محمد عثمان إسماعيل يتذكر: الوزير الذي كلفه السادات بتكوين الجماعات الإسلامية
عاطف عبد النبي
محتويات
- ١ على هامش هذه المذكرات .... أو الذكريات
- ٢ قصة حياة عادية
- ٣ العمل السياسي .. وبرلمان النكسة
- ٤ رجال حول الرئيس
- ٥ وبدأت اجتماعات التنظيم الطليعي
- ٦ عام الضباب
- ٧ وكلفني السادات بتشكيل الجماعات الإسلامية
- ٨ الأسباب الحقيقية للتطرف
- ٩ الفتنة الطائفية وخلافي مع الإخوة الأقباط
- ١٠ مسئول في منصب تنفيذي: تجربة شاقة
- ١١ رجل اسمه السادات
- ١٢ هل نبدأ من معاهدة السلام .. ليكن
على هامش هذه المذكرات .... أو الذكريات
هذه الأوراق التالية تأخر نشرها حولي السنوات الثلاث وذلك نزولا على رغبة صاحبها الذي آثر التأجيل – بعد أن كان متحمسا للنشر – لأسباب أقلها أن الرجل لم يرد أن يدخل في مهاترات مع أطراف تهوى البحث عن الشهرة والبطولات الزائفة تلك التي لم تصادف – يوما – هوي في نفس محمد عثمان إسماعيل ولم يسع إليها .
إذن لم يكن لى يد في تأجيل النشر فقد سجلت عدة حوارات مع صاحب هذه الذكريات بلغت من الوقت ما يقرب من الاثني عشرة ساعة وأفرغت محتوى شرائط التسجيل وصغتها صياغة مناسبة للنشر مع الحرص الشديد على عدم تغيير المعنى وذلك بالبعد عن المحسنات اللغوية التي قد تغير كلام الرجل لأن كلام محمد عثمان إسماعيل كلام مهم يروى وقائع تاريخية مهمة.
أيضا كنت أدرك أنني أتعامل مع شخص كان مسئولا وهو في نفس الوقت متهما بعدة اتهامات خطيرة بل هي أخطر التهم – قاطبة – على الأقل خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن المنقضى من تاريخ المجتمع المصري . وهذه التهم التي ألصقت بمحمد عثمان إسماعيل على الترتيب – من حيث الخطورة هي تكوين الجماعات الإسلامية التي خرج من عباءتها – فيما بعد – الجماعات الإرهابية تلك التي كوت المصرين بنار عنفها وروعتهم بصوت طلقات رصاصها وأفزعتهم بمنظر دم الأبرياء الذي أريق هدرا في معركة الجهل والفساد.
والتهمة الثانية التي أتهم به محمد عثمان إسماعيل هي اضطهاد المسيحيين أثناء توليه منصب محافظ أسيوط , أما التهمة الثالثة فهي : فصل عدد كبير من الصحفيين والكتاب من وظائفهم و نقلهم إلى وظائف بصلة لتخصصاتهم – فيما يشبه الازدراء – مثل محلات بيع الأحذية (باتا) أو مؤسسة اللحوم...! وذلك أيام أن كان محمد عثمان إسماعيل أمينا لتنظيم الاتحاد الاشتراكي .
وعندما كان صاحب تلك الذكريات يجلس على كرسي السلطة يحمى ظهره ويظهر في الكادر مع رأس النظم كانت الصحافة تسعى إليه وتطلب محاورته فيقترح هو أن تكون هذه الحوارات محاكمات أو جلسات للحساب (هو الذي يطلب أن تحاسبه الصحافة) وكان الذين يمثلون اليسار في الصحافة المصرية يفعلون ذلك وعندما يفتح لهم الرجل ذراعيه وعقله يلقون عليه التهم ويحاصرونه بالأسئلة
فيجاوبهم الرجل بعقلانية وبهدوء مفندا التهم وحدة وراء الأخرى ولا يسعهم في النهاية إلا أن يؤمنوا ببراءته مأخوذين بسعة صدر ذلك المسئول ورحابه عقله وحسن منطقه وجداله ولكن لأننا شعب يهوى الاتهام ويمضغ النميمة بلذة كله للحم الغزال ويطربه الظهور بمظهر العالم ببواطن الأمور ذهب دفاع محمد عثمان إسماعيل وبقيت التهم عالقة بذاكرة الخبثاء وإليكم الدليل .
في حوار جراه عبد الستار الطويلة نشر في العدد 2432 لمجلة روز اليوسف بتاريخ 20 يناير 1975 يقول محمد عثمان إسماعيل :
- " لقد نسبت إلى تصريحات ليست كاذبة فقط لا لتشويه سمعتى فقط بلا لإثبات أني مخبول ومجنون مثلا: نسب إلى أنني صرحت في مؤتمر عام أن أعداء مصر ثلاثة .. الشيوعيون واليهود والمسيحيون حسنا .. إنه من الممكن الهجوم على الشيوعيين واليهود الصهاينة ولكن هل يعقل أن يهاجم محافظ في اجتماع عام المسيحيين وهم أشقاؤنا في المصرية وهو حاكم للمسلمين والمسيحيين معا . ما رأيك أن أقرب أصدقائي هم من المسيحيين وأنا نجحت في انتخابات مجلس الشعب بفضل أصوات إخواننا الأقباط ....الخ"
وتمر الأيام لتأتي مرة أخرى مجلة روز اليوسف – نفسها – وتنشر لعلي سالم مقالا عن الفتنة الطائفية يقول فيها ما نصه : " قال محمد عثمان إسماعيل محافظ بني سويف أعداء مصر ثلاثة الشيوعيون والمسيحيون والإسرائيليون ".
فمن أين أتي على سالم بتهمته ؟! هل نقلها عن كلام محمد عثمان إسماعيل الذي قاله تدليلا على سذاجة التهم التي تلقي عليه ؟! أم سمعها من آخرين ولم يحاول أن يجهد نفسه في البحث عن صدق الرواية التي التقط منها التهمة (الخطيرة) ولم يهتم إن كانت رواية مذوبة أو مجروحة أو ضعيفة أو معدومة الإسناد !!
ولم يكتف على سالم بذلك لكنه مضى خطوة أخرى أخطر من الأولي وهي تحرض السلطة على محمد عثمان إسماعيل عندما أضاف في فقرة تالية من مقاله: " قد يكون من المناسب لقادة حملة الصعيد على ملفات كل من عينهم محمد عثمان إسماعيل في قرى ومراكز محافظة أسيوط وفي ديوانها العام أيام توليه منصب محافظ أسيوط !!"
وقد نفهم الأمر على أن على سالم من المعسكر المضاد لمحمد عمان إسماعيل ... لذلك فهو على استعداد لأن يصدق فيه أى كلام يقال لكن الحقيقة أن الأمر أعقد وأخطر من ذلك لأنه يفضح ويدين طريقة تفكير وتعامل رموز ومثقفي هذه الأمة مع قضايا الوطن والخصوم الوطنيين ومن سخرية الأقدار أن على سالم نفسه الذي يدعي العلمانية والعقلانية تجرع من نفس الكأس
واكتوى بنارها حتى جأر منها وذلك عندما زار إسرائيل بمبادرة شخصية فانبهر بما شاهده وجاء يحمل لقومه البشري عن بلدا كان يحسبه سكنا للشيطان فوجده جنة للملائكة (يا أستاذ على ن الكلام أمانة أو قبل أن يكون حرفة وأن كلمة تخرج من سن قلم كاتب قد تصيب إنسانا في مقتل)
لقد أوجعت التهمة محمد عثمان فأقام دعوى قضائية ضد على سالم وضد مجلة روز اليوسف وصدر في الدعوى حكما لصالحه بالتعويض الذي لم يكن يريده محمد عثمان لكنه كان يريد صكا من القضاء بالبراءة ودليلا على زيف اتهامات خصومه لكن ذهب الحكم وبقي مقال على سالم في ذاكرة الذين قرأوه ولم عرفوا الحقيقة.
لقد اكتشفت في محمد عثمان إسماعيل – عندما قابلته وجلست إليه – حالة نادرة في المسئولين وشخصه تسقط كل من يعتلي جواد السلطة ... شخصية غير مؤهلة للعب السياسة هذه اللعبة التي تحتاج مهارة لم يوهبها محمد عثمان فما الذي دفع به للنزول إلى هذا الملعب ؟!! سألت نفسي وعرفت الإجابة من سرده لوقائع حياته ... إنها الظروف وحدها هي التي دفعت بمحمد عثمان إسماعيل لهذا المدمار ووضعته في طريق السلطة.
وفهمت أيضا أن الرجل كان يؤمن بمبادئ أخلاقية أراد أن يرسخها في المجتمع وسعى لغرس البذرة لكنه لم يرع الغصن الذي تغذي على سموم دخيله فأثم شجرة مسمومة . لم ينكر الرجل تهمة اضطلاعه بمشروع تكوين الجماعات لكنه أرادها إسلامية ولم يردها إرهابية . وأنا لا أدافع عنه أو أتكلم باسمه ولن أصف ما حدث بأن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة فعلم النوايا عند خالق أصحابها وحده سبحانه وسوف أترك للقارئ الحكم الأخير على رواية محمد عثمان
لكن أود أن أثبت هامشا صغيرا على متن هذه الرواية هما رأي الخاص ويتلخص في جملة وسؤال .... الجملة هي: "محمد عثمان إسماعيل آمن بشخص السادات ومبادئه الأخلاقية وزعامته" أما السؤال فهو : " هل كان السادات لديه نفس التوجهات الأخلاقية والدينية عندما وافق محمد عثمان وشجعه على تكوين الجماعات الإسلامية ؟ وتظل الإجابة عن السؤال مفتوحة إلى أن نعرف من صاحب المذكرات والوقائع ونفهم أسبابها ودوافعها من الأوراق التالية" .
قصة حياة عادية
اسمي محمد عثمان إسماعيل عثمان صعيدي قريتي التي ولدت ونشأت فها باسمها المعصرة تابعة لمركز أبنوب أحد مراكز محافظة أسيوط وتاريخ ميلادي هو الأول من يناير سنة 1930 أما ونحن الآن على مشارف انتهاء هذا القرن فقد اقترب عمرى من العام السبعين وبالتحديد عن تدوين هذا الكلام أكون قد أكملت السابعة والستين إلا قليلا شهور وأيا ما .
لقد قرنت صفة الصعيدي باسمي لأن هذه الصفة مثار فخري واعتزازي – ولا تزل على الرغم من أنها الصفة التي يتندرها بها البعض أو يسخرون من أصحابها للكنها تعني عندى تركيبة من الأخلاق تؤصل شخصية الإنسان المصري الحقيقي ابن تراب هذا الوطن سليل الفراعين وابن الحضارة الإسلامية صاحب العود الصلب الذي لا يعرف الانحناء ويقاوم العصر أو الكسر حتى صفة "العند" وصلابة الرأي التي هي أولي الخلائق بالسخرية كنت أجدها أحيانا كثيرة خيرا من التومية "وتلويع" الكلام وتحميله أكثر من وجه وأكثر من معني .
لا أنوي التفلسف ولم أشا أن أقدم "مذكرات" تلك الكلمة التي بت أمقتها بسبب ابتذالها فقد صار كل من هب ودب يكتب مذكراته ولكنى فكرت كيف أبني جسرا من التواصل مع قارئ كلماتي أو ذكرياتي عن أحداث عشتها أو شاركت في صنعها أو على الأقل كنت شاهدا عليها .. إن الإنسان لا يهبط على الحياة "ببراشوت" عند العشرين أو الثلاثين من عمره مثلا فلابد أن له يوم ميلاد
كما أنه سكون له يوم معلوم عبد الله يترك فهي هذه الدنيا وإسقاط أيام سنين من هذه الرحلة لابد سيخلق شيئا من الغموض والتورية وهذا ما جعلني أقدم على تعريف الآخرين بالبيئة والزمن الذين نشأت فيهما لأن تلك الظروف في الغالب هي التي تسوى الإنسان كائنا اجتماعيا يحمل سماتها في عقله وقلبه وتكاد تنطبع على جبينه .
منذ الصغر والنشأة الأولي وجدت الناس في قريتي المعصرة تعاملني بكثير من الاحترام كيف لا ؟ وأنا أحد أبناء عمدة القرية وأمي أيضا ابنة لأحد عمد القرى المجاورة وهي قرية بصرة التابعة – أيضا لمركز أبنوب .
الأرض التي كان يمتلكها والدى أضافت إلى هذا الوضع الاجتماعي وضعا ماديا مميزا أقرب إلى الثراء وكفلت لنا رغد الحياة والترف ومنذ اليوم الأول لميلاد وأنا صاحب أملاك حيث أن والدى كان وحيد أبويه وكذلك جدي لأبي ولأجل هذا السبب كانت سعادة أبي غامرة كلما أنجب ابن حتى وصل عدد أولاده الذكور إلى سبعة وكان يعبر عن سعادته تلك بأن يهب للمولود عددا من الأفدنة يسجلها بإسمه على سبيل الهدية.
ولا أذكر أن أحدا من أبناء قريتي "المعصرة" ناداني أو خاطبني باسمي مجردا من لقب الأفندى أو الشيخ أما لقب الأفندى فكان دائما يلتصق بمن يرتدى البدلة والطربوش بينما ينادى أولاد الأعيان والملاك وذويهم بالشيخ فلان.
تلقيت جميع مراحل تعليمي الأولية في مدينة أسيوط حيث اجتزت المرحلة الابتدائية في المدرسة الأميرية ثم التحقت بعدها بمدرسة أسيوط الثانوية (جمعة أسيوط الآن) وكان التعليم في ذلك الزمن وهو أربعينيات هذا القرن بمصاريف تبلغ عشرين جنيها للمرحلة الابتدائية وخمسة وعشرين للثانوى
وفي المدرسة كانت تقدم وجبة يومية لكل تلميذ أو طالب تتكون من طبق خضار وطبق أرز وقطعة لحم ثم نوع من أنواع الفاكهة وعن كثافة الفصول لا تسل لأنها بأى حال من الأحوال لم تكن تزيد على عشرين طالبا وملحق بالمدرسة فناء واسع يضم الملاعب للأنشطة الرياضية كذلك حجرات مجهزة لممارسة كافة الأنشطة الإبداعية والهوايات مثل الرسم والنحت والتصوير والموسيقي.
هذا عن الجماد أما العنصر البشري وكانوا بالفعل كذلك الكل يتفاني في أداء عمله تفانيا يصل إلى حد التنافس وتظهر نتائج هذا التنافس جلية على طلابهم فيستوعبون دروسهم ويحاولون بدورهم إظهار اجتهادهم لمدرسيهم وكان المدرس إذا لاحظ ضعفا في استيعاب بعض تلاميذه للمادة التي يقوم بتدريسها فإنه ينبه عليهم بالحضور مبكرا ساعة أو أكثر قبل بدء اليوم الدراسي ليعيد لهم شرح ما استغلق على أفهماهم أو يراجع معهم الدروس الصعبة .
لم تعرف أجيالنا ما يسمي اليوم بالدروس الخصوصية اللهم إلا بعض الطلاب ضعاف التحصيل (جدا) وكانوا يتلقون مثل هذه الدروس في مادة أو اثنين على الأكثر وهما اللغة الأجنبية سواء الانجليزية أو الفرنسية والرياضيات ويدفع للمدرس قروش قليلة لا تزيد على ثلاثين قرضا للحصة أو جنيه كامل لثلاث حصص
وكان ذلك مثار حسد لمدرسي الرياضيات واللغات من قبل مدرسي المواد الأخرى... أقول كان ولاحظ أن هذا الفعل تكرر كثيرا في الأسطر السابقة لأن ذلك (كان) في الماضي أما الآن ومع مجانية التعليم المزعومة فالأمر قد اختلف كثيرا وصارت تجارة التعليم هي الاستثمار المضمون لأصحاب الملايين
فالطالب أو التلميذ منذ التحاقه بمرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية وحتى تخرجه يتكلف على أهله آلاف الجنيهات وصارت الدروس الخصوصية تغطي خريطة كل المواد على المستويات الدراسية حتى أصبحت دخول المدرسين – أيا كانت المواد التي يدرسونها تضارع أو تزيد على دخول أكبر الأطباء وأشهرهم .
وكما سبق وأن قلت لم يكن لى أعمام ولذلك فكر أبي ن يستبقي أحد أولاده الذكور في القرية ليخلفه في العمودية ويباشر زراعة أرضنا ووقع الاختيار على الرغم من أن ترتيبي الثالث بين أخوتي كنت قد وصلت في رحلة التعليم إلى السنة الرابعة من التعليم الثانوي (الثقافة) كما كانت تسمى في ذلك الوقت فانقطعت عن الدراسة حسب أوامر والد ومكثت بالقرية و أؤهل نفسي – بعيدا عن التعليم – لما أنا مقبل عليه من مهام جديدة
وسمح الفراغ الطارئ على حياتي أن يلتف حولي بعض الشباب الذين هم في مثل سنى ويمتون لى بصلة قربي أو مودة ويقدمونني عليهم وبالطبع كان هذا شيئا يسعدني ويلبي بداخلي متطلبات ذلك السن من حب القيادة والشعور بالأهمية ولم أدرك في ذلك الوقت سر هذا الاحترام والتكريم والتقدير الذي يناله دائما من يملك أن يغدق على الآخرين ويوفر لهم متطلباتهم المادية .
في القرية الحياة كانت مبهجة على الرغم من بساطتها ولا نسى أبدا أيام وليالي رمضان في النهار يجتمع الرجال قبل أذان المغرب في الدوار – ووصف الرجل يطلق على من يزيد عمره على اثنى عشر عاما – بينما تجتمع النساء في المنازل وفي الدوار الطعام يوجد بوفرة يكفي الحاضرين ويفيض تحسبا لحضور ضيوف أو عابري سبيل وهذا الكرم لم يكن يقتصر على الدوار وأصحابه فقط لكن كان الرجل الفقير أو الفلاح الأجير يحرص – أيضا – على أن يخرج (الطبلية) أمام منزله ويرص عليها أطباق طعامه القليل وينتظر مرور من يشاركه هذا الطعام .
وبعد صلاة العشاء تبدأ السهرة أيضا في الدوار وتستمر حتى منتصف الليل يحيها "مقري" يتلو آيات الذكر الحكيم وينصت له الجميع في خشوع, وعند انتهائه ينصرف الرجال إلى بيوتهم وقلوبهم ملائ بالود والصفاء تلفهم فيضويات الإيمان فيغلق كل واحد عليه بابه ليغفو قليلا ثم ينهض وأهل بيته يتناول طعام السحور ويستعد لصلاة الفجر جماعة في مسجد القرية .
ما عدا رمضان وفي بقية شهور السنة فالقرية لا ترى اللحم إلا يوم السوق أما كبار البيوت والتي كان يطلق على أهلها الأعيان فأنهم يذبحون طول أيام الأسبوع في الدوار والذبيحة عبارة عن خروف كبير ثمنه في ذلك الوقت كان لا يتعدى الجنيهات الثلاثة ومنذ ن وعيت على الدنيا وأنا أرى بي يحفظ في هذه الذبيحة حق السائل والمحروم فيأمر بتقسيم كثر من نصفها مقادير تبلغ رطلا أو رطلين تلف في ورقة ويأمر قهوجي الدوار أن يوصل هذه اللفائف إلى أسماء بعينها ... هذه لفلانة وتلك لفلان.
وكان أمثال والدي كثيرون يشيعون روحا من التكافل تحنو على الفقير وتضمد جراحه وتزيل أى أثر من أحقاد قد يخلقها الحرمان أما الآن فقد اختفت من ريف مصر شمله وجنوبه تلك الصورة حل محلها رذيلة الأنانية وحب الانفراد والانعزال وباتت البيوت مغلقة على أصحابها ضنينة بما لديها إلا على أهلها الذين قنعوا بالجلوس أمام التليفزيون يبخ قيمه في وجوههم ويعلمهم عادات وتقليد غريبة عن مجتمعنا .
هناك أيضا أيام الفيضان والذي كان يأتي بعد جمع محصول القطن والذرة فيحيط القرية حتى تصير جزيرة تلفها المياه من كل جانب ويصبح أهل القرية لا عمل لهم إلا الجلوس في جماعات يتسامرون فيتبادلون القصص أو يقضون الوقت في لعب (السيجة) وهي لعبة أشبه بالطاولة أو الشطرنج ترسم رقعتها على التراب ويتبادل اللاعبون قطعا من الطوب تسمي أحانا الكلاب ويفضل لعبها غالبا كبار السنة
أما الشباب فكانوا يتجمعون في قوارب تقف بهم وسط مياه الفضيان التي يبلغ عمقها حوال المترين ويطيب السهر خاصة إذا كان القمر في كماله يضئ السماء ويصاحب المجموعة واحد يحيد العزف على الربابة أو النادي بينما ينشغل البعض في شئ جدى على (صاجة) أعدت خصيصا لهذا الغرض وما أن ينضج لحم الجدي
حتى نبدأ في تخاطفه في مرح وسعادة هذه السهرة لم تكن تتكلف الكثير فهذا الجدي (وهو ذكر الماعز) لم كن ثمنه زيد على العشرين قرشا رغم أن وزنه كان يريد على العشرين رطلا ولا غرابة في ذلك فالديك الرومي السمين كان ثمنه حوالي خمسة عشرة قرشا والفرخة الكبيرة ثلاثة قروش , وزوج الحمم خمسة قروش عشرة بيضة كانت تساوى قرش صاغ واحدا أما البقرة فكان سعرها يتراوح ما بين أربعة جنيهات إلى خمسة وهكذا قس على ذلك بقية الأسعار .
كان هذا الحال يستمر لأربعة أشهر تحاصر فيها مياه الفيضات القرية من جهاتها الأربعة والخارج من القرية أو الداخل إليها لا يستطيع الانتقال إلا من خلال تلك القوارب الصغيرة التي كانت تمثل مصدر رزق لبعض الفلاحين لنقل الأفراد من الجسر إلى القرية أو العكس مقابل أجرة تساوى خمسة مليمات (تعريفه) للنفر.
وعلى الرغم من السعادة وراحة البال اللذين شعرت بهما في أول الأمر فالرتابة والتكرار خلقتا داخلي شعورا بالملل بدأ يتنامي في نفس الوقت الذي كان أبي قد راجع فيه نفسه في أمر بقائي بالقرية بعد أن لاحظ انخراطي في صداقة بعض الشباب بصورة لم يرتاح لها ولاحظ – أيضا – تغير في سلوكياتي وأفعالي التي بدأت تميل إلى العنف
وممارسة بعض أنواع الاستبداد دفعني إليه هؤلاء الأصدقاء الطارئون على أما والدي فكان دائما يجنح للعدل ويحاول بقدر استطاعته أن يطبقه بشكل مطلق بعيدا عن ى شعور أو عاطفة كذلك كان يحب القوة والصراحة في الحق وكان معروفا بذلك ليس في قريتنا فقط , لكن في أكثر القرى المجاورة لها
وأذكر في ذلك ن بعضا من أبناء قريتنا الذين هاجروا منها إلى مدينتى القاهرة والإسكندرية تركوا أملاكهم من الأرض الزراعية للمستأجرين وكانوا يأتون كل عام وقت الفيضان (الذي هو بمثابة نهاية العام الزراعي) فيقيمون عندنا في الدوار ثم يرسل والدى لمستأجرى أراضيهم ليحضرهم ويستخلص منهم لهؤلاء المهاجرين حقوقهم كاملة ...
وحدث في إحدى المرات نهم عرضوا على والدى استئجار أراضيهم وحجتهم في ذلك ضمان حقوقهم التي سوف تصل إليهم حيث يقيمون في القاهرة أو الإسكندرية وكان المالك في ذلك الوقت يمكنه إخراج المستأجر من الأرض وقتما يشاء والمستأجر يمكنه أن يعيد تأجير الأرض – المؤجرة إليه – لآخر وهو عمل مربح للغاية والدليل أن المستأجر كان يأخذ الأرض من المالك مقابل إيجار للفدان قيمته خمسة عشر أو عشرون جنيها كحد أقصى
ويعيد هو تأجيره مقابل خمسين أو ستين جنيها ورغم هذا العرض المغرى الذي عرضه المهاجرون على والدى فإنه رفض وفوجئنا – نحن أولاده – برفضه هذا فاتفقت مع أخي الأكبر أن نستأجر أنا وهو هذه الأرض من ملاكها المهاجرين ونعيد تأجيرها وبالفعل تحدثنا مع بعض أصحاب الأرض في ذلك ولم تمر أيام حتى فوجئنا بأبينا ينادينا (أنا وأخي) وما أن وقفنا أمامه حتى سألنا غاضبا: "أنتما تريدان أن تستأجرا أرض فلان وفلان ؟!"
عقدت ألسنتنا المفاجأة ونحن لا ندرى كيف علم بهذا الأمر لكنه استطرد يقول :
- " نحن لا نزرع أرضن كلها بل نؤجر منها للفلاحين فكيف تفكران في استئجار أرض .. من سيفعل ذلك ليس له عيشة معي في البيت إطلاقا .. هذا جشع واستغلال لصفتكم كأولاد للعمدة ". وبالطبع لم نكن نملك إلا السمع والطاعة لأبينا
كان قد مضى من العام الدراسي الكثير وأنا مقيم في القرية لا أذهب إلى المدرسة التي فاتحنى أبي في أمر العودة إليها ومواصلة تعليمي وكنت مترددا بين القبول والرفض تنازعني الراحة والدعة من جانب والملل من الجانب لآخر ..
استمر ذلك حتى جاء من يزورني في قريتي وهم أربعة من زملاء الدراسة قضوا اليوم في ضيافتي وحدثوني في العودة للمدرسة وذكروني باستمارات امتحان الثقافة التي حان ميعاد إثبات بياناتها.. فقررت أن أذهب للمدرسة في اليوم التالي بعد انقطاع دام ما يقرب من الشهور الأربعة وعلى الرغم من هذا الانقطاع فقد اجتزت امتحان العام بنجاح وانتقلت إلى السنة الأخيرة في المرحلة الثانوية .
ف مدرسة أسيوط الثانوية حصلت على التوجيهية وجئت إلى القاهرة لأبدأ مرحلة تعليمي الجامعي في جامعة فؤاد الأول وبالتحديد كلية الحقوق التي التحقت بها عن رغبة أكيدة إذ كنت معجبا بالمحامين حتى أنني كنت (أزوغ) أنا وبعض زملاء الدراسة الثانوية في أسيوط ونذهب إلى محكمتها لنستمع إلى مرافعات كبار المحامين وخاصة إذا جاءوا من مصر (القاهرة) وفي هذه السن لاحظت أيضا أن كل السياسيين والعاملين في الحقل العام – تقريبا – من المحامين فكان منهم نواب البرلمان وأكثر الوزراء وقادة الحركة الوطنية .
بدأت أراقب ذلك المجتمع الجديد على مجتمع جامعة فؤاد الأول وكان العام الدراسي 1949 وهو عام كانت تموج فيه الجامعات بالتيارات السياسية المختلفة وفي الجامعة رأيت أحزاب مصر كلها تقريبا ممثلة لكنني لم أنضم إلى أى منها حيث لاحظت أن القيادات الطلابية لهذه المجموعات من الطلبة التي يتبني كل منها فكرا حزبيا معينا – تتقاضي مبالغ مالية من تلك الأحزاب
ولاحظت أيضا أن هناك تواجدا قويا لجماعة الإخوان المسلمين وكان يمكنني أن أنضم إليهم حيث أنهم الأقرب إلى طبيعتي صحيح أنني في ذلك الوقت لم أكن متدين بمعني أنني لم أكن مواظبا مثلا على أداء الفروض لكن كان لدى من الأخلاقيات والقيم ما يجعلاني أرفض الانسياق في طريق الرذائل
وعلى سبيل المثال:
- كنا في قريتنا المعصرة أو مدينتنا النائية أسيوط نسمع عن كباريهات القاهرة فلما حضرت إلى القاهرة أردت أن أرى بعيني فاصطحبني أحد الأصدقاء إلى كباريه فتحية محمود في شارع عماد الدين وكانت تلك المرة الأولي والأخيرة إذا اشمأزت نفسي من المناظر والسلوكيات التي رأيتها في ذلك اليوم.
أقول كان يمكنني أن أنضم إلى جماعة الإخوان ولم يمنعني من ذلك إلا واقعة حدثت معي:
- على درجات سلم كلية الحقوق كنت أقف ومجموعة من زملاء الفرقة الأولي وكان الجمع يضم طالبا اسمه الدمرداش العقلي (المستشار فيما بعد) لم يكن زميل كلية فقط لكن كان أيضا بلدياتي وزميل دراسة أثناء الرحلة الثانوية في مدرسة أسيوط ومن هذا الوقت وأنا أعرف أنه منضم لجماعة الإخوان .
وبشكل عفوى وتلقائي وكما يحدث من أى مدخن أخرجت علبة سجائرى وشرعت أعزم على الموجودين بسيجارة بعضهم قبل أن يشاركني التدخين وآخرون رفضوا شاكرين إلا الأخ الدمرداش لقد ارتسمت على وجهه علامات الضيق والغضب ومد يده وبدلا من ن يتناول سيجارة فقد ضرب على يدي قائلا :" تلميذ وبتشرب سجاير العلبة ثمنها 16 قرشا وساكن في شقة لوحدك ومعاك طباخ كمان" بالطبع هالني ما سمعت وبفطرتي الريفية رددت عليه قائلا : "من بيت أبويا يا أخي"
وحدثت مشادة كلامية بيني وبينه ولم يتطور الأمر على ذلك وانتهي ظاهريا عند هذا الحد لكن بداخلي لم ينته إن هذه الواقعة قد رسبت بداخلي أحساسا نحو الإخوان وسلوكهم وأفكرهم لقد ربطت إلى وقت طويل ما بين سلوك الأخ الدمرداش وجماعة الإخوان المسلمين
وخلقت هذه الواقعة إلى وقت طويل حاجزا بيني وبينهم وأيضا علمتني درسا إيجابيا عن "الدعوة" وطرق توصيل الداعي لرسالته وكيفية أدائها وخرجت بنتيجة مؤادها أن الداعي لابد أن يكون واسع الأفق يشق طريقه ييسر إلى قلب ومشاعر الناس وسبيله في ذلك الصبر واللين من بعد ذلك فليقدم جوهر دعوته .
هذه الواقعة لم تبرح ذاكرتي وبعد وقوعها بزمن بعيد اجتمعت مع المرحوم عمر التلمساني مرشد الإخوان المسلمين وكان الاجتماع في منزلي جلسنا فيه نتناقش في أمر سوف يأتي ذكره في السطور التالية المهم أن عادة التدخين لم تفارقني وأنا أعلم أن الإخوان لديهم تحفظ على تلك العادة .. وبعد مقاومة نفسية لم أستطيع أن أمنع نفسي وقلت للأستاذ عمر : "معلش يا أستاذ عمر أنا بستأذنك في تدخين سيجارة".
رد علي:
- "وماله .. أعطني أنا الآخر سيجارة" لاحظت أنه يدخن سيجارته بشكل غريب فيسحب النفس وينفثه في الهواء هو ليس مدخنا إذن لكنه يجاملني ..وليكن . لكن هذا هو الفرق بين نوعين من الدعاة وطريقتين في التعامل .
بعد تخرجى مباشرة تزوجت فوهبني لله حسنة الدنيا وهي الزوجة الصالحة ودائما ما أتمثل حديث الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامة "أظفر بذات الدين تربت يداك" وإلى الوقت الذي تزوجت فيه لم أكن متدينا فلم أكن مواظبا على أداء الفروض وبدأت زوجتي تأخذ بيدى في ذلك الطريق إذ تقدم لى بعض الكتب الدينية التي قرأتها وتدفعني إلى ذلك وبدأت أقرأ إلى أن تعمق الإيمان في نفسي وتبدلت نظرتي للأمور فصار المعيار الديني هو الذي يحكمها .
كنت قد افتتحت مكتبا للمحاماة بأسيوط بعد تخرجي وانقضاء فترة التمرين على أعمال المحاماة بالقاهرة ولم أفكر أبدا في الوظيفة الميرى فوطدت نفسي على الإقامة في مدينة مولدى أسيوط.. وحول التاريخ أيضا كانت الثورة قد قامت فسعد بها وأيدها جيلي من الشباب بل وبهرتنا بالشعارات التي رفعتها (عنوانا لها) لكن سريعا ما تبدل الحال وانكشف الوجه الحقيقي لتلك الثورة سافرا عن ديكتاتورية العسكر وذلك بعد أزمة الشهور الأولي من عام 1954...
في هذه الشهور حدثت أزمة الثوار مع الرئيس محمد نجيب أول رئيس للجمهورية فاختلفوا معه ووقفوا جميعا ضده ما عدا خالد محيي الدين (على الرغم من أنه يساري) وتآمروا على عزله فبدأوا في مهاجمته بشكل علني وخاصة الصاغ صلاح سالم ولم خرجت الجماهير تطالب بعودة نجيبها, اضطر مجلس قيادة الثورة إلى مصالحته والسماح بعودته وأصدروا بيانا بذلك
لكنها لم تكن مصالحة خالصة من قلوب نقية بل مجرد موقف تكتيكي وكسب للوقت إذ بدأوا بعدها في إبعاد أنصار نجيب من حوله وعقدوا محاكمات للبعض الآخر بتهمة التآمر . وانتهي لأمر باعتقال محمد نجيب وتحديد إقامته في قصر زينب الوكيل ومنع اتصاله بالعالم الخارجي فعاش الرجل في هذا المنزل بقية أيام حياته يتجرع كئوس الذل والهوان وبعد اعتقاله خرجت شراذم عمالية مأجورة (كما ذكر أعضاء مجلس قيادة الثورة في مذكراتهم) تنادى بسقوط الديمقراطية والمثقفين الجهلة !!
واعتدوا بالضرب على السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة حرك هذه المظاهرات الصاغان طعيمة والطحاوي وقادها أحد العمال ويدعي الصاوي وقد دفع له مبلغ من المال مقابل ذلك وهذا ليس كلاما من عندي لكن ما ذكره أعضاء مجلس قيادة الثورة ونشروه في مذاكرتهم بعد انقضاء هذا العهد.
كما أعتقل على أثر ذلك أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وبدأت مرحلة من الإرهاب الحكومي لكافة أفراد الشعب تمثلت في اعتقالات وعزل ومصادرات وحراسات وتحرك ضعاف النفوس بوشاياتهم الرخيصة يستثمرون المناخ فكان الخادم يشي بسيدة والإبن يشي بأبيه واستولي الخوف على عقول وقلوب المصرين
ونتيجة لذلك غرست بذور النفاق في التربة المصرية وسرعان ما أنبتت ونمت أشجارها فأثمرت الوصولية والتذلف وأصبح كلام المصرين في مجالسهم لا يمثل قناعاتهم الشخصية لكنه كان الزيف بعينه وجنحت القلة القليلة المتمسكة بالقيم نحو السلبية المطلقة .
ومن مظاهر النفاق – فيما أعتقد – الذي رسخه ذلك العهد هو طريقة تبادل التحية بين الناس كان في الماضي يكتفي الشخص بمصافحة الآخر باليد أما القبلات فكانت مقصورة على النساء ونتيجة لانتشار هذا النوع من النفاق صار كل من يقابل شخصا يقبله
وأكرر أن هذا النوع من التحية كان مقصورا – قبل الثورة – على النساء فقط أما بعدها وإلى الآن فمن السهل أن تلاحظ إذا نظرت حولك في أى مكان أن الأشخاص يقابلون بعضهم بالأحضان والقبلات ولا يكاد ينصرف أحد الطرفين حتى يبدأ الطرف الآخر المقبل في ذم صاحبه سواء عن حق أو باطل.
وبالإجراءات التي تمت بعد أحداث فبراير ومارس 1954 سقط أول مبدأ من مبادئ الثورة التي قامت عليها الحرية والديمقراطية – وصار أكثر الناس في مجالسهم الخاصة المغلقة يتباكون على الماضي الذي سمى كذبا وافتراء بالماضي البغيض ولسان حالهم يردد قول الشاعر: "رب يوم بكيت منه فلما انقضي بكيت عله"
وكان قبل الثورة إذا وصلت أحزاب الأقلية للحكم فإنها تزور الانتخابات وتعتقل بعض الأفراد لكن عندما كانت تجرى انتخابات حرة بعد تشكيل حكومة من المستقلين فإنها تكلف بإجراء تلك الانتخابات ويصل حزب الوفد للحكم إذن كانت الانتخابات الحرة النزيهة هي القاعدة والاستثناء هو التزوير
وقرأنا أنه في إحدى المرات سقط رئيس الوزراء يحيى باشا إبراهيم أمام مرشح الوفد أحمد مرعي في دائرة من إحدى دوائر الوجه البحري (اعتقد أن أحمد مرعي هذا هو والد سيد مرعي) ... أما بعد الثورة وإلى الآن فالناجحون هم مرشحو الحكومة ولا أحد سواهم إلا من ترى الحكومة أنهم لازمون لاستكمال الديكور الديمقراطي من مرشحي المعارضة والمستقبلين .
وتحول حبي للثورة – مثل كثيرين غيري من الشباب – إلى ما يشبه العداء وكنت دائما الأول إبان العهد الملكي نخرج في مظاهراتنا ننادي بسقوط الملك ونتناول في الهتاف إلى حد البذاءات من مثل: "إلى أنقرة يا ابن العاهرة" ويا فاروق يا زين أمك مرافقه اثنين على ماهر وأحمد حسنين " وعلى الرغم من هذا التطاول لم نسمع أنه قد أعتقل أحد أو سجن".
كان أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة يهاجم الملك في صحيفته فينشر صورا لبعض الأشخاص عراه حفاة يعبثون في صناديق القمامة بحثا عن لقمة ويكتب عنوانا لتلك الصور ك "هؤلاء رعاياك يا مولاى" أذكر أيضا أنه عندما تقدمت الحكومة باعتماد ألفي جنيه لإصلاح اليخت الملكي
وقف أحد النواب يعارض ذلك الاعتماد قائلا:
- " أتقتير هنا وإسراف هناك؟!" وتتراءى الصور – الآن – في خيالي فأتذكر أنه في إحدى الدورات البرلمانية التي كان يحكم فيها الوفد والمجلس النيابي كله تقريبا وفدى تقدم النائب اسطفان باسيلي (وهو وفدى أيضا) بمشروع قانون يضع قيودا على حرية الصحافة فأنبرى له المرحوم عزيز فهمي وهو الآخر نائب وفدى ووالده رئيس المجلس في تلك الدورة عبد السلام باشا فهمي
وأخذ يعارض مشروع القانون بحماسة بالغة وتكلم حتى انفجر الدم من أنفه فتجاوب معه كل الأعضاء ورفضوا القانون على الرغم من وفديتهم... أين هؤلاء من نواب اليوم (الموافقون على طول الخط) وتكفي إشارة من رئيس المجلس للحصول على موافقاتهم الدائمة ولا عجب فقد سمعنا عن وصول تجار المخدرات والسلاح إلى مقاعد البرلمان استجلابا للحصانة .
