محمد رجل الدولة الأول : سياسياً وعسكرياً
بقلم:الشيخ سعيد حوى
محتويات
- ١ مقدمة
- ٢ أ : الرسول عليه الصلاة والسلام القِيَادة السياسية العليَا
- ٣ 1 – استيعابه r لدعوته نظرياً وعملياً وثقته بها وبانتصارها :
- ٤ 2 – استطاعته صلى الله عليه وسلم الاستمرار بدعوته تبليغاً وإقناعاً :
- ٥ وإذا أردت أن تقدر مقدار النجاح المحرز في هذا الطريق فانظر هذه المقارنة :
- ٦ 3 – قدرته على استيعاب أتباعه تربية وتنظيماً وتسييراً ورعاية :
- ٧ وأخرج أحمد عن ربيعة الأسلمي قال :
- ٨ 4 – الثقة التي كان يتمتع بها rعند أتباعه :
- ٩ وأخرج أحمد من حديث بيعة العقبة :
- ١٠ ومن مواقف مقدمات معركة بدر كما أخرجها ابن إسحاق في سيرة ابن هشام .
- ١١ المصدر
مقدمة
الرسول عليه الصلاة والسلام ، كان قائد المسلمين سياسياً وعسكرياً ، وهو الذي سار بهم من نصر إلى نصر . حتى جعل مفاتيح العالم في أيديهم مرات عديدة ولا زال باستطاعة المسلمين أن يسترجعوها إذا تتلمذوا مرة أخرى تلمذة كاملة على يديه عليه الصلاة والسلام .
على أنه وإن ارتبط العمل السياسي بالعمل العسكري . فإن لكل مجال كلام ينفرد به . لذلك فإننا سنقسم الكلام في هذه الفقرة إلى قسمين . الأول في الكلام عن الرسول عليه الصلاة والسلام سياسياً . والثاني عسكرياً ، لنرى كيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام في كُلٍّ كان في القمة التي لا يرقى إليها احد ، وهو الأمي الذي لا يعرف قراءة ولا كتابة ، مما يدل على أن المسألة هنا ربانية المبدأ والطريق والنهاية .
أ : الرسول عليه الصلاة والسلام القِيَادة السياسية العليَا
إن نجاح القيادة السياسية يتوقف على ما يلي :
1 ) على استيعاب هذه القيادة لدعوتها ، وثقتها بها وبأحقيتها ، وثقتها بانتصارها . وعدم تناقض سلوك هذه القيادة مع ما تدعو إليه ، لتكون مواقفهما منسجمة مع هذه الدعوة ، فتكون هذه المواقف كلها لصالح الدعوة ، ولا تكون بيد أعداء الدعوة سلاحاً فعالاً بسبب التناقض ضد الدعوة نفسها .
2 ) وعلى قدرة القيادة على الاستمرار بالدعوة تبليغاً وإقناعاً .
3 ) وعلى قدرة القيادة في استيعاب المستجيبين للدعوة تربية وتنظيماً وتيسيراً .
4 ) وعلى وجود الثقة الكاملة بين القيادة وأتباعها .
5 ) وعلى قدرة القيادة أن تعرف إمكانية الأتباع ، وأن تستطيع الاستفادة من كل إمكاناتهم العقلية والجسمية أثناء الحركة . بحيث يأخذ كل منهم محله الصحيح .
6 ) وعلى قدرة القيادة على أن تحل المشاكل الطارئة بأقل قدر ممكن من الجهد .
7 ) وعلى أن تكون هذه القيادة بعيدة النظر مستوعبة للواقع . فتضرب ضرباتها السيَاسية بشكل محكم .
8 ) وعلى قدرة هذه القيادة أن تصل إلى النصر والاستفادة منه ، وتطبيق مبادئ دعوتها تطبيقاً صحيحاً .
9 ) وعلى قدرة هذه القيادة أن تحكم أمر بناء دولتها إحكاماً بجعلها قادرة على الصمود والنمو على المدى البعيد .
