مقالات بقلم الشيخ الشهيد: محمد فرغلي
إعداد: عبد الحليم الكناني
محتويات
مقدمة
هذه بعضٌ من روائع كتابات شيخنا الشهيد، وقد كان - رحمه الله - قليل الكتابة والكلام يرى في كثرة الكلام شهوة يجب أن تُقاوم، وأولى من كثرة الكلام كثرة العمل، والحقيقة أنني ما كنتُ أظن أنه على هذه الدرجة العالية من روعة البيان، وصفاء الفكر، والقدرة على مخاطبة العقل والقلب معًا، ولكن هذا هو ما أحسست به بعد قراءة مقالاته، وخصوصًا تلك المقالتين الرائعتين، نضعهما بين يدي القراء الكرام، ففيهما نفحة من روح شيخنا الشهيد رحمه الله.
محمد رسول الله
لقد كان العالم في اضمحلالٍ شديد، يتردى في هوة بعيدة الغور، يحيط به عوامل قتَّالة من الظلم والبغي والفجور، فبعث الله جلت قدرته رسوله محمدًا ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى فتفتحت أعين عمياء، وانفتقت آذان صماء، وزال عن القلوب ذلك الران الذي أحاط بها فحجبها عن النور
ولقد كان رسول الله أعظم إنسان نهض بالعالم وأحسن إليه فحوَّل مجرى الظلم ووجهَ الإنسانية إلى ناحية الخير والنفع والإصلاح، واستطاع بما وهبه له الله من سدادٍ وحكمة أن يؤلف بين قلوب نافرة ونفوس ثائرة وعقائد منكرة وأخلاق فاجرة، فجعل من كل ذلك وحدةً صالحة تحيا بروح واحدة، وتعمل لغاية واحدة، وتتجه اتجاها سليمًا منتجًا، مؤمنة بالدين القيم.
ولم يمض على رسالته بضع عشرة سنة حتى رأينا مجموعة قيمة من رجال العرب قد تآلفت قلوبهم وارتبطت برباط الأخوة الطيبة، وتناسوا ماضيهم السيئ ودفنوا الأحقاد وانطلقوا- وهم على قلب رجل واحد- يُعلون كلمة الله وينصرون رسل الله، ويقيمون ميزان الحق والعدل والإنصاف.
ولم يمض عليهم قرن ونصف قرن من الزمان حتى ملكوا زمام الأرض، وأزالوا عنها دولتين عظيمتين جبارتين دولتي الفرس والروم، فكانت هذه حقًا معجزة الإسلام التي وقفت أمامها عقول علماء أوروبا من المؤرخين والباحثين، ووقفوا أمامها حائرين مندهشين لهذا الفتح الذي لم يكن يتصوره عقل إنسان يعرف سُنن الحياة ونظام الكون.
فذهبوا يعللون ذلك بما وصلت إليه معرفتهم وعلى قدر حظهم من التفكير والاجتهاد، وقد وقعوا في أخطاء كثيرة؛ لأنهم لم يتذوقوا روح الإسلام العظيم ولم يسعدوا بهدايته التي هي موضع السر في ذلك النصر قرن ونصف قرن من الزمان.
فترة لا تُذكر في حياة الأمم وتكوين الدولة العظيمة السائدة في ماضي الزمن، يوم كانت الجيوش تسير على الأرجل، ويوم كان النصر لليد والسيف والفرس، لكن هذه الفترة كانت في الإسلام شيئًا آخر فوق العقل وفوق نظم الكون في مائة وخمسن سنة.