إن تلك الواقعة التي حدثت قبل الثورة كانت ماثلة في ذهني طوال الوقت الذي اشتعلت فيه معركة قانون النشر الأخير المشبوه المسمي بقانون 93. والذي حول الصحفي إلى متهم تنتظره دائما محكمة الجنايات وعقوبة الأشغال الشاقة لمدد قد تصل إلى خمسة عشرة عاما مقابل جرائم فضفاضة ومواد قانون صيغت بألفاظ غير محددة تسع الجميع من مثل الأزدراء " الذي لا يمكن حصر حالاته بل ويمكن تفسير أى كلام حتى إلقاء التحية على آخر على أنها نوع من أنواع السخرية والازدراء!!"
ولولا مقاومة الصحفيين لهذا القانون المشبوه واتفاقهم جميعا على رفضه وتهديدهم باللجوء للاعتصام والإضراب عن إصدار الصحف ثم مناشدتهم لرئيس الدولة بالتدخل .. استجابة الرئيس لهم لولا هذا ما اصدر المجلس تعديلاته عل هذا القانون المشبوه ... مهنا نسأل أنفسنا باندهاش عن أمر هذا المجلس الموقر ونوابه (ممثلي الشعب) ونتساءل عن الدافع لإصدار القانون ثم إلغائه أو تعديله خلال عدة شهور ؟!
في شهر نوفمبر 1956 بدأت الممارسة الفعلية لمهنة المحاماة فتحت مكتبي في عمارة الشرق للتأمين – الشهيرة – بمدينة أسيوط وكان محافظ المدينة في ذلك الوقت و اللواء سعد زايد ومدير الجامعة الدكتور سليمان حزين وكان يتردد على أسيوط المرحوم خليل حسين عم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (اسمه جمال عبد الناصر حسين) وكان هذا التلوث المكوث من المحافظ ومدير الجمعية وعم الرئيس هو الآمر الناهي والجميع يدور في فلكهم .
في نفس العمارة التي افتتحت بها مكتبي كان خليل حسين يملك استراحة ولذلك كنت أرى يوميا أثناء دخولي أو خروجي من العمارة أعيان أسيوط وكبار عائلاتها يجلسون مع بواب العمارة انتظارا لمقابلة خليل بك حسين الذي يطلقون عليه الأمر محمد على !! وكنت أحتقر من يفعل ذلك وأزدريه في نفسي .
كان التنظيم السياسي في ذلك الوقت هو الاتحاد القومي وفي أحد الأيام كنت قادما من القاهرة وعند وصولي إلى أسيوط ليلا اتصلت بمنزلنا في القرية لأطمئن على أسرتي فإذا بأخي محمود يخبرني بأنه في اليوم السابق كان ضيوفنا في الدوار خليل بك حسين ومأمور المركز وشيخ المعهد الديني وواعظ المركز ليحصلوا على تنازلات من جميع المرشحين بالقرية لوحدة الاتحاد القومي حتى يتسني لهم اختيار الأعضاء العشرة المطلوبين بمعرفتهم
وأضاف شقيقي أنهم بالفعل حصلوا على هذه التنازلات وتركوها مع واعظ المركز الذي يبيت ليلته في الدوار انتظارا لحضور أحد المرشحين في الصباح ليحصل منه هو الآخر على ما يفيد تنازله مثل الآخرين . كان هذا المرشح الذي ينتظره واعظ المركز اسمه أحمد طنطاوى فقلت لشقيقي لا تحضر هذا الشخص إلا بعد حضوري في الصباح اتجهت إلى القرية صباح اليوم التالي وفي الدوار قابلت الواعظ وسألته: " ماذا فعلتم يا مولانا ؟!"
أجاب : "الحمد لله أخذنا التنازلات ولم يبق إلا أخذ تنازل أحمد طنطاوي"
فعدت لأسأله: "وأين التنازلات؟"
فأخرج عدة أوراق من جيبه وقدمها لى وما أن وصلت تلك الأوراق إلى يدي حتى قمت بتمزيقها بينما الواعظ ينظر إلى ما أفعله بانزعاج ثم قال معقبا: " ليه كده يا أستاذ أنت عايز تودينا في داهية ؟!" قلت أطمئنه : " لا تنزعج سوف أحضر لك بدلا منها أوراق بيضاء واستدعي جميع المرشحين بنفسك منهم مرة أخرى على التنازلات التي تريدها ".
قام الواعظ غاضبا واتصل تليفونيا بمأمور المركز الذي حادثني مستفسرا ومهددا بطريق غير مباشر فقلت له: " لقد أرسلت للأفراد الذين حصلتم منهم على التنازلات وهم الآن موجودون وبوجه ويوجد أيضا أكث من روزمة ورق في انتظارك"...
كنت بالطبع قد اجتمعت بهؤلاء المرشحين ونبهت عليهم بسحب تنازلاتهم السابقة وبعد قليل اتصل بي تليفونيا خليل حسين وسألني أن كنت سأمكث في القرية أم أعود إلى أسيوط فأخبرته أنني سأرجع إلى أسيوط بعد قليل فقال: الليلة سوف أحضر إلى مكتبك لأشرب معك القهوة فقلت له "أهلا وسهلا " في المساء جاء خليل حسين يزورني في مكتبي حسب الميعاد كنت أتوقع بالطبع ما سيتحدث فيه قال: " لقد سمعت أنك فعلت كذا وكذا" قلت له : نعم سألني : لماذا ؟ فقلت له: " أعتقد يا خليل بك أنني أدرى ببلدي أكثر من أى شخص آخر"
فقال: نحن لا نريد انتخابات قد تؤدي إلى مشاكل لنا مصلحة لكننا نخشي المشاكل بين الناس لذا نود أن تكون ترشيحات جميع القرى بالتزكية وعلى آية حال اختر أنت العشرة ...ولتكن قريتكم بالتزكية فوعدته بذلك وانصرف وقمت بالفعل بعد ذلك باختيار عشرة أفراد يمثلون وحدة الاتحاد القومي بالقرية .
لم يمر يومان على زيارة خليل حسين لمكتبي حتى اتصل بي المرحوم جميل أخنوخ فانوس وكان نائبا وفديا قبل الثورة وصديقا لخليل حسين – عم الرئيس – بعدها كان جميل أيضا صديقا لوالدى الوفدي المتعصب . ذهبت أقابل جميل بك حسب طلبه ولم يضيع الرجل وقته لكنه دخل في الموضوع مباشرة
وفوجئت به يقول موجها كلامه لى بنبرة الأب الحاني:
- " يا ابني أنت تعرف علاقتي بوالدك وبالتالي تهمني مصلحتك لهذا أقول لك: إن تصرفك بخصوص ترشيحات وحدة الاتحاد القومي كان خطأ واندفاع شباب يا ابني أنت في بداية حياتك وهذه ثورة فإذا كنت تريد ن تشق طريقك في الحياة فلابد أن تسير في ركابها ولا تعارض ط بعد أن انتهي من كلامه قلت له : " يؤسفني يا جميل بك أن أسمع منك هذا لأنني حتى هذه اللحظة كنت أتصور أنك صوت حر جرئي وأنك ستؤيدني فيم فعلت "
ودخلنا في نقاش طويل انتهي بأن قال لى:
- " يا ابني لأجل العيش والملح الذي بيني وبين والدك أحببت أن أنصحك وأنت الآن رجل فلتتحمل مسئولية أفعالك فشكرته وانصرفت" .
مضت سنوات أخري وجاءت انتخابات مجلس الأمة لسنة 1964 وجاءني من الأصدقاء من يقترح على ترشيح نفسي عن دائرة ابنوب وبعد التشاور مع بعض المقربين لى قبلت أمر الترشيح (على الرغم من كراهيتي للثورة) في نفس الدائرة تقدم اثنان آخران من الفئات هما المرحوم المستشار محمود حسن عمر (كان رئيس لمحكمة أمن الدولة) والمرحوم عبد الفتاح طه البدوى
وكان عمدة قرية الواسطة وتقدم للترشيح عن الفلاحين ثلاثة وتقدم للترشيح عن الدائرة ستة أشخاص .. قبل تقدمي كمرشح بشكل رسمي كنت قد شرعت في زيارة العائلات في القرى المجاورة التي تتبع الدائرة الانتخابية لأخطرهم بأمر ترشيحي ومرت عدة أيام بعد تسجيل اسمي كأحد المرشحين عن دائرة أبنوب وإذا بي يصلني خطاب موقع من السيد حسين الشافعي رئيس الاتحاد القومي في ذلك الوقت عبارة عن جملة واحدة تقول :" ندخر مجهوداتكم لفرصة أخرى ".
أثارني هذا الأمر إذ لم أجد ما يبرره اللهم إلا المعلومة التي وصلتني تفيد بأن الثالوث المتمثل في المحافظ ومدير الجامعة وعم الرئيس يريدون المستشار محمد حسن عمر نائبا عن الفئات في دائرة أبنوب .. فكتبت رسالة إلى الرئيس عبد الناصر معترضا على هذا الادخار ومتسائلا عن السبب .
ويبدو أن الثالوث السابق ذكره قد اكتشف التفاف الناس حولي وزيادة فرصتي في الفوز بالترشيح عن الدائرة فأرادوا أن يتخلصوا مني تمكين لمرشحهم وما أن وصلني خطاب (الادخار) حتى بدأ أنصار المرشح محمود حسن عمر في استئناف جولاتهم للدعوة لانتخابه فذهب ابن أخت الأخير وهو المرحوم الشيخ ثابت أبو المعالي شيخ المعهد الديني إلى بلدة عرب الأطاولة ليقابل رؤساء العائلات (وكن يكفي في هذا الأمر أخذ كلمة من كبير العائلة)
ويطلب تحديد موعد لاستقبال محمود حسن عمر قائلا لهم : " نحن نعرف أنكم مع محمد عثمان إسماعيل لكنه شطب أو أدخر وأصبحنا نطمع في أصواتكم " كان جواب عائلات الأطاولة "إذا كان محمد عثمان قد شطب فلا تزورونا بل زوروا محمد عثمان وما سيقوله لنا سنفذه " وسرت هذه الحكاية في كل القرى القبلية من مركز أبنوب وعددها 19 قرية حذت جميعها حذو عرب الأطاولة ورفضوا جميعا استقبال أو زيارة أحدهم .
قبل أن أسترسل اسمحوا لى أن أقف وقفة صغيرة وأقارن بين ما كان يحدث وما هو كائن الآن كان دستور التعامل هو كلمة الشرف وأخلاق الفرسان النبلاء وكنت أذهب إلى كبير أحد العائلات أطلب تأييد عائلته وأصوت أفرادها وقد يكون هذا الكبير صديقا أو قريبا وبعد أن يستقبلني
ويقدم لى واجب الضيافة على أكمل وجه يعتذر بادئا اعتذاره بـ أنت تعلم العلاقة بيننا أو العلاقة بيننا وبين المرحوم والدك لكني يؤسفني أنني أعطيت كلمة لفلان (أحد المرشحين) فأعذرني "كان هذا الشخص يكبر في نظري ويزداد احترامي له على الزعم من تصريحه بأنه لن يؤيدني وقارن أنت هذا الماضي بما يحدث الآن أن الجنيه هو سيد الموقف وشرفاء هذا الزمان يأكلون على كل الموائد !!.
ويبدو أن أم ر الادخار و الشطب حدث في أغلب الدوائر على مستوى الجمهورية ولذلك فوجئنا بالرئيس عبد الناصر لتلك المسألة في احد خطبه فيقول " وصلني آلاف الشكاوى من عملية الادخار فأصدرت أوامري بعدم الشطب وأن يترك الباب مفتوحا لكل من يريد أن يرشح نفسه "
عدت مرة أخرى للمرور على قرى الدائرة بينما المحافظ وأعوانه في نفس الوقت يريدون إسقاطي ولا سبيل إلى ذلك إلا التزوير الذي بدأوا يخططون له بالفعل وألقي المحافظ بهذه المهمة على عاتق مأمور مركز أبنوب والذي وعده المحافظ بتعيينه رئيس لمدنية أسيوط.
لا أذكر اسم هذا المأمور الذي كان على رتبة العميد رغم أنه بدأ عمله ضابط من تحت السلاح "كونستبل" وكان نظام الترقيات يسمح بن يترقي أمثاله حتى رتبه العميد ثم يحالون إلى المعاش الغريب أن هذا المأمور كان كثير التودد والزيارة لى وكان الأهالي يطلقون عليه (أبو عيون جريئة) سخرية منه واستدعي هذا المأمور اثنين من مرءوسيه....
وهما ضابطا المباحث واللذان لن أنساهما ما حييت وهما فوزي عبد الفتاح (اللواء بالمعاش الآن) والآخر أمين نافع (لواء بالمعاش) أخبرهما المأمور أن المحافظ قد طلب منه العمل على إسقاطي وعليهما أن ينفذا ذلك الأمر فكان رد الضابطين : أعط لنا أمرا كتابيا بذلك ونحن على استعداد لمنع أصوت قريته نفسه عنه فعقب المأمور : هذه أمور لا يعطي فيها أوامر كتابية لكن الضابط أصرا على موقفيهما فقام المأمور بإبلاغ ذلك للمحافظ ومدير الأمن .
في اليوم السابق للانتخابات حضر إلى مركز شرطة أبنوب معاون مباحث مديري من أسيوط وكان يدعي أحمد العليمي وقد أحضر معه صناديق الانتخابات مملوءة ببطاقات انتخابات مزورة لصالح المرشح محمود حسن عمر فقام ضابطا مباحث المركز اللذان سبق لهما
ورفضا الاشتراك في عملية التزوير بإخبار شقيقي – وكان ضابط شرطة أيضا (المرحوم اللواء الألفي) – بالأمر ولم يكتفيا بذلك لكن اتصلا بصديقي محمود عبد الحميد المحامي واخبراه أيضا وطلبا منه ومن شقيقي العمل على حراسة الصناديق الحقيقية التي ستتم فيها عملية الاقتراع كذلك طلبا عدم ذكر الأمر كله حتى لا اهتز أو أثير المشاكل.
وجرت الانتخابات وحرست الصناديق وحضرنا عمليه الفرز متمسكين بفرز كل صندوق على حدة وكانت النتيجة مذهلة لم أكن أتوقعها : أحد عشر ألفا وأربعمائة صوت زيادة على أصوات أقرب المنافسين لى وعندما ذهبت مع من فاز من الدوائر الأخرى لنستلم من المحافظ شهادات النجاح قدم الأخير لى الشهادة قائلا: " مبروك ارتحت يا سيدي !"
فرددت عليه: " الحمد لله بإرادة المواطنين وإن كانت تغضب المسئولين ".
العمل السياسي .. وبرلمان النكسة
أصبحت عضوا في مجلس الأمة للدورة البرلمانية التي بدت أعمالها في عام 1964 وكان يرأس ذلك المجلس المرحوم أنور السادات . كان سير العمل بالمجلس لا يصادف قبولا في نفسي بل كثيرا ما أثارت بعض المواقف اشمئزازي وكنت عندما أشعر بالضيق أترك القاعة التي تعقد فيها الجلسة حتى لا يصدر منى ما يعود على بالشر واذهب لأجلس في صالة البهو الفرعوني .
تكرر مني ذلك وفي إحدى المرات وجدت واحدا من الأعضاء يأتي خلفي ويجلس معي ثم يتطوع بالكلام فيسألني : هل يعجبك ما يحدث ؟!
فأجبته: أنه سيرك .
وما العمل؟!
قلت : لو أن هناك عشرة أعضاء متفاهمين لأمكنهم من اتخاذ موقف قال : بالقطع هناك ناس (كويسة)
واتفقنا أن نحاول كلانا تجنيد بعض الأعضاء لنكون كتلة معارضة في المجلس ولأجل هذا كان لابد أن يتصل كلانا بالآخر فأخرج لى الرجل بطاقة التعارف (الكارت) الخاصة به وأسفل اسمه الذي لا أذكر منه سوى حسن كانت الوظيفة المدونة : عميد سبق بالقوات المسلحة انتباتني الوساوس نحو الرجل وبدأت أتحفظ في كلامي معه.
صديقي وزميلي المرحوم محمود عبد الرحيم كان يعمل في ذلك الوقت مع شعراوي جمعة وزير الداخلية مسئولا عن الوجه القبلي للتنظيم الطليعي ومقر عمله في مبني قيادة الثورة بالجزيرة وكنت وبعض الأصدقاء نجتمع معا كل مساء في منزل محمود عبد الرحيم نتناول العشاء ونسهر
وفي هذا اليوم انتحيت جانبا بصديقي وذكرت له أمر عضو المجلس وأظهرت له بطاقة تعارفه التي منحني أياها ... وما كدت أفعل حتى فوجئت بثورته ثم شرع يمزق الكارت وهو يقول لى بلهجة آمره: لا تتكلم مع أحد ولا تذهب إلى المجلس إلا في حالة الضرورة فهذا الشخص يعمل معنا ويقدم لنا تقارير في الأعضاء .
وكانت هذه الواقعة سببا في غيابي عن الكثير من جلسات المجلس هذا المجلس نفسه الذي رقص فيه أحد الأعضاء بعد نكسة 1967 لتراجع جمال عبد الناصر عن قراره بالتنحي عن رئاسة الجمهورية !
في نفس هذا المجلس أيضا بدت تكوين رأيي الشخصي عن المرحوم أنور السادات إذ سمعته في احدي المرات وهو واقف بحجرة مكتبي يقول: "نفسي أشوف مصر زى ما كانت .. مصر" فترسب في نفسي اعتقاد قوي أنه مغلوب على أمره مثل بقية المصريين .
لم يكن يعني بداية علاقة من أى نوع بيني وبين السادات لكن كل ما فعلته جملته القصيرة أنها تركت انطباعا يشبه الإعجاب نحو ذلك الشخص والذي بدأت ألاحظه. على قمة التنظيم السياسي في ذلك الوقت كان الاتحاد الاشتراكي وباعتباري نائبا عن مركز أبنوب فقد كنت أمينا في هذا التنظيم وأمينا مساعدا لأمانة المحافظة .
في احدي زياراتي لشقيق زوجتي الضابط بالشرطة العسكرية صادفت في منزله أحد أصدقائه يعمل ضابط بالمخابرات ويدعي محمود فهمي ودخلت معه في حوار حول السياسية وكعادتي لم أستطع كتمان ما بداخلي فبدأت أنتقد بعض تصرفات الثورة وبعض الأشخاص ومن بينهم خليل حسين عم الرئيس جمال عبد الناصر وفي المقابل انبرى محمود فهمي مدافعا مستنكرا بعض التصرفات ومدعيا بعدم علم أى مسئول بتلك التصرفات
ثم بادرني قائلا : "هل عندك استعداد تقول هذا الكلام في المخابرات ؟".
فأجبته مكابرا: "مستعد أقول هذا الكلام لعبد الناصر شخصيا".
في اليوم التالي لهذا الحديث فوجئت بمحمود فهمي هذا يتصل بي تليفونيا ويبلغني: " ميعادك مساء باكر الساعة التاسعة بمبني المخابرات العامة "
بالطبع توجست شرا ومن فوري اتصلت بصديقي الأستاذ محمود عبد الحميد سليمان المحامي بأسيوط وهو عضو النقابة العامة للمحامين الآن وطلبت منه الحضور للقاهرة فورا ولما حضر أخبرته بما حدث وطلبت منه أن ينتظرني أثناء المقابلة أمام مبني المخابرات العامة وإذا لم أخرج له حتى الساعة الثانية صباحا فعليه أن يسافر من فوره إلى أسيوط فيحضر زوجتي وابني ويسلمهما إلى حمي (والد زوجتي).
من أمام بوابة المخابرات رافقني أحد أفراد الأمن إلى أحد المكاتب وفي هذا المكتب قام أحد الأشخاص بمرافقتي إلى مكتب ثان ومنه إلى مكتب ثالث وفيه استقبلني شخص رحب بي وأجلسني وبعد تناول القهوة بدأ يسألني وأجيب وهو يدون كل ما أقول ضابط المخابرات هذا هو المرحوم مختار عمر وقد ترك المخابرات بعد ذلك وشغل منصب وكيلا لوزارة الأوقاف حتى وفاته .. التحقيق أو الاستجواب بدأ في التاسعة واستمر إلى الحادية عشرة بعدها شكرني ضابط المخابرات وسمح لي بالانصراف .
وخارج مبني المخابرات وجدت صديقي الذي ينتظرني أكثر اضطرابا مني فأخذته وانصرفنا ولم يحدث بعد ذلك إلا إحساسي بأنني مراقب وكذلك تليفوناتي . من أسيوط جاء الأخ سعد زايد محافظا للقاهرة على أثر الزيارة التي قام بها عبد الناصر لأسيوط وخطبة سعد زايد المذاعة والمشهورة أمام عبد الناصر والتي قال فيها موجها الكلام لشخص الرئيس .
" أكاد أرى الملائكة تسجد لك أين سليمان من حكمتك" وأخذ يعقد مقارنة بين الرئيس عبد الناصر وبعض الأنبياء مما أثار استياء الناس جميعا وخلف أحمد كامل سعد زايد وأشهد أمام الله أن أحمد كامل هذا كان من أنقي وأعف من رأيت وكان أيضا يتمتع بذكاء شديد وكل ما أخذته عليه أن للدين عنده صورة باهتة رحمة الله عليه .
ذهبنا نواب المحافظة نرحب بالمحافظ الجديد عند وصوله إلى أسيوط فاندهشت عندما وجدته يخصني بالترحيب كأنه يعرفني من قبل وعند انصرافنا وجدته يقول لى : "وأنا عايز أشوفك بكره يا محمد بعد المغرب "
في الموعد المحدد ذهبت إليه ووجدته يسألني عن كل ما ورد في التحقيق الذي أجرى معي في المخابرات فأعدت عليه ما سبق وأن قلته في هذا التحقيق بل وزدت عليه بأن تناولت بالنقد رموز النظام وكان غريبا أن يتفق معي فيما أقوله وخلق هذا بيننا نوعا من التقارب ومد جسرا من الثقة ..
صدر ما سمي بقرار لجان تصفيه الإقطاع وتولى المحافظون وأمناء الاتحاد الاشتراكي بالمحافظات وضع العديد من الأفراد تحت الحراسة ومن هؤلاء – الذين وضعوا تحت الحراسة – من اعتقل ومنهم من أبعد عن بلدته ليقيم في القاهرة أو بمعني أدق تحددت إقامته في القاهرة .
والغريب أن من ضمن من وضعوا تحت الحراسة من لا يمكن وصفهم بأنهم إقطاعيون كانوا على الأكثر ميسورى الحال أو من الطبقة المتوسطة وما اعتقالهم أو وضعهم تحت الحراسة إلا لكونهم رؤوس عائلات ولهم (عصبيات) وتناولتهم التقارير التي هي في أغلب الأحوال مغرضة والأغرب من لذلك أنه تقررت لهم نفقة شهرية ليعيشوا بها في القاهرة ولم تتجاوز هذه النفقة عشرة جنيهات للفرد فكان هذا منتهي الإذلال لهؤلاء الرجال ليس لقلة المبلغ المقرر ولكن لمجرد التسمية فالنفقة لا تدفع إلا للزوجة المطلقة .
ومن ضمن من أعتقل في أسيوط المرحوم إبراهيم محفوظ شقيق الدكتور محمود محفوظ وزير الصحة الأسبق وكان لهما شقيق ثالث هو عمر محفوظ فصدر قرار بإبعاد الأخير عن أسيوط وقطعت الحرارة عن تليفون منزله !!
استفزني ذلك فذهبت إلى المحافظ حمد كامل أسأله:
- " إذا كان إبراهيم محفوظ قد اعتقل لكونه إقطاعيا أو لبعض الاتهامات التي وجهت إليه والتي لم آت إلى هنا لأناقشها فهل ذنب عمر محفوظ أنه شقيقه ؟! أنه بالتأكيد ليس له إرادة في ذلك وبالتالي فقراركم ظلم بين "
وتمكنت من إقناعه بأن يلغي قرار إبعاد عمر محفوظ وإعادة الأمور إلى طبيعتها فلما فعل اصطحبت الأخير إليه لتقديم الشكر. كانت الشرطة العسكرية تمثل لجان تصفية الإقطاع ولهذا السبب فقد كانت منتشرة في المحافظات والقرى ولأجل هذا أيضا جاء إلى أسيوط اللواء شرطة عسكرية كمال المحمدي بصحبة ضباطه وجنوده واتخذ مكتبا له في مبني المحافظة وانتشر رجاله في القرى يحصرون ذوى العصبيات وهيأ المناخ لضعاف النفوس التنفيس عن عداءاتهم وخصوماتهم فأسرعوا بتقديم الشكاوى وكيل الاتهامات لخصومهم .
أما ضباط الشرطة العسكرية فكانوا يحضرون عمال وخدم هؤلاء الذين جاءت (الإخباريات) تقول إنهم إقطاعيون فيعتدون عليهم بالضرب المبرح حتى يشهدوا على مخدوميهم بما يتفق مع آرائهم وتحرياتهم .
كنت عرف اللواء كمال المحمدي عن طريق شقيق زوجتي ضابط الشرطة العسكرية ولقد رأيته بعيني وسمعته بأذني وأنا جالس في مكتبه يحادث شمس بدران تليفونيا ويملي عليه بعض الأسماء لتوضع تحت الحراسة وتعتقل على أن يوافيه بالتقارير التي تبرر ذلك مستقبلا !!
وحدث أن توجهت لزيارة رئيس مدينة أبنوب ويدعي شمس وهو ضابط شرطة أصلا وفتحت عليه باب حجرة مكتبه فوجدت عنده لجنة مجتمعة برئاسته فاعتذرت وحاولت أن أنصرف لمنه هب واقفا ودعاني للدخول وأقسم على ذلك فلما دخلت جلس على مكتبه وجلست أنا أمامه وواصلت اللجنة (المجتمعة بنفس الحجرة) عملها وأثناء تناولي للقهوة سمعت واحدا من أعضاء اللجنة يقول: " لم نصل حتى الآن للمطلوب فأملاكه لم تصل إلى مائة فدان " فرد عليه آخر: " أضيفوا إلى تكليفه تكليف ابن أخيه " !!
فاتجهت إلى رئيس المدينة أسأله: " إيه الحكاية ؟"
قال: " نحن نبحث حالة صادق بركات عمدة كوم أبو شيل"
قلت: " واضح مما سمعت أنه غير مخالف "
فقال رئيس المدينة: أصل خليل بك (يقصد خليل حسين عم الرئيس) يريد أن يضعه تحت الحراسة !
وأدركت السبب الذي من أجله يحاول خليل بك وضع صادق بركات تحت الحراسة فالأخير كان قبل الثورة يستأجر أراضي جزيرة بني مر وهي مساحة واسعة من الأراضي الجيدة ويقوم بزراعتها وبعد الثورة طرد منها واستولي عليها خليل حسين فلم يسكت صادق بركت وبدأ يشكو فلما ذاع هذا الأمر
ووصل للرئيس عبد الناصر أمر بتوزيع تلك الأراضي على صغار الفلاحين وبالطبع نفذ الأمر لكن بشكل صوري لأنه تم التحايل بأن أحضر خليل حسين بعض الأفراد بمعرفته ووقعوا على استلام هذه الأرض بينما المنتفع الحقيقي هو خليل حسين نفسه ولا زالت هذه الأرضي تحت يد السيد طه حسين عم الرئيس عبد الناصر الأصغر آلت إليه بعد وفاة شقيقه خليل حسين !
ما سمعته في مكتب رئيس مدينة أبنوب أثار حفيظتي فاستأذنت في الانصراف واتجهت من فوري إلى مقابلة المحافظ أحمد كامل ويبدو أنه لاحظ غضبا على وجهي فاستقبلني متسائلا : مالك خيرا ؟!
فقلت له: هل أنتم ضد كل إنسان ثري أو ميسور الحال ؟!
فقال: " نحن ضد الإقطاع والمخالفين لإقراراتهم تهريبا لثرواتهم " فقصصت عليه ما رأيته وسمعته في مكتب رئيس المدينة فوعدني أنه سيطلب الحالة ليفحصها بنفسه وطلب منى أن أحضر إقرار من صاحبها بما يملك .
استدعيت المرحوم صادق بركات في مكتبي وأنا أثق في صدقه وشهامته وطلبت منه أن يصارحن بالأمر فأكد لى عدم مخالفته وقدم لى الإقرار والأوراق الدالة على صدق كلامه فأخذتها منها وسلمتها للمحافظ وبالفعل قام الأخير بفحص حالته واستبعده من الحراسة والاعتقال .
وهيأ التصدي من جانبي لمثل هذه الأمور مجالا لخصومي فبدأوا يرسلون بعض الشكاوي الكيدية واصفين مكتبي بأنه مكتب الإقطاع وواصفين شخصي بأنني محامي الإقطاعيين بالطبع لم يخيفني هذا ولم يثن شيئا فالكل كان يعلم أنني لم أكن لأتعرض لمثل هذه الأمور أو أعرض نفسي للمشاكل سوى كراهيتي للظلم وحبي لمساندة الحق والوقوف بجانب المظلوم يتساوى في ذلك من تربطني به علاقة أو من لا أعرفه على الإطلاق .
وكان واضحا تماما أن الثورة قد أصفت تحت بند الإقطاع والإقطاعيين كل من تصورت أنه كاره لها أو مضاد كذلك نظرت إلى المال على أنه مصدر قوة هؤلاء الأفراد فأرادت أن تجردهم من مصدر قوتهم تلك حتى ولو كانت ثروة موروثة أو جمعوها بجهدهم وعرقهم دون شبهة في الاستغلال أو الانحراف .
وأسرح بخيالي ورجع صدى الذاكرة يردد صوت الثوار مجلجلا عن العدالة الاجتماعية التي ينشدون تحقيقها ثم يرتد الخيال إلى الواقع الذي نعيشه فأري بعيني أولاد هؤلاء - الذين كانوا على أحسن الفروض ينتمون إلى الطبقة المتوسطة – وقد صاروا على قمة نوادي أصحاب الملايين .. اللهم لا اعتراض .
والآن نأتي إلى ما حدث في سنة 1967 ونحتار هل نسميه نكسة أم نسميه هزيمة ؟! الاسم ليس مهما في حد ذاته .. لكن المهم أن ما حدث أصاب كل مصري وكل عري بطعنة في كرامته جعلته يجتر الهون والمذلة كانت الصدمة عنيفة بقدر ما كانت الخدعة التي خدعتنا بها أجهزة إعلامنا كبيرة لقد أفهمونا أننا نملك جيشا قادرا على سحق القوى الكبرى وليس إسرائيل فقط.
وعندما بدأت نذر الحرب تلوح في الأفق بطلب سحب قوات الأمم المتحدة وغلق مدخل البحر الأحمر من الجنوب كان كل مصري على يقين بل كل عربي بأن الأمر بمثابة نزهة سيحتاج على أثرها الجيش المصري إسرائيل ويصل إلى تل أبيب بعد ساعات من بدء الحرب.
قدرنا هذا جميعا بعد سماعنا للخطب العنترية ورؤيتنا للاستعدادات العسكرية وعروض الصواريخ العباقرة لتي اختاروا لها أسماء تتنسب مع وهم القوة ونبرة تصريحاتهم مثل القاهر والظافر واتضح بعد ذلك أن القهر من نصيبنا والظفر من نصيب أعدائنا الذين احتلوا كل فلسطين وما يقرب من نصف لبنان وهضبة الجولان والضفة الغربية لنهر الأردن وسيناء بالكامل وكل هذا حدث في ساعات قليلة ؟
من المصريين من لم يحتمل الصدمة ففاضت روحه إلى بارئها ومنهم من كاد عقله أن يذهب ولقد رأيت بنفسي واحدا يجرى في الشارع صارخا بأعلى صوته يكلم الهواء : " أضرب يا جمال بالقاهر أضرب ي جمال بالظافر" ألم يعلم المسكين أن القاهرة هذا والظاهر لم يكون إلا هياكل خشبية ومعدنية لزوم الاستعراضات العسكرية ! لقد كانت المظاهرات تجوب الشوارع هاتفة : يا عبد الناصر يا حبيب الخطوة الجاية في تل أبيب في الوقت الذي كانت فيه قوات إسرائيل تزحف نحو الضفة الشرقية لقناة السويس !
ولقد كان حلما جميلا للمصريين جميعا والعرب أن تملك بلادهم جيشا قويا وهذا ما أعلنته الثورة بل جعلته مبدأ من مبادئها التي قامت عليها وقلنا إن ذلك الجيش سيمحو عار هزيمة العرب في فلسطين سنة 1948 والتي قامت على أثرها إسرائيل وأعلنت نفسها دولة بينما أسميناها نحن إسرائيل المزعومة وردد الرئيس عبد الناصر في خطبه أنه سيلقي بها في البحر ثم تكررت الهزيمة سنة 1956
واحتلت أراض مصرية غرب قناة السويس ثم انسحبت القوات الغازية بعد تدخل أمريكا فقلبناها نصرا أو قلبها إعلامنا وبدأنا نغني: "ثلاث أمم يا بور سعيد" وكنا جميعا – بلا استثناء – عندما لاحت نذر الحرب في 67 نتصور أنه قد حانت ساعة الانتقام التي سنتقأ فيها مرارة الهزيمة في وجه العالم .
وإذا بالمفاجأة تذهل الجميع لقد مات مئات الألوف من شباب مصر في سيناء ونشرت صحف العالم صورا لجثث المصريين ملقاة على رمال سيناء تنهشها الطيور الجارحة وكتب عنوانا لتلك الصور : موتي بلا قبور ! وغنمت إسرائيل الأسلحة المصرية وأقامت لها معرضا لتتم فضيحة مصر والعرب على مرأى من العالم أجمع حتى وصل هذا العالم - أو كاد – إلى يقين تام بأن الأمة العربية ماتت أو صارت جسدا هامدا بلا روح!
وأصبح الجيش المصري سخرية لمواطنيه قل الأجنبي وهو في ذلك مظلوم فلم تكن الهزيمة لضعف أو جبن في الأفراد وإنما كانت لفساد في القيادات التي وضعت مبدأ الإخلاص والولاء قبل القدرة والكفاءة ولم يكن إخلاصا أو ولاء لمصر وإنما كان للنظم وللأفراد لقد أبعدت الثورة
ومنذ قيامها الرجال الأكفاء الجادون واستبدلتهم بالمنافقين والانتهازيين وليس أدل على ذلك من أنه حين وضع الرجال المناسبون في الأماكن المناسبة وأحس المواطن بالأمن والأمان وعاد إليه انتماؤه لبلده وحبه لوطنه تحقق النصر في سنة 73 وبأقل الخسائر ومحيت مذلة الهزيمة وعارها واسترد الإنسان المصري والعربي ثقته في نفسه .
صباح التاسع من يونيو 1967 وصلت إشارة من أمانة الاتحاد الاشتراكي إلى أمناء المحافظات بالتجمع في المقر الاستماع الخطاب الذي سيلقيه الرئيس جمال عبد الناصر وينقله التليفزيون على الهواء .
وفي الوقت المحدد ظهر عبد الناصر على شاشات التلفزيون منكسرا ذليلا ينعي إلى الأمة كرامتها التي انتهكت وعزتها التي ديست بالأقدام بإعلان تنحيه عن الحكم وتوليه زكريا محيي الدين بدلا منه !! حتى هذه المرة خطط عبد الناصر جيدا واختار زكريا وهو يعلم تمام أن الناس لن تقبله رئيسا عليها . لم يكد الخطاب ينتهي حتى امتلأت الشوارع في ساعات قليلة بالمظاهرات التي تهتف برفض الهزيمة ورفض تنحي الرئيس وطالبته بالبقاء والاستمرار .
وفي أسيوط اتجه المتظاهرون إلى مقر لاتحاد الاشتراكي مرددين تلك الهتافات فخرج إليهم أمين عام الاتحاد الاشتراكي المرحوم أحمد منتصر ووقف فيهم خطيبا طالبا منهم الهدوء والانصراف والتعاون مع القيادة الجديدة المتمثلة في زكريا محي الدين ولسوء حظ أحمد منتصر
فقد كانت هناك خلافات بينه وبين المحافظ قبل هذا اليوم فانتهز المحافظ أحمد كمل الفرصة وكتب تقريرا بما حدث من أمين عام الاتحاد ورفعه إلى الجهات العليا فصدر قرار بعزل أحمد منتصر ن منصبه وعين بدلا عنه الدكتور عبد الوهاب البرلسي مدير جامعة أسيوط في ذلك الوقت .
والأخير لم يكن من أسيوط وكل ما يربطه بتلك المحافظة هو إدارة جامعتها ولذلك فلم يتح له أن يتعرف على عائلاتها و كبار شخصياتها كما أنه لم يكن ليعرف طبائع أهلها ولا طريقة تفكيرهم أو الأسلوب الذي يسيرون به حياتهم وكان هذا الجهل بطبائع الأمور يضعه في كثير من الحرج.
كان لابد أن أجلس إلى جواره في حجرة مكتبه بأمانة الاتحاد الاشتراكي حيث يستقبل القادمين لزيارته وعندما يدخل عليه أحد كان يهمس لى متسائلا عن اسمه وبلدته ليرحب به بشكل حميم كأنه يعرفه من قبل لأن مناداة الشخص باسمه في الصعيد شي مهم جدا حيث يرضي ذلك غرورهم عندما يشعر الواحد منهم بأنه معروف للمسئول.
كان الدكتور عبد الوهاب البرلسي يمثل الواجهة وكنت أقوم بكل مهام الأمين العام للإتحاد الاشتراكي وأمام هذه الحالة وبعد شهور قليلة من تولية عبد الوهاب البرلسي صدر قرار بتنحيته وتعييني بدلا عنه كذلك في نفس التوقيت صدر قرار بتعيين أحمد كامل أمينا لمنظمة الشباب وتعيين ممدوح سالم محافظا لأسيوط بدلا منه ثم جاءت انتخابات الاتحاد الاشتراكي من القاعدة إلى القمة .
وفي تلك الانتخابات فازت جبهتي التي كونتها على كل المستويات وبذلك انتخبت أمينا عاما للإتحاد الاشتراكي وعضوا باللجنة المركزية . جاءت أيضا انتخابات مجلس الأمة وكان النظام قد اخترع بدعة ليس لها نظير في العالم كله شرقه وغربه وهو وجوب أن يكون نصف أعضاء مجلس الأمة على الأقل من العمال والفلاحين !
من يقود إن العمال والفلاحين يشرعون للمجتمع ويراقبون الحكومة ؟ أى تشريع هذا أو أية رقابة ؟! ثم أى قانون وضعي أو سماوي يفرق بين الناس ؟! أليس حملة الشهادات والمثقفون هم أبناء الفلاحين والعمال ؟ أعتقد أن ذلك كان ضحكا على الذقون وما هي إلا خطة ترمى إلى ضمان نسبة تزيد على الخمسين بالمائة موالين وموافقين كل الوقت وعلى طول المدى وهذا يذكرنا بسياسة سعيد باشا عندما كان يغلق المدارس لأنه يؤمن أن الشعب الجاهل أسلس قيادة من نظيره المتعلم المثقف.