وما عرف التاريخ إنساناً كمل في هذه الجوانب كلها إلى أعلى درجات الكمال غير محمد r . مع ملاحظة أن كمالاته هنا جانب من جوانب كمالاته المتعددة التي لا يحيط بها غير خالقها ، وأن كمالاته ونجاحه واستقامة خطواته وانتصاراته وتوفيق الله إياه كل ذلك دليل على أنه رسول الله الذي رباه فأحسن تربيته وأحاطه برعايته .
ولنبدأ باستعراض هذه الجوانب التسع في سيرة رسول الله العملية لنرى برهان كُلٍّ وكماله فيه مع ملاحظة أن خطتنا في هذه الأبحاث الاختصار والإشارة لا التفصيل .
1 – استيعابه r لدعوته نظرياً وعملياً وثقته بها وبانتصارها :
إذا كان هناك إنسان استوعب جوانب دعوته كل الاستيعاب ، ووثق بها وبمصيرها كل الثقة ، وعرف مضمونها كل المعرفة وعرف بداياتها ونهاياتها وأولها وآخرها ومقدماتها ونتائجها ، ولم يتزحزح عن جزء منها ، بل الخطوة الثانية تأتي مكملة للخطوة الأولى وممهدة للخطوة التالية ، فذلك هو محمد رسول الله r .
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان واضحاً تماماً لديه أن منطلق دعوته هو أن الحاكم الحقيقي للبشر لا يجوز أن يكون غير الله ، وأن خضوع البشر لغير سلطان الله وحاكميته شرك ، وأن التغيير الأساسي الذي ينبغي أن يتم في العالم هو نقل البشر من خضوع بعضهم لحاكمية بعض ، إلى خضوع الكل لله الواحد الأحد ، وأن الأمة التي تحمل هذه القضية بكل متطلباتها هي التي سيكون بيدها مفاتيح الحياة البشرية ولها قيادها .
ومن هذه البداية وانسجاماً معها ، يقوم كل شيء في حياة البشرية ثانياً ، وحياة الأمة التي تحمله أولاً ، ولنر وضوح هذه الجوانب عنده rفي بداية الأمر ونهايته .
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : " لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه – وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم – فقالوا : يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت .
وقد حضرك ما ترى ، وتخوفنا عليك , وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه فخذ لنا منه وخذ له من ؛ ليكف عنا ولنكف عنه وليدعنا وديننا ولندعه ودينه .
فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال : يا ابن أخي ! هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك قال : فقال رسول الله r : كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم .
فقال أبو جهل : نعم وأبيك وعشر كلمات . قال : تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم " .
وروى ابن إسحاق عن الزهري في قصة عرض الرسول r دعوته على بني عامر بن صعصعة ما يلي : " ثم قال له ( أي بحيرة بن فراس ) : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
قال ( أي رسول الله ) : الأمر لله يضعه حيث يشاء . فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ما أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه " .
قال عدي بن حاتم : " بينما أنا عند رسول الله إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة .. ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ، فقال : يا عدي هل رأيت الحيرة ؟
قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها .
فقال : إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله ... ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى . قلت : كسرى بن هرمز ؟
قال : كسرى بن هرمز ، قال عدي : فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ... "
وقد طالب المشركون رسول الله r أكثر من مرة أن يطرد المستضعفين من المسلمين حتى يجلسوا إليه ، وفي كل مرة كان يتنزل قرآن ويكون موقف رسول الله rالرفض ، ومن هذه ما أخرجه أبو نعيم عن ابن مسعود قال : مر الملأ ( أي السادة ) من قريش على رسول الله وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار – رضي الله عنهم – ونحوهم وناس من ضعفاء المسلمين فقالوا ( أي الملأ مخاطبين رسول الله ) : أرضيت بهؤلاء من قومك ؟
أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء ؟ أهؤلاء الذي منَّ الله عليهم ؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك قال : فأنزل الله عز وجل :
{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبهِمْ لَيْسَ لَهُمْ من دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم من شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ من شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} .. وأخرجه أحمد والطبراني .