قامت العدالة في قلب جزيرة العرب وامتدت حتى وصلت بلاد المغرب وأطراف أوروبا، وسارت إلى الشرق حتى تغلغلت في جوف آسيا إلى أن بلغت الصين وانسابت إلى الجنوب، فأخذت بناصية الهند وملكت الهداية المحمدية قلوبَ أهل هذه الأمم والشعوب على ما بينها من اختلاف بعيد في الأصل واللغة والعقيدة، وصار الجميع يقولون بلسان عربي مبين لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وراح الداعي ينادي في جميع هذه الأرجاء المتنائية بصوتٍ واحد في وقت واحد صارخًا من أعماق قلبه فوق عالي المنائر: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
يالها من صرخات خالدة وأصوات طيبة كريمة تطرق سمع المسلم فيحنو لها ويطرب وتطمئن نفسه ويلين قلبه، فينطلق لسانه مرددًا هذا الهتاف الجميل، وذلك النداء القدسي: الله أكبر الله أكبر: في مائة وخمسين سنة قامت دولة الإسلام باسطة يدها فيها على أعمر بقاع الأرض وأخصبها، باسطةً نفوذها على الأمم ذات التاريخ الخالد، ووقفت تُملي كلمتها على العالم أجمع في رحمة ومودة تبغي الهدى والرضا والأمان، وكان كل هذا أثرًا لجهاد رجل واحد هو محمد رسول الله.
وحياة تنتج هذا الإنتاج العجيب المدهش واجب أن تُعرف، وأن يُعنى بدراستها عناية فائقة، وأن تؤلف الكتب والرسائل في البحث عن حقيقة هذه الذات الكريمة.
ولقد قام عدد عظيم وكثير من علماء أوروبا بدراسة الإسلام ورسول الإسلام، ومن قرن واحد مضى وضعوا آلاف المجلدات، وكتبوا آلاف الرسائل في تاريخ الإسلام ورسول الإسلام، لكن هذه المؤلفات على ما بذلوا فيها من جهد عظيم فائق، وعلى ما وصلوا إليه من حقائق غاية في الدهشة
وعلى ما بلغوا من الإبداع في جمال الأساليب ويُسْرها وانتحال الطرق العلمية التحليلية التي ترد النتائج إلى الأصول باحثةً في العلل والأسباب ومستخرجة نتائج قيمة ثابتة تعسر على الباحث السطحي، مع كل هذا ومع ما بذل المستشرقون من صبر وتضحية وتعاون في الكتابة عن الإسلام ورسول الإسلام فإنهم لم يصلوا إلى سرِّ هذه العظمة الجبارة والنقطة الحساسة في حياة الإسلام ورسول الإسلام.
ذلك أنهم لم تحل في قلوبهم روحانية الإسلام التي تطبع القلب بطابع عجيب، وتسكب على الروح نورًا وجلالاً وقوةً، وإنني لا أبخسهم حقهم، فلقد خدموا التاريخ الإسلامي والعلوم الإسلامية خدمةً عظيمة لم تخل من الدخل، وبلغوا في ذلك مبلغًا لا يسعنا إلا أن نعترف به وأن نقدره قدره.
ولقد سلكوا في التأليف مسلكًا جديرًا بالاعتراف والعناية، والذي نأسف له جدَّ الأسف أنَّ علماء الإسلام لم يعملوا في هذه الفترة المملوءة بالإنتاج العجيب من علماء أوروبا، لم يعملوا لخدمة تاريخ الإسلام ورسول الإسلام شيئًا يُذكر، فبينما تعد للمستشرقين مئات الكتب في الإسلام لا تجد ما تعده على أصابع اليد الواحدة من مؤلفات علماء الإسلام في هذا العصر، وكان هذا باعثًا لبعض كبار الكتاب من رجال السياسة والأدب إلى الكتابة في هذا الشأن، وإنني أذكر لهم عملهم بالإعجاب والتقدير.
وبعد كل هذا لم يتحرك كبار علماء الإسلام من رجال الدين الذين ينعمون في ظل الإسلام بما تتطاول إليه الأعناق، لم يتحرك كبار علماء الإسلام إلى أداء هذا الحق، ولم يجاروا أعداء الإسلام في نشر تاريخه والدعوة إليه وبيان ما قدمه للإنسانية من علم وإصلاح وسعادة.