لقد ساد الموقف سيف العز وذهبه وغرقت القيم في طوفان النفاق ذلك الداء الذي سكن جسد الأمة ولم يقتصر على طبقة اجتماعية أو ثقافية دون الأخرى بل أكاد أجزم أن المثقفين وحملة الشهادات العلا والألقاب الرنانة أكثر طواعية وأشد نفاقا ممن يسمونهم العمال والفلاحين ذلك أن النفاق أصبح كلمة السر التي تفتح الأبواب المغلقة نحو تحقيق المكاسب والآمال
والعمال والفلاحون غالبا ما تنتهي آمالهم عند حد معين أما حملة الشهادات العليا فطموحاتهم لا نهاية لها وتبارى الجميع في النفاق الرخيص إعلانا للوفاء والإخلاص للنظام ولا يغير من تلك الحقيقة وجود أفراد قلائل شذوا عن القاعدة وحاولوا أن يقولوا كلمة حق.
أما رجال الجهاز التنفيذي في أعلي مستوياتهم فلم يكونوا إلا كتبة بدرجات مالية مختلفة كاتب بدرجة وزير وآخر بدرجة رئيس وزراء إلى آخره وقبل عهد الثورة (عهد الحريات وأرفع رأسك يا أخي) كان الوزير يستقيل إذا لم يقتنع بسياسة أمر من الأمور وينشر نبأ الاستقالة في الصحف مقرونا بأسبابها ومع عبد الناصر فقد اختلف الأمر كثيرا ... فمن يجرؤ ؟
لقد أرسي السيد الرئيس مبدأ مهما من مبادئ حرياته : " ليس لدي وزير يستقيل وإنما يقال "!! ومرة ثانية أتساءل من يجرؤ على تقديم استقالته أو حتى إبداء تلك الرغبة ؟ إن شبح التنكيل به والتشهير عن طريق آلة الإعلام الجهنمية لابد أنه سوف يقض مضجعه ليلا ويتجسد له شاخصا في أروقة ودهاليز المكاتب نهارا .
حتى الكلام (الفضفضة) كان ترفا لا يمارس إلا في المجالس الخاصة وأمام صفوة الخلصاء والمؤتمنين وإليكم هذا المثال عما كان يحدث في هذا الزمن. عين المرحوم أحمد كامل محافظا للإسكندرية ودعاني والأخ عمر عبد الآخر سكرتير عام محافظة أسيوط – آنذاك محافظ القاهرة فيما بعد – لقضاء ثلاثة أيام بالإسكندرية فلبينا الدعوة وأنت إقامتنا باستراحة مجلس الوزراء باستانلي .
عند وصولنا اتصل عمر عبد الآخر بصديقين له هم محمد عبد المحسن سكرتير عام مساعد محافظ الإسكندرية وطلعت حسين البولاقي وكان رئيس لأحد الأحياء ودعاهما لزيارته بالاستراحة . بعد الظهر حضرا صديقي عمر وجلسنا نحن الأربعة بالشرفة نتجاذب أطراف الحديث الذي تطرق إلى السياسة فبدأت أنتقد الثورة بشدة
فنهض محمد عبد المحسن مستأذنا في الذهاب إلى الحمام وبعد انصرافه بدقائق قليلة جاء أحد السعاة يخبر طلعت البولاقي أن أحدا يريده على التليفون بالداخل فنهض هو الآخر منصرفا إلى داخل الاستراحة ولم تمر دقائق أخرى حتى تكرر المشهد مع عمر عبد الآخر وهنا أحسست أن في الأمر شيئا خاصة وأنني لم أسمع أى رنين للتليفون !
مرت حوالي عشرة دقائق وعاد الثلاثة يتقدمهم عمر عبد الآخر ضاحكا وقام ضيفه بتحيتي وانصرفا وهنا اتجهت إلى عمر بالسؤال : "إيه الحكاية "؟! فانفجر ضاحكا هو ينقل لي الحوار الذي دار بعيدا عني بينه وبين صديقيه لقد سألاه : من هذا الذي تصاحبه ويسمي محمد عثمان ؟ أجابهم:"إنه صديق " فعادا يسألاه : أهو مجنون ؟
فقال : "أنا لا أصادق مجانين" فعاد لسؤاله: "أتعرفه معرفة جيدة" ؟ فأجابهم : نعم فقالا له: " إنك بالتأكيد مخدوع وهتروح في داهية وهل هناك إنسان عاقل يقول ما يقوله محمد عثمان هذا في تلك الظروف التي نعيشها نؤكد لك وننبهك أنه ما دام غير مجنون فهو يعمل مع المخابرات وينتقد النظام بهذه الطريقة ليستدرجنا في الكلام"
وحاول عمر عبد الآخر أن يقنعهم بعكس ذلك لكنهما تمسكا برأيهما وطلبا الانصراف قائلين : إذا أردت مقابلتنا فليكن في غير وجوده (يقصدوني) هذا هو اعتقاد المصريين في ذلك الوقت : من ينتقد النظام إما أن يكون مجنونا أو عميلا للمباحث والمخابرات يخدع الناس ويوقع بهم . ونعود لانتخابات مجلس الأمة .
وبالإضافة إلى النسبة أو البدعة التي حددها المشرع للعمال والفلاحين فقد ابتدعت طريقة جديدة للانتخابات هي إجراؤها على مرحلتين الأولي وينعقد فيها مؤتمر للإتحاد الاشتراكي في كل دائرة (كانت الدوائر مكونة من وحدات الاتحاد الاشتراكي) ويتقدم لهذا المؤتمر من يريد الترشيح فيقوم المؤتمر باختيار شخصين من المتقدمين على أن يكون أحدهما فلاح أو عامل وبعد ذلك يقوم أهل الدائرة بالاستفتاء على هذين المرشحين .
وأمام مؤتمر الاتحاد الاشتراكي رشحت نفسي أنا وآخرين فقاموا باختياري وأحد الفلاحين وهو كرم عيسي وسرعان ما جاء يوم الاستفتاء فحصلنا بالطبع على عدد مساو من الأصوات وهو العدد المقيد في كشوف الانتخابات وبذلك انتخبت للمرة الثانية نائبا برلمانيا عن دائرة أبنوب وفي نفس الوقت كنت أشغل منصب رئيس الاتحاد الاشتراكي للمحافظة.
لم يكن بأسيوط فندقا أو مكانا لائقا (على المستوى الرسمي) لاستقبال كبار الضيوف من الشخصيات السياسية وفي الغالب كنت أستقبل الوزراء والقيادات التي تربطني بها علاقات خاصة في فيلتي المجاورة لمبني المحافظة فعلي سبيل المثال استقبلت عبد المحسن أبو النور أمين عام الاتحاد الاشتراكي عندما جاء إلى أسيوط أثناء انعقاد اللجنة المركزية للإتحاد الاشتراكي للوجه القبلي لمناقشة وشرح ظروف المرحلة التي كنا نعيشها ...
وبعد ذلك بشهور اتصل بي المرحوم أنور السادات نائب رئيس الجمهورية وأخبرني أنه سيأتي إلى أسيوط خلال أيام وطلب مني أن أرتب له لقاء مغلقا ببعض أساتذة جامعة أسيوط الذين أثق في حماستهم الوطنية على ألا يحضر هذا اللقاء أى شخص آخر من قيادات المحافظة سواى وترك لى حرية اختيار هؤلاء على ألا يزيد عددهم على خمسة عشر.
جاء أنور السادات فأجرى لقاءاته العادية في ديوان المحافظة نهارا وفي الليل تقابل مع أساتذة الجامعة في منزلي حيث كان يقيم وفي هذا اللقاء تعرض السادات لأسئلة واستفسارات جريئة كانت أكثرها جرأة للدكتور ممدوح شعبان أستاذ أمراض النساء بكلية الطب جامعة أسيوط أما هدف ذلك الاجتماع وغيره من الاجتماعات التي تعقدها القيادات السياسية فكان توصيل مبررات مقنعة لما حدث في 5 يونيو 67 ومحاولة لإحياء الأمل في المستقبل وإسداء بعض النصائح مثل أن مهاجمة الجيش تضر ولا تنفع .
دعت اللجنة العليا للإتحاد الاشتراكي إلى اجتماع اللجنة المركزية ذلك الاجتماع الذي حضره الرئيس عبد الناصر وألقي فيه كلمة شرح فيها الظروف التي مرت بالبلاد ثم دعا إلى تشكيل اللجنة التنفيذية للعليا للإتحاد الاشتراكي بالانتخاب فيرشح نفسه من يريد ويقوم أعضاء اللجنة المركزية بانتخاب من يرونه من المرشحين فانطلقت الأصوات كالعادة تهتف في الرئيس "نفوضك يريس في الانتخابات" فاعترض عبد الناصر على ذلك فتعالت الأصوات وتزايدت تفوضه في الاختيار فقبل بعد تمنع وانتهت الجلسة على ذلك.
بعد أيام دعى إلى اجتماع آخر للجنة المركزية برئاسة الرئيس عبد الناصر وفي هذا الاجتماع عاد الرئيس لرفض تفويض اللجنة له باختيار أعضاء اللجنة التنفيذية العلي (والذي كان قد قبله في الاجتماع السابق) ومرة أخرى تمسك الأعضاء: "ما دمتم تصرون على ذلك فسألتقي بأمناء المحافظات لأتعرف منهم على إحساس ورأي الشعب بالنسبة للقيادات العليا"
وتحدد ميعاد لكل أمين محافظة يقابل فيه الرئيس وعندما جاء دوري بصفتي أمينا لمحافظة أسيوط استقبلني الرئيس عبد الناصر في حجرة مكتبه مصافحا وكان يحضر اللقاء المرحوم شعراوي جمعة:
كان الرئيس يجلس إلى مكتبه عندما بدأ الكلام فسألني : " أنت سنك كام ؟ قلت له " 37 سنة" فقال " " مش باين عليك " فحمدت الله على ذلك ثم استأنف الرئيس كلامه يسألني رأي الناس في أعضاء اللجنة العليا كل بإسمه فنقلت له ما أعتقد أنه رأي الناس بأمانة فيمن سأل عنهم وما أن وصلنا إلى على صبري حتى قلت: " إنه مكروه جدا من المواطنين " سألني : لماذا ؟ فأجبت "لأنه شيوعي" ففوجئت به ينهض واقفا وفي غضب يضرب المكتب بيده وهو يردد : "ده كلام غلط"
فقلت :
- " يا أفندم هذا ليس رأي وسيادتك تسألني عن رأى المواطنين وأنا أنقل لك ذلك بأمانة لعل السبب في ذلك هو الانطباع الذي تركته مقالاته في جريدة الجمهورية من وجوب تأميم أغلب الأنشطة حتى الحرفيين وباعة الطعمية "
فاستمر على انفعاله وهو يقول: "برضه ده كلام غلط على صبري أمريكاني وإشاعة إنه شيوعي بيروجها عنه خصومه" ثم مد لى يده بالمصافحة إيذانا بانتهاء المقابلة فصافحته وانصرفت.
كنت متصورا قبل اللقاء أن الرئيس سيفاتحني في الموضوعات التي تتعلق بعمه خليل حسين وما حدث بيني وبينه في أسيوط ولذلك كنت أتحسب لتلك المقابلة وأشعر بالخوف لكنه لم يتطرق إلى شئ من ذلك. بعد أيام جاء اجتماع اللجنة المركزية والذي تمسك فيه عبد الناصر بوجوب انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية العليا ورفعت الجلسة الاستراحة على أن تستأنف بعد الاستراحة لإجراء عملية الانتخاب .
أثناء الاستراحة قام شعراوي جمعة بمقابلة أمناء المحافظات – وأنا واحد منهم – كل على انفراد ليعطي تعليماته لهم بضرورة انتخاب أعضاء بعينهم وكان من ضمن الأسماء المطلوب تزكيتها على صبري وعبد المحسن أبو النور ولبيب شقير وضياء الدين داود والحناوى وأكد شعراوي جمعة علينا بالمسئولية عن أعضاء اللجنة المركزية بمحافظات (كانت كل محافظة تمثل بأربعة أعضاء)
كذلك لم ينس الأخ شعراوي أن يؤكد ويشدد في تأكيداته بعدم انتخاب أنور السادات ولعل ذلك يفسر بعضا مما حدث بعد ذلك في أحداث مايو 1971 وأقصد أن أقول : إن الخلاف والكراهية بين هذه المجموعة وأنور السادات كان لها جذورها ولم تكن أبدا طارئة أو نتيجة اختلاف في وجهات النظر والرأي إبان أحداث مايو بل هي ممتدة إلى الأيام التي كان عبد الناصر حيا يحكم مصر .
في شهر سبتمبر 1970 كان يعقد في القاهرة مؤتمر القمة العربي وقرب نهاية يوم 28 سبتمبر أعلنت حالة الطوارئ في الجيش والشرطة وعرفت بالخبر فاتجهت من فوري إلى ديوان عام المحافظة في أسيوط (كان المحافظ في ذلك الوقت هو المرحوم كمال حميدة) وفي حجرة مكتب سكرتير عام المحافظة عمر عبد الآخر جلست أنا وصاحب الحجرة نحاول أن نعرف شيئا خاصة وأن الإذاعة بدأت تذيع القرآن الكريم وانتشرت حولنا إشاعة تفيد أن الملك حسين قد سقطت به طائرته ومات أثناء مغادرته لمصر.
وفي جلستنا في مكتب عمر عبد الآخر داخل علينا المحافظ كمال حميدة وانضم إلينا ومثلنا كان يحاول أن يلتقط أية معلومة عما يحدث ... وأخيرا توقفت الإذاعة عن بث برامجها وعبر الأثير جاء صوت أنور السادات ينعي إلى شعب مصر جمال عبد الناصر.
للحظات ساد ثلاثتنا الوجوم ثم انفجر كمال حميدة يلطم خديه مرددا ! يا خبر أسود ... يا خبر أسود استمر على ذلك لثوان ثم خر مغشيا عليه بينما تبادلت أنا وعمر عبد الآخر – بعد أن استوعبنا الخبر – نظرات معناها الارتياح وكما يقولون في التعبير الشائع تنفسنا الصعداء .
وتنبه عمر عبد الآخر لكمال حميدة الذي سقط على كرسيه وهو يردد في: "المحافظ سيموت" فقلت له مداعبا:" اتركه يفعلها !ّ" وأسرع عمر يحضر زجاجة الكولونيا ويسكبها على وجه المحافظ.
تحدد يوم لتشييع جثمان عبد الناصر وخرجت ملايين المواطنين تشيع الجنازة رجالا ونساء يبكون ويولولون كأنهم صاروا أيتاما ... شئ لم أره من قبل .. وشعب غريب في حياة عبد الناصر كان أكثر الشعب يلعنه (في الخفاء) وعند مماته خرج أكثر الشعب يندبه وكأهم أطفال فقدوا عائلهم .
رجال حول الرئيس
في مجلس النواب تزعمت المناداة بأنور السادات رئيسا للجمهورية وحصلت على توقيع بهذا الشأن من جميع نواب المجلس عن الصعيد وكذلك توقيع نواب القاهرة والإسكندرية ذوى الأصول الصعيدية وطول الوقت كانت مقولة السادات " نفسي أشوف مصر زى ما كانت " لا تبرح ذاكرتي أيضا تلك الليلة التي قضاها بمنزلي في أسيوط ورأيته فيها عن قرب إنسان طبيعيا بلا تكلف ولم أجد فيه ما أكرهه في الآخرين .
وبعد أن جمعت توقيعات المطالبين بالسادات خلفا لجمال عبد الناصر ناديت لاجتماع بالقاعة الصغرى للجنة المركزية حضره الجميع وبالطبع كنت قد أخطرت بذلك لبيب شقير رئيس المجلس في ذلك الوقت ومع لبيب شقير حضر هذا الاجتماع ضياء الدين داود وما أن بدأت تكلم في مسألة تزكيتنا لأنور السادات رئيسا للجمهورية
وأقدم الكشف الموقع من الأعضاء بذلك حتى أنفجر ضيء داود في قائلا:
- " مالكم أنتم وهذه الأمور خليكم في محافظاتكم وما يجرى فيه" فرددت عليه بانفعال مماثل : "نحن نواب نمثل هذا الشعب وإرادته " وكادت الأمور تتطور بيني وبينه لولا تدخل لبيب شقير مهدئا ليقول: " من فضلكم بلاش الكلام ده في الظروف دى .. هات يا محمد التزكية" فناولته الورقة وانصرف الجميع.
تم انتخاب السادات رئيسا للجمهورية ولا أدرى حتى الآن السبب الذي جعله يختار أسيوط بالتحديد كأول زيارة ميدانية لمحافظات مصر وكالعادة فقد سبقه وزير ورئاسة الجمهورية المرحوم خالد فوزي ليلتقي بمحافظ المدينة ويرتب معه للزيارة ولقد حضرت هذا اللقاء باعتباري أمينا للمحافظ في الاتحاد الاشتراكي وعضوا بمجلس الأمة
وفوجئت كما فوجئ بالطبع وزير رئاسة الجمهورية بالمحافظ كمال حميدة ينصح بأن يؤجل السادات زيارته لأسيوط (بلد عبد الناصر) وأنه يخشى أن تقابل هذه الزيارة باستياء من مواطني المحافظة (بلديات عبد الناصر) وهنا اضطررت للتدخل وخالفت المحافظ في الرأي ووجهت كلامي مباشرة لخالد فوزي فقلت له : نحن نرحب بزيارة الرئيس أنور السادات " فعاد المحافظ ليقول : " هذا رأيي وإن كان ولابد من الزيارة فلتكن زيارة عادية دون أى استقبال شعبي "
فعدت لأقول لوزير رئاسة الجمهورية وأمام المحافظ: وفي هذه أيضا أخالف السيد المحافظ الرأي ولتكن الزيارة باعتبارها زيارة الرئيس الأولي لمحافظتنا زيارة ناجحة شعبيا وأنا مسئول عن هذا "وأعطيت لوزير رئاسة الجمهورية إقرار كتابا بذلك مشترطا فيها أن يترك هذا الأمر لى شخصيا دون تدخل من أحد".
وتحدد موعد الزيارة وأخطرني به تليفونيا خالد فوزي فبدأت الإعداد للزيارة وتنظيمها شعبيا فجعلت لكل قرية مكانا محددا على الطريق الذي سيمر عليه موكب الرئيس وجعلت لكل مجموعة من المواطنين مسئولا أعرفه وأثق به يقف معهم.
وكان الاستقبال رائعا لم يحدث من قبل ولا من بعد فنجحت الزيارة واسعد ذلك الرئيس وأظهر الغبطة على وجهه وعند انتهاء الزيارة وأثناء وداعي له بالمطار أحتضنني بحرارة وقبلني وهو يردد :"أنا متشكر قوى ي محمد" وكررها أكثر من مرة وبالمصادفة كان يقف قريبا د. محمد الدكرورى أمين محافظة المنيا ضمن أمناء محافظات الوجه القبلي الذين تجمعوا لوداع الرئيس .. وبعد أن صعد الرئيس لطائرته اقترب من أذني د. الدكرورى هامسا :" هذه القبلات لها ثمن قريب جدا " فكانت ملحوظة ذكية من رجل يتمتع بالذكاء اللماح .
صباح 15 مارس 1971 رن جرس التليفون في منزلي وعندما رفعت السماعة جاء صوت على الطرف الآخر متسائلا : الأخ محمد عثمان ؟ قلت : نعم فقال : وأنا محمد أحمد (كان وزيرا للحكم المحلي) مبروك صدر قرار بتعيينك محافظا لأسوان فقلت له : شكرا .
وأخذتني المفاجأة إذ لم يكن ف يحسباني أن أعمل موظفا تنفيذيا ... كنت وأسرتي سعداء الحياة في أسيوط راضين بها وظروفنا كلها ميسرة أتمتع بحرية العمل محام لا تكبلني قيود وظيفية فاستشرت زوجتى فيما أفكر فيه من أمر الاعتذار وانتهينا إلى ما يشبه قرار في ذلك لكني آثرت أن يشاركنا أحد الأصدقاء – أيضا – في ذلك الأمر فتوجهت إلى صديقي سكرتير عام محافظة أسيوط عمر عبد الآخر.
لما دخلت عليه مكتبه كان يجتمع بمديري المصالح فلما استأذنته والموجودين في كلمة على انفراد خرج ووقفن في أحد الطرقات أمام مكتبه نتحدث وفي كلمت قليلة أخبرته بالأمر وسألته كيف الاعتذار عن قبول التكليف .. لكنه لم يقل شيئا بل احتضنني مهنئا وعاد بي إلى حجرة مكتبه وطلب من الحاضرين تأجيل الاجتماع إلى اليوم التالي فانصرفوا والتفت إلى يناقشني في الأسباب التي تدعوني للاعتذار ودحضها كلها وظل يناقشني ويؤكد على القبول حتى اقتنعت برأيه وسافرت إلى القاهرة في اليوم التالي لخلف اليمين . ولا يفوتني هنا ملحوظة اعتقد أن قارئ هذه السطور سوف يفهم معناها .
في اليوم الثاني لحلفي اليمين أخبرت بوفاة شقيقي الأكبر اللواء الألفي بليبيا وانتظر الجثمان بالمطار ومن المطار إلى قريتنا حيث يقام العزاء ويستمر لمدة خمسة عشرة يوما لم أكن قد استلمت عملي في محافظة أسوان بل لم أزورها وبالتالي لا أعرف أحدا بها وعلى الرغم من ذلك ما أن أعلن خبر وفاة شقيقي حتى وجدت عشرات الأشخاص يأتون من أسوان لزيارتي في بلدتي بأسيوط لتقديم التعازي!! في القاهرة لم تكن سفينة الحكم قد استقرت بالرئيس السادات بل يبدو أن الأمور تعقدت بينه وبين من أسموهم – بعد ذلك – بمراكز القوى .
وكنت لا زلت عضوا باللجنة المركزية للإتحاد الاشتراكي ولذلك فعندما تمت دعوة أعضاء تلك اللجنة للاجتماع سفرت بمبادرة شخصية من أسوان إلى القاهرة ووصلت إلى مقر الاجتماع قبل الموعد بحوالي الساعة لأقابل مصادفة المرحوم شعراوي جمعة وبعد أن تصافحنا بادرني متسائلا : سايب محافظتك ليه ؟
فقلت له: لحضور اجتماع اللجنة المركزية .
فقال: "أنت الآن محافظ ولا يجوز حضور اجتماع اللجنة المركزية تفضل سفر إلى أسوان الآن ولا تحضر الاجتماع"
فرددت عليه: "أنا لا زلت عضوا فلم يعين أو ينتخب أحد بدلا عني وبالتالي سوف أحضر هذا الاجتماع وأسافر بعد ذلك إلى أسوان"
قلت ذلك لأنني كنت أعرف وأشعر بصراعات القوى وتكتيل أعضاء اللجنة المركزية ضد الرئيس السادات وتوقعت أن هذا الاجتماع سيتمخض عن تفجر في الموقف كله لم يعلق شعراوي جمعة على كلامي وانصرف غاضبا .
وانعقد اجتماع اللجنة وحدث ما توقعت إذ بدأ على صبري طالبا الكلمة ثم شرع في كلمته يهاجم الرئيس السادات اشتبكت معهما كلاميا بصورة انفعالية وانتهي الجميع إلى طرح الموضوع للتصويت فقيل : من يؤيد وجهة نظر الرئيس يرفع يده فلم يؤيده من مجموع الحاضرين سوي خمسة أفراد كنت أحدهم !! وساد الوجوم وإذ بالدكتور مصطفي أبو زيد يرفع يده طالبا الكلمة فأعطيت له ليقول: "أن هذا أمر دستوري ولا يجوز مناقشته بهذه الطريقة في اللجنة المركزية بعدها رفعت الجلسة للاستراحة والتشاور في الأمر لمدة ساعة" .
خرجنا من الجلسة وصعدت إلى حجرة مكتب الدكتور محمد الدكروري برفقة المهندس حمد عبد الآخر وما أن وصلنا إلى حجرة المكتب حتى ارتمي أحمد عبد الآخر على الكنبة الموجودة بحجرة المكتب وهو يردد: "أنا متعب أطلبوا لى سيارة تذهب إلى بيتي لأنني أحس أنني سأموت !"
فهمت أنه غير مريض وإنما يريد أن يهرب من الموقف وفي نفس الوقت كنت مغتاظا مما حدث في اللجنة ومن أسموهم بمراكز القوى فقلت موجها كلامي للمهندس حمد عبد الآخر: " إذا كنت تريد طبيب فسنحضره لك هنا وإن كنت لا ترغب في ذلك فلتمت هنا أحسن" وعادت الجلسة إلى الانعقاد لتستمر لمدة دقيقة أعلن خلالها تأجيل انعقادها إلى أجل غير مسمي.
في أول مايو سنة 1971 جاء ميعاد الاحتفال بعيد العمال وكان هذه المرة سيقام بحلوان (وعندما دخلنا السرداق المعد لذلك كانت صور عبد الناصر تملأ جنباته وأثناء إلقاء الرئيس السادات لكلمته كان يقف من يقاطعه من العمال هاتفا ويردد خلفه آخرون شعارات العهد الناصري ثم يتبعون ذلك بالهتاف لعبد الناصر ! ووضح جليا أن أمر إحراج الرئيس السادات وإرهابه مبيت له ومرتب وفي اليوم التالي لهذا الاحتفال اصدر الرئيس قرار بتنحية على صبري وعلى أثر ذلك بدأ الاصطدام المباشر والعلني
طلب مني الرئيس السادات البقاء بالقاهرة لمتابعة الموقف وعدم السفر إلى أسوان وبدأت المجموعة التي أطلق عليها مراكز القوي تتجمع وتخطط للإطاحة بالرئيس السادات فدعي الدكتور مفيد شهاب (أمين الشباب في ذلك الوقت) أمناء شباب المحافظات إلى الاجتماع في القاعة الصغرى للجنة المركزية وفي هذا الاجتماع ناقش مع أمناء الشباب الأمر
وانتهوا إلى إصدار بيان يشجبون فيه سياسة الرئيس السادات وعند إعداد البيان كان الدكتور مفيد يتردد على مكتب السيد عبد المحسن أبو النور أمين عام الاتحاد الاشتراكي بمكتبه وذلك لأخذ رأيه في صياغة البيان إلى أن تهيأ إلى صورته النهائية التي سلمت إلى عبد المحسن أبو النور ليقوم بدوره برفعه إلى الرئيس السادات !
وبدأت اجتماعات التنظيم الطليعي
كنت في تلك الأيام أقابل الرئيس السادات أكثر من مرة في اليوم الواحد للتشاور معه ولم يكن يساند الرئيس سوى قلائل كنت واحد منهم أما لآخرين فهم الدكتور محمد الدكروري والمهندس أحمد عبد الآخر والمرحوم يوسف مكاوى
وفي إحدى المرات قلت للرئيس السادات :
- " من معنا الجميع ضدنا الجيش ممثلا في الفريق محمد فوزي الداخلية ممثلة في شعراوي جمعة الاتحاد الاشتراكي ممثلا في عبد المحسن أبو النور والمخابرات ممثلة في سامي شرف وهذه جميعها القوي التنفيذية فماذا بقي لنا يا ريس ؟! فرفع السادات يده إلى السماء مرددا ... الله."
اتفقت مع د. محمد الدكروري والمهندس أحمد عبد الآخر أن نتقابل بعيدا عن القاهرة كذلك اتفقنا أن نجتمع بزملائنا أمناء الاتحاد الاشتراكي في الصعيد وحددنا دوار بيت عبد الأخر بطهطا مكانا للقاء الذي حضره بالإضافة إلى د. محمد الدكروري أمين محافظة المنيا وأحمد عبد الأخر ويوسف مكاوي ود. صلاح إسماعيل أمين محافظة قنا ونور حسن أمين محافظة بني سويف وفي هذا اللقاء اتفقنا أن نقف جميعا بقوة وراء الرئيس السادات نسانده .
طبعا المباحث العامة سوهاج عرفت بخبر هذا اللقاء والوضع الطبيعي أنها أخطرت به وزير الداخلية شعراوي جمعة وتأكدت أنا من ذلك عندما عدت إلى القاهرة ليتصل بي شعراوي جمعة ويطلب مني الذهاب لمقابلته وعندما التقيت به بدأ يتكلم فيما يحدث وعند نهاية اللقاء طلب مني أن أنصح الرئيس السادات بضبط النفس والهدوء !
واستطرد يقول :
- " أفهمه أنني على استعداد لأن أخلص له على علي صبري ولبيب شقير وضياء محافظ أسيوط وكان قد أصبح مديرا للمخابرات العامة وطلبت أن أزوره فرحب بالزيارة وذهب إليه مباشرة في مبني المخابرات بكوبري القبة" .
كان هدفي الأساسي من تلك الزيارة معرفة – أو على لأقل استنتاج – رأي رئيس المخابرات العامة فيما يجرى فلما سألته عن رأيه في ذلك بدأ أحمد كامل يهاجم مجموعة مراكز القوي وقال إنه غير موافق على أعمالهم ضد الرئيس فسألته ولماذا لم يتصل بالرئيس ويخبره بما لديه من معلومات ويحدد له موقفه مما يحدث ؟
فأجاب ساخرا:
- " أنا رئيس المخابرات العامة ولا أعرف كيف ألتقي بالرئيس في حين انه يقابل المغني عبد الحليم "
كنت أتصور أن الأمور يجب أن تكون محددة وكل شخص يظهر موقفه بشكل واضح ولذلك فقد وعدت أحمد كامل رئيس المخابرات أنني سأوصل لسيادة الرئيس طلبه للمقابلة وسأنقل لسيادته أيضا ما دار بيني وبينه وذهبت إلى الرئيس مباشرة ونفذت ما وعدت أحمد كامل به فكان رد الرئيس السادات : سأطلبه لمقابلتي اليوم الساعة الثامنة مساء فخرجت أنا من عند الرئيس لأخبر أحمد كامل بأمر المقابلة واتفقت معه على أن نلتقي بعد انتهاء مقبلته للرئيس بمكتب د. محمد الدكروري بالاتحاد الاشتراكي.
جاءني أحمد كامل بعد انتهاء مقابلته للرئيس مباشرة ليخبرني أنه شرح للرئيس كل الموضوعات وطلب منه التريث وضبط النفس وعدم اتخاذ أية إجراءات ضد هؤلاء الأفراد (مراكز القوى) من جانبه !! وهنا فقط بدأت أتشكك في موقف أحمد كامل لتطابق رأيه مع رأي شعراوي جمعة واستنتجت أن هناك تنسيقا بين جهات عدة وخطط تعد في الخفاء .
في اليوم التالي ذهبت إلى الرئيس السادات وعندما رآني بادرني قائلا : " لسه خارج من هنا شعراوي جمعة وسامي شرف واتفقنا أن نحل الاتحاد الاشتراكي وندعو لانتخابات جديدة يسقط فيها على صبري ولبيب شقير وضياء الدين فضحكت فسألني الرئيس مندهشا :" ما يضحكك؟
قلت له:
- " يا سيادة الرئيس إنها خطة يعدونها ولا يبغون من وراء ذلك إلا كسب الوقت والتاريخ يعيد نفسه فهم يريدون أن يفعلوا بك ما فعلتموه أنتم باللواء محمد نجيب يا سيادة الرئيس إضراب الآن وعلى رأي المثل .. اليد السابقة كاسبة "وأضفت "على صبري ولبيب شقير لا يمثلون شيئا ولكن الخطورة في الذين يشغلون مواقع حساسة مثل سامي شرف وشعراوي جمعة"
في هذا اللقاء أيضا استأذنت الرئيس في السفر إلى أسوان لكي يري الناس وجهي لأنه قد وصل إلى مسامعي أن الناس بدأت تردد أنني أدير المحافظة بالتليفون من القاهرة فأذن لى الرئيس على أن أظل على اتصال دائم به وفي اليوم التالي لوصولي إلى أسوان سمعت كغيري في التلفزيون نبأ الاستقالة الجماعية لما سار بمراكز القوى وأن الرئيس السادات قد قبلها وأخطرت من الرئاسة بالحضور ففورا إلى القاهرة .
صد تشكيل وزاري جديد ومن المفارقات أن هذا التشكيل تضمن المهندس هنرى أبادير وزيرا للمواصلات وقبل حلفه لليمين وصلت استقالته التي كان قد تأخر وصوله عن استقالات الآخرين (مراكز القوي) بسبب غير معروف فرفع اسمه من التشكيل الوزاري الجديد.
عندما وصلت إلى القاهرة رأيت الجماهير تندفع إلى الشوارع تهتف بسقوط مراكز القوى وحياة أنور السادات مرددة الهتاف المعهود: " بالروح بالدم نفديك يا سادت" ومن نافذة حجرة مكتب الدكتور محمد الدكروري بمبني الاتحاد الاشتراكي كنت أراقب مع صاحب الحجرة الجماهير
ووجدتني أضحك موجها كلامي للدكتور الدكروري: إنه الشعب المصري لو كان الأمر قد انقلب إلى العكس لرأينا نفس الجماهير تردد نفس الهتافات ساخطة على السادات وفادية لأعدائه بروحها ودمها عبر نداءاتها المعلبة الجاهزة ؟ وتذكرت إجابة الرئيس عندما سألته: كل القوي التنفيذية يمكلونها فماذا بقي لنا ؟
فأجاب .. الله
- " نعم إنها إرادة الله التي أعمتهم وأنزلت الغشاوة على أفهماهم وقلوبهم ولو فكروا قليلا ما أقدموا على تقديم استقالاتهم في الوقت الذي كانوا يملكون فيه كل أجهزة البلد ووزير الإعلام منهم ولو أعلن الأخير نبأ عن تنحي أو استقالة الرئيس السادات عبر التلفزيون بينما يسيطر الآخرون على الجيش والشرطة والتنظيم السياسي أقول لو فعلوا ذلك لانقلب الموقف تماما لصالحهم .... لكن !!"
قابلت الرئيس السادات فبادرني قائلا :" كنت فين ؟ أنا طلبتك أول أمس " قلت له: " أنا تحركت بمجرد وصول طلب الحضور لكن المسافة من أسوان إلى القاهرة تستغرق نصف يوم بالقطار "
فعاد الرئيس يقول:
- " لقد استدعيتك أنت وأحمد عبد الآخر ومحمد الدكروري ويوسف مكاوي وحضروا جميعا إلا أنت وفي غيابك استعرضنا الموقف وعرض موضوع التنظيم السياسي ومن يعين أمينا عاما للإتحاد الاشتراكي فرشح أحمد عبد الآخر الدكتور محمد الدكروري فلم سألته عن موقفك أجابني أنك سوف توافق أيضا على ترشيح الدكتور الدكروري
وأضاف الرئيس :
- " لم أكن في وقت يحتمل المجادلة فأصدرت قرارا بتعيين محمد الدكروري أمينا عاما للإتحاد الاشتراكي وأنا في الحقيقة كنت مستقرا على تعيينك أنت في هذا المنصب لكن الخيرة فيما اختاره الله ".
بعد ذلك بأيام قليلة حضر إلى منزلي بالقاهرة مقدم شرطة اسمه محمد عبد الرحيم أصله سوهاجي وهو الآن لواء بالمعاش وكان يعمل في ذلك الوقت بقسم المباحث الجنائية بالأمن العام وكان بصحبته آخر قدمه لى على أنه صديقه بالمباحث العامة ولديه معلومات يود أن يسردها على (لا أذكر اسم هذا الشخص الآن) بخصوص التحقيقات التي تجريها وزارة الداخلية مع بعض الضباط كأحد الإجراءات التي اتخذت بعد 15 مايو .
بالطبع استقبلتهما وبدأ ضابط المباحث العامة يقول ما عنده وعلمت منه أن الضباط الذين يسألون في التحقيقات يتقابلون أولا في مكتب حسن طلعت مدير المباحث العامة ليتفقوا أمامه على الأقوال التي سيدلون بها أمام المحقق حتى لا يحدث تضارب بينهما وأضاف ضابط المباحث العامة أن اللواء حسن طلعت قد أصدر أمرا من وقت قليل بالذهاب إلى فيلا كوتسكا بالزمالك والتي كانت تستعملها المباحث مكانا للتنصت على المكالمات التليفونية وتسجيلها لإعدام كل ما بها من شرائط تسجيل
كذلك أخبرني ضابط المباحث العامة أنهم كانوا يسجلون للرئيس السادات شخصيا وحتى مقابلاته مع رؤساء الدول وذكر في ذلك واقعة بالتحديد فقال: " ويوم أن كان الرئيس حافظ الأسد هنا في زيارة وحافظ الأسد وكنا نستقبل ذلك في سيارة المباحث التي تسير في الموكب خلف سيارة الرئيس !!"
ومن هول ما سمعت اتصلت بالرئاسة فورا لمكالمة الرئيس السادات فقيل لى أنه في قصر القبة مع الوفد الروسي (الذي زار مصر بعد 15 مايو وكن يتكون من برجيف وبدجورني وآخرون) فاتجهت من فوري إلى قصر القبة وقبلت الأخ فوزي عبد الحافظ الذي أخبرني أن الرئيس في العشاء مع الروس فطلبت منه إخباره بأية طريقة أنني أريد مقابلته في أمر مهم جدا وعاجل فذهب إليه فوزي عبد الحافظ و وعاد ليطلب مني الانتظار بعد انتهاء ميعاد العشاء .
انتظرت بالطبع إلى ما بعد انتهاء العشاء وانصراف الضيوف بعدها أرسل إلى الرئيس لأقابله وفي الطابق العلوي بقصر القبة قابلت الرئيس ورويت له كل ما عرفته من ضابط المباحث وأعدت عليه ما دار بينه وبين الرئيس حافظ الأسد في السيارة التي كنت تقلهما (طبقا لرواية ضابط المباحث)
فقال الرئيس: بالفعل هذا الكلام صحيح ومن فوره أصدر أوامره بنقل التحقيقات من المبحث العامة في وزارة الداخلية إلى مبني مجلس قيادة الثورة بالجزيرة كما أنه أرسل قوة من الحرس الجمهوري للاستيلاء على مبني فيلا كوتسكا وجمعت تلك القوة ما وجدته من شرائط تسجيل بالفيلا تلك الشرائط التي قام الرئيس السادات بحرقها أمام المواطنين جميعا بعد أن نقل التلفزيون ذلك المشهد على الهواء .
في تلك الليلة أيضا التي قابلت فيها الرئيس بعد عشائه مع الوفد الروسي أخبرني الرئيس قائلا: " منذ قليل وقعت معاهدة مع الروس حتى لا يظنوا أن على صبري ومجموعته هم اللي لهم في مصر" فكنت بذلك أول مواطن مصري يعلم بهذه المعاهدة قبل الإعلان عنها . كذلك فوجئت هذه الليلة بالرئيس يقول لى "حكاية أسوان ده مش نافعة محافظة بعيدة وأنا عايزك قريب مني" وسألني: " تيجي بني سويف ؟ فقلت له : "ما تراه يا ريس" وبعدها بيومين صدر قرار جمهوري بنقلي من أسوان إلى بني سويف محافظا لها .
