافات زوجية.. إلخ، والأمر الآخر تقرير أصول العقوبات الكبرى للجرائم الكبرى التي تهدد سلامة المجتمع، وهي التي جاءت بها كل الشرائع السابقة وأقرتها العقول السليمة التي بقيت على الفطرة إلى يوم الدين كالقتل والسرقة والزنا والقذف.

أما باقي الأحكام فهي في صورة قواعد عامة ومبادئ كلية تخضع عند التطبيق لاجتهادات المسلمين في العصور المختلفة؛ ولذلك اختلف الفقهاء في نظرتهم إليها عند توافر الشروط وظروف التطبيق، سواءٌ للحدود الأصلية أو بالنسبة للتعازير التي لم يقرر الله لها عقوباتٍ محددة، وتركها لاجتهادات المسلمين في العصور المختلفة.

وهنا ينبغي لنا أن نستفيد بتراث البشرية التي جعلت الأحكام المقررة في صورة قانون ثابت يلتزم به كل القضاة، بدلاً من ترك المسائل لاجتهادات القضاة في أماكن مختلفة، رغم أن النظام القضائي الأنجلوسكسوني ما زال يعمل وفق قواعدها "السوابق القضائية" وليس وفقًا لنصوص ثابتة، إلا أنه يتحول تدريجيًّا بصدور العديد من القوانين من "مجلس العموم".

وفي تاريخنا القضائي نجد أن التطور الطبيعي قد تم، وفي عهد الدولة العثمانية صدرت "مجلة الأحكام العدلية" التي تعد بمثابة الأصل لكل القوانين المدنية في الدول الإسلامية، ولم يحدث الانحراف التشريعي إلا في عهود الاحتلال العسكري.

إذًا إقامة دولة الحق والعدل وسيادة القانون التي يخضع كل المواطنين لأحكام الدستور والقانون هو مبدأ إسلامي أصيل، ولم يحدث الانحراف في تاريخنا إلا حديثًا في عهود الظلم والاستبداد، عندما تخلَّت الأمة عن تطبيق الشريعة الإسلامية كمبدأ أصيل، واستبدلت بها قوانين أخرى ليست لها نفس القدسية والمكانة في نفوس الشعوب، وبدأ الهوى يتدخل في صياغة الدساتير التي تتغير حسب مقاس الحكام وفي سَنِّ القوانين التي تصدر بهوى الحاكم أو وفقًا لمصالح النخب المسيطرة وليس لصالح المجموع العام، وفي تشكيل الهيئة التشريعية المنتخبة لصياغة القانون فإذا بها لا تمثل إرادة الشعب ولا تدافع عن مصالحه، بل وصلنا للتحالف المشبوه الخطير بين السلطة والثروة؛ مما أدى إلى إهدار مبدأ المشروعية نفسه، وانهارت دولة الحق والعدل، ولم يعُد هناك سيادة للقانون في البلاد الإسلامية، بل سادت مقولات: "أنا القانون" يطلقها كل حاكم مستبدّ ظالم، والناس في صمت؛ خوفًا ورهبةً، ومَن يعارض فمصيره القتل أو النفي أو السجن!!

العودة إلى الإسلام تعني إعلاء شأن القانون العام فوق رأس الجميع، بمَن فيهم من الحكام وأصحاب الثروة، وإعلاء مبدأ سيادة القانون يعني بالتالي تقرير أهم حقوق المواطنة، وهو المساواة أمام القانون، والمساواة في الحقوق والواجبات، فلا فضل لأحد على أحد، ولا ميزة لمواطن في الدولة على مواطن آخر، لا بسبب الدين ولا الجنس ولا اللون ولا الثروة ولا المكانة، فالجميع أمام القانون سواء.

المصدر