ولست أريدُ أن أشدد النكير على رجال الأزهر ولا أحب أن أفتح لهم باب الجدل مع طائفة من طوائف الأمة، ولكن الحق يجب أن يقال وإن كان مرًّا، ولكن الدواء الذي يتخلل مجاري الدم وأسباب الحياة يجب أن يُعرف وأن يُوصف حتى لا يستشري الداء فيعز الدواء، ويقع البأس وينقطع الرجاء، وفي كل هذا ما يدعوني إلى أن أكتب فى سيرة الرسول الأعظم محمد؛ قيامًا بواجبي كمسلم وقيامًا بواجب علماء الإسلام لتاريخ الإسلام ورسول الإسلام، وإني أستعين الله جلت قدرته وعظمت نعمته أن يهبني قدرة وسدادًا وتوفيقًا.
الشرق والغرب
تحديد
أريد أن أحدد مقصدي من الحديث عن الشرق والغرب، في ذلك النزاع القائم بين الشرق الإسلامي الممتد على طول ساحل البحر الأبيض جنوبًا وشرقًا، ويشمل تركيا وسوريا ومصر وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، والذى يحيط بالبحر الأحمر شرقًا وغربًا، ويشمل الجزيرة العربية ووادي النيل، والذي ينساب في قلب آسيا فينظم إيران والأفغان وتركستان.
هذا الشرق الإسلامي الذي حددناه لك هو الذي نُريد أن نتحدث عن النزاع القائم بينه وبين أوروبا المسيحية التي يحتل علمها دول أربع هي إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وهي تحل بالجانب الغربي في سلسلة تبدأ بإيطاليا وتتصل بفرنسا وإسبانيا وتنتهي بالجزيرة البريطانية.
وإنك لتجد أن هذه الشعوب الشرقية الإسلامية التي ذكرنا تضم عنصرين كبيرين حملاً الراية الإسلامية في عصورها الماضية بالتعاقب، فكانت في يد العرب وكانوا أحق بها وأهلها فرفعوها عالية خافقة عزيزة جبارة، وأحاطوها بأرواح غالية ونفوس زاكية، وسفكوا في سبيل سيادتها دماء كافرة، وبذلوا من دمهم الزكي دمًا مؤمنًا، وافتتحوا ديوان الفداء وأكبّوا على ميدان الجهاد يمدونه بالشهداء حتى علت كلمة الله، ثم جاء العنصر التركي الشجاع الأبي مسلمًا فائرًا فتسلم الراية حتى آخر عهدها ثم ألقاها.
أين الراية؟
والآن لا ندري بيد مَن راية الإسلام؛ فقد مزقها الاتحاد الغربي بأوروبا المسيحية، ثم قامت الأشبال المسلمة في أنحاء الشرق الإسلامي المترامي الأطراف تبحث عن أشلاء هذه الراية، وفي النفس حسرات وفي طويات القلب سعير، حتى عثروا على أوصال ممزقة كاسفة لا تستطيع أن تُسمي شيئًا منها راية الإسلام
لكن الأشبال قد شغلوا بهذه الأوصال، وشغلوا بأنفسهم عن طلب الراية، وضاقت بهم الأرض من الضعف، ومن ضغط الاتحاد الغربي لأوروبا المسيحية ذلك الذي يريد أن يقضي على الشبح المخيف والخطر الداهم الذي يتمثلونه في الدين الإسلامي، فهم لا يُريدون أن ترفع له راية، ولا يريدون أن يسمع له صوت دائبين على ذلك يصلون الليل بالنهار جاهدين لا يفترون.
الاستعمار
ولقد أغارت دول الاتحاد المسيحي لأوروبا الغربية على الشرق الإسلامي فأحاطوا به إحاطة شاملة ودخلوه من أقطاره، ووصلوا منه إلى قرارة الدار ومستوطن الأسرار حتى صاروا أعلم به من أهله، وأعرف به من ساكنيه، ففتحوا على الشرق الإسلامي بابَ الأخطار وألبسوه ثوبًا ضافيًا من أليم العار، عارٌ لا يُمحى ولا يمكن أن يُنسى حتى يخرج من الشرق الإسلامي آخر جندي من جنود الاستعمار.