تحول اسم مجلس الأمة إلى مجلس الشعب وتولي المرحوم حافظ بدوى رئاسته وكان يتصل بي كثيرا وعند حدوث مشاكل مع النواب وخاصة نواب الصعيد كان يرجوني في الحضور والاتصال بالنواب لإقناعهم بأمر ما تكرر هذا إلى الدرجة التي طلب فيها حافظ بدوى من الرئيس السادات أن أبقي معه في المجلس على أية صورة كذلك طلب الدكتور عزيز صدقي رئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت أن أعمل معه وزيرا لشئون مجلس الشعب وهذا الكلام ليس تخمينا أو استنتاجا لكن هذا ما أخبرني به الرئيس السادات عندما فاتحني أن ابقي للعمل معه في القاهرة .
وفي الفترة القصيرة التي قضيتها محافظا لبني سويف خلت دائرة من الدوائر الانتخابية بالمحافظة فاتصل بي ممدوح سالم يطلبني لمقابلته بالقاهرة وعند لقائه فوجئت به يقولوا لى: "الرئيس يقول لك رشح نفسك في هذه الدائرة" رفضت على الفور ودون تفكير وقت لممدوح سالم: " كيف يكون هذا بني سويف ليست بلدي ولست مقيدا بها أو لي أصدقاء فيها أو أهل أو صلة من أى نوع إلا الوظيفة ".
وما جعلني أقول ذلك وبدون تردد هو ما سمعته بنفسي من قيادات بني سويف من نقد شديد يصل إلى حد السباب لشخص عبد المحسن أبو النور الذي رشح نفسه في إحدى دوائرها في بداية الثورة فأحببت ألا أضع نفسي هذا الموضع وأخبرت ممدوح سالم .
بمبررات رفضي متصورا أن حافظ بدوى وراء ذلك حتى أبقي معه في المجلس وكالنار في الهشيم تناثر خبر في المحافظة بأنني سوف أرشح نفسي عن الدائرة التي خلت فجاءت - كالعادة – الوفود من تلك الدائرة مهنأة ومباركة وهذا أيضا لم يثنيني عن عزمي برفض ذلك الطريف في المسألة أن الرئيس السادات أخبرني في إحدى الجلسات التي ضمتني معه فيما بعد أن مسألة ترشيحي في تلك الدائرة الانتخابية التي خلت (كانت دائرة ببا) كان تمهيدا منه لاختياري بعد ذلك رئيسا لمجلس الشعب !!
ولم يسؤني هذا على الإطلاق لأنني أؤمن أن الله يختار دائما الخير وأنا قانع بذلك تماما ولم تمر شهور قليلة حتى طلبني الرئيس لمقابلته في القاهرة ولاحظت أن هذه المقابلة بالذات قد أعلنتها كل الصحف في صفحاتها الأولي على غير العادة
ولما التقيت به قال لى:
- " أنا عايزك جنبي تشتغل معايا حافظ بدوى عايزك معاه والدكتور عزيز صدقي عايزك معاه وهناك حساسية في التعامل بين الدكتور عزيز صدقي والمهندس سيد مرعي (أمين عام الاتحاد الاشتراكي في ذلك الوقت) وأنا عايزك معايا مستشارا لشئون مجلس الشعب وفي نفس الوقت أمينا للتنظيم ولا دخل لك برئيس الوزراء أو أمين الاتحاد أنت هتكون ممثلي في المكانين وهتأخذ تعليماتك مني مباشرة ".
فقلت له: "يا ريس أنا مبسوط ومرتاح في بني سويف وفي أى لحظة تريدني فيها سأكون أمامك بعد ساعة واحدة" واستطردت أشرح مبرراتي مثل أن أبني الأكبر في الثانوية العامة والمحافظة التي أتولي مسئوليتها أريد أن أري ثمرة مجهوداتي فيها إلى آخره لكنه رد على بلهجة حادة شبه آمرة قائلا: " يا محمد أنا بأقول لك عايزك معايا" فقلت له ما تراه يا ريس " وصمت .
انقضت مدة من الوقت وأنا أشعر بالضيق خاصة وأنني لا أريد أن أترك بني سويف وأنتقل إلى القاهرة إلى أن اتصل بي الدكتور مصطفي كمال طلبة وكان وزيرا في ذلك الوقت وأخبرني أن والدة الرئيس السادات توفيت وتلقي العزاء سيكون في بلدة الرئيس ميت أبو الكوم فاتفقنا ن أذهب له صباحا ونسافر معا حتى نشارك في تشييع الجنازة وهذا ما حدث وبعد الانتهاء من تشييع الجنازة انتظرنا حتى المساء لحضور العزاء وبعد الانتهاء من مراسم العزاء استضاف الرئيس مجموعة صغيرة بمنزله كنت واحد منها .
كانت قد انقضت مدة من الزمن منذ أن كلمني الرئيس في مسألة تعييني مستشارا لشئون مجلس الشعب حتى اعتقدت أنه نسي الموضوع أو أقتنع بمبرراتي وصرف نظر عنه وأراحني هذا نفسيا فإذا به ونحن جالسون حوله ينظر إلى حافظ إسماعيل (مستشارا الأمن القومي) وكان وقتها يعمل بالرئاسة ويسأله: " أنت ما طلعتش القرار بتاع محمد ليه ؟ قال حافظ ":" حاضر يا أفندم " فتمتمت في نفسي مغتاظا :" ليتني لم أحضر العزاء ".
صدر القرار وانتقلت للعمل بالقاهرة وكان لى ثلاثة مكاتب للعمل أحدهم بمجلس الشعب والثاني في سراي عابدين والثالث بمبني الاتحاد الاشتراكي كنت أنتقل بين المكاتب الثلاثة فأذهب للمجلس الأيام التي تنعقد فيها الجلسات والأيام الأخرى انتقل فيها بين عابدين والاتحاد الاشتراكي الذي كنت أقضي فيه وقتا أكثر ولذلك فقد كانت هذه الفترة بالنسبة لى مرهقة جدا بدنيا ونفسيا .
كانت تعليمات الرئيس محددة بأن أتلقي منه الأوامر شخصيا كما قال لى: أعتبر نفسك ممثلا لشخصي في الاتحاد الاشتراكي ومجلس الشعب وهذا ما وضعني في حرج شديد خاصة مع أمين عام الاتحاد الاشتراكي وكان يشغل هذا المنصب إنسان أجله وأعزه كثيرا هو المرحوم سيد مرعي واضطررت أن أرفض بعض الطلبات له مثل سفر بعض الأشخاص للخارج بناء على أوامر الرئيس السادات إذا كان يلزم السفر (في ذلك الوقت) موافقتي باعتباري أمينا للتنظيم .
كذلك أوقعني الرئيس السادات في حرج مع كثير من المسئولين وصل أحيانا إلى حد العداء من جانبهم على الأقل فطبيعة عملي كانت تحتم على لقاء الرئيس كثيرا وفي تلك اللقاءات كان يسألني عن كثير من الأمور وحسب طبيعتي كنت أجيبه بالحقيقة كاملة دون تزييف أو تجميل وأحيانا كنت أجده وكأنه فوجئ بكلامي فيتساءل كيف ؟ ده فلان (رئيس الوزراء أو وزير الداخلية مثلا) قال لى كذا وكذا
فأقول له : "ما أقوله هو الحقيقة يا ريس" وعلى الفور كان يطلب هذا المسئول تليفونيا أمامي ويقول له : "أنت قلت لى شئ ومحمد عندي يقول لى شئ آخر "
كانت أغلب تلك الموضوعات تتعلق بوزارة الداخلية ولذلك ففي أحد الأيام وجدت ممدوح سالم يتصل بي تليفونيا في مكتبي ويدعوني على العشاء في وزارة الداخلية وأثناء العشاء تكلمنا في أمور كثيرة ولم أعرف السبب الحقيقي للدعوة إلا عندما قالي ممدوح سالم: " يا أخ محمد أريد أن أقول لك أنه ليس كل ما يعرف يقال للريس لأنه عليه أعباء كثيرة فلتتركه يتفرغ للمسائل الخارجية أما المسائل الداخلية فيجب أن نحاول حلها دون أن نشغله بها "
لم يعجبني الكلام فوجدتني أقول له:
- " والله يا ممدوح بك أنا لا أتطوع بذكر شئ ولكن عندما أسأل عن شئ لابد أن أقول الحقيقة مهما كانت وهذه أخلاقي ولا يمكن أن أغيرها"
ربما كانت تلك الليلة هي بداية لضيق ممدوح سالم بي والذي تجسد ذلك في محاولاته المتكررة بعد ذلك للتخلص مني وإبعادي عن الرئيس . وأعتقد ممدوح سالم أن الفرصة سنحت له عندما حدثت مظاهرات جامعة أسيوط خلال العام الدراسي 1971 - 1972 وتدخلت الشرطة لفضها فأطلقت بعض أعيرة (الرش) أصيب على أثرها بعض الطلاب وزوجة أحد الأساتذة
وعلى الرغم من أن الإصابات كانت طفيفة وسطحية فإن الطلبة الشيوعيين أرادوا استثمار الأمر كعادتهم فرفعوا قمصان مخضبة بالدماء مما هيج الطلاب والأساتذة ومما زاد تعقيد الأمور أنه أثناء انسحاب قوات الشرطة داست أحد سياراتها
وهي تعود للخلف رئيس شعبة البحث الجنائي بمديرية أمن أسيوط الذي أصيب على أثر ذلك بإصابات بالغة توفي بسببها في المستشفي بعد ثلاثة أيام واستمرت الاضطرابات بين الطلبة والشرطة لمدة تزيد على الأسبوع بعدها وجدت الرئيس يتصل بي تليفونيا ويقول لى: "أذهب إلى أسيوط فورا ولابد أن تفض هذا الاعتصام بأية طريقة حتى لو هدمت الجامعة على من فيها .."
وعلمت أن الرئيس قد قرر تكليفي بتلك المهمة بناء على إخطار من ممدوح سالم يخبره فيه أن الوضع في أسيوط خطير ولا يصلح أحد في التعامل معه إلا محمد عثمان . بالطبع لم يكن ممدوح سالم نابعا عن تقدير لشخصي أو تزكية لمواهبي لكنه كان يهدف من وراء ذلك أن أذهب إلى أسيوط فأفشل في تلك المهمة وتهتز ثقة الرئيس في أو أرتكب حماقة أدفع ثمنها .
وتنفيذا لأمر الرئيس سافرت إلى أسيوط فورا وعند وصولي حضرت اجتماعات للمحافظ مع مدير الجامعة د. حمدي النشار في نادي هيئة التدريس بينما كان الطلبة خارج النادي تهتف بسقوط د. حمدي وكان يحضر الاجتماع أيضا وكيل وزارة الداخلية اللواء صلاح سالم الذي أرسل من القاهرة لفض الاعتصام والمظاهرات
لكنه لم ينجح ولم يعجبني في الاجتماع طريقة الحوار فانصرفت متوجها إلى مبني الاتحاد الاشتراكي وبدأت الاتصال ببعض الطلبة والمعيدين والأساتذة حتى ألم بتفاصيل الموقف وعرفت أن الذي يهيج الطلبة ويشعل الموقف كلما أوشك على الهدوء هو زعيم الشيوعيين طالب يدعي صلاح وشهرته القط وأدركت أنه إذا أبعد ذلك القط عن الطلبة فسوف تهدأ الأمور .
في نفس الليلة التي وصلت فيها أسيوط جاء بعض الأهالي ممن سمعوا بحضوري للترحيب بي ومنهم المرحوم الشيخ فراج فراج عيسي وهو من أعيان مركز الغنايم وتربطني به علاقة قوية سألني:" فيما حضورك الفجائي ؟!" قلت :" من أجل اعتصام الجامعة هناك طلب اسمه القط مدوخنا" فقال " عيل يجيبك من مصر ؟!.. طيب واللي يجبهولك لغاية عندك "
سألته :" بتتكلم جد .. كيف ؟! وهل تعرفه ؟! قال طبعا لا أعرفه لكن كل ما أطلبه هو أن يسمح لنا مدير الجامعة بدخول نفرين إلى المدينة الجامعية ليلا واتركوا الباقي علينا " سألته مندهشا :" ماذا ستفعل يا عم فراج " قال : " سنخطف الولد ونحضره إليكم ".
كنت أعرف أن الشيخ فراج يقدر على ذلك فنفذت له ما طلب وإذا به في الصباح الباكر يحادثني تليفونيا قائلا : " القط هنا تعالوا استلموه " وعلى الفور اتصلت برئيس المباحث العامة وأخبرته ليذهب إلى الشيخ فراج ويستلم القط.
وبمجرد خروج القط من الجامعة وغيابه عن جموع الطلبة هدأت الأمور وفي حين بدأت التفاهم مع الطلبة وقدم القط لجهات التحقيق القانونية اجتمعت بممثلين عن الطلبة والأساتذة رجال الشرطة كل على حده حتى أقرب وجهات النظر ونصل إلى صيغة للتفاهم فلما وصلت إلى مستوى معقول في ذلك جمعت الأطراف كلها على حفل شاى تبادل فيها الجميع العتاب الذي انتهي بتقديم رجال الشرطة الاعتذار الواجب وفي اليوم التالي مباشرة لذلك انتظمت الدراسة .ولم أقدم تقريرا بما أنجزته كما دأب آخرون على فعل ذلك واكتفيت بأن الله أحبط مكر من أراد ن يضعني في حرج مصداقا لقوله "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "
أصدر الرئيس السادات قراره التاريخي بطرد الخبراء الروس من مصر وهذا ما يسجل في تاريخ إيجابياته لأنه خلص مصر من براثن الشيوعية التي كادت في ذلك الوقت أن تحكم قبضتها علينا.
وطلبني الرئيس السادات لمقابلته فورا فذهبت إليه شرح لى خلال المقابلة أسباب قراره بطرد الروس موضحا أنه يأس منهم في الحصول على احتياجات مهمة وضرورية للقوات المسلحة وحكي لى بعض تفاصيل المناقشات التي كانوا يتلاعبون فيها ويساومونه
وأضاف:
- " دول خونة واكتشفت خيانتهم لما كنا نخطط لضرب هدف من الأهداف (في حرب الاستنزاف) فبعد الاستطلاع وعند التنفيذ نلاقي الهدف نقل من موقعه فأشرت على قوادنا أنهم لما يحددوا هدف ويخططوا لضربه ما يقولوش للروس وصدق ظني العمليات اللي كانت تتم من غير علمهم كانت بتنجح ومعني ده أنهم كانوا بيقولوا لليهود"
أضاف الرئيس أيضا أنهم ارتكبوا ما يمس سيادة البلد وكان يقصد في ذلك منعهم للقيادات العسكرية المصرية من دخول بعض المواقع التي يتمركزون فيها وعدم السماح للمصريين بالإطلاع على ما تحمله الطائرات الروسية وبعد هذا الشرح كلفني الرئيس أن أجوب المحافظات لعقد مؤتمرات أشرح فيها أسباب طرد الروس على ألا أفصح عن موضوع خيانتهم أو المساس سياسية الدولة .
وبدأت أرتب لتلك المؤتمرات محددا جدولا زمنيا لها وبادئا بمحافظات الصعيد وكان يرافقني في هذه الجولات الأستاذ محمد على شتا عضو اللجنة المركزية عقدت مؤتمر في الفيوم ثم بني سويف ثم المنيا بعدها توجهت إلى أسيوط وفي الليلة التي وصلتها أتصل بي فوزي عبد الحافظ من رئاسة الجمهورية وأخطرني أنه لابد من التوجه إلى المطار الساعة السابعة من صباح اليوم التالي للسفر برفقة الدكتور عزيز صدقي والدكتور غانم للحاق بالرئيس في ليبيا .
ووصلت الطائرة التي أقلتنا إلى ليبيا قبل الظهر وبعد الغذاء انعقد أول اجتماع بين ممثلي مصر وممثلي ليبيا برئاسة الرئيسين السادات والقذافي لمناقشة تفاصيل مشروع الوحدة بين القطرين كان وفد مصر مكونا من الدكتور عزيز صدقي وحافظ غانم وأشرف مروان وأنا وهذا الاجتماع تم في حديقة القصر الذي كنا ننزل به .
أستطيع أن أقول إنه في تلك الرحلة قد لفت نظرى بشدة شخصية الرئيس القذافي ووجدتني ألاحظ تصرفاته ببعض الإعجاب مثلا أثناء مناقشات الاجتماع الأول الذي انعقد كما قلت سلفا في حديقة القصر سمعنا ونحن جالسون أذان المغرب قام بعده الرئيس القذافي وافقا وابتعد أمتارا قليلة عن المكان نجتمع فيه وعلى الحشائش أقام الصلاة فنهضت خلفه لنصلي جماعة ولم يفعل ذلك من الوفدين المصري والليبي سوانا .
في نفس اليوم أيضا ضمتنا جلسة غير رسمية بعد العشاء في أحد صالونات القصر سادها الود حتى أن الجميع تبادل النكات ثم تطرق الحديث إلى موضوع تحرير الخمر في ليبيا وكان القذافي قد أصدر قرار بجمع الخمور من ليبيا وإلقائها في البحر وسأله الدكتور عزيز صدقي: " لماذا ألقيتها في البحر كان من الممكن أن تبيعها وتنتفع بثمنها ؟!"
رد الرئيس القذاقي متكلما في حركة الخمر فتناول الموضوع كما لو كان فقيها أجرى بحثا مؤيدا بالآيات القرآنية وأحاديث السنة المطهرة مما حدا بالدكتور عزيز صدقي أن يقول له مازحا : يا سيدي كنت أعطيتها لنا بدلا من إلقائها في البحر " فضحك الجميع" .
كنت ألاحظ أن القذافي يتصرف بتلقائية شديدة وبساطة حتى مع الفراش الذي يقدم لنا القهوة والشاى فمثلا يحدثه الأخير قائلا: "أزيك يا جدافي" فيرد عليه القذافي : "أزيك يا فلان أزى أمك" ورأيته يخرج من باب القصر ونحن نوصله فيركب سيارة فولكس صغيرة يقودها بنفسه ويقترب منه مواطن يمسكه من ياقة القميص ليستوقفه وهو يدير موتور السيارة ويحادثه ولا يتدخل حرسه ليمنعه !... هل شدتني هذه الصورة ! إنها غريبة علينا !! ربما.
ترددت على ليبيا بعد ذلك عدة مرات ضمن اللجنة التي تتابع أعمال الوحدة وصلاحيتها وكانت تضم أيضا د. كمال أبو المجد وأحمد عبد الآخر كذلك كنت المصري الوحيد الذي سافر مع الرئيس السادات للتعزية في أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة الليبية الذي توفي أثر حادث سيارة كان يركبها برفقة عبد السلام جلود الذي أصيب هو الآخر ونقل للمستشفي .
عام الضباب
لقد التقط الشيوعيون تلك التسمية لهذا العام 1972 من إحدى خطب الرئيس وتزايدت فيها نشاطاتهم بشكل ملحوظ وزادت حدة هجومهم على الرئيس السادات مما حدا به إلى إصدار قرار بتشكيل لجنة للنظام في الاتحاد الاشتراكي برئاسة حافظ بدرى رئيس مجلس الشعب وعضوية محمد حامد محمود وكمال أبو المجد وأحمد عبد الآخر ويوسف مكاوي.
كانت تصل إلى من ممدوح سالم وزير الداخلية تقارير عن بعض الأشخاص الذين نسبت إليهم وقائع وتصرفات وأقوال وأكثرهم من الإعلاميين وفيهم من كان بالخارج واعتبرت هذه الوقائع والأقوال المنسوبة إليهم تعادى النظام وتهاجمه وخاصة الرئيس أنور السادات .
وبصفتي أمينا للتنظيم كان دوري أن أحيل هذه الوقائع إلي لجنة النظام التي تشكلت خصيصا للتصرف في أمر هؤلاء وهذه التقارير التي تتضمن تلك الوقائع المنسوبة لهؤلاء الأشخاص كانت تأتي إلى مكتوبة على نموذج خطابات وزارة الداخلية وممهورة بتوقيع الوزير وإذا كانت سجلات الاتحاد الاشتراكي محفوظة حتى الآن فسيكون بينها تلك الأوراق .. المهم كان على أن أعيد كتابة تلك التقارير على نماذج خطابات أمانة التنظيم وأبدأ التقرير بعبارة :" ورد إلينا المعلومات التالية " ثم أنهي التقرير بعبارة :" يرفع إلى هيئة النظام لاتخاذ ما تراه مناسبا "
وفي أول اجتماع عقدته هيئة التنظيم للنظر في هذه التقارير طالبت بصفتي وشخصي إجراء تحقيق لكل واقعة وأكرر أنا الذي طلبت ولم يناصرني في هذا سوي الدكتور كمال أبو المجد وطلب هو الآخر بتحقيق الوقائع إلا أن باقي أعضاء اللجنة ورئيسها رأوا أن هذه الوقائع يستحيل تحقيقها إذ أنها عبارة عن معلومات صادرة عن وزارة الداخلية
وليس هناك شهود عليها وإذا تم التحقيق مع الشخص الذي تتناوله الواقعة بالاتهام فسوف ينكر بالطبع وبالتالي فقد اتخذت اللجنة قرارها بالأغلبية في قبول الوقائع كما هي على مسئولية وزارة الداخلية ويكون دور اللجنة اتخاذ قرار فيها . كانت قرارات لجنة النظام تصدر بأغلبية الأعضاء بفصل بعض من شملتهم التقارير أو نقلهم من أعمالهم إلى أعمال وظيفية أخرى غالبا تابعة للقطاع العام مثل محلات باتا للأحذية مثلا !!
بعد اتخاذ القرار بالنقل أو الفصل كانت اللجنة تخطرني بصفتي أمينا للتنظيم لوضع هذه القرارات موضع التنفيذ لكن قبل ذلك كان لابد من تصديق رئيس الاتحاد الاشتراكي وهو رئيس الدولة والذي فوض أمين عام الاتحاد الاشتراكي (سيد مرعي) في ذلك وبالفعل قام بالتصديق على مقررات اللجنة دون تعديل وأعاداها إلى لتنفيذها.
ولا أذكر الآن أسماء من شملتهم تلك القرارات لكن كان منهم صحفيون في لبنان أو لندن (مصريين) وهناك آخرون نسب إليهم أنهم كانوا في التنظيم الطليعي أما لماذا كنت أنقل معلومات وزارة الداخلية على أوراق تخص أمانة التنظيم لأن هذا عمل سياسي بينما عمل وزارة الداخلية عمل تنفيذي وليس لها دخل فيما سينتهي إليه التحقيق في تلك الوقائع ولأنني لست جهة تحريات أو جمع معلومات
فكنت أنسب ذلك لغيري وأبدا تقريري كما قلت سابقا بعبارة: ورد إلينا ولا أتدخل أبدا بالحذف أو الإضافة في المعلومات التي ترد إلى تحت مسئولية وزير الداخلية وتصف العناصر التي يشملها الاتهام بأنها مضادة للنظام وتحوى وقائع من مثل أن فلان وهو جالس على مقهي في لبنان تناول رئيس الدولة بالشتم وقال كذا وكذا إلى آخره .
لم أكن جهة تحقيق ولا جمع معلومات بل طالبت بإعادة التحقيق في الوقائع التي ذكرتها وزارة الداخلية وشاهدى في ذلك أعضاء اللجنة الأحياء وكان الدكتور كمال أبو المجد من المتمسكين بالتحقيق ومن حيث المبدأ فأنا لم أقر هذا الأسلوب ولم أرض عنه لكني لم أكن أملك له إيقافا أو منعا .
لقد تعلمنا من نظام العمل في محراب العدالة أن هيئة المحكمة تشكل من ثلاثة مستشارين وقد يرفض فيهم واحد حكما ما .. لكن عند إصدار الحكم المحكمة كلها مسئولية عنه ولا يستطيع الرافض أن يعلن حتى عن رأيه بالرفض وإلا يكون قد أفشي سرا من أسرار المداولة ولا أقول هذا الكلام الآن بشكل مرسل أو عل ى أطلاقه لكني سجلت رأيي هذا مكتوبا وعلى الورق كنت كتب ذلك: "وأرى تحقيق الواقعة" فترد على لجنة النظم: "أن الوقائع مستحيلة التحقيق وصاحبها لن يسلم بها".
ورغم دفوعي السابقة والتي شرحتها من قبل للصحافة إلا أن بعضا ممن شملتهم تلك القرارات ظلوا من تاريخ صدورها وحتى الآن يحملونني مسئوليتها وليس هذا الآن دفاعا عن نفسي لكنه إعلان عن رأيي الذي أؤمن من منطلق ديني وخلاقي كما أؤمن تماما بالمبدأ القضائي ن الكلام الذي لا دليل عليه لا يقبل الحكم به .
وكلفني السادات بتشكيل الجماعات الإسلامية
قبل أن نخوض في الحديث عن الجماعات الإسلامية إليكم هذه الحكاية:
- عام 1971 بعد أيام قلائل من تسلمي العمل محافظا لبني سويف جاءني وكيل وزارة الثقافة يصاحبه مدير قصر الثقافة وأتذكر اسم الأخير كان اسمه حسني أخبراني أنهما يعدان لمسرحية تعرض في قصر الثقافة وطلبوا مبلغا من المال (حولي ثلاثمائة جنيه) للصرف منه على تجهيزات العرض من ملابس وديكور إلى آخره , وأعطيتهم ما طلبوا وبعد مرور مدة من الزمن جاء من يدعوني لافتتاح هذا العرض المسرحي على خشبة مسرح قصر الثقافة ولم أكن أعلم أن هناك مفاجأة تنتظرني .
بدأ العرض الذي لم أكن أعلم أى شئ عن محتواه ومع انتهاء الفصل الأول اكتشفت أن المسرحية تدعو بلا مواربة للفكر الماركسي لشيوعي فالتفت إلى من يجلس بجواري وهو وكيل وزارة الثقافة لأسأله: "ما هذا ؟" أجابني :" هذه مسرحية لأديب من ألمانيا الشرقية" فقلت له: " وهل خلصت المسرحيات من الدنيا ولم يعد ما يصلح للمسرح والتمثيل عندنا إلا الوارد من ألمانيا الشرقية ؟!"
وأرسلت من يستدعي مدير قصر الثقافة فلما جاءني طلبت منه أن يصعد إلى خشبة المسرح فيعتذر للمفترجين ويعلن عن إلغاء العرض بأمر المحافظ التفت إلى وكيل وزارة الثقافة لأقول له: " أما أنت فلتغادرا فور بني سويف لأنني لأن أسمح لك أن تبت ليلتك فيها" ويبدو أنني كنت منفعلا أكثر من اللازم حتى أن الرجل اندهش من رد فعلي وقام لينصرف دون كلمة واحدة وغادرني بني سويف في نفس الليلة .
نسيت أن أقول أنني أمرت مدير قصر الثقافة أن يخبر الناس عند إعلانه عن إلغاء العرض أن صفة الإسلامي سوف تقرن باسم قصر الثقافة من الآن ليصير اسمه (قصر الثقافة) وشكلت مجلسا لإدارة قصر الثقافة واتفقت أنا وهذا المجلس أن تعقد ندوة كل أربعاء سميناها حديث الأربعاء وبرنامج هذه الندوة يفتتح للنقاش بقراءة القرآن الكريم يتلو ذلك محاضرة إسلامية ثم حلقة للنقاش حول موضوع المحاضرة أو أية موضوعات أخري دينية أو فقهية .
كنت حريصا على حضور حديث الأربعاء وندواته وإذا حدث وكنت في هذا اليوم خارج لمحافظة اضبط جدولي على العودة إلى بني سويف في موعد الندوة وأفعل ذلك حتى أغرى كثيرين على الحضور ونجحت تلك الندوات في جذب أبناء المحافظة وازدحمت قاعة قصر الثقافة بالجمهور مما اضطرنا إلى عمل شبكة إذاعة داخلية على خطوط ميكروفونات تغطي شوارع المحافظة حتى يشاركنا الجميع السماع .
كان هذا رد فعل للدعوة الشيوعية التي رأيت بوادرها في قصر الثقافة وفي ربوع مصر بعد ذلك التاريخ بقليل ولا حجة لقائل أنها ربما دعوة لا تمت للدين بصلة وردى على ما يقول ذلك : إن الشيوعية في جوهرها لا تعترف بالأديان وفي بلادهم كان الشيوعيون ومن يدورون في فلكهم يتظاهرون باحترام الأديان ويتخذون من المظاهر الخداعة ما يدل على ذلك وحجتهم الدائمة أن الشيوعية والماركسية ما هي إلا مبادئ اقتصادية لكن أليسوا هم أصحاب مبدأ: "إن الدين أفيونه الشعوب؟"
ومرة أخرى اسمحوا لى أن أوضح بعض الأمور قبل الدخول في تفاصيل مسألة تكوين الجماعات الإسلامية حتى لا تختلط الأوراق التي يتعمد البعض خلطها عن جهل (هذا إذا أفرطنا في حسن النية) أو عن غرض .. الغرض مرض كما يقولون .
قال البعض إنني كونت الجماعات الإسلامية في أسيوط !! وقال آخرون إنهم خرجوا من عباءة الإخوان !! وقيل غير ذلك الكثير والهدف واحد هو الهجوم على شخصي. ولم يكن يعنيني هذا أما أن ينشر ذلك على الناس بشكل إعلامي جماهيري فهذا ما اعتبرته تحريضا للسلطات على وازدراء لشخصي وصفتي في المجتمع خاصة إذا كان الكلام مرسلا بلا سند ولا دليل ..
مثلا : من مدة كنت أحادث د. عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء السبق تليفونيا فوجدته يمازحني قائلا : " يبدو ن ما يقولونه عليك في مجلة روز اليوسف صح! فسألته: وماذا يقولون ؟" قال : "ألم تر عدد المجلة الذي كتب فيه على سالم ثلاث صفحات عليك "
ولم أكن أعرف من هو على سالم هذا ولم أكن بالفعل قد رأيت هذا العدد الذي كان قد مر على صدوره شهور قليلة (العدد 3344 الصادر بتاريخ 13 يوليو 1992) والذي أرسله لى د. عبد العزيز حجازي وأخذت أتصفحه حتى اصطدمت بعنوان لمقال طويل عنوانه:"محافظ أسيوط الذي أشعل الفتنة ".
وأعود لأذكر أن تاريخ النشر كان يوليو 1992 ولتنشيط الذاكرة فهذا التاريخ يواكب ذروة الاصطدامات الدموية بين قوات الأمن والجماعات الإرهابية وإليكم عينة مما دبجه الكاتب في ذلك المقال " وبعد أن زرع ألغامه وقنابله الموقوتة في بني سويف (يقصدني) انتقل إلى أسيوط ليزرع بقية ألغامه وقنابله الموقوتة لتتفجر – بعد سنوات – في أجسادنا جميعا "..!!
وعلى هذا المنوال أرسل الكاتب رسالته للحكومة والناس يحرض الأولي بشكل يكاد يكون مباشرا فيقول لهم: " يا حكومة أنتم عمالين تمسكوا وتعتقلوا في هذه الجماعات في الوقت الذي تركتم فيه الرأس التي أنشأت تلك الجماعات ".
ولم تبلغ الحكومة الطعم أما الناس البسطاء فأنهم يصدقون أكثر ما يكتب وإلا فبماذا تفسرون ما سيأتي ذكره حالا : لقد قل الكاتب أيضا في مقاله وبالنص :" في ذلك الوقت قال محمد عثمان إسماعيل محافظ بني سويف :" أعداء مصر ثلاثة الشيوعيون والمسيحيون والإسرائيليون" .
ويبدو أن السيد على سالم يقرأ ما ينشر في الصحافة بعين واحدة فأنا الذي ذكرت هذا القول في حديث منشور لى في روز اليوسف أيضا العدد 2432 بتاريخ 20 يناير 1975 في حوار أجراه معي عبد الستار الطويلة الأدلي به على نوعية التصريحات التي تنسب إلى زورا وافتراء ووصفت يومها من يقول مثل هذا بأنه إما مجنون أو مخبول فنقل الكاتب الأرشيفي الكلام على أنه واقعة مثبتة !!
ولم يؤلمني ما كتبه على سالم لكن ما آلمني وطعنني في ديني وفي شخصي ما حكته لي زوجتي بعد نشر هذا المقال لقد ذهبت إلى ترزي قبطي وبعد أن أستلم منها قطعة القماش التي تريد تفصيلها وأخذ المقاسات سألها عن اسمها فقالت له أنا حرم فلان فعاد يسألها مستفسرا (ليتأكد هل فلان هذا هو المذكور في مقالة السيد على سالم) فلما تأكد من ذلك أعاد لها قطعة القماش رافضا التعامل معها !!
بالطبع وجدت من الأسباب ما يبرر تصرف هذا الترزي فعذرته لكن اضطررت أمام ذلك أن أحرك دعوي تعويض ضد روز اليوسف وعلى سالم لأنه وللأسف كانت المدة القانونية لتحريك جنحة السب والقذف قد انقضت ولم يكن يعنيني أى تعويض مادي لكن ما قصدته هو الحصول على صك قضائي يشهد على أن ما قاله على سالم من قبيل "الكلام الفارغ" ويدخل تخت بند تحريض وتأليب السلطة وتحقيري وسط أبناء مجتمعي المسلمين قبل الأقباط وحكمت لى المحكمة بتعويض قدره ألفي جنيه تأيد استئنافيا ونفذت الحكم.
الواقعة الثانية تتعلق بمذكرات اللواء فؤاد علام التي نشرها – أيضا – في روز اليوسف على حلقات وقبل سرد ما قاله سيادة اللواء أحب أن أوضح أن سيادته يعيش أسير فكرة معينة مؤادها أنه يري نفسه أكفأ وأجدر من يتولي من رجال الشرطة المناصب العليا لا أن يحال إلى المعاش .
خاصة وقد رأي – أو تصور – أن المناخ العام موجه ضد التيار الإسلامي بينما ما يحدث في الحقيقة هو خلط من بعض الكتابات بين التيار الإسلامي والتطرف فهناك مثلا من الكتاب من قال : إن التطرف ينبت في تربة التدين فجففوا المنابع (إلى آخر هذا الكلام) وهنا تقدم فؤاد علام يقول أنا الرجل المناسب ودليلي على ذلك مهاجمة الرموز الإسلامية ومنهم الإخوان المسلمين الذين تناولهم بالتشريح وجعلني واحد منهم وهذا شرف لا أدعيه ووصف ما قمت به من تكوين للجماعات الإسلامية بأنه أخطر بكثير مما قم به حسن البنا عند تكوينه للإخوان سنه 1928 !!
وقال أيضا في عدد روز اليوسف 3500 بتاريخ 10 يوليو 1995 ص 54:
- " كان محمد عثمان إسماعيل من الإخوان المسلمين ومسجلا في قوائمهم .. كان مسجلا ومعروف وكان عضوا قياديا نشطا في شعبة الإخوان في أسيوط ... محمد عثمان إسماعيل لم يعتقل على ذمة قضايا الإخوان لأننا لم اعتقل سوى أعضاء التنظيمات السرية فقط ".
وقال أيضا فؤاد علام:
- " وحدث اجتماع مهم في مقر الاتحاد الاشتراكي حضره المستشار محمد إبراهيم دكروري ومحمد عثمان إسماعيل واتخذ القرار السياسي بدعم نشاط الجماعات الدينية ماديا ومعنوي ... واستخدمت أموال لاتحاد الاشتراكي في طبع المنشورات وتأجير السيارات وعقد والمؤتمرات وأيضا في شراء المطاوى والجنازير "!!
ويقول ثالثا: لارفض فوه:
- " ومحمد عثمان إسماعيل كافأه السادات وعينه محافظا لأسيوط ثمنا لتصديه للحركة الطلابية الوطنية لم يعترض الأمن على تعيين محمد عثمان محافظا لأسيوط لأن دور الأمن ليس الموافقة أو الاعتراض وإنما تبصير القيادة السياسية واحترام القرار الصادر عنها أيا كان" !!
وهذه عينة مما قاله اللواء في مذكراته فرددت عليه ونشر ردى في عدد تال من المجلة لكن لا مانع من أن نناقش ما قاله مرة أخرى:
- أولا : أنا لم أنضم في يوم من الأيام لأى حزب أو تنظيم سياسي وبالتالي لم انضم للإخوان كما أن أعضاء الإخوان قد تم اعتقالهم جميعا – بلا استثناء – سنتي 1954و 1965 وليس أعضاء الجماعة فقط ولكن كل من كان له علاقة بهم من قريب أو بعيد فإذا كان سيادة اللواء يقول إنه تم اعتقال أعضاء التنظيم السري فقط فليفسر لنا سيادته كيف تم اعتقال بعض الإخوة المسيحيين وأكرر (المسيحيين !!) في وقائع معروفة ومحددة
- فمثلا اعتقل محام زميل لنا من بلدة البداري بأسيوط اسمه حسني سليمان بسطورس وهو ما زال حى يرزق وسبب الاعتقال أن المباحث وجدت في شعبة الإخوان أثناء تفتيشها إيصال تبرع باسم المذكور من فئة الخمسين قرشا وحاول الرجل عبثا أن يفهمهم أنه مسيحي ويستحيل أن يكون له نشاط يتعلق بالإخوان المسلمين لكنهم لم يسمعوا له لأن اسمه مدون في كشوف التبرعات !!
- هذه واحدة والثانية أن المرحوم لطفي هابيل المحامي بأبو تيج كان يزامل أثناء الدراسة المرحوم المستشار حسن الهضيبي الذي صار مرشدا للإخوان فيما بعد ولما جاء الأخير يزور أبو تيج في إحدى جولاته دعاه زميل دراسته القديم هو ومن معه للعشاء (لأسباب تتعلق بالشهامة والوفاء)
- وبالطبع رصدت المباحث زيارة المرشد لبيت لطفي هابيل ويبدو أن الأمر تم تصويره للقيادات على أن المرشد يعقد اجتماعا للإخوان بمنزل لطفي هابيل المحامي بأبو تيج !! وبالتالي فقد تم اعتقال لطفي هابيل المسيحي لمدة تسعة أشهر ضمن من تم اعتقالهم سنة 1954 .
- وأعود لأسأل سيادة اللواء: لماذا في رأيك تم استثنائي أنا من عمليات القبض والاعتقال ؟ أيكون السبب أنني لم أكن من أعضاء التنظيم السري ؟ ربما ! ... على أن نفس المجلة عادت لتذكر في عدد تال وبالتحديد العدد 3505 بتاريخ 14 أغسطس 1995 أى بعد النشر الأول بحوالي شهر وأربعة أيام: أما أخطر الإخوان الذين وصلوا لمناصب مهمة – وكان لشغله هذا المنصب التأثير الكبير – فهو محمد عثمان إسماعيل محافظ أسيوط ومستشار رئيس الجمهورية السابق (!) وبالرغم من أنه ينفي صلته بالإخوان فإنه – كان – وفقا لمصدر إخواني وثيق الصلة بالجماعة – أحد رجال النظام الخاص .. أعتقد ن ما سبق لا يحتاج إلى تعليق !.
