مفارقات بين التحرير والتحريش بالشباب (2)
بقلم : أ.د. صلاح سلطان
الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
قال الإمام الشهيد حسن البنا: "إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها ، وتوفر الإخلاص في سبيلها ، وازدادت الحماسة لها ، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها، وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة : الإيمان والإخلاص والحماسة والعمل من خصائص الشباب؛ لأن أساس الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب، ومن هنا كان الشباب قديما وحديثا في كل أمة عماد نهضتها ، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف:13)".
وهؤلاء الذين ذكرهم الإمام البنا بأوصافهم هم شباب التحرير، لكن شباب التحريش هم هؤلاء الذين لم يغاروا على أعراض أخواتهم في التحرير، بل راحوا يتحرشون بأكثر من عشرين فتاة في الميدان، وهذا ما يعلن لكن المعلوم من الواقع والنفوس بالضرورة أن ما يعلن يكون ضئيلا إضافة لما يُخفى ويُستحيى من ذكره خشية العار والشنار، حتى اضطر شباب على المنصة أن يطلبوا من جميع الفتيات في الميدان أن يغادرن الميدان، وصدرت نصائح في عدد من الجرائد للفتيات إذا نزلن التحرير أو الاتحادية فاصطحبن رجلا أو شابا من أسرتكن، أو مجموعة متماسكة من زميلاتكن، والبسن الثقيل المحكم المتكرر من الثياب، مع دبابيس للطعن عن الاقتراب، وعشرة خواتم مدببة في كل صوابعك للزوم الضرب عند الضرورة، والاحتياط بصفارة قريبة من الفم حول الرقبة لزوم الاستغاثة، فهل آل أمر الثورة الشبابية النقية التي كانت في ميادين مصر أكثر من 12 مليون ثائر حر، ولم تسجل حالة تحرش واحدة ولا حالة اعتداء من باب: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) (ص: من الآية 24)، فعدت بذاكرتي إلى عفة الشاب سيدنا يوسف عليه السلام وهو المقهور بالعبودية، والمظلوم من إخوته في مؤامرة وجريمة مكتملة الأركان أن يقتلوه، فلم يتعلل ويتذرع بقوله: أين أذهب لو عصيتُ أمر سيدة القصر بعد أن تعرضت من إخوتي لهذا الإقصاء بغرض القتل، بل قال: (مَعَاذَ اللَّه إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) (يوسف: من الآية 23)، ولما اشتد الأمر وتحولت الفتنة من امرأة واحدة في القصر إلى نساء المجتمع كله، وهُدِّد بشكل صريح فاضح: كما قال تعالى: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف: من الآية 32)، فقال من غير تردد: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف: من الآية33)، شباب التحرير هم مثل الشباب المفعم بالعفة والمسئولية معا لما رأى يهوديا في سوق بني قينقاع يراود مسلمة عفيفة على كشف وجهها فأبت، فربط اليهودي أسفل ثوبها بعقاصها – أي أسفل شعرها- فلما قامت انكشفت، ورأى شاب مسلم الفعل الخسيس فما كان منه إلا أن قتل اليهودي الخائن فتجمع اليهود عليه فقتلوه، فذهب شهيد الدفاع عن أخته المسلمة ولو فعلها اليهود مع مشركة لما اختلف رد فعل هذا الشاب الصحابي الشهيد في الدفاع عن عرض أخته في الإسلام أو الإنسانية، ولابن القيم كلام رائع في كتابه: "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" حيث يرى أن المرأة لو راودها أحد على الزنا تقاوم وتقاتل حتى تذهب شهيدة ولا تمكن أحدا منها أبدا".