من هذه الأمثلة ترى بشكل واضح استيعاب رسول الله r لدعوته وثقته بها وبانتصارها ، وانسجام مواقفه معها ، ووضوح طريقه أمامه ، ومعرفته بنهايات ما يريد منها . فلم تضطرب بدايات مواقفه أبداً مع نهاياتها ، بل كل خطوة تأتي تكون مكملة لما قبلها ، وكل تشريع جديد يأتي متمماً لما قبله ، حتى كملت شريعة الله ، وتم دينه وهذا كله ما كان ليتم لولا أن محمداً رسول الله .
وهذا أول ما يلزم العمل السياسي العام ، تجده كأكمل ما يكون عند رسول الله r.
ويكفيك لتعرف معنى هذا الذي قدمناه ، أن تعلم أن الناس يعتبرون العمل السياسي الإسلامي عملاً مثالياً لا يستطيعه أي إنسان ، فإذا ما عرفنا بعد ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام استطاع أن يقود الناس بهذا الإسلام .
فلا نجد موقفاً من مواقفه تناقض مع نصوص ومبادئ دعوته ، وعلمت أنه ما من زعيم سياسي ، إلا ويضطر للتناقض ، إما لاحقاً مع سابق ، أو دعوى مع عمل ، أو داخلياًّ مع خارجي ، أدركت مدى الكمال في القيادة المحمدية ، وخاصة إذا عرفت أنه لم يستطع أن يرتفع من حكام الأمة الإسلامية إلى القيادة بالإسلام الكامل بحق إلا أفراد منهم الخلفاء الراشدون الأربعة ، والثالث ثير عليه وقتل ظلماً ، والرابع خُرِجَ عليه وانتصر بعد ذلك خصمه السياسي .
أما رسول الله r فقد ساس الناس بالإسلام ولم ينزل بالإسلام إلى مستوى الناس بل رفع الناس إلى مستواه .
على وتيرة واحدة ونسق واحد ، في الفكر والعمل ، من بداية الدعوة حتى انتقاله r على العالم الآخر .
2 – استطاعته صلى الله عليه وسلم الاستمرار بدعوته تبليغاً وإقناعاً :
إن هناك شيئين أساسيين في العادة . يجب أن يتفطن لهما قادة الحركات السياسية الفكرية الجديدة .
أ – الحرص على استمرار عملية التبليغ والإقناع .
ب- البصر الحكيم بالموقف الذي يتخذ من الخصم .
إن أي دعوة من الدعوات إذا لم تستطع تأمين عملية استمرار التبليغ والإقناع تجمد ، ثم تنحصر ثم تموت ، وأي دعوة من الدعوات لا تتخذ الموقف المناسب من الخصم ، تضرب ضربة ساحقة ثم تزول ، ولنضرب هذا مثالاً : إن الهنود عندما أرادوا تحرير بلادهم من الإنكليز ، اختاروا لنفسهم طريق اللاعنف في العمل .
ومعناه عندهم أن لا يجابه الإنسان القوة الظالمة بالعنف بل يتحمل ظلمها بصبر حتى تتغير هي عواطفها ، وترتدع عن غيها ، وفائدة هذا الطريق أنه يكسب صاحبه عطف الناس وعطف الرأي العام خاصة عندما يكون على حق ، وقد نجح الهنود أخيراً في تحرير بلادهم ولم يكلفهم هذا الطريق ضحايا كثيرة .
ولو أنهم سلكوا غير هذا الطريق لما استطاعوا وقتذاك أن يصمدوا أمام قوة بريطانيا فيكونوا قد خسروا كثيراً وفشلوا أخيراً .
وأنت عندما تدرس هذين الجانبين في العمل عند رسول الله rتجد أن رسول الله r قد نجح فيهما نجاحاً منقطع النظير ، فرغم تألب الجزيرة العربية كلها عليه كما رأينا في الفصل السابق ، ورغم العداء العنيف الذي ووجه به ، ورغم كل شيء فإن عملية التبليغ لم تنقطع لحظة من اللحظات ، ولعل أهم نقطة تلمحها بعد التوحيد أثناء عرض الرسول r دعوته على القبائل ، هو إلحاحه على حماية الدعوة ، واستمرارها وتأديتها ، ولقد تجاوز الرسول r ثلاثة عشر عاماً من المجابهة للمشركين ، دون انقطاع عن العمل ، مما يدل على مقدار نجاحه في هذا الموضوع .