- ثانيا: أيعقل أن يتم في مؤتمر سياسي كما وصف اللواء علام) اتخاذ قرارات بطبع منشورات وتأجير سيارات وعقد مؤتمرات ثم يحمل على ذلك أيضا شراء مطاوى وجنازير !! أعتقد أن ذلك لم يكن مؤتمرا سياسيا ولكنه تدبير مؤامرة لحرب أهلية
- ومن يخطط لذلك لابد أن يحيط تخطيطه بالسرية والكتمان الواجبان لمثل تلك الظروف أما مسألة المطاوى والجنازير فلم أستغربها أو اندهش منها لأنني اتهمت بهذا الاتهام زورا وبهتانا والرئيس السادات على قيد الحياة أعتبر الرئيس ذلك من باب الفكاهة والكلام الفارغ وضحك عليه بل أخبرني أنني سأتعرض لما هو أكثر من ذلك وسوف يرد ذكر هذا بالتفصيل .
- ثالثا: بخصوص مسألة الثمن الذي قبضته وهو تعييني محافظا لأسيوط على سبيل المكافأة لتكويني للجماعات الإسلامية أحب أن أعلم اللواء فؤاد علام (إن كان لا يعلم !!) إنه تم تعييني محافظا لأسوان في مارس 1971 ثم بعد شهور قليلة محافظا لبني سويف ثم مستشارا لرئيس الجمهورية وأثناء ذلك تكونت الجماعات الإسلامية ثم أخيرا تم تعييني محافظا لأسيوط إلى أن تركت العمل التنفيذي
- وقبل الجماعات الإسلامية كنت أنا المحافظ الوحيد الذي تم تعيينه على درجة الوزير بينما المحافظون كانوا يعينون في ذلك الوقت على درجة نائب الوزير... وأخيرا بالنسبة للسيد فؤاد علام وكتابه الذي أتمني أن يكون قد عاد عليه بنفع مادي مجز أقول له : " أذا كنت تكذب فيما أعرف فأنا لا أصدقك فيما لا أعرف ".
ولآن نعود للظروف والملابسات التي قادت مباشرة لتكوين الجماعات الإسلامية .مع بدايات عام 1972 ازداد نشاط الشيوعيين وخاصة في الجامعات فقد سيطروا على الأسر الجامعية وبالتالي النشاطات المتعلقة بها كذلك عبروا عن أنفسهم بشكل ملحوظ في صورة مجلات حائط ولم يكتفوا بذلك بل كانوا ينشرون في تلك المجلات مقالات تحوي ألفاظا بذيئة ورسوما كاريكاتورية موجهة ضد الرئيس السادات سواء لشخصه أو نظامه الذي يمثله .
وفي احدي اللقاءات التي ضمتني مع الرئيس وكنت وقتها مستشاره لشئون مجلس الشعب وأمينا للتنظيم تحدث في هذا الموضوع فسألني :" هل تعرف ما يحدث في الجامعات ؟!" قلت له :" عارف يا ريس " فعاد ليسألني :" وأين دور التنظيم السياسي ؟"
فأجبته :
- " وهل سيادتك متصور أن هناك تنظيما سياسيا ؟ هذا تنظيم سلطة أعضاء الاتحاد الاشتراكي هم أعضاء هيئة التحرير ومن قبله الاتحاد القومي يعني يا ريس ناس لا عقيدة لهم فقال : ماذا تقصد بالعقيدة ؟" قلت له : يا سيادة الرئيس هذه تنظيمات يدخلها الداخلون لمجرد أن يكونوا قريبين من السلطة للاستفادة لكن في قرارة أنفسهم لا تستطيع أن تقول إنهم يؤمنون بعقيدة سياسية ما "
وأضفت:
- " أذكر يا ريس أنه عندما كنت طالبا بجامعة فؤاد الأول كانت كل الأحزاب ممثلة بين الطلبة ولها زعامات وكان أيضا لجماعة الإخوان مثل هذا لكن لأن المنضمين لجماعة الإخوان كانوا يؤمنون بعقيدتهم فكان يكفي أن يقف واحد ليقول بصوت عال " الله أكبر ولله الحمد " وفي ثانية تجد حوله الآلاف كان الأرض انشقت وأخرجتهم من بطنها ويختفي في لحظ وجود الأحزاب الأخرى .
وما أن قلت ذلك بشكل مباشر وأضفت : "من ذلك من مصلحتك ومصلحة النظام لأنه لا أحد يستطيع أن يتصدى لهذا الكلام إلا ناس عندها عقيدة " فأطرق الرجل يفكر قليلا ثم فوجئت به يقول :" وأنا موافق لكن بشروط " سألته " وما هي " قال : أن يعودوا بمسمي آخر غير الإخوان المسلمين وشرطي الثاني ألا يدخل التنظيم الجديد أحد ممن كان في الجهاز السري " فقلت له : نعم الرأي ... هل أتكلم معاهم يا ريس في هذا الموضوع ؟" قال "آه .. تكلم".
قبل هذا الحديث مع الرئيس فأنا على صلى صداقة بكثيرين من الإخوان لكنني لم أفاتح أحد منه ابدأ في ذلك الكلام أو طرحته على أحد قبل الرئيس السادات ولا أخفي أنني سعدت بموافقة الرئيس على الرغم من أنني لم أنضم إليهم في أى يوم من الأيام لكني دائما مسلم على دراسية بالإسلام ومنهجه
وكنت ولا زلت أؤمن بأنه لا صلاح للأمة إلا بالإسلام تطبيقا ومنهجا ولا أقصد فرض الإسلام كديانة فأوامر الله سبحانه وتعالي واضحة بهذا الخصوص " لا أكراه في الدين " بل يأمرنا سبحانه أن ننتهج في الدعوة سبيل الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي استفاد منها كل من عاش على أرض الإسلام بغض النظر عن عقيدته أو لونه أو جنسه .
وأنا لا أريد ن أخوض في ذلك لأنني سوف أعود لأناقشه بالتفصيل . في اللحظة التي فاتحت فيها الرئيس لم يكن في عقلي أية تفاصيل ولذلك فبعد انصرافي من مقابلته اتجهت من فوري إلى منزلي وبمجرد وصولي حادثت المهندس عبد المنعم خليفة وهو من الملاصقين بشكل شبه دائم لمرشد الإخوان – في ذلك الوقت المرحوم عمر التلمساني وكنت قد تعرفت عليه عن طريق أـخي وصديقي المرحوم المهندس عبد العظيم لقمة .
طلبت من المهندس عبد المنعم خليفة أن يحدد لى موعدا التقي فيه بالمرحوم عمر التلمساني وأوضحت له أن الأمر مهم وعاجل جدا ولم يمر نصف ساعة حتى وجدته يتصل بي ليخبرني أن الأستاذ عمر التلمساني سوف يزورني بمنزلي بعد صلاة المغرب مباشرة (في نفس اليوم) .
هذه كانت المرة الأولي التي يدخل فيها عمر التلمساني منزلي وحضر معه المهندس عبد المنعم وشرحت لهما في جلستنا ما دار بيني وبين الرئيس السادات فذكرت لهما موافقته على عودة نشاطهم ونقلت لهما شروطه وتحفظاته على ذلك وفوجئت برفض لأستاذ عمر التلمساني وبشكل صريح
وكانت حجته أن تنظيم الإخوان تنظيم عالمي وهو (أى عمر التلسماني) لا يملك ولا يوافق على تغيير الاسم وقال مرشد الإخوان أيضا :" أنور السادات يريد أن يستغلنا " وحاولت أن أقنعه بالقبول ولما أعيتني الحيل معه اضطررت أن أقول له : "سنفترض أن الرئيس يريد استغلال الإخوان لماذا لا تستغلونه أنتم لمصلحة الدعوة الإسلامية ؟"
لكنه تمسك برفضه وشكرني للمساعي التي قمت بها في ذلك الصدد ! وسألت نفسي بعد هذا اللقاء : هل تحتاج الدعوة الإسلامية إلى رجال يؤمنون بها فقط ! سريعا ما وجدت الإجابة التي غبت عن مرشد الإخوان : إن الدعوة تحتاج إلى إنسان ذي قلب مؤمن وعقل سياسي .
وأسقط في يدي بعد رفض الأستاذ عمر التلمساني وشعرت أنني وضعت نفسي في موقف حرج فماذا أقول للرئيس ؟ هل أقول له ما حدث فأوقع بينه وبين الإخوان ؟ قضيت الليلة ساهر قلقا وانتهي بي التفكير إلى ن أعود للرئيس بعرض آخر دون أن أذكر له أمر اجتماعي مع عمر التلمساني وقد تكون تلك هي الواقعة الوحيدة التي أخفيتها عن الرئيس السادات طوال فترة عملي معه .
في اليوم التالي قابلت الرئيس وقلت له : "أنا غيرت رأيي يا ريس " فقال : "خيرا" قلت له :" بدلا من تغيير اسم الإخوان وخلافه أنا باقتراح نشكل جماعات إسلامية في الجامعة "... فسألني : ومن الذي يقوم بذلك ؟ فأجبته :" إذا ما وافقت على الفكرة أنا على استعداد لتنفيذها" فقال : " وأنا موافق ".
وإلى هواة محاكمة الضمائر والمتشككين والذين يريدون ألا يصدقوا .. وإلى الحقيقة والتاريخ وقبل كل ذلك لوجه الله خالصا أقول ماذا أردت من وراء تكوين الجماعات الإسلامية. ما كنت أبغي من وراء ذلك إلا تربية الشباب المثقف تربية دينية ليصطبغ المستقبل البعيد بالصبغة الدينية وبالقيم والمبادئ الخلقية التي هي كما قلت قيم الحضارة الإسلامية ويولد المنهج الإسلامي ولادة طبيعية .
ويبقي لهذا السؤال تكملة مهمة بالتأكيد دارت في أذهان كثيرين قبل أن يبدأوا في قراءة هذه السطور . هل تلك الجماعات التي تكونت في الجامعة هي نفسها التي قامت بالأعمال الإرهابية التي روعت المجتمع المصري !! تعالوا لا نتعجل الإجابة عن هذا السؤال حتى نعرف بقية الحكاية .
طلبت من الرئيس السادات أن نأخذ بعض العمارات السكنية في القاهرة لنجعل منها مدينة طلابية يسكنها من نختارهم من الطلاب ليتلقوا برنامجا إسلاميا فوافق الرئيس السادات وطلب مني أن أذهب إلى حمدي عاشور محافظ القاهرة وأطلب منه العمارات التي أريدها وهبت بالفعل إلى المحافظ وطلبت منه العمارات بناء على أمر الرئيس ودون أن أذكر له سبب ذلك لكنه أعتذر بأنه لا توجد مبان سكنية جاهزة وأبدي استعداده لأن يوفر ذلك بعد سنة.
كان لا يمكن الانتظار ففكرت في البدء مع تأجيل مسألة السكن وفكرت فيمن يعاونني في تلك المهمة . المرحوم المستشار منير السعيد مدير مكتبي بأمانة التنظيم كان رجلا فاضلا تربطني به صلة صداقة وأخوة لذلك صارحته بالأمر فسعد به وأبدي استعداده للقيام باختيار بعض الطلاب كنواة لتلك الجماعات على أن ألتقي أنا بهم بعد ذلك في مجموعات .
كنت قد وضعت معه مبادئ وأسس للاختيار أولها أن يتوافر في الشاب الخلق القويم والاستقامة (الظاهرية على الأقل) ويتم التمهيد معه للفكرة بأن يخبره بسيطرة الشيوعيين على الجامعة وسلبية العناصر الجيدة وعزوفها عن الاشتراك في الناشط الجامعي .. إلى آخره فإن وجد لديه حماسة وغيرة على الدين فيخبره عن حاجتنا لتكوين مجموعة تواجه النشاط المضاد للدين والهدام للوطن فإذا وافق هذا الشخص كان يطلب منه أن يعرفنا على بقية زملائه الذين يتوسم فيهم الحماسة لنفس الفكرة .
هذا النشاط كان يتم بشكل علني ويستقبل المستشار منير السعيد هؤلاء في مكتبي (وهو كان عمله أيضا) وكما سبق أن أوضحت لم ألتق بهم فرادي ولكن بعد أن أصبحوا مجموعات. أول مجموعة تكونت في كلية هندسة القاهرة وأسمت نفسها شباب محمد بن عبد الله ومن كلية الهندسة انتقلت الجماعات إلى الكليات الأخرى وأستطيع أن أقول إنها غطت جميع كليات جامعة القاهرة في وقت قصير ومن جامعة القاهرة انتقلت الفكرة إلى جمعة الإسكندرية ثم جامعة أسيوط بنفس هذا الترتيب
وكان الانتقال في مدة قصيرة وأحب أن أضيف هن ملحوظة أن انتقال فكرة الجماعات إلى جمعة أسيوط حدث وأنا ما زلت مقيما في القاهرة وأعمل مستشار ا لرئيس الجمهورية بل على العكس لقد اصطدمت بهم وأنا محافظا لأسيوط وسوف يأتي ذكر ذلك بالتفصيل .
كانت حماسة الطلاب واندفاعهم في إخبار زملائهم بمسألة الجماعات الإسلامية كبير وهذا ما يفسر سرعة انتشارها بهذه الكيفي التي لم تكن متوقعة أما نحن فكنا نعقد لهم الندوات التي يحاضر فيها شخصيات إسلامية معروفة بفهمها المستنير للإسلام ومبدئه أمثال المرحوم د. عبد العزيز كامل ود. كمال أبو المجد بالإضافة إلى بعض المساعدات العلمية التي يتطوع بها بعض الأساتذة .
سيطرت الجماعات الإسلامية على جميع الأنشطة في الجامعات وبدأ أعضاؤها يرشحون أنفسهم لانتخابات اتحاد الطلاب وينجحون بسهولة حتى أنهم فازوا بعضوية اتحادات الطلاب في كل الكليات تقريبا وكذلك الاتحاد العام للطلاب وذلك بسبب نشاطهم الخدمي الذي لاحظه زملاؤهم حتى الجدد منهم الذين كانوا يستقبلونهم
ويقومون بإرشادهم وإيوائهم وأثناء الدراسة يقوم أعضاء الجماعات بطبع المذكرات وتصوير الكتب غالبية الثمن مثل كتب كليات الطب وبيع تلك النسخ الضوئية بأسعار زهيدة جدا لا تزيد على 2% من السعر الأصلي للكتاب ولك أن تتخيل كتابا ثمنه أكثر من مائة جنيه يحصل عليه الطالب بجنيهين !!
لم يكن أبدا طلاب الجماعات الإسلامية عملاء للسلطة وإنما كانوا مخلصين للمنهج الإسلامي في أرقي صورة للتكافل الاجتماعي والتعاون على البر وكثيرا ما كان يستلفت نظرهم بعض الأوضاع في المجتمع تتناقض مع التعاليم الإسلامية وأكثرها في مجال الإعلام فكنت أناقشهم في ذلك بصراحة دون مواربة و تزييف
وأوضح لهم أن واجبنا أمام الله الدعوة والإرشاد بالحسني وأطلب منهم أيضا أن يكونوا قدوة للآخرين حتى يتمثلوا بهم وأوضح لهم أن الإسلام انتشر في العالم كله بهذا الأسلوب وأقنعهم بالمنطق أن التغيير لا يحدث مطلق بشكل فجائي وعليهم ألا يستعجلوا الأمور فالرسول المؤيد بالله سبحانه وتعالي تدرج في دعوته للناس
فظل ثلاثة عشر عاما يدعو للوحدانية وأن لا إله إلا الله أما هو فسوف يكون منهم المدير والوزير والحاكم والمحافظ وسوف تنتهي أجيال كثيرة بخيرها وشرها وعليهم عندما يتولون هم شئون الحياة فسوف يتلون المناخ كله بالصبغة الإسلامية وكانت فعلا تلك فلسفتي للأمور .
بعد سيطرة الجماعات على اتحادات الطلاب بدأوا يسلكون سلوكا مغايرا عن الاتحادات التي سبقتهم إذ بدأوا ينفقون أموال الاتحادات الطلابية في مسائل نافعة للطلاب من طبع مذكرات ومراجع وكتب أجنبية كما سبق أن أوضحت كذلك كانت الاتحادات السابقة تقيم حفلات غنائية وراقصة يصرف عليها من أموال الاتحاد بدعوى الترفيه عن الطلاب
فبدأوا يتصدون لمثل تلك الأمور ومنعوا تلك الحفلات الفنية وحجتهم أن الفن المبتذل حرام شرعا كما ن الجامعات دور علم وليست ملاهي على أن يكون البديل حفلات علمية أو مناظرات ثقافية كما منعوا اختلاط الأولاد والبنات في جلوسهم بالمدرجات وهذه كلها أمور ليست بالمستهجنة وتدور في فلك الأخلاقيات والقيم
وأنا أذكر عندما كنت طالبا بالجامعة كنا نحن الطلبة نترك بعض الصفوف الأولي بالمدرجات لزميلاتنا ولا يجرؤ طالب على الجلوس فيها مهما كان ازدحام المدرج فإذا فعلها طالب كان يأمره الأستاذ عندما يدخل المدرج ويراه أن يخلي مكانه ويؤنبه على ذلك بألفاظ قاسية ولم يكن هناك جماعات إسلامية .
هذه السلوكيات لاقت في ذلك الوقت استحسانا من كثيرين لكنها أثارت أيضا أولئك الذين يرون في الجامعة مكانا للحرية بلا قيود سواء أكانوا من الطلبة أو الأساتذة أو حتى من خارج الحرم الجامعي وأسبابهم مختلفة ! ونأتي الآن للمسألة التي اتهمنا بها كل من هاجموا دورنا في تكوين الجماعات الإسلامية وهي أننا أغدقنا عليهم الأموال !
أولا: هذا كذب وافتراء وصدق الله العظيم إذ يقول "كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا"
ثانيا: للحقيقة والتاريخ أقول : لم يحدث أن أعطي طالب مليما واحدا لكننا رتبنا لهم أداء فريضة الحج والعمرة نظير اشتراك من مالهم الخاص واقتصرت مساعداتنا لهم في الحصول على تخفيض في ثمن تذاكر الطيران بمقدار 50% وتفضل بمنحنا ذلك وزير الطيران في ذلك الوقت الأستاذ أحمد نوح حصلنا أيضا لهم على الإقامة المجانية بمعرفة وزارة الأوقاف في التكية المصرية بالمملكة السعودية
كما حصلنا من بعض شركت الأغذية المحفوظة على شنطة بها بعض المعلبات الغذائية تكفي الطالب مدة إقامته وأذكر أن اشتراك الطالب في ذلك الوقت كان خمسين جنيها وأعداد قليلة منهم هي التي فازت برحلتي الحج والعمرة فلم يتجاوز الذين قاموا بتأدية فريضة الحج على هذه الكيفية خمسين طالبا وحوالي عشرين أدوا العمرة .
أما الذين يعرفون أسلوب الرشوة واستخدام المال لشراء الذين يبيعون أنفسهم فهم الذين يفعلون فعلتهم ويخفون وجوههم خلف إصبع واحد وهو يحسبون أن الناس لا تراهم. زارني وأنا محافظ لأسيوط اللواء عبد المنعم عوض مفتش المباحث العامة وطلب مني أن أوافق على صرف إعانة دوري لثلاثة طلاب بواقع خمسة عشرة جنيها لكل واحد تصرف له شهريا كذلك طلب أن يكون الصرف عن طريقه هو شخصيا وليس عن طريق إدارة العاقلات العامة !!
ورأيت أن يكسر قاعدة المساعدات المادية التي نقدمها للطلبة فمثل هذا المبلغ يدفع للطالب مرة واحدة سنوي ويصرف عن طريق العلاقات العامة وشممت في الأمر رائحة فساد فسألته بشكل مباشر : لماذا التجاوز في الأمر لهؤلاء بالذات ؟ قال :"بصراحة علشان هندخلهم وسط الجماعات الإسلامية ويجيبوا لنا أخبارهم" تضايقت لكني وافقت له على الصرف وقد أضمرت في نفسي أن أخبر وزير الداخلية بالأمر معتقدا أنه لن يرضي عن تلك الأساليب ولم أنتظر وسافرت فجر اليوم مباشرة إلى القاهرة وقابلت المرحوم ممدوح سالم ولما أخبرته بالواقعة قال : "وفيها إيه ؟!"
أغاظني رده فجاوبته :
- " فيها أن اللي تشتريه بخمسة جنيه يبيعك بعشرين وكان الأولي تتبعوا هذه الأساليب مع الشيوعيين "
قال: الشيوعيون ممكن نلمهم خلال ساعتين على طول البلد من الإسكندرية لأسوان أما الفكر الإسلامي فهو مثل الحصان الجامح إذا ترك له العنا فلن يستطيع أحد السيطرة عليه فعدت لأسأله : ألسنا مسلمين ؟!..
قال :" نعم فقلت له : إذن لماذا تريدون السيطرة على الفكر الإسلامي ؟" قال : "الحكم" .. واستمر نقاشنا على هذا المنوال حول المناهج والأحزاب التي من حقها أن تصل للحكم ومنهم أصحاب الفكر الإسلامي على أن يكون الفيصل في ذلك للناس وصندوق الانتخابات فرفض منطقي وحاول أن يقنعني بأن الظروف الدولية تحتم كذا وكذا .. ولم ينته النقاش بيننا إلى نتيجة .
والسؤال الذي لابد أن يتردد في ذهن البعض الآن: من أين أتت حكاية الجنازير والمطاوى حتى يقع وزير الداخلية مثل اللواء حسن أبو باشا ضحية كاذبة فيذكرها في مذكراته على أنها واقعة صحيحة .. ولعل في الحكاية التالية الإجابة والتوضيح.
في نفس العام الذي بدأنا فيه تكوين الجماعات الإسلامية حدث صدام في جامعة القاهرة بين بعض الطلبة وهو صدام عدى ولم أعرف تفاصيله أو أطرافه سواء أكانوا جماعات إسلامية ضد الشيوعيين أو غيره بل سمعت بالواقعة مثل كثيرين ولم تستحوذ كثيرا على اهتمامي لأن العنف لم يكن واردا أبدا في حساباتنا .
وبعد هذه الواقعة بأيام جاءني مدير مكتبي وقال لى : إن الدكتور رفعت المحجوب (وعلى ما أذكر كان وقتها يتولي أمانة الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي) يريد أن يقابلني فاتصلت به ودعوته للحضور في أى وقت . جاءني د. رفعت وبعد أن تناول قهوته قال :"جئت لأخبرك بواقعة غريبة" قلت له "خيرا"
فقص على قصة كانت بالفعل غريبة مؤداها أن أحد الطلبة في جامع القاهرة ذهب لأحد أساتذته وهو الدكتور مأمون سلامة يحمل في يده مطواة وأخبره أن طالبا زميله شرع في قتله بتلك المطواة ! والدكتور رفعت يحكي القصة نقلا عن د. مأمون سلامة)
فما كان من الدكتور مأمون إلا أن أجلس الطالب الشاكي وأرسل يستدعي الطالب المتهم لكي يجرى تحقيقا مع الطرفين فلما جلس أمامه الشاكي والمشتكي في حقه لاحظ أن بينهما نوعا من التفاهم لا يعقل بين طرفين أراد أحدهما قتل الآخر كذلك لاحظ بينهما تبادل الإشارات والغمز فواجههما بشكل غضب وسألهما عن حقيقة ما يحدث فأخبره أحدهما أنه وزميله اتفقا على الصلح فيما بينهما على شروط.. هي الصلح أن يعلن المتهم بمحاولة الشروع في القتل أمام جمع من الطلبة في مؤتمر يعقد خصيصا للتصالح أن من أعطاه المطواة هو محمد عثمان إسماعيل !!
ولما كان الأستاذ مأمون سلامة لا يعرفني فقد ذهب للدكتور رفعت وهو يعلم أن له نشاطا في تنظيم الاتحاد الاشتراكي يسأله عن شخصي وسلوكياتي .. أدهشتني القصة حتى أنني طلبت من الدكتور رفعت أن يكتب مذكرة يحكي فيها تفاصيل الموضوع كله ويوقع عليها بصفته شاهدا.
سببت لى الواقعة كثيرا من الضيق والألم وكشفت لى في نفس الوقت أن الأمر قد يصل إلى حد تلفيق تهم خسيسة فأخذت من فوري مذكرة الدكتور رفعت واتجهت بها إلى سيد مرعي أمين عام اللجنة المركزية وأخبرته بمحتوى المذكرة فأطلع عليها ثم قال " أذهب إلى الرئيس السادات وأخبره بالموضوع ".
وبالفعل طلبت مقابلة الرئيس ثم ذهبت إليه في استراحة القناطر كن جالسا على مركب في مرسي الاستراحة وبعد قليل من الكلام في موضوعات شتى أخبرته بأمر واقعة الجامعة وأعطيت له مذكرة د. رفعت المحجوب ليقرأها بنفسه وبعد أن انتهي من ذلك ضحك الرئيس ومزق الورقة ثم ألقاها في الماء قائلا :" لا تندهش سوف تري كثيرا من هذه الأمور لأن هناك ناس كثيرة تحاول أن تكيد لك وتتآمر عليك" .
واعتقدت أن الموضوع انتهى عند هذا الحد إلى أن جاء من يزورني في مكتبي وهو أحد أعضاء مجلس الشعب (في ذلك الوقت) واسمه طه الغطريفي يصاحبه طالبان وعلى ما أذكر أن أحدهما من سوهاج وقدمهما لى طه الغطريفي على أنهما صاحبي واقعة المطواة التي أخبربني بها د. رفعت المحجوب
فبدأت أناقشهما وأخبرني أنهما أقدما على هذا الأمر بناء على طلب أحد ضباط البوليس بعدها أستأذنا في الانصراف فأذنت لهما لأنني كنت بالفعل أحسست أن الأمر لا يعدو على أن يكون ألاعيب صبيانية وكلاما فارغا كما وصفه لي الرئيس السادات . (ملحوظة : طه الغطريفي حي يرزق أمد الله في عمره لمن يريد أن يستوثق من القصة)
لم تكن هذه أول ولا آخر محاولة للكيد لشخصي لأنه حدث بعد ذلك وقائع كثيرة مشابهة ويبدو أن صراحتي المفرطة وطريقة الرئيس السادات في تعامله مع المعلومات ومصادرها وخاصة ما كان يتعلق منها بوزارة الداخلية هي السبب في ذلك. وتأتي الآن إجابة لسؤالنا الذي طرحناه في البداية : هل تلك الجماعات التي تكونت في الجامعة هي نفسها التي قامت بالأعمال الإرهابية التي روعت المجتمع المصري ؟
لقد توقفنا في سيناريو تكوين الجماعات عند نقطة أعمالهم الجيدة ونجاحهم في السيطرة على اتحادات الطلبة وذلك في العام الأول لتكوينهم فلما جاء العام التالي كانت هناك خطة قد أعدت لإسقاطهم في انتخابات الاتحادات وحدث هذا بتكتيل الطلاب ضدهم وشطب بعض المرشحين منهم وإخراج بعضهم من المدن الجامعية
وبدأت أقوال تتناثر بينهم على أن هذا يحدث بناء على تقارير أو مطالب المباحث العامة وهذا ما رسب في وجدانهم أن السلطة تقف منهم موقفا عدائيا وتحاربهم فكان ذلك الموقف هو بذرة الشقاق التي أنبتت شجرة العداء السادة وردا على ما سمعوه أو قصد به أن يصل إلى أسماعهم بدأ هؤلاء الطلاب يعقدون الاجتماعات والندوات ينددون فيها بهذا الموقف ويوجهون انتقادات لاذعة للحكومة
وعندما ضيق عليهم الخناق داخل الجامعة بدأوا يعقدون اجتماعاتهم في بعض المساجد ويصل صوتهم وكلامهم إلى بعض الحضور من الشباب الذين لا ينتمون إليهم وتجوب معهم بعض من هؤلاء فكانت تلك هي البداية لنشر الجماعات الإسلامية خارج نطاق الطلاب (إذن كانت بداية شذوذ الأمر أو خروجه عن طبيعته هو ظلم الجامعة بالتضييق عليهم وشطبهم وإخراجهم من المدن الجامعية وأينما يوجد ظلم لابد أن يوجد تطرف).
بدأت الشرطة في تصعيد آخر للمسألة في حصار هذه المساجد بقواتها عند اجتماعهم بها ثم أدخلت بينهم بعض جنودها بملابس مدنية يجلسون بينهم ويحاولون منه خطبائهم من اعتلاء المنابر(لاحظ أن هناك عنصرا ثالثا دخل طرفا مؤثرا في تلك المواجهة وهم الشباب غير المتعلم أو المثقف ثقافة دينية ضحلة وتعاطف مع الطلبة وانضم إليهم) وتطورت الأمور إلى الاصطدام والاشتباك.. ولأول مرة داخل المساجد القوة تحل محل الكلمة في تصاعد للمواجهة بين الطرفين!
الأخطر من ذلك أن بعض القيادات الدينية ذات الفكر المتشدد من محدودي التعليم والثقافة الدينية لا تملك إلا عاطفة ووجدانا دينيا ورشحت هذه القيادات نفسها كنموذج قيادى وكان فيهم من هو صاحب مشروع ديني فقهي يشرع فيحلل ويحرم يوجه تحت دعوي الجهاد فتشتت الأمور والأفكار ولم يعد العمل واحد ولا التوجيه موحد ولا الفكر سليم فسمعنا عن أسماء في محافظات عدة في الوجهين البحري والقبلي كقيادات .. حتى أن الشرطة صارت تسمي الجماعات بأسماء قيادتها تلك.
لم تزد تجربتي مع الجماعات الإسلامية التي كونتها في الجامعة عن شهور هي فترة عملي مستشارا للرئيس وأمينا للتنظيم وانقطعت صلتي بهم تماما وسمعت ولا أقول عرفت أنه تولي مسئوليتهم آخرون فسمعنا مثلا عن أشرف مروان أنه كان يتولي شئون مجموعة وتوفيق عويضة وكذلك كان المجلس الأعلي للشئون الإسلامية يتولي شئون مجموعات أخري .أما ما قيل من أن الدكتور محمود جامع كلف معي بتكوين تلك الجماعات فهذا ما أدهشني !
والدكتور جامع تربطه صلة قرابة بالرئيس السادات أعتقد أنها لأمه وكان من المقربين للسادات وهو في نفس الوقت صديق عزيز لدى لذلك أنه من الإخوان ولأنني لا أقول إلا ما أعلمه فالدكتور محمود على حد علمي لم يحدث أنه كلف بذلك الأمر واشترك معي فيه أو كان مسئولا عن الوجه البحرى في حين كنت أنا مسئول عن الوجه القبلي لسبب بسيط وهو أننا بدأنا تشكيل تلك الجماعات في جامعتي الإسكندرية وأسيوط ولم نسمع عن تلك الجماعات مثلا في جامعة المنصورة أو طنطا إلى آخره .
قال أيضا الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه خريف الغضب أنني وعثمان أحمد عثمان شكلنا الجماعات الإسلامية وقال أيضا إن الأخير دعمها ماديا !! وهذا الكلام عار من الحقيقة فعثمان أحمد عثمان ليس له علاقة على الإطلاق بتشكيل الجماعات الإسلامية ويبدو أن الخلط في ذهن الأستاذ جاء من أن عثمان كان حوله مجموعة من أفضل من يعملون معه في شركة المقاولون العرب من الإخوان المسلمين فخلط هيكل بين ذلك وبين علاقة عثمان بالرئيس السادات ! أو وقع أسيرا لإشاعة كاذبة .
أما الآن وقد مرت فترة طويلة تقترب من ربع القرن على تجربة تكويني للجماعات الإسلامية وبنظرة محايدة تمما للتجربة أستطيع ن أقول إنه كان يمكن الاستفادة من تلك الجماعات وتوجيهها الوجهة السليمة وذلك لو وجد العقل السياسي النضج في الدين الذي يبني ولا يهدم : يجمع ولا يفرق يعلو بالقيم ويشد لهمم ولكن للأسف المواجهة بدأت بالمواقف العدائية وهنا أحب أن أؤكد أن جريمة الاعتداء أيا كان نوعها على النفس أو المال لا يقرها عاقل
ومن باب أولي لا يقرها المؤمن الذي يعرف حق ربه ودينه وحقوق العباد عامة ونظرة خاصة إلى أولئك الذين نسب إليهم التطرف وحوكموا أو اعتقلوا نجد أنهم من بيئات متواضعة ذوى ثقافة محدودة أو معدومة وبالذات في أمور الدين ولكن أوضاعهم الاجتماعية وظروفهم المعيشية والمناخ العام الذي يكتنف مناحي الحياة هو الذي دفع بهم إلى التطرف تنفيسا عن آلام مكبوتة وأحقاد دفينة ويأس وضجر من حياة حاضرة وفقدان أمل في أيام قادمة .
خاضة ميسورة ومستقبلهم ممهدا لا لكفاءة خاصة أو قدرات معينة ولكن لمجرد الانتماء الطبقي مما يولد الحق الطبقي والكفر المجتمع وعدم الانتماء . تم تعييني محافظا لأسيوط قبل نشوب حرب أكتوبر بشهور ولأسباب كان من أهمها إبعادي عن الرئيس السادات .
وأذكر أنه عندما عين الأستاذ الدكتور حسن حمدي مديرا للجامعة وحضر إلى مكتبي يوم وصوله للتعارف وأخبرني في هذا اللقاء أنه قابل رئيس الوزراء د. مصطفي خليل قبل حضوره وأعطه الأخير تعليمات بالتصدي للجماعات الإسلامية في جامعة أسيوط والوقوف بحزم في وجهها وذلك بعدم تنفيذ طلباتها .
سألته :" طلبات مثل ماذا ؟!" قال :" مثل تخصيص أماكن في المدرجات للبنات وإقامة الحفلات والأسر المختلطة ". فعدت لأسأله مؤكدا: أرئيس الوزراء قال لك هذا ؟ قال : نعم فقلت له: "وأنا أقول لك أنا معهم في هذه الطلبات".
ولم يكن دافعي في هذا مناصرة تلك الجماعات وإنما كانت دوافع أخلاقية أعلمها وأعف عن ذكرها وكانت المباحث العامة هي التي توافيني بأخبار وقائع لا أخلاقية تحدث واتخذت هذا الموقف على الرغم من أن الجماعات في أسيوط كانت قد بدأت تتخذ مواقف عداء ضدى باعتباري ممثلا للسلطة في المحافظة ..
كنت أعلم أن ما يقوله د. حسن حمدي سوف يؤدي إلى تصعيد المواجهة ولذلك قلت له في نفس اللقاء:
- " لا تساهموا في إشعال الفتنة " أما أنا فكنت أطفئ شرارة الفتنة بالحوار كنت أستمع لهم عندما يتكلمون باسم الإسلام وينتقدون باسم الدين فأطلب لقاء زعمائهم بعد انتهاء عملي في استراحة المحافظة وأفتح معهم حوار دينيا وسياسيا وفي مرات عديدة امتدت جلسات المناقشة تلك حتى آذان الفجر فكنت أصليه معهم وفي كل الحالات تقريبا كنت أقنعهم بوجهة نظري فيمتنعوا عما ينوون القيام به من تظاهر و اعتصام لأنهم كثيرا ما كانوا يقعون أسري لمفاهيم خاطئة من السهل تصحيحها بالحوار وسعة الصدر.
ولهذا لم يحدث تجوز أثناء عملي محافظا في أسيوط باستثناء الاعتداء الذي حدث على مديرية أمن أسيوط والاستيلاء عليها وقتل بعض الجنود عقب اغتيال الرئيس السادات وفي هذا التاريخ كنت مسافرا خارج البلاد أؤدي فريضة الحج واستغل المدبرون لتلك العملية أجازات عيد الأضحى وضعف الحراسة بسبب ذلك فهاجموا جنود الحراسة على المديرية واستولوا على أسلحتهم واحتلوا المبني وحتى هذه اللحظة لا أعرف الحقيقة لجريمة اغتيال الرئيس السادات وقد يكشف التاريخ لنا عن تحليل للجريمتين .
ونعود لجريمة الاستيلاء على مديرية أمن أسيوط ونتساءل : هل يعقل أن شخصا يفكر في انقلاب فيستولي على مبني مديرية أمن ؟! العقل يقول حتى لو استولي على محافظة أسيوط كلها ل يكن ليستطيع تغيير نظام الحكم!
وللأسف الشديد فقد قرأن وسمعنا بعد اغتيال الرئيس السادات خلطا عجيبا بين التطرف والتدين وبدأت الحملة بالهجوم على الجماعات الإسلامية متضمنة نقدا للمرحوم أنور السادات وصل أحينا إلى حد الشماتة الصريحة فقيل كلام من مثل : أنه ربي الثعبان في عباءته! وقاد هذه الحملة الشيوعيون والعلمانيون ومن جعلوا آلههم هواهم .
ومن المؤسف أن المواجهة المنية ذاتها وقعت فيما هو أفدح ... إذ اعتنق أحد وزراء الداخلية مبدأ التصفية الجسدية حتى أنتقل الأمر من التطرف إلى الإرهاب وحتى لو كان تبريره لذلك أنه يعاملهم بالمثل فهذا لا يكون تصرف دولة ولكنه مفهوم رجال العصابات فاللص لا تعامله الدولة بالمثل فتقوم بسرقته لكنها تحاسبه .. وكذلك القاتل لا تقتله الدولة وإنما يحاكمه القضاء فيحكم عليه بذلك إن كانت جريمته تستحق تلك العقوبة وهكذا لكن للأسف فقد سار على هذا النهج من آتي من بعد وزراء الداخلية .
كذلك بدأ بعض المسئولين يتخبطون في بياناتهم إعلاميا إذ يقولون مرة إن هناك أموالا وشيكات جاءت للجماعات الإسلامية من الخارج ثم لا يعلم الشعب حقيقة ذلك الأمر ومرة يقولون إن دولة ما تدعم الإرهاب ثم بعد ذلك ينفون ذلك عن تلك الدولة ومرة ثانية أو ثالثة يصرح مسئول في مجلس الشعب بأنه لا علاقة للجماعات المتطرفة بالإخوان المسلمين ثم يعود نفس الأشخاص ليقولوا لنا : إن الجماعات الإسلامية خرجت من عباءة الإخوان الإرهابيين !
وأنا لا أستعرض ذلك الآن من باب التعتيم لكنني أود أن أوضح أن الناس لا ريب تراقب وتعي جيدا تصريحات المسئولين ولذلك فالتخبط في البيانات والتصريحات لابد وأن ينتج عنه عدم التصديق وهذا ما يخلق الهوة بين الحاكم والمحكوم أو الموطن وأجهزة الحكم المختلفة وإذا جاء الآن من يقول إن المواجهة الأمنية نجحت في اقتلاع الإرهاب من جذوره
فبحكم تحليلي للأمور أري أن النيران قد خبت لكنها كامنة وقد تشتعل لتقضي على الأخضر واليابس في مستقبل الأيام والواجب أن ننحي العاطفة جانبا ونحكم عقولنا في هدوء وصبر ونشخص الداء تشخيصا واقعيا علميا يمكننا من وصف الدواء الشافي .
