نحو بناء نموذج ديمقراطي إسلامي(3)

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
نحو بناء نموذج ديمقراطي إسلامي(3)
12-10-2007

بقلم: د. عصام العريان

مقدمة

(الأسس والمنطلقات)

تطورت النظم الديمقراطية في العالم كله عبر عدة قرون منذ عرفت البشرية الديمقراطية المباشرة في اليونان ثم الجمهورية الرومانية وصراع القياصرة ومجلس الشيوخ، ثم تسارعت وتيرة التطور في القرنين الأخيرين في أوروبا بعد الثورة الفرنسية وإعلان حقوق المواطن، وواكبها حرب الاستقلال الأمريكية وإعلان الدستور الأمريكي، وكانت بريطانيا قد سبقتهم قبل قرنين بإعلان "العهد الأعظم" "الماجنا كارتا" في صراع الملوك وأمراء الإقطاع.

استقرت النظم الديمقراطية الآن عالميًّا على دعائم معروفة لا ينكرها الإسلام بل يتوافق معها، وأرسى أسسها قبل 1400 عام منذ بعثة الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم-، ويفخر بها المسلمون في تراثهم وتاريخهم، ويتحدث بها دعاة الإسلام كافة، لكنهم يتوقفون عند تحويل تلك الأسس والمنطلقات إلى آليات وأساليب ووسائل عمل مستقل.

يمكننا تلخيص تلك الأسس والدعائم في الأمور التالية:

- الاعتراف بالآخر والحق في الاختلاف (المواطنة)

- التعددية التنظيمية في المجتمع

- حرية الرأي والحق في الإفصاح عنه جهرًا

- احترام الإنسان وكرامته وحفظ حقوقه لكونه إنسان.

- الحق في تولي الوظائف العامة ودوران السلطة.

- تحريم استخدام القوة والعنف في تغيير الأوضاع العامة.

- توزيع السلطات في المجتمع على 3 سلطات: تنفيذية وتشريعية وقضائية.

وقد اجتهدت المجتمعات الغربية في تحويل تلك الأسس والدعائم إلى آليات ووسائل عملية ظهرت في هذه الصور:

- وجود دستور أو قانون أساسي يُنظِّم العلاقة بين السلطات في المجتمع.

- الفصل بين السلطات وتحقيق التوازن بينهما وتحديد اختصاصات كل منهما.

- التعددية الحزبية وتنظيمها بين حكمٍ ومعارضة.

- البرلمان والمجالس الشعبية

- النظام القضائي المستقل على أكثر من درجة

- الصحافة الحرة والإعلام المستقل

إذا نظرنا إلى الأسس التي تقوم عليها النظم الديمقراطية سنجد أن الإسلام وقيمه وقواعده الأساسية قبل أن تأتي تجارب الأمم الإسلامية على مدار التاريخ وتطبيقات الممالك الإسلامية في المشرق والمغرب، ستجد أنها تنطبق بصورةٍ أو بأخرى على تلك الدعائم وتتوافق مع هذه الأسس.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أمرين في غاية الأهمية نبَّه عليهما الإمام الشهيد حسن البنا في رسائله:

الأول: أن القرآن العظيم والسنة النبوية الصحيحة المطهرة هما مرجع كل مسلمٍ في تلقي الأحكام الشرعية وتفهم النصوص وفق قواعد اللغة العربية دون تكلُّف أو تعسف، ويعني هذا أن اجتهادات الفقهاء محترمة ومُقدَّرة لكنها غير ملزمة، فلنا أن نجتهد طالما توافرت شروط الاجتهاد وأصبحت الحاجة إليه ضرورية، وسيجد كل مجتهدٍ في اجتهادات السابقين نبراسًا وضوءًا يُنير له الطريق.

الثاني: أن التطبيقات الإسلامية في إدارة المجتمعات وشئون الحكم كانت مرتبطةً بظروف العصور التي تم فيها تطبيقها، وهنا السعة أكثر وأوسع، فلا يجب علينا التقيد بتطبيقات تلك العصور مع اختلاف الظروف وتنوع الأحوال.

وهناك أمر ثالث لا يقل أهميةً:

أن الخبرة الإنسانية واجتهادات الأمم الأخرى متاحة لنا، وعلينا أن نستفيد منها، ولا حرجَ على المسلمين أن يستفيدوا في تدبير شئون حياتهم وإدارة مجتمعاتهم وحربهم وسلمهم من الأخذ عن الآخرين طالما لم يجدوا لديهم ما يطبقونه أو وجدوا ما عند الآخرين يتفق مع القواعد الأساسية والمنهج الإسلامي.

وفي صدر الإسلام في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين حدث الأخذ عن الخبرة الإنسانية في أكثر من موضوع:

- في الحرب: أخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه في حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وكانت الفرس تعتمده كوسيلةٍ لدفع الحصار وأخذ الصحابة والتابعون بالمنجنيق وركوب البحر وغيره.

- وفي إدارة الدولة: أخذ الفاروق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بالدواوين، فدون الجند في ديوان، ومن بعده أخذ عبد الملك بن مروان بسك العملة ولم يكن العرب يعرفونها من قبل، وغير ذلك.