وأما بالنسبة للأمر الثاني فأنت تلاحظ حكمة مواقفه تجاه العدو ، فهو في مكة ، يصبر ويأمر أتباعه بالصبر ، ولو فعل غير هذا لخسر أتباعه قتلاً ، ولشغل بذلك في قضايا الثأر ، ولما أمكنه أن يتابع عملية التبليغ ، وكسب بهذه الخطة كثيراً من القلوب .
فإذا ما انتقل إلى المدينة رأيت تجدد مواقفه على حسب الظروف الجديدة من معاهدة ، إلى سلام ، إلى حرب ، إلى ضربة هنا ووثبة هناك ، ولكن هذا كله لم يؤثر بتاتاً على عملية تبليغ الحق وإقناع الناس به ، على كل مستوى وبكل وسيلة ملائمة .
وإذا أردت أن تقدر مقدار النجاح المحرز في هذا الطريق فانظر هذه المقارنة :
إن الحركة الشيوعية رغم وسائل القرن التاسع عشر في الدعاية وتفرغ أتباعها فإنها لم تستطع أن تحقق نصراً وتعمم إلا بعد سبعين عاماً من أول بيان أصدره زعيماها .
ولكن الذي حدث بالنسبة للدعوة الإسلامية أن رسول الله r عممها خلال ثلاث وعشرين عاماً التعميم الذي يرافقه الإقناع . ولهذا فإننا نقول مطمئنين : إنه لم توجد حركة سياسية تقوم على أساس عقدي ، نجحت كما نجحت دعوة رسول الله rوفي فترة قصيرة . وهذا كذلك يدلنا على أن الأمر أكبر من أن يكون – لولا التوفيق الإلهي – لهذا الرسول الأعظم الفذ على مدى التاريخ بين التاريخ .
3 – قدرته على استيعاب أتباعه تربية وتنظيماً وتسييراً ورعاية :
إن الدعوة العقدية السياسية تصاب من قبل أتباعها بسبب قيادتها من نواح ثلاث :
1 – ألا تقدر هذه الدعوة على أن تربي أتباعها تربية نموذجية ، بحيث يعطى أتابعها صورة حسنة عنها ، مما يؤدي إلى نفور الناس منها كأثر عن نفورهم من أصحابها . فيكون التابع حجة على الدعوة بدلاً من أن يكون حجة لها . وهذا يؤلب الرأي العام ضدها تأليباً خطيراً ويعطي الرأي العام حجة تلو الحجة عليها . وعلى العكس من ذلك إذا ما ربي أفرادها تربية نموذجية حية فإن الناس يؤمنون بهم قبل إيمانهم بدعوتهم ، ويحبونهم قبل أن يعرفوا ما يدينون به ، وكم رجال ضربوا دعوتهم بسلوكهم مع أنهم يحملون دعوة عظيمة .
2 – أن يدخل الدعوة ناس ولا تستطيع هذه الدعوة أن تسخر طاقاتهم في سبيلها . فأمثال هؤلاء يكونون في وضع مشلول ، فلا هم ضد الدعوة ولا هم يقدمون شيئاً لها ، وفي هذه الحالة تكون قيادة الدعوة وحدها متحملة كل مسؤولياتها ، والدعوة إذا كانت على امتداد دائم فإن هذه القيادة ستصبح في وضع لا يسمح لها أن تقوم بكل واجباتها ، وتكون المسألة هكذا ؛
داعية واحد ، ومدعوون كثيرون ، أما في الحالة الأخرى فإنك تجد العكس ، وذلك إذا استطاعت قيادة الدعوة أن تسخر طاقات الأتباع لصالح الدعوة ، لأن المسؤولية وقتذاك يتحملها مجموع الأفراد ، فيكون كل فرد لينوب مناب القائد ، وكل فرد يؤدي دوره .