الأسباب الحقيقية للتطرف
أعترف أنني تحيرت كثيرا كيف أبد كلامي أو أقدم له في هذا الفصل هل أدخل في الموضوع مباشرة وأقول ما عندى هل أمهد لذلك بمقدمة إنشائية منمقة حتى يسعني عقل وقلب القارئ هل نستطيع هضم جمرات الحقيقة المشتعلة والتي ضاق صدري أنا شخصيا عن هضمها هل وهل ... صدقوني لقد ضجرت سريعا من الحيرة التي تملكتني لمجرد كتابة بداية أو مقدمة لفصل في كتاب فكيف بحيرة شبابنا الذي يتقلب على صهدها ليل نهار ؟
شبابنا الذي تاه منه الاتجاه في صحراء الوهم الممتدة حيث لا نهاية لمشواره ولا حتى فرصة للرجوع هذا الشباب الذي جنينا عليه لما أصبنه بالتبلد واللامبالاة وضياع الثقة في كل شئ ولم لا وقد فقد هويته بعد أن فقدناها نحن الكبار وقدوته وعزوته وسنده.
في زمن مضى أفهمناه أن الاشتراكية هي طريق الخلاص وخرج الانتهازيون من جحورهم يسبحون ويكبرون للاشتراكية وجناتها العادلة ومبادئها الرحيمة وازدحمت الساحة بتجار الكلمة ونخاسيها ومن جرابهم السحري أخرجوا المقالات والأغاني والروايات والأشعار والأفلام التي ما زالت أجهزة إعلامنا تتقيأها حتى الآن بين الحين والآخر وأصبح الجميع اشتراكيون أقلهم عن قناعة وأكثرهم عن صناعة .
تلا هذه حقبة أخرى انفرط فيها عقد الاشتراكية وتناثرت حباته ودار البندول نصف دورة في عكس تجاهه لنتحول معه من أقصي اليسار إلى أقصى اليمين ولم نكتف بالتحول لكنا هللنا له بلعن الحقبة السابقة بكل رموزها الرجال والمبادئ وقلنا الخير في الرأسمالية ورخائها وحرياتها والغريب في الأمر أن حملة طبول الاشتراكية وعهدها لم يتركوا طبولهم بل فقط غيروا اللحن وصاروا يعزفون نغمة اليمين بعد أن كانت يسارا !! وعلا صوت نغماتهم تلعن هي الأخرى الماضي وتمجد ما يعيشونه من أيام هي منتهي الآمال وحلم الإنسان الدائم بالجنة على الأرض !
وانتهت أيضا هذه المرحلة كغيرها لكن البندول هذه المرة تذبذب ولم يستقر على اتجاه ونحن مربوطون فيه وسألنا أنفسنا :" من نحن ؟!" اشتراكيون أم رأسماليون ؟ قال قائل :"أبحثوا في قوانينكم وأنظمتكم" فلما بحثن وجدناها خليطا عجيبا من الاشتراكية والرأسمالية وليس أدل على ذلك من أن دستورنا وهو سيد القوانين كما يقولون ينص على أن الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي وذلك في الوقت الذي تدعو فيه كل أجهزة الدولة بهمة ونشاط لانفتاح السوق الحرة وتشجيع الاستثمار والقطاع الخاص والتخلص من القطاع العام وكأنه سبة !
أما التعددية الحزبية فحدث عنها ولا حرج وما شاء الله صار عندنا ثلاثة عشر حزبا وعند قراءتك لهذا الكلام قد تكون المحاكم قد حكمت لأحزاب أخرى بمزاولة نشاطها الحزبي (الحقيقة أنها تزاول نشاطها بهمة على الورق فقط) ولو أنني حقا لا أعرف حتى أسماء – معظم هذه الأحزاب ناهيك عن زعمائها وبرامجها
بينما سيد القوانين المبجل دستورنا ينص على تحالف قوى الشعب العاملة التي هي النظام الأساسي في المجتمع والتنظيم السياسي الواحد وهو الاتحاد الاشتراكي ...وأعود لأتساءل وبجدية هذه المرة : من نحن ؟! ما هي هويتنا ؟! وما هي عقيدتنا السياسية ؟ وتساءل معي لكن صدقني في هذا الفراغ الذي نعيشه لن تسمع إلا رجع الصدى لسؤال .
هذا عن الحاضر أما الماضي (التاريخ والحقيقة) فقد بدلنه أيضا فكتبه المؤرخون (الملاكي) بمهارة يحسدهم عليها الحواه وقد جاء يوما أحد صغار عائلتي يسألني : من هو محمد نجيب ؟ فقلت له من هو أول رئيس لجمهورية مصر العربية بعد أن طرد منها الملك وتحول نظامها من الملكية إلى الجمهورية فقال : ولكن كتبي تقول إن جمال عبد الناصر هو أول رئيس للجمهورية ..
ولم أملك إجابة حيال ذلك إلا الصمت فقد خشيت على الصغير من الانكسار مبكرا ... هذه هي الكتب التي تعلم صغارنا وتحثهم على الصدق وقول الحقيقة ولا غرابة أيضا أن يتخبط كبار القائمين على العملية التعليمية في قرارات متضاربة بدعوي الإصلاح ويجئ الجديد ليلغي ما خطه القديم وهكذا دواليك ! حتى أنك لا تملك إزاء ذلك إلا الشك ولك الحق كله لو رفضت الاعتراف بحجة سوء التخطيط وأرجعت الأمور للأغراض والمصالح الفردية .
سيادة القانون .. أو الحصن والملاذ الأخير للمظلوم والمغبون وأصحاب الحقوق فهو فوق الجميع و هكذا يكون ... بينما الحادث والكائن أن كثيرا من أحكام (سيادة القانون) لا تنفذ وأكبر دليل على هذا أحكام محكمة النقض وهي أعلي درجت السلم القضائي وإذا أردتم وقائع دافعة على ما أقول فهاكم أحكام بطلان الانتخابات في كثير من الدوائر الانتخابية المؤهلة لمجلس الشعب والناس كلها عرفت أن محكمة النقض فحصت الطعون لكن المجلس فقط هو الذي لم يعترف بذلك ولم يحترم قرارها بعدم صحة انتخاب أعضائه لأنه سيد قراره .
وحتى لو كان هذا المجلس من الناحية النظرية بالفعل هو صاحب القرار بالنسبة لصحة العضوية من عدمها ألم يكن أولي به أن يعلو فوق الشبهات ويخضع إلى ما انتهت إليه محكمة النقض ولا يتخذ موقف المعاندة أو المكابرة ؟!
ومرة أخرى نعود إلى الحياة الحزبية التي هي عصب الممارسة الديمقراطية أو الحركة الديناميكية الفعالة لتداول السلطة والتمثيل الحقيقي لفئات الشعب ومصالحه أو هكذا ما يجب أن تكون عليه الأحزاب .. لكن (وآه من لكن) الواقع الحزبي لدينا يقول إن هناك أربعة أحزاب على الأكثر معروفة لعامة الناس (أقول معروفة وليست نشطة أو فعالة)
وباقي الأحزاب إن عرفت فهي غالبا محل سخرية واستهجان المجتمع وعلى الإجمال فجميع الأحزاب ليس لها قواعد حقيقية (بما فيهم الحزب الوطني) بين الناس أما مسألة الانتماء الحزبي فهي أكذوبة الأكاذيب فالجميع قد باع القضية كما يقولون عندما ينصب مولد الانتخابات النيابية تتحول الساحة إلى حلبة كحلبات سباق الخيل الجميع يهرول نحو الحصان الجوكر ظلما سيكسب من ورائه ومن لم يجد له مكانا فعليه أن يقبل بالمتاح وفي قول آخر:" ومن ارتمي في حضن السلطة فقد فاز وحاز على رضاء الحزب الوطني !"
ونظرة إلى الأفاضل أعضاء هذا الحزب (هل لديك خبرة في العمل السياسي أو ذاكرة قوية ؟!) إذا لم تكن لديك تلك الخبرة أو هذه الذاكرة فأستطيع أن أقول لك من واقع خبرتي وما تسعفني به ذاكرتي أن أعضاء الحزب الوطني هم أنفسهم أبناء حزب مصر القدامي وهم كوادر الاتحاد الاشتراكي ومن قبله الاتحاد القومي ومن أطال الله في أعمارهم منهم ستجده من مؤسسي هيئة التحرير !!
وفي بحث لاستطلاع الرأي العام في مصر تم تحت إشراف الدكتور نادر فرجاني تم سؤال شريحة من المواطنين عن انتماءاتهم الحزبية أو عضويتهم في الأحزاب وأيا من الأحزاب يعبر عنهم ؟ انتهي البحث إلى أن 46% من المبحوثين أجاب أن ليس لهم رأي في الأحزاب السياسية و26% قالوا إنهم لا يجدون من الأحزاب ما يعبر عنهم أى أن 72% من المجموع سلبيون !!
كذلك قام المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قسم بحوث الرأي العام تحت إشراف الدكتورة أماني قنديل بإجراء بحث عن الحياة الحزبية اقتصر على سؤال الطبقات المثقفة من صحفيين وكتاب وأساتذة جامعات وأعضاء نقابات مهنية مسلمين وأقباطا وعلى مراحل سنية مختلفة سئلوا جميعا عن مدى اهتمامهم بالحياة الحزبية في مصر .. والنتيجة : 80% ليس لديهم اهتمام بشئ اسمه الحياة الحزبية !! هل يعني هذا فقدان الثقة ؟ أو هل يعرف له أحد توصيف آخر ؟! (ملحوظة: هذه الأبحاث منشورة) وإلى وقت ليس ببعيد كان الشعب المصري يتمثل في طبقات ثلاث.
على القمة الطبقة العليا التي تملك قدر من الثراء وفي الأسفل الطبقة الدنيا التي تعاني شظف العيش وهاتان الطبقتان تمثلان نسبة لا تذكر في التصنيف العام ما الشريحة العريضة والعمود الفقري للمجتمع الذي يكسبه صلابته وتماسكه ودليل عافيته فكان يتمثل في الطبقة المتوسطة التي ابتلعها الآن غول الغلاء ومسختها متطلبات الحياة اليومية إلى موطنين يستحقون الشفقة والصدقة بعد أن كانوا مساتير
وبسبب ذلك فقد اختفت تلك الشريحة أو كادت واقتصر التقسيم الطبقي على فئتين الأثرياء أو فاحشي الثراء وهم أقلية والفقراء الكادحين المقاتلين للفوز بأسباب الحياة الضرورية وهم الأكثرية ... حتى الأسرة التي يصل دخل عائلها إلى ألف جنيه شهريا تستطيع أن توفق بين هذا الدخل ومتطلبات الحياة ولهذه الأسباب انتشر الفساد بكل صوره وسبله المختلفة تدعمه تلك المظاهر والأنماط الاستهلاكية الاستفزازية التي تفقد العقول صوابها
ففي الوقت الذي تعيش فيه عشرات الألوف من الأسر ف المدافن وأكواخ الصفيح نقرأ ونسمع عن وحدات سكنية بملايين وعشرات الملايين من الجنيهات يتملكها الراقصات أو من في حكمهن اللائي يبلغ دخلهن أرقاما فلكية (الحكومة هي التي تقدر تلك الدخول وتعلن أخبارها في الصحف عند الإبلاغ عن تهربهم الضريبي) ..
ولا مانع لديهن في دخول مجال الاستثمار مثل احدي الراقصات التي نشرت الصحافة خبرا عنها مفاده أنها تشتري شركة كابلات بمبلغ خمسة عشر مليونا من الجنيهات يحدث هذا في الوقت الذي يتسكع فيه آلاف الشباب في الشوارع وآلاف الشابات يقرن في بيوتهن انتظارا للحصول على عمل أو يرتضي بعضهم وبعضهن قبول أعمال ووظائف لا تليق أبدا بقناعاتهم الشخصية وأحلام أهليهم التي أفنوا شبابهم من أجل تحقيقها فيهم.
ثم يأتي من يقول إنه استطاع أن يحقق دخلا للدولة يقدر بالمليارات وفي نفس الوقت حل مشكلة الإسكان .. كيف ؟ لقد باع العبقري الأراضي الصحراوية لشركات البناء والتشييج بأسعار تكاد تكون رمزية وانتظر أن تبني الشركات وحدت سكنية تناسب حدود وإمكانات المواطن العادي فإذا بها تقوم بتشييد الفيللات والقصور التي يبلغ أقل سعر للوحدة فيها نصف مليون جنيه !! وتستطيع أن تقرأ ذلك في الصحف وتحلم بالجنة ؟ ثم نتساءل بدهشة لم يبنون ؟!
والشعب المصري شعب ذكي ولماح وثرثار لا تخفي عليه خافية لذلك فهو يعرف جنبا من أخبار مليونيراته وتقوم الصحافة مشكورة بتغطية جوانب أخرى كثيرة والناس لا تملك في هذا الأمر كله إلا رفع حاجبي الدهشة على قدرة هؤلاء الأفذاذ الذين أصبحوا مليونيرات في سنوات معدودة وأغلبهم يعمل في وظائف يتقاضون عنها مرتبات تبلغ جنيهات معدودة!
ولقد خرجت علينا الصحف في الأيام الأخيرة تحكي قصة واحد من هؤلاء اسمه الحباك وقالت إن ثروته المعلومة تبلغ تسعة وخمسين مليون دولار مهربة في الخارج وخمسة وأربعين مليون جنيه هي قيمة العقارات الثابتة في الداخل !! لقد كشفت الحكاية كلها بالمصادفة وكان الرجل قبلها من حائزي ثقة الدولة ووجيها من وجهاء الحزب الوطني !
يا ترى إلى ماءا ستنتهي الحكاية وكيف ؟ ... أيهرب بليل أو نهار مثلما فعل ناهبو البنوك وأموال الأفاد ؟! أم تدخل حكايته فجأة في دهاليز الصمت وتصاب الصحف بالخرس ولا يعلم خبره الذي يكفي عليه "مأجور" إلا الله والمقربون ؟
وكلمة حق فالصحافة القومية منها والحزبية لا يجف مداد حبرها كأنه الدموع يعلن كل يوم عن اللصوص واللصوصية وأعمالها وعن صور الاستغلال المتورط فيها المسئولون وأبناءهم والأمثلة عديدة وصارخة وتحمل الذاكرة منها الكثير مثلا حاكية (لسان الوزراء) وهي الأراضي التي تملكها بعض الوزراء على أحد الشطآن بجنيهات قليلة ليعودوا فيبيعونها بملايين واقتصر تقسم الكحكة على المسئولين فقط!
هناك أيضا حكاية أحد رؤساء المدن في احدي مراكز محافظة كفر الشيخ (نشرتها المصور في عددها رقم 3606 بتاريخ 19 نوفمبر 1993) ذلك الذي لم يكن يملك إلا مرتبه الحكومي وفجأة ظهر أنه حوت (التعبير ليس لى لكنه للمطبوعة التي نشرت الحكاية) يملك ثروة بستين مليونا من الجنيهات ول تكن الصحف تذكر أسماء من يدعمونه من المسئولين ..والنتيجة .. الصمت الرهيب وتجميد الموضوع.
وجريدة الأهالي يوم 6/11/1996 نشرت في صدر صفحتها الأولي وداخل إطار باللون الأحمر وكأنه إنذارا للغافلين وللمستهترين أن وزيرا مخضرما سيخضع للمساءلة بمجرد تركه الوزارة قريبا وقد كون ثروة تقدر بحوالي 1300 مليون جنيه وأكدت مصادر عليمة أن هذا التقدير متواضع وقالت إن الرجل يحوز ألف مليون دولار يعني 3400 مليون جنيه.
بالرغم من هذا لا تكذيب ولا تحقيق مما يترك الباب مفتوحا على مصراعيه لإشاعات ترى وتتضخم لتنال الجميع آباء وأبناء بالصدق أو بالكذب – ولا يمحوها تصريحات عن النزاهة وتأكيدات على عدم السكوت عن حالة فساد وإذا كان هذا الموقف تعاليا على المواطنين واستهتارا بشأنهم أو اعتمادا على ذاكرتهم المفقودة ونسيانهم المعهود فبئس الرأي وبئس القرار فما انخرست ألسنتهم إلا لمرارة الألم وما انغلقت قلوبهم إلا على لهيب الضجر وسواد الليل وفقدان الأمل .وهل هذا سيدوم أو سينفجر يوما ..؟
في احدي ندوات معرض الكتاب (أعتقد دورة 94أو 95) ظهر الأستاذ هيكل يمتطي جواد الحقيقة ويشهر أرقامه التي لا يملك أحد غيره معرفتها لذلك تبدو للوهلة الأولي مدهشة وغريبة على أسماعنا لكن لا يملك أحد أن يكذبه قال الأستاذ هيكل (إن أموال المصريين المودعة خارج (مصر) تستطيع أن تسدد ديون (مصر) عدة مرات وتم تقدير هذه الأموال بـ 120 مليار دولار)
وياليت هذه الأموال استثمرت في الداخل دون السؤال عن مصدرها فعلي الأقل كانت ستنتج وتوفر فرص عمل للشباب العاطل الذي يبلغ مئات الألوف إن لم يكن ملايين ... ذكر أيضا الأستاذ هيكل إحصائية في غاية الخطورة ونسبها للبنك الدولي عن سنة 1990 (هي ليست من اختراعه أذن)
تقول الإحصائية:
- في مصر 20 فردا يملكون أقل من بليون دولار بقليل !
- في مصر 50 فردا يملكون من 100 إلى 200 مليون دولار !
- في مصر حوالي 100 فرد يملكون من 80 إلى 100 مليون دولار !
- في مصر 150 فرد يملكون من 50 إلى 80 مليون دولار !
- في مصر 220 فردا يملكون 30 إلى 50 مليون دولار !
- في مصر 350 فردا يملكون من 15 إلى 30 مليون دولار !
- في مصر 2800 فرد يملكون من 10 إلى 30 مليون دولار !
- في مصر 7000 فرد يملكون من 5 إلى 10 ملايين دولار !
(ملحوظة : أعد قراءة الإحصائية بهدوء مرة أخري)
وأنا شخصيا لست ضد الثراء ولا ضد أن يتملك الإنسان ما يشاء له أن يمتلك لكن بطرق مشروعة وأن يعطي حق الله وحق الدولة . وبدلا من أن ندرس حقيقة الأرقام التي ذكرها الأستاذ هيكل ونتأكد من صحة مصدرها ودلالاتها الاجتماعية والاقتصادية منع هيكل من معرض الكتاب ربما لأن أرقمه تسبب صادعا لحبابينا الكبار !
والآن جاء الكلام عن أخطر أسلحة العصر .. الإعلام تلك الأداة التي تترك آثارها على الكبير والصغير والمثقف والأمي فهي وسيلة تربية الشعوب وصياغة أفكارها وتربية نشئها وأهم وسائل الإعلام على الإطلاق وأكثرها تأثيرا : التليفزيون والإحصائيات تقول إن الصغار دون سن المراهقة هم أعلي الفئات العمرية تعرض لشاشة هذا الجهاز وبالتالي ساعات المشاهدة وهم أيضا الأكثر تأثرا بالأنماط الإنسانية والاجتماعية التي يشاهدونها متجسدة أمامهم تتخلل عقولهم فتربي أفكارهم وطموحاتهم وتطلعاتهم .. فعلي ماذا يربي تليفزيوننا ؟
أيربي على الأغاني الهابطة والتمثيليات المبتذلة ؟ أم على الأجساد العارية والشهوات والأفكار المستوردة بما تتضمنه من قيم غريبة عن مجتمعنا تفوح منها رائحة الفساد... وعلى سبيل المثال أليس غريبا أن يعرض التلفزيون لمدة سنوات مسلسلا أمريكيا يسمي الجرئ والجميلات يحوى علاقات شاذة داخل الأسرة الوحدة وعندما يرتفع صوت بالاعتراض يتهم بالرجعية والتخلف والتحجر الفكري ثم بعد سنوات يفيق من أمر بعرضه فيأمر بإيقافه؟
إن مثل هذا الفن الردئ ساهم في أن تنسلخ الطبقة التي تركب المجتمع من جلدتها وتخلق لنفسها حياة زائفة تمارسها في بيوتها ونواديها وملاهيها وتحررت من قيم مجتمعنا وتبنت قيم المجتمع الغربي ولم يعد يهمه إلا اللذة الحسية المادية التي لا يشبع طالبها .
أما أصحاب القلم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم والذين باعوا أقلامهم للشيطان وفتنتهم عن دينهم شهوة المال والسلطان لم يفتهم فضل الجهاد في مضمار الفساد والإفساد وظهر بينهم من يجترئ على نصوص قرآنية وأحكام قطعية فيكتب أحدهم يهاجم المتطرفين قائلا إنهم مغفلون يعتقدون أن الدنيا لا تساوى جناح بعوضة وأن الآخرة خير من الدنيا !
ويتلقي المتلقي هذا ألا يعلم هذا الـ ... أن الله جل جلاله هو القائل في قرآنه إن الدنيا لا ساوى جناح بعوضة وأن الآخرة خير وأبقي ..ونسمع آخر يقول عن عمالة لا جهالة أنه ليس هناك إلزام للنساء في ارتداء الحجاب وليس هناك تحريم في شرب الخمر ؟ هي دعوة للنساء بالتبرج وللشباب بشرب الخمر ؟ بل وصل الأمر بهذا الفاسق إن قال إنه ليس هناك تحريم للشذوذ أهو تحريض للشباب على ممارسته ؟!!
لقد صار ارتداء الحجاب هو معركة المثقفين (هكذا تطلق عليهم أجهزة إعلام الدولة) وأعلنت الحرب على الحجاب ومن ترتديه فصرن ينقلن من وظائفهن في المطارات ومنعن من الظهور على شاشات التليفزيون وصار التبرج شرطا للتوظيف في أماكن أخرى أكثرها رسمية تابعة للدولة ... يا أصحاب الإفهام والعقول تعالوا نعقلها معا :ألست المتشددة في الفضيلة خيرا من المتمادية في الرذيلة ؟ أتغطية الشعر ممقوتة وكشف الأفخاد والنهود محمود ؟!
بالتأكيد سوف تجد من يجيبك ببجاحة وبلا خجل ولا وجل : إنها الحرية يا أيتها الحرية كم من الهازل ترتكب باسمك وهل الحرية تكتمل على مفسدة وما يخالف شرع الله محرم ؟ والفضيلة عار على أصحابها والداعين إليها ؟!! في الغالب أكثرهم يكذب على نفسه ويصدق كذبته إنها ليست الحرية إنهم يتصورون نهم يتقربون إلى السلطة زلفي أو يعتقدون ذلك جندا في صفوفها وفي محاربة الإرهاب وهم في الحقيقة أعدي أعدائها لأنهم ينفخون في النيران حبيسة الصدور لتشتعل لهبا يأتي على الجميع .
والإسلام لا يعرف كلمة : رجل دين ولكن هناك علماء الدين أو فقهائه وينحصر أغلبهم في رجال الأزهر وهم منوطون برسالة محمودة في ألمانيا ويؤجرون عليها في الآخرة لكن للأسف نجد بعضهم مثل من يقول : لا تقربوا الصلاة ويسكت .. وتجد هؤلاء – للأسف – أشد نفاقا لأنهم يقولون في العلن ما يناقض رأيهم في الخفاء ويرون الأخطاء بعين واحدة لأن الأخرى لا تبصر إلا كل ذي سلطان أو سطوة لقد قضي الأمر عندما انجذبوا إلى عرض الدنيا وتنافسوا عليها
وخافوا المخلوق ونسوا الخالق فأنساهم أنفسهم لكن الناس لا ينسون خبراتهم المؤلمة معهم وبالتالي لم يعودوا يولونهم ثقتهم واتجهوا إلى غيرهم يتعرفون عندهم على دينهم أو لجأوا إلى بعض كتب التراث التي تحوي آراء وتفاسير قديمة لا تصلح لوقتنا الحاضر حيث يحكم الاجتهاد ظروف الزمان والمكان لكن ويا للمأساة تأثر قراء هذه الكتب بها وشكلت منظومة أفكارهم ومنهاجهم وتمت ترجمة هذا كله على هيئة سلوك أضر بهم وبالمجتمع كله !
ومما لا شك فيه أن التعليم انتشر والطبقات الدنيا في المجتمع صارت حريصة على تعليم أبنائها أكثر من غيرها أملا في ضمان مستقبل أفضل لهم عن ذويهم ولأجل هذا يصارع الآباء والأبناء في طريق الأمل للحصول على الشهادة العالية أو المتوسطة يحدوهم أملا في أن يوم التخرج هو الخطوة الأخيرة في رحلة العذاب ثم.. تكون الصدمة فالأيام تتسرب من أعمار الشباب ولا عمل ولا حتى أمل والبديل هو التشرد في الشوارع وتحول الأمل إلى سراب لا يلب ثان يولد الهم وهلم جرا إلى أن نصل إلى غضب مكتوم يغلي في مراجل الصدور .
وتعددت الأسباب والضياع واحد شباب بلا انتماء وأفكار مشوشة مشوهة لكن صورة الضياع اختلفت حسب تصنيف الطبقة التي ينتمي لها الضائع فالشاب ابن الأثرياء أغرق نفسه في تعاطي الملذات من كل نوع وكما قلنا فقد عاش هؤلاء في جيتو غربي من صنع أوهامهم الطبقية أما أبناء الفقراء والمعدمين
فقد خرجوا من الدنيا بعقولهم وطلقوها قبل أن يتزوجوا بها وذهبوا يبحثون عن الآخرة التي سوف ينعمون فيها وينتقم لهم فيها ممن سلبوهم حق الحياة أما الدين الصحيح الذي يدعوهم للسلام والمحبة فلم يشف غليل صدورهم فنبشوا القبور بحثا عن أئمة الغضب وأمرا الانتقام المتسترين في الدين.
وأخيرا لم يبق إلا البحث عن العدو .. نعم هذه أيضا أصبحت مشكلة لقد عاشت أجيال عديدة وإلى الآن تعتقد أن العدو هو الذي يجئ من ناحية الشرق وفجأة تحول هذا إلى صديق !! وهذا ليس جحودا سياسيا لكن أقصد أن المعيار في هذه القضية حتى اختلف فيه مثقفونا الذين صاروا يصنفون إلى مثقفين رسميين تطبيعيين
ومثقفين رافضين متشددين في الرفض والكره تروح وتجئ بين المعسكرين تدفعها المبررات المتناقضة من كل جنب وضع المواطن الذي يقرأ فيصدق فيؤمن ثم نطعن في إيمانه هذا فيصيبه على الأقل الضجر إن لم يكن الكفر بالقضية .. حقيقة لقد تاهت كل المعايير ولم يعد هناك ميزان وحد يثق أحد في مؤشراته .
وملحوظة أخيرة:
- اقرأوا كتب الأستاذ هيكل عن سلام الأوهام التي أزاح فيها الستار عن سلوكيات تتأرجح بين الخيانة والعمالة والغفلة حتى بتنا نتسول السلام!.. ومجمل القول أن أسباب التطرف تنحصر في بطالة منتشرة وفساد عم ذممنا وأخلاقا ومظاهر وسلوكا استفزازيا وبيانات وأقوالا وأفعالا متضاربة ومتناقضة بين وقت وآخر وهوية فقدت وغلاء تولد واستشري ومع وجود كل هذا تولد لدى المواطنين عامة والشباب خاصة يأس كامل وعدم انتماء فانصرف أغنياؤهم إلى شهواتهم وفقراؤهم إلى التطرف كل يشغل نفسه بطريقته الخاصة طبقا لحالته الاجتماعية .
وبعد:
- ما سبق ليس بحثا لكنه مجرد تشريح للجثة أو لنكن متفائلين فنفترض أن هناك روحا ما زالت تسكن الجسد وما سبق هو تشخيص للداء الذي قاد إلى الغيبوبة أما الحل فالأمر برمته يحتاج إلى بحث مستنير وتفكير هادئ من عقلاء هذه الأمة دون معاندة أو مكابرة تأمينا لمستقبل أعتقد أنه يهم الجميع .
الفتنة الطائفية وخلافي مع الإخوة الأقباط
وأنا محفظ لأسيوط جاءني أحد الإخوة الأقباط يشكو من أن الجماعات الإسلامية استولت على قطعة أرض فضاء يملكها وأقامت عليها مسجدا.. في الحال طلبت دراسة شكواه وجمع معلومات كاملة بخصوصها وجاءتني نتيجة التحريات تقول إن إحدى الهيئات الحكومية (الاتحاد التعاوني الزراعي) تستأجر دورا في عمارة الشاكي التي تقع في حي قلته وأغلب الملاك في هذا الحي أقباط أما العمارة فبجوارها قطعة أرض فضاء يمتلكها الشاكي أيضا
واعتاد موظفوا الاتحاد التعاوني إقامة صلاة الظهر التي يحين موعدها أثناء عملهم ولما وجدوا أن عددهم كبير فكروا في إقامة الصلاة في قطعة الأرض الفضاء المجاورة لمقر عملهم خاصة أن هناك بابا يفتح عليها حدث هذا ولم يبد الأقباط أصحاب العمارة اعتراضا أو استياء حتى فوجئوا ذات صباح أن مكان المصلي تحول إلى جامع ذا جدران أربعة وسقف وتم البناء ليلا حتى الباب الذي كان يفضي من العمارة إلى قطعة الأرض أغلقوه !
في الحال أمرت بهدم المسجد وجردت حملة من رجال الشرطة والمحافظة لتنفيذ ذلك دون إبطاء اتخذت هذا القرار بمفهوم ديني قبل حسابات السياسة والإدارة إن المسجد أقيم على أرض مغتصبة فكان لابد من هدمه لأنه لا تجوز عليه صلاة فهو مسجد ضرار هكذا علمنا ديننا الإسلام وكنت متأكدا أن عامة المسلمين المعتدلين من أبناء المحافظة سوف يؤيدنني في ذلك وقلت للجماعات الإسلامية بصوت عال فيما يشبه الرسالة أنا مستعد أن أواجهكم بالناس متجردا من سلطتي كمحافظ فلا تتاجروا بالأمر أو على الأقل تعالوا نتناقش لأنني مسلم مثلكم حريص على ديني أكثر منكم .
هل يمكن أن نصنف ما سبق تحت بند الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط أو حتى نصنفه على أنه تحرش من أى نوع بين الطائفتين لا أعتقد تماما مثلما لا أعتقد أو أصدق أن هناك شيئا اسمه الفتنة الطائفية ولا يعدو الأمر إلا وهما من صنع خيال قائليه المرضي.
فالشعب المصري على مدي تاريخه لم يعرف الفتنة لا قولا ولا عملا بل يتعامل مسلموه وأقباطه على أساس أنهم أبناء وطن واحد شركاء في السراء والضراء . ومعني أن الأمر لم يكن له وجود إلا في خيال مخترعيه فإن أجهزة الإعلام وبعض قياداتنا كانتا تساعدان على بذر الفتنة دون أن يدريا ... كيف ؟
في الصعيد تنتشر عادة الأخذ بالثأر وتقترف جريمة القتل لأقل الأسباب وأتفهها وهذا ما يحدث بشكل شبه يومي فإذا كان القاتل والمقتول أبناء ملة واحدة فلا يعلم بالواقعة إلا جهات التحقيق (أقصد أن الإعلام لا يهتم بها إلا في أضيق الحدود) والعكس يحدث إذا كان طرفا الجريمة مسلما ومسيحيا إذ سريعا ما نسمع ذلك العبير البغيض يتردد: الفتنة الطائفية فتنشره الصحف ويدبحه كاتبوا المقالات
وينتقل المسئولون ليعقدوا مؤتمرات (على هامش الفتنة الطائفية) في المحافظة أو البلد التي تقع فيه الجريمة حريصين أن يرصوا في الصف الأول للحضور شيخا قم قسيسا ويصعد الخطباء على منصة الخطابة يتبارون في التأكيد على الوحدة الوطنية وغالبا ما تنقل كاميرات التلفزيون وعناوين الصحف ذلك لعموم الناي ومنهم المسلم والمسيحي الذي لابد أن تتعكر مشاعره وقد أيقن أن هناك بالفعل فتنة مستهدف بها روحه وأرواح أبناء دينه فلا أقل من أن يستثار !
كل هذا يحدث في حين أن الأمر لم يتعد جريمة قتل عادية تكاد تحدث في الصعيد كل يوم لذا فاختراع الفتنة الطائفية هذا يثير تعجب أبناء المنطقة التي تحدث فيها الجريمة مسلمين وأقباطا لأنهم الوحيدون الذين يعرفون حقيقة ما حدث ولو كان الأمر فتنة لوقف كل واحد للآخر الذي يخالفه في الدين موقف الخصومة والعداء
بينما الواقع يناقض هذا تماما فالمسلم إما جانيا أو مجنيا عليه وقبل وقوع الجريمة وبعدها له أصدقاء من الأقباط وشركاء في التجارة والعمل وأما الجريمة التي حدثت فلا تخرج عن نطاق العائلتين ولولا أن العائلات متماسكة في الصعيد لما خرجت الجريمة عن نطاق أسرتي القاتل والمقتول , أما بقية العوائل مسلمين وأقباطا فيجمعهم العيش في محبة وسلام دائمين
ولو ذهب أحد إلى المواقع التي قيل إنه وقع فيها أحداث الفتنة الطائفية مثل عزبة ويصا وجنوب أسيوط وغيرهما سوف يجد الدليل على ما أقول وإذا كنا نؤكد على أن الفتنة الطائفية لا تعدو إلا أن تكون وهما واختراعا إلا أن الأمر لم يخل من بعض الحساسيات في أوقات وأماكن وظروف معينة ولنا أن نتساءل من أين أتت هذه الحساسيات بين أبناء الوطن والنسيج الواحد؟
إن المتدبر لحوادث تاريخنا القريب سوف يكتشف الآتي:
- كان الأقباط قبل ثورة 23 يوليو يشاركون في الحياة العامة من خلال الأحزاب وكان المواطنون يلتفون حول الرجل العام دون النظر إلى ديانته فمعيار التفضيل كان الانتماء الحزبي ولمع كثير من الأقباط في الحياة العامة حتى وصلوا إلى أعلي المناصب الحزبية أمثال المرحومين مكرم عبيد وإبراهيم فرج على سبيل المثال حتى عندما انفصل الأول عن حزب الوفد
- وكون حزبا أسماه الكتلة كان أغلب أعضاء حزبه من المسلمين واستمرت الحياة بأبناء الطائفتين على هذا الحال إلى أن قامت الثور ة فحلت الأحزاب وأبقت على جماعة الإخوان المسلمين دعما شعبيا لها ثم عادت فحلتها لأسباب لا مجال الآن للخوض فيها واتجهت إلى الأقباط ليكونوا بمثابة بديل عن الإخوان وسمعنا المتحدثين بلسان الثورة يصكون تعبير الأقليات
- فيرددون تمثيل الأقليات وحقوق الأقليات إلى آخره وبات هذا اللفظ غريبا على مسامع الجميع مسلمين وأقباط لأنه بمثابة تحريض و تكريس للتفرقة بين أبناء الأمة وترتب على ذلك فيما بعد أن سمعنا أيضا تعبير عنصري الأمة وبعد أن كانت الأمة تتكون من عنصر واحد هو المواطنون المصريون صارت تتكون من عنصرين مسلمين وأقباط!
تقلصت المشاركة في الحياة العامة أو اختفت وبرز بعض رجال الدين المسيحي يحاولون التعبير عن ذواتهم (وهم يعتقدون أنهم يمثلون أبناء طائفتهم) حاملين بعض المطالب الفردية أو الطائفية والتي كان يحملها رجال السياسة وبعد أن كان نشاطهم يقتصر على المسائل الدينية داخل الكنائس تحولوا إلى العمل السياسي
وبدأنا نقرأ في الصحف أيضا تسمية شعب الكنيسة الذي يتحدث بإسمه رجال دين مسيحيين وكأن هذا الشعب يغاير في طبيعته وتوجهه الشعب المصري وربما يكون هذا التطور في الحوادث غير مقصود ويتوافر فيه حسن النية لكنه لا شك أنبت بذور الحساسية وباعد بين الأخوين وكرست بعض الممارسات من الجهات التنفيذية تلك الحساسية وإليكم مثال على ذلك..
هناك تسمية يعرفها المسئولون اسمها:
- الخط الهمايوني ومعنى هذه التسمية أنه لا تنشأ كنيسة أو يعاد بناؤها أو إصلاحها إلا بقرار من وزير الداخلية وهذا ليس من الإسلام في شئ إذ أنه من الثابت تاريخينا عند قدوم وفد نجران القبطي ودخولهم المسجد على سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم سمح لهم الرسول بإقامة صلاتهم في ركن من مسجده . وأوصي بأن للأقباط مالنا وعليهم ما علينا مساواة كاملة في الحقوق والواجبات ولا تفرقه بسبب الدين.
وللتحايل على الخط الهمايوني هذا فقد لجأ بعض الأقباط لإنشاء الكنائس خلسة فكان البعض يشرعون في البناء على أنه منزل ثم يجتموعون فيه للصلاة وبعد ذلك يركب الجرس وتعلن كنيسة أى يتبعون سياسة الأمة الواقع فيثور بعض المسلمين على ذلك والغريب ن الذي يدفع ثمن ما يحدث هم المسئولون المحليون
لأن وزارة الداخلية تتوارى خلفهم إذ يتصور المواطنون الأقباط أن من سلطة هؤلاء المسئولين اتخاذ القرار فإما التصريح بالبناء وإما عدم التصريح وعندما يتم إحالتهم للجهة المسئولة عن ذلك وهي وزارة الداخلية يتظاهر مسئولوها بالبراءة ولا تواجههم .. بل تعيد إحالتهم للمحليات فيصبوا عليها جام غضبهم! وللأسف الشديد فأى محافظ لا يستطيع أن يفصل في هذا الأمر فيتخذ قرارا أو رأيا قاطعا في إنشاء أو عدم إنشاء كنيسة.
إذن الفراغ السياسي ثم هؤلاء الذين يسيئون إلى الإسلام والمسيحية قبل أن يسيئوا إلى أشقائهم من الطرف الآخر السبب في تحول تلك السياسات إلى ما يشبه المرض . وعودة إلى الأحداث التي صورت على أنها بوادر حرب أهلية !
في سنتي 1992 و1993 تقريبا لم تخل صحيفة يومية من خبر أو مقال أو تحقيق عن الفتنة الطائفية ثم فجأة لا حس ولا خبر بعد انقضاء هذين العامين!! فهل تغير شيئا في المجتمع ؟ لم يتغير شئ ... المسلمون هم المسلمون والأقباط هم الأقباط الكل يحيا في سلام وحب ووئام إذن فهي مسائل وقتية طارئة تم تصويرها أكبر من حجمها بالتركيز على واقعة حدثت في بلدة اسمها عزبة ويصا وهي عزبة صغيرة كانت مملوكة فيما مضى لويصا باشا وتقع بجوار بلدة اسمها صنبو بمحافظة أسيوط وأكثر الملاك في هذه القرية أقباط.
