من أسرار القرآن (367) (...فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ...)
بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار

بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن
(367) (...فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ....) (البقرة :144)
هذا النص القرآني الكريم جاء في مطلع النصف الثاني من سورة " البقرة ", وهي سورة مدنية , وآياتها مائتان وست وثمانون (286) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق , وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى معجزة أجراها ربنا – تبارك وتعالى – على يدي عبده ونبيه موسى بن عمران- على نبينا وعليه من الله السلام – حين تعرض شخص من قومه للقتل , ولم يعرف قاتله , فأوحى الله – تعالى- إلى عبده موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة , وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله , ويخبر عن قاتله , ثم يموت , وذلك إحقاقا للحق وشهادة لله الخالق بالقدرة على إحياء الموتى .
ويدور المحور الرئيسي لسورة " البقرة " حول قضية التشريع الإسلامي في العبادات , والأخلاق , والمعاملات , وإن لم تغفل هذه السورة الكريمة الإشارة إلى عدد من ركائز العقيدة الإسلامية , وقصص عدد من الأنبياء وأممهم .
هذا , وقد سبق لنا استعراض سورة " البقرة " وما جاء فيها من التشريعات, وركائز العقيدة , والعبادات, ومكارم الأخلاق, والقصص والإشارات الكونية, ونركز هنا على الحكمة من جعل التوجه إلى الكعبة المشرفة ( استقبال القبلة ) فرضا من فروض الصلاة وشرطا من شروط صحتها ,لا تصح الصلاة بدونه إلا ما جاء في صلاة الخوف والفزع , وفي صلاة النافلة على الدابة , أو السفينة , أو الطائرة وذلك للأمر الإلهي إلى خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم- بذلك حيث يقول ربنا – تبارك وتعالى- له : (.... فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...) (البقرة:144).
من أوجه الإعجاز التشريعي في استقبال الكعبة المشرفة
أولا : التأكيد على ضرورة توحيد المسلمين وجمع كلمتهم على التوحيد الكامل للإله الخالق – سبحانه وتعالى – ( بغير شريك , ولا شبيه , ولا منازع , ولا صاحبة ولا ولد ). فكما أن البيت المعمور هو قبلة أهل السماء فإن البيت العتيق هو قبلة أهل الأرض.
ثانيا : أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس في الأرض من أجل عبادة الله الخالق – سبحانه وتعالى – حيث أمر الله الملائكة ببنائها قبل خلق أبينا آدم – عليه السلام – ببلايين السنين وذلك لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
(1) " أول من طاف بالبيت الملائكة" (أحمد).
(2) " كانت الكعبة خشعة على الماء فدحيت منها الأرض " ( الهروي , الزمخشري , البيهقي , عبد الرزاق ).
(3) "دحيت الأرض من تحت مكة , فمدها الله تعالى – من تحتها فسميت ( أم القرى ) " ( الإمام أحمد , السيوطي ). وهذا المد كان في بدء تكوين الكتل القارية للإرض.
(4) وفي شرح هذين الحديثين الشريفين ذكر كل من ابن عباس – رضي الله عنهما – وابن قتيبة – رحمه الله – أن مكة المكرمة سميت باسم " أم القرى " لأن الأرض دحيت من تحتها لكونها أقدم الأرض ( البيهقي , الطبراني ) .
(5)كذلك أخرج كل من البيهقي والطبراني عن أبن عمر – رضي الله عنهما – موقوفا أنه ( أي البيت الحرام ) كان أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السموات والأرض زبدة ( بفتح الزاي أي كتلة من الزبد ) بيضاء فدحيت الأرض من تحته ولعل ذلك يفسر قول الحق – تبارك وتعالى - : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) ( آل عمران : 96 ) .
ثالثا : لذلك شرع الله – تعالى – الحج إلى بيته العتيق , وجعله ركنا من أركان الإسلام , كما جعله حقا لذاته العلية على كل مسلم , بالغ , عاقل , حر , مستطيع , ولو لمرة واحدة في العمر , وهو من الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة لقول ربنا – تبارك وتعالى – في محكم كتابه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ *) ( آل عمران: 97) .
رابعا : أكدت المعارف المكتسبة توسط مكة من اليابسة واستقامة خط الطول المار بها مع الشمال الحقيقي دون أدنى انحراف مغناطيسي , وهي خاصية محددة لهذه البقعة المباركة .
كذلك أكدت آيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أن مكة المكرمة ليست فقط في مركز يابسة الأرض , بل هي في موقع مميز من الكون كله وفي ذلك يقول المصطفى –صلى الله عليه وسلم -:
(1)- " البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح وهو على منا الكعبة" ( البيهقي , الأرزقي ).
(2)- " يا معشر أهل مكة إنكم بحذاء وسط السماء " (الفاكهي).
(3)- " إن الحرم حرم مناء من السموات السبع والأراضين السبع " (الأرزقي).
خامسا : تؤكد آيات القرآن الكريم توسط الكرة الأرضية من السموات وذلك بقول ربنا – تبارك وتعالى –
(1)- (يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ *) (الرحمن : 33) واجتماع أقطار السموات – على ضخامتها – مع أقطار الأرض على ضآلتها يؤكد مركزية الأرض من الكون .
(2)- في عشرين آية قرآنية كريمة جاء ذكر البينية الفاصلة بين السموات والأرض وذلك من قوله – تعالى – (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ) (مريم : 65).
وهذه البينية لا تتحقق إلا إذا كانت الأرض في مركز السموات السبع , فإذا كانت الأرض في مركز السموات السبع , وكانت الأرضون السبع كلها في أرضنا هذه , وكانت الكعبة المشرفة في مركز الأرض الأولى ( وهي اليابسة) اتضح تفرد موقع الكعبة المشرفة بالنسبة للكون كله, خاصة إذا أكد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن البيت المعمور يقع فوق الكعبة تماما حتى إذا خر خر فوقها .
المصدر
- مقال:من أسرار القرآن (367) (...فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ...) موقع : الدكتور زغلول النجار