وفي النهاية فمهما توسعت دائرة الدعوة تبقى القيادة على قوة في تحملها .
3 – وعندما لا يحس الأتباع بالرعاية الدائمة ، والملاحظة التامة ، وعندما لا يوضعون فيما يحسن وضعهم به ، أو عندما يحسون بأنهم منسيون ، أو عندما لا يعرف الإنسان محله ومهمته المكلف بها كل هذا يؤثر على نفسية الأتباع ويولد عندهم فتوراً عن الدعوة .
هذه النواحي الثلاث لا بد من تلافيها لأي دعوة تقوم على أساس مبدأ معين وعدم تلافيها يعطل سير الدعوة ويقتلها .
وأنت عندما تدرس حياة الرسول r وقيادته لأتباعه تجد تجنبه لهذه الجوانب ، ووجود ما يقابلها بشكل لا مثيل له . بحيث تستغرب بعد كيف انتصرت هذه الدعوة ، وهذه الجماعة ، وكيف توسعت على مر الأيام .
ففي الجانب الأول رأيت البحث السابق عن تربية الرسول r وكيف أن الأمة ألإسلامية كل قد وُسعت تربيةً ، وكيف ارتفع الأفراد من طور إلى طور بحيث أصبحوا نماذج يقتدى بها .
وفي الجانب الثاني ترى الحركية الدائمة التي كان يجعل أصحابه دائماً يعيشونها .
فإذا أسلم رجل رباه التربية الإسلامية ثم كلفهُ أن يقوم بأعباء الدعوة في جهة من جهاتها ، أو يقوم بجزء من أعبائها ، وفي الجانب الثالث ترى دقة الرسول r في الرعاية والعناية والسهر على شؤون الأتباع بشكل عجيب ، ولعل هذا الجانب هو الأحق بالتمثيل هنا لأن الجانبين الآخرين ممثل لهما في هذا المقام !!.
أخرج ابن إسحاق عن أم سلمة أنها قالت : لما ضاقت مكة ، وأوذي أصحاب رسول الله وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم ، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم ، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه ، لا يصل إليه شيء مما يكره ، ومما ينال أصحابه .
فقال لهم رسول الله : " إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده ، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه " وقد وجههم مرتين إلى الحبشة .
مرة في السنة الخامسة . ومرة في السنة السابعة ، حيث كان المسلمون مقدمين على أعظم مراحل الاضطهاد ، مرحلة المقاطعة الشاملة .
وعندما قرر الرسول rالهجرة إلى المدينة ، وجه أتباعه كلهم قبله ، وبقي في مكة حتى إذا لم يبق إلا من له عذر خرج مهاجراً .
وأخرج أحمد عن شداد بن عبد الله قال : قال أبو أمامة : يا عمرو بن عبسة بأي شيء تدعي أنك ربع الإسلام ؟ قال : إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً ، ثم سمعت عن رجل يخبر أخباراً بمكة ويحدث أحاديث ، فركبت راحلتي حتى قدمت مكة ، فإذا أنا برسول الله مستخف وإذا قومه عليه جراء فتلطفت له فدخلت عليه فقلت : ما أنت ؟
قال : أنا نبي الله ، فقلت : وما نبي الله ؟ قال : رسول الله . قال : قلت الله أرسلك ؟ قال : نعم . قلت : بأي شيء أرسلك ؟
قال : بأن يوحد الله ولا يشرك به شيء وكسر الأوثان وصلة الرّحم . فقلت : من معك على هذا ؟
قال : حر وعبد / أو عبد وحر / وإذا معه أبو بكر بن أبي قحافة وبلال مولى أبي بكر . قلت : إني متبعك . قال : إنك لا تستطيع يومك هذا ، ولكن ارجع إلى أهلك .
فإذا سمعت بي قد ظهرت فالحق بي . قال : فرجعت إلى أهلي وقد أسلمت .
فخرج رسول الله مهاجراً إلى المدينة ، فجعلت أتخبر الأخبار حتى جاء ركبه من يثرب .