البداية كانت نزاع على بيع وشراء بيت البيت يملكه مسيحي واتفق أن يبيعه لمسلم ولعائلة هذا المسلم ثأر وخصومة عن جيران المسيحي هؤلاء الجيران ذهبوا يطلبون هم الآخرين شراء البيت قائلين للمسيحي :" أتحضر خصومنا لتركبهم علينا ؟!" لكن المسيحي تمسك بكلمته التي أعطاها وأخبرهم أنه لا يستطيع النكوص فيها وأنه عازم على إتمام "البيعة" وتطور الأمر بين الجيران المسلمين والمسيحي فتهور الأخير وقتل واحدا من جيرانه المسلمين
وتحول الأمر إلى مسألة ثأر بين عائلتي المسلم والمسيحي .. جريمة الثأر هذه عميا يمعن القاتل فيها في الانتقام من الطرف الآخر بأن يحولها إلى مجزرة إن استطاع فيأخذ بثأره في أكبر عدد من رجال الطرف الآخر أو يختار رأس العائلة الأخرى أو زينة شبابها هكذا ... وبهذا المنطق الذي لا يقتصر على تلك الحالة انتقمت عائلة المسلم المقتول من عائلة المسيحي فقتلوا رؤوس العائلة القبطية إمعانا في الانتقام ..
وهاجت الدوائر الرسمي فذهب المفتي ووزير الأوقاف وعقدوا مؤتمرا وكتبت الجرائد عن الفتنة الطائفية المزعومة مع أن القاتل المسلم قد يكون شريكه قبطيا , يعني قاتل جرجس شريكه عبد المسيح ولم يحدث أن يحاول مسلم في غمرة ما حدث الاعتداء على مسيحي والعكس صحيح فهي مجرد وقائع فردية محدودة حتى لو كان عدد الضحايا فيها أكثر من واحد فلا يجوز إطلاقا ان نوصفها على أنها فتنة .
ولقد صدر قرار بتعييني محافظا لأسيوط سنة 1972 وقوبل هذا القرار بسعادة كبيرة جدا من أبناء المحافظة وخاصة من الإخوة الأقباط والدليل الترحيب الذي استقبلت به ليلة وصولي للمحافظة بعد صدور القرار حتى أن أجراس الكنائس دقت في أنحاء المحافظة كلها في وقت واحد وهذا أمر لا يحدث إلا عند استقبال ضيف عظيم
واعتقد أنني رددت الجميل لمحفظتي ولم أدخر جهدا فترة وجودي في بعض النواحي التنفيذية وقدمت لها من المنشآت والمشاريع ما لم يقدمه أحد من قبلي .. المهم لا أنكر أنه حدثت بعض الخلافات البسيطة بيني وبين الإخوة الأقباط حاول البعض النفخ فيها لتضخيمها ومن باب النكاية والطعن في شخصي صوروني على أنني عدو للوحدة الوطنية ومتعصب ضد الأقباط
وسبق أن أوضحت أن أحد الكتاب ذكر في مجلة روز اليوسف (القومية) أنني قلت في مؤتمر عام: أن أعداء الوطن ثلاثة: الشيوعيون والمسيحيون واليهود وسبق أن علقت على ما ذكره الكاتب فقلت إن من يقول هذا إما مخبول وإما مجنون ولم نسمع أن الدولة عينت مخبولا أو مجنونا محافظا لأحد أقاليمها وهذا الكاتب مسلم ويدعي على سالم ولقد قاضيت المجلة التي كتب فيها وحكم لى بألفين من الجنيهات تعويضا وتأيد الحكم استئنافيا .
كان مطران أسيوط الأنبا مخيائيل صديق ولا يزال وحدث أثناء توليتي محافظ خلاف بيني وبينه لسبب أعتقد أنه تافه جدا ففي أحد احتفالاتنا السنوية برؤية هلال رمضان وهو احتفال كنت أوافق علي إقامته من باب العادة رغم عدم اقتناعي بإسلاميته وتبدأ وقائع هذا الاحتفال باستعراض لقوات الشرطة في شوارع المدينة يتبعها موكب يمثل المهن المختلفة بينما ينتظر المحافظ وكبار المسئولين أمام المسجد الذي ينتهي عنده الموكب قرب صلاة المغرب فتقام الصلاة يتلوها بعض الكلمات التي تعلم الفتوى الشرعية بظهور هلال الشهر الكريم وبدء الصيام ثم يصلي الحضور العشاء وينصرف الجميع .
الموكب كان ينتهي عند مسجد اسمه مسجد ناصر يجاوز هذا المسجد بقليل مطرانية الأرثوذكس, وبالتالي لابد للموكب أن يمر أمام المطرانية وعادة ما يسير صبية وأطفال في مثل هذه المواكب ويبدو أن بعضهم قد ألقي بعض الحجارة على المطرانية وتسبب ذلك في كسر زجاج بعض الشبابيك أو الأبواب ..
وأنا جالس في المسجد أثناء الاحتفال جاء سكرتير عام المحافظة يهمس في أذني بما حدث واعتبرت أن المسألة تافهة لا تعدو أن تكون تصرف صبية غير مدركين لما يفعلوه وعلى الفور أمرت سكرتير عام المحافظة بأن يتولي بنفسه عملية الإصلاح فقلت له أن يحضر نجارا ليأخذ مقاسات الزجاج أولا ثم يتم شراؤه وتركيبه وانصرف السكرتير لينفذ ما أمرته به.
انتهي الاحتفال وعدت إلى مبني المحافظة لأجد تلغراف ينتظرني أرسله المطران أتذكر من بعض عباراته ".... المسلمين الغوغاء .. ونحن على استعداد لأن نموت شهداء في سبيل مسيحنا..." إلى آخره .. في الحقيقة تضايقت جدا وأرسلت من يبحث عن سكرتير عام المحافظة وكان اسمه عبد العزيز عيد ويحضره لى ... فلما جاء سألته :" هل ركبت الزجاج ؟" قال :" لقد رفعنا المقاسات وذهبت لأشتري الزجاج لكنهم أحضروني من عند البائع" فقلت له :" لا تشتري الزجاج ما دا الأمر بهذا الشكل "..
لم يكن هذا من باب العند أو المكابرة لكن الغضب كان على قدر العشم كما يقولون .. فعندنا توليت أر محافظة أسيوط كان هناك دير أقيم على الجبل بالقرب من قرية درنكه وهو دير العذراء يستأجر الإخوة المسيحيون غرفة للخلوة لم يكن هناك طريق ممهد للدير فأمرت بتمهيد الطريق إليه ورصفته ولم يكن يصله مياه الشرب ولا الكهرباء فأمرت بتوصيل المياه والكهرباء له ..
كذلك لاحظت أن المحليات تتحمل ثمن المياه والكهرباء بالنسبة للمساجد دون الكنائس فأصدرت قرارا أن تعامل الكنائس معاملة المساجد ولم أحمد أبدا شعورا بالعداء أو الكراهية لغير المسلمين بل كنت أزور الكنائس عشية الاحتفالات الدينية المسيحية وأخطب على منابرهم فأتمنى اليوم الذي أرى فيه المسلم والقبطي يطبقون تعاليم دينيهما لاعتقادي أن كل الأديان مهما اختلفت عقائدها فهي تتفق في القيم فليس هناك دين إلا ويحرم اللصوصية والرشوة والزنا والقتل .. ويحض على التعاليم السامية حتى الأديان الوضعية تفعل ذلك وبالنسبة لى كمسلم أفهم جيدا قول الله تعالي "لا إكراه في الدين"
الواقعة الثانية في خلافي مع الإخوة الأقباط حدثت أيضا في أسيوط وهي أنه جاءني مطران أبو تيج وكان رجلا مسنا يبلغ وقتها من العمر أكثر من سبعين عاما استقبلته في كتبي مرحبا به وسألته عما أستطيع أن أقدمه له فقال إن لديه شكوي فعدت لأسأله عن سببها فقال: عامل خط تنظيم في شارع عبد المنعم رياض (وهو الشارع الرئيسي بالمدينة ويقع فيه مجلس المدينة والمطرانية) وهذا الخط سوف يدخل في نطاقه سور المطرانية أى أنه سوف يزيل السور)
وبدت ناقش المطران وأنا أعرف جغرافية الشارع جيدا فقلت له: إن ما بين مبنى المطرانية والسور حوالي ثلثمائه أو أربعمائة متر أرض فضاء فإذا أخذنا جزء قليلا منها في سبيل توسعة الشارع فهي ليست مشكلة ونحن على استعداد لأن نعيد بناء ما سوف نهدمه من السور على نفقة المحافظة .
وزيادة في ضبط الأمور كنت قد استدعيت – في حضور المطران – مدير الشئون القانونية بالمحافظة واستفسرت منه عن تفاصيل الموضوع خاصة وأنه لم يكن قد مر وقت كف على كمحافظ حتى أعرف تلك التفاصيل وأخبرني مدير الشئون القانونية أن هناك قرارا جمهوريا قد صدر بنزع الملكية وتوسيع الشارع وأن المشروع قد تم إقراره في عهد المحافظ الذي سبقني ..
وهنا قلت للمطران إن الأمر ليس بيدى فأنا لا أملك تغيير القرار الجمهوري ولا أحد يملك ذلك إلا صدور قرارا جمهوري آخر ينسخه وهنا رد على المطران ردا عجيبا إذا قال وكان هذا قبل حرب سنة 1973. " على أية حال لما أولادنا يرجعوا من الجبهة يبقوا يعرفوا يأخدوا حقوقنا ".
ونزل الكلام على رأسي كالصاعقة فأمرت المطران أن يغادر مكتبي ولا يدخله بعد ذلك أبدا وفي اليوم التالي جاءني أعضاء المجلس المحلي ومنهم كثيرون أفاضل من الأقباط أعتز بصداقتهم مثل المرحوم أمين خلة المحامي ولواء شرطة غبريال وبعد أن جلسوا قالوا إنهم قادمون لتقديم اعتذارهم فيما صدر من المطران الذي وصفوه بأنه رجل مسن لا يكاد يدر ما يقوله فأجبتهم : أنه لم يصدر منهم ما يستوجب الاعتذار لكنني تمسكت بقراري في ألا يدخل المطران مكتبي طيلة وجودي محافظا لأسيوط..
أتكون مثل هذه الوقائع نوعا من أنواع الفتنة ؟ لا أعتقد هي لا تعدو أن تكون حساسيات في التعامل نشأت نتيجة تراكمات خاطئة قادر شعبنا المصري أن يتجاوزها بالحوار المتفتح والقلوب الصافية والعقليات المستنيرة حتى تعود الصفحة بيضاء تناسب دعوة المحبة التي دعاه المسيح وتعاليم الإخوة والسماحة التي حس عليها الإسلام ولو فهم كل ذى دين دينه فهما سليما صحيحا م كان للعداء أو الكراهية أو حتى الحساسية مكان في الحياة .
مسئول في منصب تنفيذي: تجربة شاقة
في أوائل سنة 1973 طلبني لمقابلته وذهبت إليه في القناطر الخيرية وكالعادة دار الحديث بيننا حول أشياء إلى أن بادرني بالسؤال عن رأيي في الدكتور حافظ غانم وأجبته أنه رجل طيب ونظيف أخبرني بعدها أنه سوف يعينه أمينا للإتحاد الاشتراكي بدلا من سيد مرعي ..
بالطبع لم يكن يطلبني الرئيس للمقابلة ليخبرني بذلك فقط ولم يكن هذا الخبر إلا مناورة ذكية منه ليخبرني بما هو أهم والذي كان قد أتخذ فيه قرار ولم يترك لى حرية الرفض .. قال : " ... وأنت سيتم تعيينك محافظا لأسيوط "
ولم تعقد المفاجأة لساني فسألت الرئيس : " كيف ؟ سيادتك تذكر أنك عرضت على أسيوط عندما كنت محافظا لأسوان ووقتها اعتذرت وشرحت أسباب اعتذاري وأقتنعت سيادتك بها " فقال : الأمر الآن مختلف أحنا دخلين حرب قريب وممدوح (يقصد ممدوح سالم)
أكد لى السيطرة على جميع أنحاء الجمهورية ما عدا أسيوط (وكانت معظم التنظيمات المعتادة نقلت لها أنشطتها مثل الشيوعيين وغيرهم) والحل هو أن يتولي محمد عثمان منصب محافظ أسيوط ... حاولت الاعتذار عن القبول لكن الرئيس قال بنبرة غضب :" بقولك حرب يا محمد .. مفيش نقاش بعد الحرب أوديك الحتة اللي أنت عايزها ".
واستأذنت في الانصراف وأنا في حالة شديدة من الضيق وعندما وصلت منزلي لاحظت زوجتى ذلك فسألتنى عن السبب وأخبرتها عنه وعن عزمي على الاستقالة بل شرعت بالفعل في كتابتها ولم أكد أفعل حتى جاءت زوجتي تخبرني أن الدكتور مصطفي كمال طلبة الذي تربطني به صداقة وعلاقة أسرية يريد محادثتي تليفونيا ..
كانت زوجتى قد أخبرته بالأمر ووصفت له الحالة النفسية السيئة التي كنت عليها فاستأذن الرجل في زيارتنا وعندما جاء وبعد قليل من الوقت شرع د. مصطفي في تهدئتي لأنه كان يعلم بأمر محاولات ممدوح سالم المتكررة للإيقاع بيني وبين الرئيس السادات فقد أوضح لى أن الاستقالة ستحقق غرضه هذه المرة وطلب مني أن أقبل القرار الذي اتخذه الرئيس السادات وبعد ذلك يكون ما يكون .. ولأنني أثق في طريقة تفكير د. مصطفي كمال طلبة فقد اقتنعت بمنطقة وصدر القرار بالفعل وتم تعييني محافظا لأسيوط.
لم تكن تلك هي المؤامرة الأولي لإبعادي عن الرئيس السادات ولم تكن الأخير في الكيد لشخصي فيبدو أن من يرتضي العمل السياسي من يضع رأسه في عش الدبابير ويكون لزاما عليه أن يتحمل آلام اللسعات التي تأتيه من اتجاهات مختلفة .
كنت صادقا مع الرئيس السادات لم أجمل أو أغلف الحقائق بغلاف الزيف ولم أجامل وبذلك صرت هدفا لهؤلاء الذين يريدون إبعادي لأنني مزعج لهم وكان عليهم أن يدبروا المكيدة ويلبسوها رداء المصلحة العامة وتكون مبرراتهم في ذلك قوية وهذا ما حدث بالفعل وجعل الرئيس السادات يتخذ قرارا بنقلي محافظا لأسيوط وهو الذي عرض على هذا المنصب في أعقاب 15 مايو سنة 1971 بدلا من كمال حميدة الذي كان يعتبره من أذناب مراكز القوى
ووقتها اعتذرت للرئيس وشرحت له أن أسيوط محافظتي وأستطيع أن أحركها كلها وأحشدها في الوقت الذي يتطلب منا ذلك أما أن أملك فيها قرارا تنفيذيا فهذا ما سيخلق الحساسيات بيني وبين أهلها الذين هم في نفس الوقت أهلي وأى قرار سوف أتخذه ويستفيد منه البعض سيتضرر منه آخرون والمتضرر لن يري إلا الضرر الذي وقع عليه بغض النظر عن الحق والباطل و المصلحة العامة وهو ما حدث بالفعل ..
أما ما أقتنع به الرئيس في ذلك الوقت وجعله يغير وجهة نظره في تعييني محافظا لأسيوط فهو وجود عمر عبد الآخر سكرتيرا عاما للمحافظة وقد أخبرت الرئيس أنه يستطيع أن يطمئن له تمام ويثق فيه على مسئوليتي .
حديث المكيدة طويل ووقائع المؤلمة كثيرة ففي أحد الأيام اتصل بي تليفونيا النائب العام الأستاذ ماهر حسن وطلب مقابلتي لم أكن أعرفه ولم ألتق به إلا هذه المرة ولا أعلم الآن إن كان حيا أو ميتا , وجاءني وكان ذلك عقب حادث محاولة اقتحام الكلية الفنية العسكرية الذي قام به بعض المتطرفون بزعامة صالح سرية ومعلوماتي عن هذا الحادث لم تزد عن الأخبار التي تنشرها الصحف في ذلك الوقت .
وفي لقائي به سألني النائب العام: "بصراحة كده أنت فيه حاجة بينك وبين وزارة الداخلية" .
قلت له: "ليس هناك إلا كل خير ... لماذا السؤال ؟"
قال: " غريبة !! في قضية صالح سرية بيحاولوا يبجيبوا رجلك !"
فقلت للرجل : " أنا لا أعرف هذا الشخص المسمي بصالح سرية ولا شكله إلا من الجرائد .. عموما كتر خيرك"
ما الذي دفع بالنائب العام أن يفعل ذلك ؟ من الذي دافع عن شخصي عنده وبصره بالمؤامرة غير الله سبحانه الذي يدافع عن الذين آمنو وهاكم واقعة آخر مشابهة ؟! أحكيها لكم: بعد أحداث 15 مايو 1971 وأنا محافظ لأسوان جاءني مفتش المباحث العامة يزورني في مكتبي ليلا ولما جلس قبالتي لاحظت توتره ولما سألته عن سبب زيارته أخرج ورقة تلغراف وضعها أمامي على المكتب .
كان التلغراف من أسيوط أرسله شخصان للرئيس السادات يقولان فيه: " قضيت على مراكز القوى فاتبع أذنابهم .... محمد عثمان إسماعيل ذنب من أذناب مراكز القوي " وبعد أن قرأت التلغراف أشرت عليه بقلمي "يسأل في ذلك الرئيس السادات "
وعلى الرغم من أن الرئيس لم يره وحوله أشرف مروان المسئول بالرئاسة إلى الداخلية التي حولته بدورها إلى المباحث العامة بأسوان وفيما بعد رويت قصة التلغراف على الرئيس السادات فانفجر ضاحكا وهو يقول:" الظاهر ده الحقيقة ولازم نطهرك " هل أزيدكم واقعة أخرى من تلك العينة ؟! ليكن.
وأنا أشغل منصب محافظ أسيوط قبض على شخص يعمل في جامعتها معيدا قيل إنه منضم لحزب التحرير الإسلامي الذي تشكل في الأساس بالأردن واسم هذا المعيد لا يبرح ذاكرتي بسبب غرابته وهو "فريده" ومن أسيوط نقلوا المتهم للتحقيق معه في مقر المباحث العامة بالقاهرة وبعد احتجازه عدم في نفس الجامعة وأخبره بتفاصيل التحقيقات التي أجريت معه في مقر المباحث العامة
وجاء الدكتور خالد إلى يقول: "أريد أن أخبرك بشئ غريب" قلت له "ماذا؟" قال : أثناء التحقيق مع فريده هذا أخذو يسألونه في المباحث : هل تعرف محمد عثمان إسماعيل فقال أعرف اسمه لأنه محافظ أسيوط فعادوا يسألونه : وما هي علاقتك به فأكد لهم أنه لا علاقة لكن مجرد معرفة الاسم عن طريق السماع !! وهكذا..
هذه الوقائع التي لم أكن أعرف مصدرها كنت أحسب أن حسن النية هو الذي يحركها لكنها أيضا تنقلنا إلى مسألة غاية في الخطورة وهي وجود مصادر للمعلومات تكون مضللة أحيانا توحي أو تعطي معلومة خطأ وتلك المعلومة قد تتسبب في وقوع الضرر بالبعض أو اتهام أبرياء ويرتبط حدوثها في الغالب بعمل وزارة الداخلية أو نظام العمل كما يسمونه
وفي هذا الصدد هناك واقعتان سوف أحكيهم للتدليل على ذلك الأولي: أنني كلفت من قبل الرئيس السادات بمراجعة أشخاص القيادات العلي بالاتحاد الاشتراكي المتمثلين في أمناء المحافظات وفي هذا لجأت لمصدر المعلومات الرسمي المتمثل في وزارة الداخلية ولم أكتف بذلك بل اعتمدت أيضا على استكمال المعلومات عن طريق المترددين على بحكم موقعي الوظيفي في أمانة التنظيم.
وجاءتني من وزارة الداخلية معلومة تتعلق بأمين محافظة الشرقية المرحوم شكرى أيوب (نقيب الزراعيين فيما بعد) تقول المعلومة إن هذا الشخص شقيق على أيوب والأخير كان وزيرا في حكومة السعديين في فترة ما قبل الثورة ولو صح الأمر وثبتت صلة القرابة لاعتبر الرجل من ضمن من مارسوا العمل السياسي قبل الثورة وبالتالي لابد من حرمانه من معاودة ذلك النشاط !!
ولكنني لم أكتف بمعلومة وزارة الداخلية ومن خلال اتصالاتي الشخصية تأكدت أن الأمر لا يعدو إلا أن يكون مجرد تشابه أسماء فراجعت الوزارة في معلوماتها أخبرها بما عندي فجاءني رد المسئولين :" نأسف للخطأ ".
والثانية: تتعلق باختيار وكيلي مجلس الشعب وهناك تقليد ما زال معمولا به حتى الآن وهو اختيار أحد الوكيلين من الفئات على أن يكون الآخر من العمال أو الفلاحين إعمالا لنصوص الدستور وكان الرئيس السادات قد طلب مني أن أرشح له شخصا من أعضاء المجلس يصلح أن يكون وكيلا عن العمال وفي كشف الأعضاء المنتخبين وجدت من هو حاصل على الدكتوراه في القانون اسمه السيد على السيد ورأيت أنه أصلح من يوكل عن العمال
وبدأت استكمل المعلومات عنه وفي هذا أيضا لجأت لوزارة الداخلية بشكل أساسي وإذا بتقرير وزارة الداخلية يصف من اخترته وأخبرت الرئيس عنه وعن مؤهلاته التي رشحته للمنضب بأنه ذنب من أذناب مركز القوي .. وأحسست أنني تسرعت في الاختيار فعدت لأتصل بالرئيس وأعتذر له موضحا أن تقرير وزارة الداخلية لم يكن قد وصلني وبالطبع أمر الرئيس (بناء على معلومة وزارة الداخلية) بالبحث عن بديل ..
وبمحض الصدفة جاءني من يزورني وهو المرحوم عبد اللطيف بلطية وزير العمل الأسبق وهو أكثر من يعرف قيادات العمال وعلى صلة مباشرة بهم وسألته أن يشاركني اختيار من يمثل العمال وكيلا لمجلس الشعب وإذ به يرشح السيد على بل يمدحه ويزكيه فرويت له ما حدث وما كن من مر معلومة وزارة الداخلية التي أفسدت كل شئ لكن الرجل اكتشف سريعا الخطأ وبدأ يشرح لى أنه قد التبس على المسئولين بوزارة الداخلية فاعتبروا اسم الرجل لأول لقبا للتضخيم وخلطوا بينه وبين على السيد وزير العمل في فترة ما قبل 15 مايو 1971 .
واقتنعت بكلام عبد اللطيف بلطية لكنة لم أتصرف على أساسه وعدت لأتصل بالوزير ممدوح سالم أخبره بما قاله عبد اللطيف بلطية وأستوضحه الأمر فوجدته يقول لى : "الدكتور على السيد أعرفه شخصا فهو بلدياتي من الإسكندرية وهو رجل كويس جدا " فسألته عن الشبب في المعلومة الخطأ التي وردت إلى ما عند مرءوسيه فقل معتذرا " معلش ربما ضغط الشغل هو الذي تسبب في المعلومة الخطأ هذه "
إن تلك الخبرة في التعامل مع وزارة الداخلية كمصدر للمعلومات أوضحت لى أن مصدر المعلومة قد يتدرج هابطا ليصبح المخبر هو مصدرها الأساسي والمخبر بدوره يكون قد حصل عليها من شخص ما قابله بالمصادفة وباب المصادفة هذا قد يوقع في طريق هذا المخبر شخص كاره أو محب وفي الحالتين لن تصل المعلومة إلى المخبر سليمة لكنها سوف تلون بشعور الذي قلها في الأساس إما ذما وإما مدحا وفي الحالة الأولي قد يظلم الشخص أما في الحالة الثانية فقد يتم تضليل جهات التحري !
ولذلك وأنا مستشار الرئيس لشئون مجلس الشعب كنت ابحث عن مصدر وثيق للمعلومات يساعدن في إنشاء ملف لكل نائب نستطيع على أساسه أن نقيمه التقييم الصحيح بناء على المعلومات الواردة فيه لذلك فكرت في الاستعانة بالرقابة الإدارية واتصلت بالفعل بمسئول في الرقابة أطلب منه بتكليف رسمي جمع معلومات عن أعضاء مجلسي الشعب الاتحاد الاشتراكي
ثم بعد ذلك أمناء الاتحاد بالمراكز وهكذا فسألني :" ما هي المدة التي ستمنحنا إياها لجمع تلك المعلومات " قلت له: "أقرب مدة ممكنة" فقل لن نستطيع أن نوفيك بمعلومات عن أكثر من مائتي شخص في السنة فقلت له " كيف ؟ بهذه الطريقة نحن نحتاج إلى سنين عديدة لاستكمال معلوماتنا عن الأشخاص الذين نريد جمع المعلومات عنهم "
فبدأ يشرح لى طريقة جمعهم للمعلومات وكيف أن عضو الرقابة يتحرى بنفسه عن الشخص المراد التحري عنه وإذا اكتشف ما يدينه فإنه يذهب إليه ويناقشه في ذلك التوضيح .. ووجدت أن هذا هو الأسلوب الأمثل لمعرفة الحقيقة ولذلك وحتى الآن فأنا أثق فيما يصدر عن الرقابة الإدارية من معلومات أو أخبار .
لقد آمنت دوم أن إتقان العمل فرض وليس نافلة وعبادة تقرب إلى الله تعالي عبادة قوامها الصدق والإتقان وإخلاص النية لله سبحانه فإذا ما امتلك صحب هذا العمل أو المسئول عنه ناصيتي القرار والتنفيذ فإن عظم المسئولية يزداد مخافة الظلم أو الجو وهذا ليس معناه أن يركن الموظف العام للكسل لكن عليه أن يعمل بكل ما أوتي من طاقة
وعينه دائما على خدمة الناس الذين أوكله الله بخدمتهم .... هي في كل الأحوال تجربة صعبة إن لم تكن شاقة أن يصدر لك قرار بتجد نفسك مسئولا عن مصالح وأرزاق وكيانات بل وأرواح بينما مغريات الانحراف تحيط بك من كل جانب يهيؤها لك شياطين الإنس والجن وما أكثرهم هذه الأيام.
ولقد خضت هذه التجربة وعانيت منها نفسيا وبدنيا وماديا وما اكتملت أركان التجربة إلا في المدة التي قضيتها محافظا لأسيوط والتي امتدت لقرابة العشر سنوات حيث أتاح لى طول الوقت نسبيا أن أخطط وأنفذ بعضا من أحلامي – وليس كلها – لمحافظتي وعاصمة الصعيد أسيوط.
كنت ألاحظ أن أسيوط لم يلحقها تغيير يذكر على مدى سنوات طويلة ولم تستفد من الحكم المحلي الذي أومن أنه لا تجني أية محافظة ثمرة التقدم إلا عن طريقه حيث ما زالت للمركزيات اليد الطولى بينما تدور الإدارات في فلك هذه المركزيات وتربط قرارها بها.
ومن شروط صلاح الحكم المحلي حسن اختيار المحافظين وأول الشروط التي يجب أن تتوافر في ضخ المحافظ: الخلق القويم الذي دستوره شرع الله يعرفه صحيح المعرفة وبطبقه تلك المعرفة وذلك التطبيق اللذان يكسبنه الثقة في نفسه والقدرة والإقدام على اتخاذ القرار فإذا أضيف إلى تلك الصفات الشخصية الخلاقة بمعني ألا يحصر المحافظ نفسه في الإمكانات الفقيرة التي تجود بها المحليات ولجأ لابتكار حلول ذاتية فقد اكتملت له عناصر النجاح .. مع ملاحظة أن اللجوء لاستخدم الحلول الذاتية لابد أن تسبقه أرضية من ثقة وحب المواطنين للتعاون مع المحافظ و المسئول عن رغبة حقيقية وليس عن خشية أو رهبة .
بمجرد توليتي المسئولية في محافظة أسيوط بدأت في حصر المشاكل التي يعاني منها أبناء المحافظة وبعد مناقشات طويلة مع الخبراء والمسئولين بدأت أضع تصورا للحلول في أطر برامج تنفيذية وجدول زمنى....
وعلى سبيل المثال لاحظت ارتفاع نسبة العاملين في الوحدات الخدمية مثل المدارس والوحدات الصحية بريف المحافظة واتضح لى أن السبب في ذلك هو عدم وجود مواصلات منتظمة تربط بين قري ومراكز المحافظة وكيف تنتظم المواصلات وأكثر الطرق ترابية وغير ممهدة ؟ كان الموظف الذي يقيم في المركز لكي يصل إلى عمله لابد أن يستأجر تاكسيا ودوام هذا الأمر لا يبقي للموظف من مرتبه شئ ويكاد يضيع كله على المواصلات .
وبدراسة الحلول وجدنا أن الحل الأمثل لهذه المشكلة هو أن يواكب إنشاء أية وحدة خدمية متمثلة في مساكن للعاملين فيها .. فتحتولا الوحدة الصحية على أماكن لإعاشة الأطباء والممرضين ويلاصق المصنع مساكن للعمال والمهندسين والإداريين وفي هذا انتظام للعمل وارتقاء به على الفور واكتفينا مرحليا بوضع خطة خمسية لرصف جميع طرق المحافظة ورتبنا مواعيد التنفيذ بحيث تكون الأولوية حسب لكثافة المرورية على الطريق ذلك لنبعد عن المجاملات والضغوط وأعلنت عن هذا البرنامج فعرف أهالي كل منطقة الموعد المحدد للبدء في رصف طريقهم وموعد الانتهاء منه .
كانت الميزانية المتوافرة للمحافظة لا تكفي لرصف طريق واحد! وكان لابد من البحث عن تمويل ذاتي فاقترحت على المواطنين أن يتبرع كل صاحب سيارة بمبلغ عشرة جنيهات وكل صاحب أطيان بمبلغ جنيه واحد عن كل فدان يملكه وتودع التبرعات في حساب جارى بأحد البنوك تحت مسمي صندوق رصف الطرق يضاف إليه ما يرد من المركزيات لهذا الغرض أيضا كان بنك الائتمان الزراعي يقوم بالتحصيل من أصحاب الأراضي وتتولي إدارة المرور التحصيل من أصحاب السيارات .
انتهيت من التنفيذ في المواعيد التي وضعناها في الخطة بعدها أصبحت محافظة أسيوط هي المحافظة الوحيدة بجمهورية مصر العربية التي ليس بها طريق ترابي ولما كانت طرق المواصلات هي الشرايين التي تخلق الحياة فقد ربطت بين القرى والمدن وجرت عليها سيارات الأجرة بانتظام ليلا ونهارا فساعدت على انتظام العاملين في الذهاب إلى أعمالهم حتى ولو بعدت عن محلات سكنهم بأميال كثيرة واستكملنا ذلك بإنشاء الطريق الدائري حول المحافظة .
لآن في تاريخ تدوين هذا الكلام نهاية عام 1996 ما زلن نسمع عن قرارات تصدر عن مجلس الوزراء يوصى فيها بإنارة القرى والتوابع ولقد تركت العمل التنفيذي قبل هذا التاريخ بم يقرب من أربعة عشر عاما أى سنة 1982 وقبل هذا التاريخ الذي تركت فيه العمل بما يقرب من خمس سنوات لم يكن هناك تجمع سكني بمحافظة أسيوط لم تصله الكهرباء سواء أكان عزبة صغيرة أو قرية .
أما بالنسبة للمشروعات السكنية فقد أنشأنا أحياء كاملة حي السادات وحي نزلة عبد الله وحي مساكن بنك الإسكان وحي السجن ومساكن المبرة ومساكن الأوقاف . وفي أحد الأيام جاءتني – في مبنى المحافظة – سيدة فقيرة وقدمت لى الشكر على الشقة التي حصلت عليها من أحد مشروعات إسكان المحافظة ... لكنها أردفت تشكو من عظم المبلغ الذي تسدد على أقشط يبلغ القسط منها ستة عشر جنيها شهريا ..وقالت : " من أين آتي بهذا المبلغ وأنا بائعة فجل ".
كانت المرأة صادقة في شكواها التي أرقتني ليلة كاملة أستعيد فيها نبرات صوتها وأفكر في حالها وحل أمثالها وأسأل نفسي يا ترى في رقبة من تتعلق مسئولية هؤلاء ؟ ولم يطلع على الصباح حتى كنت قد وجدت حلا وعزمت على الشروع في تنفيذه : وبمعاونة مستشاريي اخترت قطعة أرض خارج مدينة أسيوط بجوار المجزر الآلي كنا قد أشأناه حديثا وقررنا إنشاء حى سكنى كامل على هذه الأرض أطلقنا عليه اسم حى التكافل
وأمرت بفتح حساب جارى في أحد البنوك تحت هذا المسمي وبقي أن نبحث عن تمويل ذاتي لهذا المشروع ورأيت أنه لزما على القادر أن يساعد المحتاج بمبادرة شخصية أو نتدخل نحن لنأخذ من هذا القادر حق المحتاج في الحياة وأعتقد أن هذا هو معني التكافل الاجتماعي وبعد تفكير وجدت أن من يستطيع ن يتملك شقة في المساكن الفاخرة التي أنشأتها المحافظة يستطيع أيضا أن يدفع مبلغ ألف جنيه فوق ثمن الشقة على سبيل التبرع لإنشاء مسكن التكافل للفقير أو المعدم ومن يستطيع أن يمتلك محلا تجاريا يستطيع أيضا ن يتبرع بمبلغ خمسة آلاف جنيه أيضا لنفس الغرض السابق .
كانت خطتى أن تؤجر مساكن التكافل هذه لمن يستحقونها – بالفعل – لقاء جنيه واحد شهريا وبدأنا التنفيذ فكلفت شركة المقاولون العرب بدراسة إقامة هذا الحي بأقل التكاليف الممكنة حتى يتسني لنا إقامة المشروع ونفذت الشركة مشكورة الدراسة التي طلبتها منها لكن الزمن لم يمهلني رؤية الحلم قائم على أرض الحقيقة
وجاء بعدي من المحافظين من ألغي المشروع وضم التبرعات التي جمعت له إلى صندوق الخدمة بالمحافظة ليصرف منها على إعلانات الصحف التي ترصد زياراته وتحركاته ويشتري بها المشاعر الزائفة والشهرة الكاذبة عند الناس ! والمدهش حقا أن هذا المحافظ الذي ألغي مثل تلك المشروعات – وبعضها كان قد دخل حيز التنفيذ – قام بإعادة افتتاح مشروعات كانت قائمة بالفعل وسبق افتتاحها من سنوات مضت
وكل ما فعله أن أمر باقتلاع اللوحات الرخامية التي سجل عليها تاريخ وصاحب المشروع الحقيقي ليستبدله ببيانات كاذبة تحمل اسمه (هل تلك هي العادة الفرعونية التي ورثناها عن الأجداد ؟) والحديث الشريف يقول:" إذا لم تستح فاصنع ما شئت " ينطبق بالتأكيد على صاحبنا هذا فلم يكد يمر على تعيينه ثلاثة أشهر محافظا لأسيوط حتى قام بدعوة مسئولين من العاصمة لافتتاح مشروعاته التي أنجزها في المحافظ في تلك المدة وكأنه جاء ومعه عصا سحرية يغبر بها وجه الحياة بلمسة واحدة!!
أقمنا في أسيوط كلية البنات الإسلامية وشرعنا في إقامة الجامعة الأزهرية التي تضم سبع عشرة كلية افتتحت في مرحلتها الأولي خمس كليات وكان ذلك في السنة التالية لتركي العمل في المحافظة وللأسف الشديد لم يكلف أحد من المسئولين نفسه عناء تلبية دعوتي لحضور افتتح المشروع الذي عانيت وتحملت في سبيل إنجازه كثيرا من المشقة .
أنشأنا العديد من المعاهد الأزهرية في القرى لتكون روافد تدعم الجامعة الأزهرية كانت المحافظة تساهم بنصف التكاليف ويتولي الأهالي مع النصف الآخر ولا يفوتني هنا أن أتوجه بالشكر للأخ عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء آنذاك وكذلك العارف بالله المرحوم الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر
فقد وقف ولي الله هذا بجانبي يدعمني ماديا ومعنويا ما استطاع لنشر ذلك النوع من التعليم الذي يخدم بناء الطبقة الدني والمتوسطة وكان استمرارهم في التعليم يتوقف عند المرحلة الثانوية الأزهرية حيث لا يستطيعون موصلة المشوار في جامعة الأزهر بالقاهرة لعظم تكاليف المعيشة بالنسبة لأولياء أمورهم ولذلك كان القرار بإنشاء الجامعة الأزهرية والشروع في تنفيذها رغم الصعوبات العديدة التي حالت دون ذلك.
كان يحدوني لأمل أن أعيد تخطيط المحفظة معماريا وعلى سبيل المثال فقد كان مبني مديرية الأمن يتكون من دور واحد انتهي عمره الافتراضي وأصبح آيلا للسقوط مع أنه يقع على النيل مباشرة في أجمل بقعة وهذا ما جعلني أفكر في نقل أعمال مديرية لأمن من هذا البني إلى مبني المحافظة على أن تنقل المحافظة إلى مبني جديد كان يعد لها: واستغلال مساحة مبني مديرية الأمن التي تبلغ حوالي الفدانين في بناء مساكن للمواطنين .
وافتتح مبني المحافظة الجديد – بالفعل – بعد خروجي من الخدمة أيضا لكن فشل التخطيط كله بعد ن منحوا مبنى المحافظة القديم للمجلس المحلي وأمانة الحزب الوطني ! على الرغم من وجود مقر آخر للحزب بالمحافظة !
أيضا من ضمن ما خططن له لكن لم يمهلنا الوقت لتنفيذه مشروع يربط مراكز شرق النيل بمدينة أسيوط وكان ذلك يتم عن طريق قناطر أسيوط وهذه القناطر كانت قد أنشئت قديما ويبلغ عرضها حوالي الأمتار الستة وهو ما يقرب من عرض الشارع الضيق أو الحارة ومع زيادة تعداد السكان فقد ضاق هذا الشريان ولم يعد يكفي للقيم بهذه المهمة ففكرت في إنشاء كوبرى قبلي القناطر أمام مديري الأمن الحالية يكون مدخله أمام بلدة اسمها الواسطى على جسر الوسطي مركز الفتح حاليا والحمد لله هذا المشروع ينفذ الآن وفي سبيله للاكتمال .