اعترف الإسلام بالآخر الديني والآخر المذهبي والآخر القبلي، ونظَّم ذلك كله في إطارٍ إنسانيٍّ عظيم؛ فقد أقر الإسلام وجود الاختلاف في الدين، بين مؤمن وكافر، وحفظ للكافرين حقوقهم الأساسية والإنسانية، فليس مجرَّد الكفر ذريعة للحرب أو القتال أو الظلم، فلا بد أن يقترن مع الكفر المحاربة أو الدخول في قتالٍ ضد أمة الإسلام أو الاعتداء على الحرمات، ويتفق في ذلك مع غيره من مواطني الدولة أو مواطن غيرها من الدول.

واحترم الإسلام عقائد الآخرين ومنع اتباعه من التعرُّض لها بسوء، ولو كان بالكلمة فقال تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: من الآية 108).

واحترم الإسلام ما سبقه من أديان سماوية وجعل لأتباعها معاملةً خاصةً دون الآخرين فأحل نكاح نسائهم، وأحل أكل طعامهم وساوى بينهم في ذلك وبين المسلمين، وهي مادة التعامل اليومي، ويساهم في تقوية النسيج الاجتماعي والتماسك والتضامن بين الأمم، وتحقق التسامح داخل المجتمع.

واحترم اليهود والنصارى مع خلافهم في الدين ومنع اضطهادهم أو ظلمهم، وساوى بينهم وبين المسلمين في الحقوق والواجبات وفق القاعدة الأصولية "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا"، وهو التطبيق العملي لقاعدة "المواطنة" اليوم.

وعندما اتسع الفقه الإسلامي وظهرت الاجتهادات المختلفة، وتنوَّعت المدارس الفقهية، وتأصَّلت المذاهب العقائدية والفكرية والفقهية، عرف المسلمون المذاهب المختلفة وتعايش أئمة المذاهب العقائدية بسلاسةٍ مع الاختلاف في الرأي، ورأينا الشافعي يتتلمذ على مالك وابن حنبل يتتلمذ على الشافعي، ولم يظهر التعصب الفقهي المذهبي إلا في عصور الانحطاط والجهل، وعرفت عصور الازدهار في الدولة العباسية الأولى حوارات ثرية وخصبة تدل على سعة الأفق والتسامح، وانتشرت المذاهب واستمرَّت وتعايشت في بلاد المسلمين رغم ضيق أفق البعض ومحاولة بعض الحكام فرض مذهبٍ محددٍ على دولتهم كما فعل المغاربة في فرض مذهب الإمام مالك، وكما فعلت الدولة العثمانية ودول المغول في بلاد الهند في فرض المذهب الحنفي كمذهبٍ وحيدٍ للمملكة والدولة.

وبُعث النبي- صلى الله عليه وسلم- في بيئةٍ قبليةٍ تعرف التعصب للقبيلة والانتصار لأبنائها ظالمين أو مظلومين، فأقرَّ الإسلام حقيقةَ القبلية كحقيقةٍ واقعةٍ ولكنها رشدها وشذبها وهذبها، وجعلها للتنافس في الخيرات كما في الحروب والمعارك، أو للتضامن الاجتماعي والتكافل عند دفع الديات عند الجرائم والجنايات، فعاقلة المرء مسئولة عن أفعاله وضمان ما يلزمه من أموال ومنع العصبية والتفاخر بين القبائل بالانساب والجدود، وجعل القاعدة الأصلية هي التكافؤ بين البشر.. ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13).

فما الذي حدث حتى اختفت تلك المعالم الأساسية والقواعد الربانية؟؟

لقد حلَّ التعصب محل التسامح، وحلت العصبية محل المساواة، وأصبحت المجتمعات الإسلامية بعيدةً عن منهج الإسلام، وتتفاوت في اقترابها من حقائق الإسلام.

إن السبب هو غياب التربية الإسلامية السليمة والتأثر بالعادات والتقاليد التي حاربها الإسلام سنواتٍ وقرونًا عديدة، وبرزت عصبيات قومية وإثنية وعرقية ووطنية محل العصبية القبلية القديمة، بل ظلت معالم القبلية الجاهلية في بعض بلاد المسلمين محلاًّ للتفاخر والتظالم.

والعلاج هو العودة إلى قيم الإسلام ومنهجه وليس البعد عنه والاغتراب عن حقائقه.

العلاج هو أن تتربى الأمم والشعوب في بلاد المسلمين على التسامح والتكافؤ بين البشر والمساواة في الحقوق والواجبات واحترام شريعة الله- عز وجل- والتزام الدستور والقانون.

ولعل ذلك يكون هو السبيل إلى تغييرٍ ثقافي حقيقي يؤدي من جهة إلى العودةِ الصادقةِ للإسلام ويؤدي من جهةٍ أخرى إلى تهيئةِ المناخ لبناء نموذجٍ ديمقراطي إسلامي نفاخر به الأمم الأخرى، بل نتفوق به عليها.

هذا عن بعض أسس ومبادئ ومنطلقات الديمقراطية.. فماذا عن بقية الأسس؟

هذا حديث آخر.. والحديث متصل.

المصدر