فقلت ما هذا المكي الذي أتاكم ؟ قالوا : أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك ، وحيل بينهم وبينه ، وتركنا الناس سراعاً .
قال عمرو بن عبسة : فركبت راحلتي حتى قدمت عليه المدينة فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟ قال : نعم . ألست أنت الذي أتيتني بمكة ؟ قال : قلت بلى .
هذه ثلاثة أمثلة تدلك على مبلغ دقة الرسول r في توجيه أصحابه بالشكل الذي يحمون فيه ويأمنون ، وكيف أنه لا ينسى أحداً منهم ، بل يستوعبهم جميعاً برعايته ، وكيف يعدّهم للحظة المناسبة ، وكيف يسيّر كل واحد منهم بحكمة تناسب وضعه .
ولا ننتقل بك من هذا البحث حتى نضرب لك أمثلة أخرى على سهره r على حاجات أتباعه الشخصية وتأمينها لهم
أخرج أحمد والبخاري عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول : والله إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه ، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل ، فمر عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل ، فمر أبو القاسم فعرف ما في وجهي وما في نفسي فقال : أبا هريرة ، قلت له : لبيك يا رسول الله .
فقال : الْحقْ واستأذنت فأذن لي فوجدت لبناً في قدح قال : من أين لكم هذا اللبن فقالوا : أهداه لنا فلان – أو آل فلان – قال : أبا هر ! قلت : لبيك يا رسول الله .
قال : انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي . قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام لم يأووا إلى أهل ولا مال إذا جاءت رسول الله هدية أصاب منها وبعث إليهم منها ، وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها ، قال : وأحزنني ذلك وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى به بقية يومي وليلتي ، وقلت : أنا الرسول ، فإذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيهم ، وقلت : ما يبقى لي من هذا اللبن ، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد ، فانطلقت فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت ثم قال : أبا هر ! خذ فأعطهم . فأخذت القدح فجعلت أعطيهم فيأخذ الرجل القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد القدح حتى أتيت على آخرهم ، ودفعت إلى رسول الله فأخذ القدح فوضعه في يده وبقي فيه فضلة ثم رفع رأسه ونظر إليّ وتبسم وقال : أبا هر قلت : لبيك يا رسول الله .
قال : بقيت أنا وأنت . فقلت : صدقت يا رسول الله .
قال : فاقعد فاشرب .
قال : فقعدت فشربت ثم قال لي : اشرب فشربت ، فما زال يقول لي اشرب فأشرب حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ما أجد له فيّ مسلكاً ، قال : ناولني القدح فرددت إليه القدح فشرب من الفضلة .
وأخرج أحمد عن ربيعة الأسلمي قال :
كنت أخدم النبي فقال لي : يا ربيعة ألا تزوج ؟ قلت : لا والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج وما عندي ما يقيم المرأة وما أحب أن يشغلني عنك شيء فأعرض عني ، ثم قال لي الثانية : يا ربيعة ألا تزوج ؟ فقلت : ما أريد أن أتزوج ما عندي ما يقيم المرأة وما أحب أن يشغلني عنك شيء فأعرض عني ، ثم رجعت إلى نفسي فقلت : والله لرسول الله أعلم مني بما يصلحني في الدنيا والآخرة ، والله لئن قال لي ألا تزوج ، لأقولن : نعم يا رسول الله . مرني بما شئت .
فقال لي : يا ربيعة ألا تزوج ؟ فقلت : بلى مرني بما شئت . قال : انطلق إلى آل فلان حي من ألأنصار كان فيهم تراخ عن رسول الله r فقل لهم : إن رسول الله r أرسلني إليكم يأمرني أن تزوجوني فلانة لامرأة منهم ، فذهبت إليهم فقلت لهم : إن رسول الله r أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني ، فقالوا : مرحباً برسول الله وبرسول رسول الله r، والله لا يرجع رسول رسول الله r إلا بحاجته .