شباب التحرير يقتربون في أخلاقهم من هؤلاء الأفذاذ من شباب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وقد ذكرتُ كثيرا منهم في مقالي السابق، وهاهنا أزيد القارئ من البيت شعرا، أو من الهدي النبوي قبسا، حيث روى البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: كنا معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شبابًا لا نجِدُ شيئا - أي ما نتزوج به- فقال لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (يا معشرَ الشبابِ، منِ استَطاع الباءَةَ فلْيتزوَّجْ ، فإنه أغضُّ للبصَرِ وأحصَنُ للفَرْجِ ، ومَن لم يستَطِعْ فعليه بالصَّومِ ، فإنه له وِجاءٌ)، فالشباب هنا في قمة التعفف ويعالجون رغبات النفس الجامحة بلجام المتقين وهو الصيام، وصورة ثانية للشباب في العهد النبوي يرويها الإمام ابن ماجه وصححه الألباني أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جمعتُ القرآنَ فقرأتُهُ كلَّهُ في ليلةٍ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: (إنِّي أخشى أن يطولَ عليْكَ الزَّمانُ وأن تملَّ فاقرأْهُ في شَهرٍ)، فقلتُ دعني أستمتِع من قوَّتي وشبابي، قالَ: (فاقرأْهُ في عشرةٍ)، قلتُ: دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي، قالَ: (فاقرأْهُ في سبعٍ)، قلتُ: دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي فأبى ، فالشاب عبد الله بن عمرو يراجع النبي صلى الله عليه في ختمة القرآن في ليلة واحدة، وهو الذي راجعه أيضا في صوم الدهر حتى لم يرض له النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من صيام يوم وإفطار يوم، وصورة ثالثة يرويها الإمام الترمذي بسند صحيح أن الشاب عبدالله بن عمر قال: كنا نَنَام على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المسجدِ ونحن شبابٌ، فهم شباب في المسجد معتكفون، فإذا خرجوا من المسجد فهم المنفقون بسخاء، والمعطون بكرم يُضرب به المثل، ومن ذلك ما أورده الألباني في شفاء الغليل قال: كان معاذُ بنُ جبلٍ رضيَ اللهُ عنهُ شابًّا حليمًا سمحًا من أفضلِ شبابِ قومِه، ولم يكن يمسكُ شيئًا فلم يزل يدَّانُ حتى أغرق مالَه كلَّه في الدَّينِ فأتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فكلَّم غرماءَه فلو تركوا أحدًا من أجل أحدٍ لتركوا معاذًا من أجلِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فباع لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يعني مالَه حتى قام معاذٌ بغيرِ شيءٍ.
ومع هذا كانوا أحرص الناس على التعلم فصار معاذ السخي سيد العلماء ويتقدمهم يوم القيامة، ومنه أيضا ما عُرف في تاريخنا الفقهي أن عبد الله بن مسعود هو جذر ونبع المذهب الحنفي الذي يتبعه نصف مليار في العالم الآن، وعبد الله بن عمر هو جذر ونبع المذهب المالكي الذي يتبعه ثلث مليار من المسلمين اليوم، وعبد الله بن عباس هو جذر ونبع المذهب الشافعي، وأتباعه أيضا ثلث مليار مسلم اليوم، وعلماء الصحابة من العبادلة وغيرهم هم جذور وينابيع المذهب الحنبلي، ويتبعه ربع مليار مسلم في العالم، فإذا جئت إلى ميدان الحرب والقتال فهم الرجال، ومن ذلك ما رواه أبو داود بسنده عن علي قال : تقدم يعني عتبة بن ربيعة وتبعه ابنه وأخوه فنادى من يبًارز فانتدبَ له شباب من الأنصار فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث)، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلتُ إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة.
فهؤلاء شباب التحرير وليس أبدا هؤلاء الذين يقذفون القنابل والمولوتوف ليس على بني صهيون! بل على قصر الرئيس المنتخب ورجال الشرطة والجيش ومؤسسات الدولة.
أختم مقالي بكلمات من نور للشباب كما قال الإمام البنا: "ومن هنا وجب عليكم أن تفكروا طويلا ، وأن تعملوا كثيرا ، وأن تحددوا موقفكم ، وأن تتقدموا للإنقاذ، وأن تعطوا الأمة حقها كاملا من هذا الشباب، فأول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بأنفسكم، وأن تعلموا منزلتكم، وأن تعتقدوا أنكم سادة الدنيا وإن أراد لكم خصومكم الذل ، وأساتذة العالمين وإن ظهر عليكم غيركم بظاهر من الحياة الدنيا والعاقبة للمتقين".
فجددوا أيها الشباب إيمانكم ، وحددوا غاياتكم وأهدافكم، وأول القوة الإيمان ، ونتيجة هذا الإيمان الوحدة ، وعاقبة الوحدة النصر المؤزر المبين.
فآمنوا وتآخوا واعلموا وترقبوا بعد ذلك النصر.. وبشر المؤمنين.
حقا إن شباب التحرير عندنا هم هؤلاء الأطهار الأبرار الأغيار الأحرار الأخيار الذين يملئون الأرض عفة وطهارة، وعزة وقوة، وفتوة ورجولة، وشهامة ومروءة، وحمية وحكمة، وصفاء ونقاء، وذكاء وإباء.
وخذوا على أيدي شباب التحريش إما نصيحة رقيقة أو محاكمة عادلة.
المصدر : موقع الدكتور صلاح سلطان
المصدر
- مقال:مفارقات بين التحرير والتحريش بالشباب (2)موقع:نافذة مصر