كان من ضمن أمنياتي أيضا أن أعيد بناء حى اسمه الولودية وهو في وضعه الحالي يكاد يكون قرية قديمة في مبانيه رغم أنه يقع في أحسن موقع بالمدينة وهو المثلث الواقع بين النيل والترعة الإبراهيمية لكن عملية الهدم كان لابد أن يواكبها توفير مساكن بديلة لمن سوف تهدم مساكنهم وبالفعل اتفقت مع بنك الإسكان أن يتولي إنشاء بعض من تلك المساكن البديلة ولما كان المشروع يحتاج إلى سنوات طويلة لإنجازه لم يسعفني الوقت لذلك .
ذكرت في البداية المرونة والاعتماد على الحلول الذاتية تلك الحلول التي لا تعني فقط جمع التبرعات لكنها تشمل استخدام كافة الإمكانات والمعطيات التي توفرها الظروف والبيئة وإعادة توفيقها وتبديلها وصولا لمصلحة أكبر وعلى سبيل المثال فقد وجدت أثناء خدمتي أن مدرسة الصنائع الوحيدة بالمحافظة قد وصلت مبانيها إلى حال مزرية وضاقت على طلابها وهي تتكون من طابقين لا يقبلا التعلية وأيضا التوسعة الأفقية غير ممكنة . فكرنا في إنشاء مدرسة بديلة لكن وزير التعليم آنذاك د. مصطفي كمال حلمي اعتذر بعدم توافر ميزانية لذلك !
عدت لأفكر بشكل آخر: إن المدرسة تقع في وسط المدينة وقريبة لمحطة السكة الحديد على ماسحة فدانين فلماذا لا نهدم مبني المدرسة ونبيع أرضها فضاء ونستفيد من العائد في بناء مدرسة جديدة على أرض أوسع وبإمكانات تفيد العملية التعليمية على أن يكون ذلك على أرض أرخص نسبيا من أرض المدرسة الأولي ...
وبدأنا التنفيذ فعرضنا أرض المدرسة للبيع بعد هدم المبني عن طريق المزايدة وحصلنا على سعر يعتبر في ذلك الوقت عاليا وهو مائة وعشرين جنيها للمتر وطورنا نظام التعليم فيها ليتحول إلى نظام الخمس سنوات, وألزمت مشترى أرض المدرسة القديمة وهي شركة الشرق للتأمين ببناء ثلاثة أبراج سكنية وتم تنفيذ هذا الشرط التعاقدي وأنا ما زالت محافظ لأسيوط .
وفي شارع من أهم شوارع قلب المدينة في أسيوط وهو شارع الخزان كان يوجد جراج لشركة أتوبيس الوجه القبلي هذا الجراج يسبب اختناقا وازدحما للمرور ويشوه وجه البيئة بمخلفات السيارات من شحوم وزيوت وخلافه اتصلت برئيس مجلس إدارة الشركة صاحبة الجراج وطلبت منه نقل الجراج إلى مكان آخر خارج المدينة
ودخلنا في مفاوضات وأخذ ورد بعد مدة زمنية وافق بعدها رئيس مجلس الإدارة على إنفاق حصل بمقتضاه للشركة على عشرة أفدنة خارج المدينة في منطقة منقباد بديلا عن الأفدنة الثلاثة التي تركها لنقوم ببنائها عمارات سكنية للأفراد.
هكذا كنت أفكر وهكذا كنت أتخذ قراراتي بعيدا عن انتظار ما تجود به ميزانيات العاصمة التي لا تسمن ولا تغن من جوع ولولا تلك المرونة ما أنجز نصف بل ربع ما تم إنجازه من مشاريع فهل سلمنا من الحاقدين ؟! وهل خلا زمن منهم ؟! في مشروع مدرسة الصنائع ظهر هؤلاء الذين يدعمهم بعض المسئولين في العاصمة يدبجون الشكاوى التي يجيدونها فيتهموني بهدم المدرسة وشراء أرضها بسم أولادي !
وإيمانا بقول الله تعالي :" إن الله يدافع عن الذين آمنوا" فقد عرضنا أرض المدرسة في مزايدة رست على من قدم أكبر سعر وكانت شركة قطاع عام كما ذكرت وقد أزمتها أيضا ببناء مشروع يعود على الناس بالنفع . وفي المشروع الثاني أتهموني أيضا (شكاويهم دائم جاهزة) باستخلاص أرض شركة أتوبيس الوجه القبلي لأولادي ! مع أن الأرض ظلت أرض فضاء ملك للمحافظة بعد أن خرجت من الخدمة إلى أن باعتها المحافظة أخيرا لشركة من شركات بنوك التنمية بسعر اللتر ألف وسبعمائة جنيه .
ولأنني رجل أعرف حقوق الله ولا أتعداها فقد أغضب هذا اثنين من (نواب الشعب) تعارضت مصالحهما مع دستوري في التعامل وكان لابد أن نتصادم في الطريق التي يريدونها عوجا ولم تقتصر شكايتهما على موضوعات أرض مدرسة الصنائع أو أرض شركة أتوبيس الوجه القبلي لكن اتهموني بأنني اشتريت فرع شركة إدفينا للأغذية المحفوظة لأولادي أيضا !!
ولما بدأنا في إنشاء جامعة أسيوط الأزهرية أشاعوا أن المرحوم الملك فيصل دفع لى ثلاثمائة مليون دولار أخذتها لنفسي وترددت الإشاعة هنا في مصر ووصلت إلى المخابرات ومجلس الوزراء ووزير الحكم المحلي وسعوا إلى الصحافة وراهنو على من لهم خصومة عقائدية معي " ففبرك " جورنال الأهالي موضوعا ضدي يقول فيه:إن محمد عثمان إسماعيل يزرع المخدرات في أسيوط وأخوة أنشأ سجنا يحبس فيه الناس !!
وبعد نشر تلك المهاترات جاءني الأستاذ سيد المحمود المحامي يستأذني في رفع دعوى على الجريدة المسئولين عنها وحركت الدعوى بالفعل وحصل فيها الأستاذ سيد المحمود على حكم بحبس المحرر كاتب الموضوع ستة أشهر وغرامة مالية قيمتها خمسمائة جنيه على كل من خالد محيي الدين وحسين عبد الرازق , وقبل نظر الاستئناف الذي تقدم به المدعي عليهم كنت أسير في الشارع ورأيت من يتقدم نحوي ويسألني: أنت فلان ؟
قلت له: نعم فقدم لى نفسه على أنه المحرر الذي نشر الموضوع الصحفي في جريدة الأهالي بدأ بعدها يقدم اعتذاره ويصور نفسه على أنه وقع ضحية لعضوي مجلس الشعب اللذين ذهبا إليه في الجريدة يشتكيان فسألته: وهل من عمل الصحافة أن تقابل أى شخص وتأخذ كلامه على أنه حقائق مسلم بها دون التحقيق منها فعاد يطلب تسوية الأمر فأتنازل عن القضية مقابل أن يقدموا لى اعتذارا منشورا في الجريدة فرفضت وأنهيت المحادثة بأن قلت له : "أنا يهمني جدا أن أحبسكم". في الاستئناف عدل الحكم فألغي الحبس واستبدل بغرامات مالية .
ويبدو أن خصمي اللدودين قد أرسلا بعضا من شكاياتهم المسمومة للمرحوم الأستاذ جلال الحمامصي وهو رجل أحترم قلمه كثيرا ولم يغير من احترامي لذلك القلم أنه خدع فيما وصل إليه ونشره في عموده بجريدة الأخبار على طريقة جاءني من يقول كذا وكذا ..
كنت لا أقيم للمسألة وزنا وأعتبرها من قبيل الكلام الفارغ إلى أن زارني في مكتبي بالمحافظة وكيل المباحث العامة بأسيوط وكان رجلا طيبا جاء وجلس ثم انصرف دون ن يزيد كلامه على عبارات المجاملة وتكررت الزيارة في اليوم التالي ففهمت أن عنده ما يريد أن يقوله ويمنعه خجله لذلك سألته مباشرة : " وهل تريد شيئا يا أخ عبد السلام أو هل من خدمة أقدمها لك؟" فطلب مني أن يزورني في الاستراحة وفي هذه الزيارة تكلم فأخبرني أنه جاءه خطاب من المباحث العامة بالقاهرة يكلفونه فيه ببحث شكاوى النائبين التي تتعلق بإشاعات التربح السابق ذكرها
وأضاف وكيل المباحث أنه رد على الخطاب بما يفيد أن إدارة المباحث بأسيوط سبق لها أن بحثت هذه الشكاوى أكثر من مرة وثبت كيديتها وكذبها وأنه أورد أيضا أرقام وتواريخ هذه الردود والمكاتبات الرسمية ففوجئ بأن مدير المبحث العامة بالقاهرة يتصل به تليفونيا ويأمره بلهجة غاضبة أن يعيد البحث مرة أخرى !!
وكان ردي على ما حاكاه وكيل المباحث :" يا أخ عبد السلام لماذا تقول لى هذا الكلام نفذ ما أمرك به رؤساؤك وليس لدى ما أقوله لك غير هذا " وبعد انصراف الضابط فكرت بالأمر فلو لم يكن ضابطا أمينا كان من الممكن أن يدبج أى كلام يرضي به رؤسائه فيصور الأمر على غير حقيقته فلماذا أذن السكوت وإلى متي أضع أصبعي تحت ضرس أحد يقضمه متى يشاء ؟
في اليوم التالي سافرت إلى القاهرة وأنا أحمل استقالتي مكتوبة في جيبي واتجهت إلى مقابلة رئيس الوزراء الأخ عبد العزيز حجازي فأخرجت له الاستقالة المسببة التي شرحت فيها الملابسات التي دفعتني لذلك فذكرت أمر الشكاوي الكيدية والاتصال بالصحافة للتشهير بشخصي والإساءة إلى آخره وطلبت إما التحقيق في الأمر كله بمعرفة جهة قضائية أو قبول الاستقالة .
كان رد الدكتور عبد العزيز حجازي بعد أن اطلع على موضوع الاستقالة هو أن تلك الشكاوي تم فحصها أكثر من مرة وثبت كيديتها وكذبها وطلب مني أن أهمل الأمر ولا ألقي له بالا لكني بموقفي وهنا رفع د. عبد العزيز حجازي سامعة التليفون وطلب من د. يحي الجمل وزير شئون مجلس الوزراء ملفي
وبعد قليل جاء الرجل بنفسه وهو يحمل الملف فتناوله منه د. عبد العزيز حجازى وقدمه لى طالبا مني أن أفحصه في الملف وجدت صورا من الشكاوى وتقارير تفيد أنه تم بحثها وتبين من البحث أنها أكاذيب ملفقة وإشادة بشخصي وأمانتي ونزاهتي إلى آخره وبعد أن انتهيت سألني رئيس الوزارة : هل استرحت ؟!
قلت له :" لا لم أسترح ولابد من تحويل الأمر للنائب العام ليتم التحقيق فيه " فعاد الرجل يحاول أن يثنيني عن عزمي وهو لا يعرف ما أفكر فيه ولما يأس في محاولاته قال :" أذهب للرئيس وطلب منه ذلك بنفسك " فرددت عليه :" لن أفعل ذلك وأنا ممتنع عن الذهاب إلى المحافظة وموجود في بيتي إلى ن تحيلوا الموضوع للنائب العام وإذا أردت أن تخبر الرئيس فلتقل له "
بعد مرور يومين على تلك المحادثة اتصل بي د . عبد العزيز حجازي في منزلي وأخبرني أنه عرض الأمر على الرئيس السادات وكان جوابه : "طالما هو يريد ذلك فليحول الأمر للنائب العام " وتم ذلك.
وللأسف الشديد وجدت في مجلة روز اليوسف في عدد تال على تقديم طلبي التحقيق بمعرفة النائب العام خبرا عنوانه (إحالة محافظ أسيوط للتحقيق أمام النائب العام) وتم تصوير الأمر على أنني متهم وليس العكس !! وتم التحقيق بمعرفة أحد المحامين العموميين وطبعا كانت النتيجة معروفة مسبقا لكن ما أردته من تلك التحقيقات وهو ما لم أقله للدكتور عبد العزيز حجازي عندما تمسكت بإجراء التحقيق بمعرفة النائب العام هو حصولي على صك يثبت براءتي أمام هؤلاء المغرضين وغيرهم مما تسول لهم أنفسهم اتهام الأبرياء
في سنة 1982 جاءت وزارة د. فؤاد محيي الدين في أول تعديل وزاري أجراه الرئيس حسني مبارك وكان آخر اجتماع حضرته هو اجتمع موسع للوزراء والمحافظين برئاسة رئيس الوزراء وبعد ن انتهي المجتمعون من مناقشة جدول الأعمال المقرر بدأ د. فؤاد كلامه قائلا : " الكلام الذي سأقوله لكم الآن قلته من قبل لزملائي أعضاء مجلس الوزراء يا أخوانا إحنا عارفين ظروف الحياة صعبة والمرتبات ضعيفة (كان الوزير في ذلك الوقت يقبض 264 جنيها بالإضافة إلى بدل تمثيل) ومع ذلك أقول لأخوانا اللي بيأخذوا فلوس من أنشطة محلية أو مركزية بلا يخدوها وأنا بناقش موضوع ضعف المرتبات مع سيادة الرئيس وهنشوف له حل ".
ضايقني الكلام فرفعت يدى طالبا الكلمة فقال لى د. فؤد: "أيوه يا أخ محمد" فقلت موجها الكلام له:"أنا باعترض على كلامك شكلا وموضوعا وبأرفضه" فقال لى: "وانت مالك هل وجهت لك كلاما ؟!" قلت له :"أنا باعتبار الكلام يمسني لأنه الكلام معمم وموجه للمحافظين وحيث إنني واحد منهم أرفضه حتى لو قبلوه هم ولا أسمح لك أو لغيرك أن يمس كرامتي بشكل مباشر و غير مباشر "
فعاد يقول :" يا سيدي أنا لم أكلمك وهذه مجرد كلمة أوجهها فقط " فاستطردت أقول: وأنا أعتبر هذا مساس وأطلب أن أسجل ذلك في محضر الاجتماع أنا لم أكن موظفا وعملت وزيرا و محافظا وحتى هذه اللحظة مرتبي يذهب للبنك ولم أتقاضى أى مبلغ من المال لا من أنشطة محلية ولا مركزية لكني أعرف أن هناك محافظين بيأخذوا مثل هذه الفلوس وأنت بالتأكيد تعرفهم فكان أولي ألا تعمم الكلام لكن توجهه لهم بالاسم أو تلتقي بهم في مكتبك منعا للحرج وتقول لهم هذا الكلام غلط .
فرد علي: " أنا لا أعرف من يأخذون هذه الفلوس حتى أقابلهم "
فقلت له: "وهذا ألعن فلا يصح أن يقول رئيس الوزراء في مجلس الوزراء كلاما لا يدريه أو يعلمه ويمس كرامة الناس"
ودار الحديث على هذا المنوال ولما ازدادت حدة كلامي أنهي د. فؤاد الجلسة وخرجنا جميعا ليندفع نحوى بعض المحفظين يهنئونني ويشكرونني أنني دفعت عن كرامتهم ... إن الحديث عن نقود يتقاضاها المحافظون يذكرني بما كان يحدث بعد جني محصول القطن كانت وزارة الزراعة ترسل للمحافظين شيكين قيمة كل منهما ألف جنيه واحد باسم المحافظ شخصي والثاني بإسمه وبصفته الوظيفية الأول يصرفه المحافظ لنفسه والثاني يوزعه مكافآت على الذين عملوا في مكافحة دودة القطن وفي الغالب كان سكرتير عام المحافظة يقدم كشفا بهذه المكافآت يعتمده المحافظ.
اتصل بي الصديق الأخ الفاضل محمد لبيب وكان وقتها معينا حديثا محافظا لبني سويف وسألني مداعبا: "يا نقيب المحافظين وصلني شيكين من وزارة الزراعة ماذا أفعل بخصوصهما ؟"
قلت له: " المحافظون يوزعون أحدهم ويستخلصون الثاني لأنفسهم "
فعاد يقول: " أنا لا أسألك عما يفعله المحافظون ولكن أسألك عما تفعله أنت "
قلت له: " الشيك العام أوزعه على من يستحق المكافأة والشيك الخاص بي أرده للجهة المرسل منها مصحوبا بخطاب شكر " وهذا بالفعل ما كنت أفعله .
وبعد مرور أشهر قليلة على هذا الحديث خرج محمد لبيب في أول حركة للمحافظين فوجدته يتصل بي ويمازحني :" يا فقري ألم أجد أحدا أستشيره غيرك لو الألف جنيه دول أخدتهم مش كانوا نفعوني ؟!"
وفيا بعد عرفت أن الدكتور فؤاد محيي الدين توصل لحل في مسألة ضعف المرتبات قبل أن تعلن الحركة التي خرجت فيها اتصل بي النبوي إسماعيل وزير الحكم المحلي وقال لى : "يا أخ محمد الحركة سوف تظهر غدا وأنت لست فيها وأنا أبلغك بذلك حتى تستطيع أن تغادر المحافظة أو تسافر "
وضحكت وأنا أقول له: " وهل أنا لص وسوف أهرب بما سرقته ؟ أسيوط هذه بلدي وناسي وشكرا لك على هذا الخبر الجميل ". وما أود هنا أن أؤكد عليه أنني سعيت قبل هذا بعام على الأقل لترك الوظيفة حدث ذلك في حياة الرئيس نور السادات نفسه وكنت لا أستطيع أن أواجهه بذلك فطلبت من المهندس عثمان أحمد عثمان أن يتوسط لى في ذلك وكان رده أن الرئيس أعصابه مشدودة (عقب اعتقالات سبتمبر 1981) وأضاف عثمان " أنا لا أستطيع أن أفاتحه في ذلك الآن فاصبر قليلا ".
كنت بالفعل قد تعبت في ذلك الحين من جراء الوظيفة ماديا ومعنويا وبعد وفاة المرحوم الرئيس السادات وتولي الرئيس حسني مبارك ذهبت إلى رئيس المخابرات الأخ فؤاد نصار (كان ذلك بعد أيام من حادث مقتل الرئيس السادات) وأنا أعلم أن فؤاد نصار على علاقة قوية بالرئيس مبارك أو أتصور ذلك وأستشريه في أمر استقالتي
وفعلت ذلك حتى يتم توصيل المسألة للقيادة السياسية بصورة سليمة ولا يترتب على ذلك (شوشرة) من أى نوع فقال لى فؤاد نصار بالنص : " يا محمد معني أن تجئ الآن وتقول أستقيل وقد تعاونت طوال فترة الرئيس السادات أنك لا تقبل التعاون مع الرئيس حسني مبارك اصبر على نفسك قليلا وبعدين نبقي نتكلم في هذا الموضوع "
ولذلك فعندما اتصل بي وزير الحكم المحلي وأخبرني بعدم وجود اسمي في حركة المحافظين الجديدة نزل الخبر على قلبي بردا وسلاما ورتبت أمورى على الاستقرار ومواصلة نشاطي في المحاماة من القاهرة وكانت لفتة جميلة من قيادات المحافظة والأهالي أن تنظم لى حفل توديع تاريخي فوجئت فيه بالآلاف تنتظرني على محطة القطار حتى أن مدير الأمن في ذلك لوقت وهو رجل فاضل اسمه محمود عيد مر رجال الشرطة بإغلاق طرق القري والنجوع
حتى يقلل من تدفق الناس على المحطة ومع ذلك كان عدد الحاضرين لا يقل عن مائة ألف وهذا مسجل في صور وعلى شريط فيديو وفي حفل التوديع تجمع كل قيادات المحافظة وعلى رأسهم المحافظ الذي خلفني اللواء زكي بدر وتباري الحاضرون في إلقاء الكلمات التي تعبر عن الحب والوفاء ..
لكن مفسدي الفرح أصحاب النفوس السوداء دائما موجودون فقد اتصل د. فؤاد محي الدين بالأستاذ سليمان عضو مجلس الشعب ورئيس المجموعة الإقليمية لنواب المجلس في ذلك الحين يقول له :" غيه اللي بتهببوه ده ؟! هو محمد عثمان ده رئيس دولة ما ياما محافظين بتدخل وتخرج ولا أحد يشعر بيها"
ولم يزد جواب مصطفي سليمان عن عبارة "الناس هي اللي عايزة كده" وكان حريا برئيس الوزراء أن يفرح بأن الناس تودع موظفا تنفيذيا بهذا الحب وهذه الحفاوة وقد تعرى من سلطته ومنصبه ولم يعد له إلا عمله وإنجازه وفي هذا نجاح للدولة التي يمثلها هذا الموظف قبل أن يكون نجاحا له هو شخصيا ..
هل انتهي الأمر عند هذا الحد ؟ لم ينته حيث لإرجاء في أن يغسل الحاقد قلبه ببرد المحبة أو النسيان .. وهواة البحث عن الإضرار بالآخرين دائما سادرون في غيهم وضلالهم لقد استمر عضوا مجلس الشعب في تقديم شكاواهم كأنهم في معركة – لا يريدون الوصول فيها إلى هدنة ويأبون إلا الإبادة الكاملة للطرف الآخر وعلى الرغم من أن هذه الشكاوى قد حقق فيها وأكثر من مرة بمعرفة المباحث والنائب العام وغيرهما من جهات التحري والتحقيق
ولم يثبت صحة أى منها فاتجهوا هذه المرة إلى المدعي الاشتراكي وكان وزير الحكم المحلي قد فحصها وثبت له كذبها وتلفيقها لكنها وصلت للمدعي الاشتراكي فأردت أن أقدم له نفسي ليحقق معي أو ليسألني فيما يريد لكن أحمد الخواجة نقيب المحامين خطأ رأيي هذا عندما سألني :" هل استدعاك أحد" أجبته بالنفي فقال :" كأن شيئا لم يكن ولا تأبه لأى كلام يأتيك من غير مصدره في هذا الصدد".
فطلبت من المستشار فهمي باظة أن يتابع الأمر عند المدعي العام الاشتراكي (كان وقتها عبد القادر أحمد علي) وعرف فهمي باظه من المستشار الذي يقوم بالتحقيق في الشكاوى وبجمع التحريات ن الموضوع كله عبارة عن كلام فاضي (حسب تعبير المحقق) وأن مستشار التحقيق هذا أرسل لمكتب المدعي العام الاشتراكي مذكرة يوصي فيها بحفظ القضية كلها
وانتظرت هذه لكن المذكرة طال غيابها في مكتب المدعي الاشتراكي ولم تخرج منه أى إنها لم تعتمد وعرفنا عن طريق المستشار الذي يقوم بالتحقيق في القضية أن رئيس الوزراء د. فؤاد محيي الدين طلب أن يظل الموضوع مفتوحا !! وسألت نفسي هل ربط د. فؤاد محيي الدين ذلك الموضوع بخلافي معه في اجتماع المحافظين ؟
أحسست أن هناك سيفا مسلطا على رقبتي وللحقيقة فكرت في ذلك الوقت أن أترك مصر وأهاجر وأدرت حوار مع نفسي : إلى أين تذهب ؟
لكن هناك شيئا يعد لك ولا تعرفه ..
لكن لو سافرت وتركت مصر فقد هيأت للأعداء فرصة تتيح لهم فيها تصوير الأمر على أنه هروب !!".. وغالبا سوف يتم ربط هذا بسرقات لم تحدث وإشاعات تتوالد من الباطل و..."
إذن فلأبقي هنا في مصر وليفعلوا ما يفعلون على الأقل هنا سوف أنال شرف المواجهة
وانتهى الموضوع ... وبقيت كلمات أريد أن أهمس بها في أذن الموظفين التنفيذيين (الشرفاء) لا تأهبوا لتلك النماذج الحاقدة التي ما كنت أريد أن أذكرها أو يخط سيرتها قلمي لكنها على الأقل نماذج موجودة وليست أشباحا تطاردنا ونطاردها ولكن... دوسوا على أحقادهم واثقين من أنفسكم طالما تبتغون في أعمالكم وجه الله ورضائه ولا تخضعوا وحكموا العقل والمنطق في إيجاد حلول لمن يرجون عندكم هذه الحلول ولتكونوا من هؤلاء الذين خلقهم الله ورسوله وسخرهم لقضاء حوائج الناس وراعوا مصالحهم يرعاكم الله .
رجل اسمه السادات
لم يبق من حديث الذكريات إلا شذرات تتعلق بهذا الرجل الذي انجذبت إليه قبل أن أقترب منه فلما اقتربت منه هالني ذكائه وحسن منطقه وسياسته للأمور وأنا لست من هواة تأليه البشر ولن يكون هذا الفصل بمثابة قصيدة مدح للوالي ولا هو أيضا مقالا من مقالات التقريظ العمياء التي نكيلها بالميزان أحببانهم ورحلوا عنا لكنها – على الأقل – محاولة لرصد عقلية رجل أثر هذا التأثير في مسار التاريخ وجغرافية المنطقة
وأحدث ذلك فيما يشبه الصدمات وعامل الناس على أنهم آدميون كرمهم الله لآدميتهم فانتقم منه الذين تعودوا الخنوع والخضوع لبشر اعتبروهم أنصاف آلهة .. انتقموا فيمن أنطقهم من الذي خرس ألسنتهم .. تفتحت عيونهم فجأة فالتهموا من وجدوه أمامهم وهو يمد لهم يديه ليعبر بهم زمانين وعهدين بينهما ما بين هزيمة 67 وانتصار 73
وأنا لم أخوض في مسألة تقييم التاريخ أو المقارنة بين العهود ليس لأنني أقل من السادة المؤرخين الذين تربوا في مدرسة القراءة الثورية ورأوا تاريخ مصر والعالم بعين واحدة تري فقط ما يراه زعيمهم ونديمهم وتهيل الهباب والسواد على من يعارضه أو يعرض عنه وما الكلام الآتي إلا حرف في جملة من كلمة واحدة هي السادات
(نفسي أشوف مصر زي ما كانت) لقد سمعت هذه العبارة – الحلم – من السادات في حوالي منتصف الستينيات ولم أكن أعمل معه وقتها أو تربطني به أى صلة إلا كونه رئيس مجلس النواب الذي أنا أحد أعضائه فلما عملت معه بعد أن صار رئيسا للجمهورية وأصبحت أنا مستشارة لشئون مجلس الشعب سمعت هذه الجملة تترد بتنويعات كثيرة وصياغات أخري .
هل نبدأ من معاهدة السلام .. ليكن
لكن قبل الخوض في التفاصيل أحب أن يعرف القارئ أنني كنت واحدا من المعارضين لكامب ديفيد وأن اعتراضي هذا نقل للرئيس السادات من باب الوشاية وتسجيل موقف نكاية في شخصي وفي أحد الأيام أحضرني الرئيس السادات وبادرني بسؤال استنكارى: " يقولون إنك غير موافق أو مقتنع بكامب ديفيد أهذا صحيح ؟" قلت له : "والله يا ريس أن لست مقتنعا "
سألني : لماذا قلت : أتصور أن هذا هو المسمار الأولي الذي دق في نعش الأمة العربية والإسلامية وكان جوابه غريبا وأعتقد أن منطقة هذا كان أحد أسباب موته فيما بعد قال: يا ابني أنا عايز أقولك حاجة : الاتفاقيات والمعاهدات مع القوى لا تساوي عنده الحبر الذي تكتب به وخير مثال على ذلك إسرائيل فكم قرار صدر ضدها من هيئة الأمم المتحدة ومع هذا لم تنفذ ؟ ... لأنها إسرائيل القوية المدعومة ولم أن يصبح لنا قوة يبقي يحلها ربنا أنا أطلع دلوقتي بأرضنا طبعا سكت لكني انتقدت في نفسي استخدامه لكلمة "أرضنا" التي فهمت أنه يقصد بها أرض مصر فقط.
وفي اعتقالات سبتمبر 1981 قيل عن السادات أنه (لم الشامي على المغربي) ولم يحاول أحد ن يحلل ما أقدم عليه السادات بشئ من الموضوعية فالرجل لم يفعل ذلك طوال حكمه وبالطبع لم تصيبه نوبة جنون فجائية لتجعله يقدم على هذا القرار الغاضب إن ما أوصله لذلك لابد تراكمات وإحباطات لأحلام رأي السادات أنها تكاد تتكسر على أرض الواقع وقد كنت قاب قوسين من يديه أو أدني من ذلك .. لقد عاصرت بعضا من تلك الأحلام ولا أتزيد في ذلك لأنها بمثابة شهادة أعرف أن الله سوف يحاسبني عليها وهو على ما أقول شهيد.
كان السادات يسرح ببصره بعيدا ويحلم أن إسرائيل جلت عن كل أرض سيناء واستردها والتفت إلى الموطن المصري الذي يرصد معاناته فيقول :" لابد أن مصر ترجع تزدهر وبدلا من أن يتسول الناس السفر إلى الدول العربية من أجل قرشين للسكن والمعيشة لابد للشعب المصري أن يكون في القمة ولا يقل عن شعوب المنطقة التي حوله ويعيش في مسكن مناسب "
ويبدو أن السادات رأي المعارضين لكامب ديفيد مثل الذي يضرب كرسي في الكلوب ليحول الفرح إلى معركة تنتهي بمأتم أحس السادات ن هؤلاء لا يريدون أن يفهموا وكما نقول بالعامية "صعب عليه" أن يفكر هو بهذه الطريقة ويأتي من يقول له: أنت تبيع القضية أو أنت خائن ولو استعرضنا أسماء من اعتقلهم السادات ستجد أن هناك موقفا يجمعهم وهو معارضتهم لكامب ديفيد كان يتضايق جدا من الذي يعارضون الاتفاقية
حتى أن الأمر كان يصل أحيانا إلى أن يفقد أعصابه وكلمة حق أن الذين ذهبوا ضحية ذلك هم الأقباط الذين تم اعتقالهم وكان عددهم قليل نسبيا إلى مجموع من اعتقلوا ولم يكن لهؤلاء الأقباط صوت عال في معارضة الاتفاقية لكنني أعتقد أن الرئيس السادات قد وجد نفسه
وقد اعتقل رموزا دينية إسلامية مثل عمر التلمساني وغيره علاوة على أنه كانا مشحونا ضد الأنبا شنودة نتيجة ما حدث في زيارته لأمريكا والمقابلة السيئة التي استقبله بها أقباط المهجر المصريون وحمل الرئيس السادات الأنبا شنودة جرير هذا فخلعه من منصب البطريرك وحدد إقامته في الدير ليحدث توازنا حتى في عملية الاعتقالات ..
كان السادات أيضا لديه تصور لأمور بعد جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن سيناء ويقول في ذلك إنه سوف يطلق حرية تكوين الأحزاب وحرية الصحافة ثم يعتزل الحياة السياسية ودائما ما كان يردد: " اسيب أولادي وأقعد أنا وإذا حبوا ياخدو رأيي في شئ يبقوا يلجأوا لي "
ومن ضمن ما كان يقول أيضا: " مفيش بلد يحكمها العسكريون وينصلح حالها لابد ن نعيد للبلد وضعها الطبيعي الجيش له مهمة والسياسة لها ناسها " كان دائما ما يؤكد على ذلك ويضع أولي خطواته في مسألة تكوين الأحزاب بأن شكل لجنة من عشرين عضو (سميت لجنة العشرين) يناقشون مستقبل العمل السياسي
وعلى الرغم من وجودي في أسيوط محافظا لها فإنه جعلني عضوا في هذه اللجنة التي راعي في تشكيلها أن تمثل كافة التيارات الفكرية من يسار ويمين ووسط وهي أيضا اللجنة التي تشكلت على أساسها المنابر التي تحولت إلى أحزاب حزب لأحرار وحزب مصر وفيما بعد نشأ حزب الوفد وكانت مفاجأة أن انضم لحزب الوفد الوليد شخصيات مهمة من أسر عريقة أصولها وفدية فأزعج الرئيس السادات
وأحب أن يقون حزب آخر لإحداث التوازن الذي كان دائما يبحث عنه وفي إحدي اللقاءات التي ضمتني معه وآخرون في الإسماعيلية كلف المهندس حسب الله الكفراوي أن يذهب للأخ إبراهيم شكري ويطلب منه (تجهيز) نفسه لتكوين حزب وبذلك كان الرئيس السادات هو صاحب فكرة تكوين حزب العمل برئاسة إبراهيم شكري ..
في ذلك الوقت كان من ضمن شروط تكوين حزب جديد أن يوقع على تأسيس الحزب عدد من نواب مجلس الشعب (في حدود عشرين نائبا تقريبا) وأحجم (كالعادة) النواب الذين ينتمون جميعهم تقريبا إلى حزب مصر عن التوقيع فمن يجرؤ ؟! واضطر الرئيس السادات إلى الذهاب لمجلس الشعب والتوقيع أمام الجميع على قيام الحزب وأخذ ينادي على بعض النواب بالاسم ليتبعوه!
ولم يكن مقدرا لهذه الحزب أن يتوجه توجهه الإسلامي بعد ذلك فينضم إلى "الإخوان المسلمون" ويترشحون على قائمته وكانوا قبل ذلك قد انضموا للوفد ونجح على قائمته بعض منهم فلما اختلفوا مع قيادات الوفد في الانتخابات التي تلت ذلك حول النسبة التي يحصلون عليها من مجموع المرشحين اتجهوا لحزب العمل وترشحوا على قائمته وتغير توجه الحزب وأفكاره وجريدته .
وعلى الرغم من أن ممدوح سالم كان رئيسا لحزب مصر فإنه ساهم بطريق غير مباشر في قيام الحزب الوطني ولهذا قصة:
- كان الأستاذ فؤاد سراج الدين قد ذهب في زيارة للإسكندرية ويبدو أن أستقبل هناك استقبالا حافلا فوق العادة فرفع ممدوح سالم تقريرا بذلك للرئيس السادات ضمنه بعض التفصيل من مثل أن الجماهير رفعت سيارة فؤاد سراج الدين عن الأرض احتفاء به فلما رأى الرئيس أن حزب الوفد يتوجه إلى الجماهير بصفته أصل الحركة الوطنية
- ويدق على هذا الوتر بشدة مستغلا تراثه القديم المعروف عند غالبية المصريين فكر كيف يسحب السجادة من تحت قدميه ؟ فعمد إلى إحياء ذكري مصطفي كامل ومحمد فريد باعتبارهما أصل الحركة الوطنية السابقة على الوفد لكن كيف يحيي تلك الذكرى ؟ فعل ذلك بإنشاء الحزب الوطني وبحث عن كل الرموز التي تنتمي إلى ذلك الحزب حتى أنه استخدم مقر الحزب القديم الكائن بعابدين على الرغم من أنه مبني متهالك !
- وذات يوم قلت للرئيس السادات: " والله يا ريس أن ينشأ أحزاب في مصر هذا شئ مفيد ولكني أري – وأنت تقول أنك رب الأسرة وكبير العائلة – أن تترك رئاسة الحزب الوطني فأنت رئيس الجمهورية ولابد أن تكون أبا للجميع" وبالطبع لم يأخذ الرئيس بهذا الرأي.. وكنت مندهشا لأن ذلك يتعارض مع ما كان يردده من أنه سوف يترك العمل السياسي بعد ما يجلوا اليهود عن سيناء ..
وأتصور أن منطق الرئيس السادات في رئاسته للحزب الوطني أنه كان يعتقد أن ذلك سوف يمنح للحزب قوة تجعله قادر على الصمود والوقوف على رجليه على الرغم من أنني أعتقد – شخصيا – أن رئاسة رئيس الدولة لأى حزب سوف تمنحه قوة ظاهرية ترتكز على السلطة أما من حيث الواقع
فإنه لو فقد الحزب هذا المقوم فإنه سوف ينهار كعمود ثلج تعرض لأشعة الشمس وتخيلوا ما يحدث لو تخلي غدا الرئيس مبارك – مثلا – عن رئاسة الحزب الوطني وكون حزبا جديد؟! أعتقد أن الإجابة لا تحتاج أى تفكير أو استجلاب للخيال لأنها حدثت بالفعل عندما كون الرئيس السادات الحزب الوطني فهرول إليه أعضاء حزب مصر .
لا أنسي أيضا ما حييت ما ردده الرئيس السادات أمامي مرتين وفي الثانية منهما كان معنا شاهد ثالث على هذا الكلام وهو الأخ حسب الله الكفراوي وأعتقد أن ذلك كان سنة 1977 أو 1978 قال الرئيس : " نتوا فاكرين إن اتحاد السوفيتي سوف يستمر على حاله ... لن يكوت هناك شئ اسمه الاتحاد السوفيتي أو شئ اسمه الشيوعيين .. وعدوا على أصابع يديكم الإثنين حتى يتحقق ذلك "
كنت أسمع هذا الكلام في الوقت الذي قيل فيه ولا أعلق بل كنت أعتبره شيئا من الهلوسة أو الشطط في الرأي ! فاقصي مدى يسرح فيه خيالي هو أن تحدث حرب بين الغرب والشرق فتنهزم روسيا مثل ألمانيا لكن تنتهي روسيا تلك القوي العظمي بهذا الشكل الذي يشبه سقوط بيضه نيئة على أرض رخامية فهذا ما كان يرفضه عقلي أو عقل أى واحد.
وفي غضون التاريخ الذي حدده السادات انتهت الشيوعية في المجر وسقط سور برلين وتوحد شطرى ألمانيا وحدثت تغييرات في بولندا وتشيكولوفكيا وانهارت وحدة الاتحاد السوفيتي فتحول إلى جمهوريات منفصلة وتحققت نبوءة السادات التي لم يقدر له أن يعيش ليراها تتحقق وأغرب من النبوءة نفسها أن تتحقق بهذه الكيفية التي وصفها .. فأى محلل سياسي لم يتصور ذلك ولا اعتقد أن مرد ذلك هو الإحساس فقط فمن كان يتصور أن روسيا لن تجد طعامها أو قوت يومها !!
ورحل الرجل لكن الأمور بالتأكيد يوم رحيله لم تكن مثل اليوم الذي تم فيه تنصيبه رئيسا للجمهورية لقد غير مفاهيم ومعتقدات وصنع أحداثا جديدة وهو في الأول والآخر بشر تولي الحكم فأصاب وأخطأ لكن لدي البعض إصرار غريب ومريب على تضخيم أخطائه إلى الدرجة التي تحجب الرؤية الصائبة ويبدو أن قدره أنا الناصريين عادوا ليسيطروا على الإعلام ويعلو صوتهم فيوظفونه بشكل غير مباشر للنفخ في بالون الأسطورة
وهم يعتقدون أنهم يستطيعون أن يعيدوا لها الحياة .. يا هؤلاء .. رحمة بأولادكم وأولادنا رحمة بالأجيال الجديدة وبدلا من أن تخنقوهم بسموم كاذبة علموهم أن يقرئوا التاريخ بموضوعية علموهم أن يحترموا رموزهم الوطنية بعقلانية .. علموهم أن الأفراد زائلون والقيم هي الباقية . علموهم أن يبحثوا بأنفسهم عن الحقيقة لكن ابذروا بذورها في طريقهم .
.. علموهم يرحمنا ويرحمكم الله .