فزوجوني وألطفوني وما سألوني البينة . فرجعت إلى رسول الله r حزيناً . فقلت : يا رسول الله ! أتيت قوماً كراماً فزوجوني وألطفوني وما سألوني البينة وليس عندي صداق .
فقال رسول الله r : يا بريدة الأسلمي اجمعوا له وزن نواة من ذهب . قال : فجمعوا لي وزن نواة من ذهب ، فأخذت ما جمعوا لي فأتيت النبي rقال اذهب بهذا إليهم فقل لهم : هذا صداقها .
فأتيتهم فقلت : هذا صداقها ، فقبلوه ورضوه وقالوا : كثير طيب ، قال : ثم رجعت إلى رسول الله r حزيناً فقال : يا ربيعة ما لك حزيناً ؟ فقلت : يا رسول الله ما رأيت قوماً أكرم منهم ورضوا بما آتيتهم وأحسنوا وقالوا : كثير طيب ، وليس عندي ما أولم . فقال : يا بريدة اجمعوا له شاة .
قال : فجمعوا له كبشاً عظيماً سميناً ، فقال رسول الله r : اذهب إلى عائشة رضي الله عنها – فقل لها : فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام .
قال : فأتيتها فقلت لها ما أمرني به رسول الله r فقالت هذا المكتل في سبع آصع شعير ، لا والله لا والله : إن أصبح لنا طعام غيره فخذه .
قال : فأخذته فأتيت به النبي r وأخبرته بما قالت عائشة ، قال : اذهب بهذا إليهم فقل لهم ليصبح هذا عندكم خبزاً وهذا طبيخاً ، فقالوا : أما الخبز فسنكفيكموه وأما الكبش فاكفونا أنتم ، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبخناه فأصبح عندنا خبز ولحم فأولمت ودعوت النبي r.
وأخرج أحمد عن أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه – أن جليبيباً كان امرأً يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن فقلت لامرأتي :
لا تدخلن عليكم جليبيباً ، إن دخل عليكم لأفعلن ولأفعلن .
قال : وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي rفيها حاجة أم لا .
فقال النبي r لرجل من الأنصار : زوجني ابنتك ! قال : نعم وكرامة يا رسول الله ونعمة عين ! قال : إني لست أريدها لنفسي ، قال فلمن يا رسول الله ؟ قال : لجليبيب ، قال : أشاور أمها ، فقال : إن رسول الله rيخطب ابنتك ، قالت : نعم ونعمة عين ، قال : إنه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها لجليبيب ، قالت : لجليبيب ، أنيه لجليبيب أنيه ، لا لعمر الله لا نزوجه ! فلما أن أراد ليقوم ليأتي النبي r ليخبره بما قالت أمها قالت الجارية : من خطبني إليكم ؟ فأخبرتها أمها .
فقالت : أتردون على رسول الله r أمره ! ادفعوني إليه فإنه لن يضيعني ! فانطلق أبوها إلى رسول الله r فأخبره ، فقال : شأنك بها ، فزوجها جليبيباً ، قال : فخرج رسول الله rفي غزاة له ، قال : فلما أفاء الله الله عز وجل عليه قال : هل تفقدون من أحد ؟ قالوا : لا . قال : لكني أفقد جليبيباً ، قال : فاطلبوه . فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه فقالوا : يا رسول الله ها هو ذا إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه ، فأتاه النبي r فقال : قتل سبعة ثم قتلوه .
هذا مني وأنا منه – مرتين أو ثلاثاً . ثم وضعه رسول الله rعلى ساعديه وحفر له ، ما له سرير إلا ساعد النبي r ثم وضعه في قبره ، لم يذكر أنه غسله ، قال ثابت فما كان في الأنصار أيم أنفق منها " .
ولعل في هذه الأمثلة كفاية على إبراز مقدار رعايته r لأتباعه واستيعابهم في كل الجوانب .