فمتى يرتفع ذلك الكابوس الضاغط على قلوبنا- الجراح لعزتنا والوخاز في أفئدتنا، ومتى يطهر جو الشرق المؤمن الطاهر الذي تتنزل فيه كلمات الله ودبَّت فيه أقدام الملائكة الأبرار، وانبعث منه الطيبون الأخيار من الأنبياء والمرسلين، وشبَّت فيه أديان تصدع بالحق وتُعلي كلمة الله باعثة في الناس روح الأمان والرضا والسلام؟ متى يطهر ذلك الجو- جو الشرق الرحيم الهادئ الكريم؟
متى يطهر ذلك الجو من أنفاس أولئك الذين يتجبرون على أهل السلام، ويتحكمون في رقاب أسياد الماضي وحكام الغابر؟ لقد سمَّموا الأجواء الطاهرة حتى إننا لنشعر بضيق أنفاسنا وتقلص قلوبنا ونفرة أرواحنا.
الحرية
ومتى نستنشق عبير الحرية صافيًا، ونشم ريح العزة رائعًا، ونرفع رؤوسنا إلى سمائنا فنراها ترسل علينا أشعتها ونورها دون أن يحول بيننا وبينها ذلك الغبار القاتم والدخان الفاحم الذي ينبعث من أنفاس الاغتصاب.
يوم العزة
يا يوم العزة متى تحلّ بتلك الديار التي بعد عهدك بها، وطال نأيك عنها بعد أن نشأت فيها ودرجت منها؟.. يا يوم العزة والكرامة متى تأوي إلى ديارنا؟ ومتى تنزل بأرضنا؟ إنك إن أتيتنا ولا غائب عندنا أعز منك إذًا لفديناك بأرواحنا ودافعنا عنك بمجدنا، وإذًا لحقٌّ لنا أن نعتز بك وأن نفرح بعد طول الغياب، وبعد طول الأسى والعذاب، حتى ذلك اليوم أما أعداؤنا فإنهم يرونه بعيدًا وأما نحن فنراه قريبًا.
نعم نراه قريبًا يوم أن تسودَ دعوتنا، ويفهم الناس فكرتنا، ويتجمع المؤمنون حول رايتنا، راية الإسلام يفدونها بأموالهم وأنفسهم ويجودون في سبيلها بالأموال والمُهج، يوم يعرف جند الإسلام حقيقة الإسلام، ويوم يفهم رجال الإيمان حقيقةَ الإيمان، يوم تقوم أسود الله من مرابضها فتكسر الحديد وتفك القيود، ثم تزأر بصوتٍ جبار قاهر يقتلع بذور اليأس، ويقتل بذور الضعف، فتحيي ميتَ الهمم وتبعث ماضي العزم
ثم تصرخ من الأعماق إلى الأعماق أصواتًا داوية تملأ الطباق:
- "نحن فداء الإسلام.. نحن فداء الإسلام، وها قد بُعثنا نسترد مجدنا ونستعيد عزنا، وها قد خرجنا نغسل العار، ونمحو أساطير الذل بجبار عزائمنا.. الجهاد طريقنا، وراية الإسلام رايتنا، وأعداء الإسلام أعداؤها، نصب عليهم لهيب غضبنا، ونستنزل عليهم لعنة من ربنا.
- ها نحن قد خرجنا، ولن نعود حتى يكون الدين كله لله، وحتى تكون كلمة الله هى العليا.. ها نحن قد خرجنا ولن يعود منا إلا شهيد أو سعيد، فأما شهداؤنا فأحياء عند ربهم يرزقون، وأما سعداؤنا فسيحملون بشرى إلى المخلفين بالديار أن قد زال العار، ومضى العدو الجبار حيث لارجعةَ له.. ها نحن قد خرجنا أبرارًا ولن نعود إلا أطهارًا".