4 – الثقة التي كان يتمتع بها rعند أتباعه :
للثقة بين الناس وقائدهم أهمية عظيمة جداً عند أصحاب الفكر السياسي ؛ لذلك ترى في أنظمة الحكم الديمقراطية أن الحكومة تبقى حاكمة ما دامت متمتعة بثقة شعبها التي تعرفها ببعض الوسائل ، وقديماً قال كونفوشيوس حكيم الصين : إن الحكومة ينبغي أن توفر لشعبها الثقة بها والحماية له بتوفير أسباب القوة والطعام والشراب وما يلزم .
قالوا : فإن لم تستطع أن تؤمن هذه الأشياء الثلاثة قال : تتخلى عن تأمين الطعام والشراب ، قالوا : فإن لم تستطع تأمين الاثنتين الأخريتين قال : تتخلى عن تأمين القوة والحماية ولا تفرط في الثقة " .
وهذا شيء معقول إذ ما ادام الناس واثقين بحكومتهم ومتعاونين معها ، فإنهم يستطيعون بالتالي أن يسدوا النواقص ، أما إذا فقدت الثقة ، فقد تلاشى كل شيء ، وفقدت الأمة قوتها وحمايتها وهذا شيء مجرب ، إن فقدان الثقة يشل العمل السياسي ويميت حركة الأمة ويضعف روحها المعنوية ، ويضرب اقتصادها وبالتالي يهوي بها .
لذلك كان من أهم عوامل نجاح القائد السياسي للأمة ثقة الأمة به ومحبتها له ، فإن هذا إذا وجد يعوض كل النواقص وكل الفراغات ، فإذا ما وضح هذا بشكل عام نقول :
إن تاريخ العالم كله لا يعرف مثلاً واحداً يشبه ما كانت عليه ثقة أتباع الرسول rبه .
إن ثقة الناس بالقائد الرسول ، كانت ثقة غير متناهية ، يكفي لإدراكها أن ترى بعضاً من مواقف الصحابة في أدق وأصعب وأحرج الأحوال :
في يوم العقبة حيث تم اللقاء بين الرسول r والوفد الثاني للأنصار كان من أمرهم ما ذكره ابن هاشم :
قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج ! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم .
قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس . فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه ؟ فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافوه بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة . قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ... "
وقال أبو الهيثم بن التيهان : يا رسول الله وإن بيننا وبين الناس حبالاً ( أي أحلافاً وعهوداً ) فلعلنا نقطعها ثم ترجع إلى قومك وقد قطعنا الحبال وحاربنا الناس .
فضحك رسول الله r من قوله وقال : الدم الدم ، الهدم الهدم ، وفي رواية : بل الدم الدم والهدم الهدم . أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم .
ثم أقبل أبو الهيثم على قومه فقال يا قوم هذا رسول الله rأشهد أنه لصادق وأنه اليوم في حرم الله وأمنه وبين ظهري قومه وعشيرته ، فاعلموا أنه إن تخرجوه رمتكم العرب عن قوس واحدة ، فإن كانت طابت أنفسكم بالقتال في سبيل الله وذهاب الأموال والأولاد فادعوه إلى أرضكم فإنه رسول الله حقاً ، وإن خفتم خذلاناً فمن الآن . فقالوا عند ذلك : قبلنا عن الله وعن رسوله ما أعطيانا ، وقد أعطينا من أنفسنا الذي سألتنا يا رسول الله ، فخل بيننا يا أبا الهيثم وبين رسول الله فلنبايعه ، فقال أبو الهيثم : أنا أول من بايع .
وأخرج أحمد من حديث بيعة العقبة :
فقلنا ( أي الأنصار ) : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة . فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة – رضي الله عنه – وهو أصغرهم فقال : رويداً يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم وتعضكم السيوف ، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله ، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله قالوا : أمط عنا يا سعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبداً " .
من هذه النصوص يشعر الإنسان بمقدار الثقة التي كانت تملأ قلوب هذا الرعيل الأول مع معرفتهم بما سيترتب على هذه البيعة من آثار مخيفة .
ومن مواقف مقدمات معركة بدر كما أخرجها ابن إسحاق في سيرة ابن هشام .
قال رسول الله rمخاطباً أصحابه : ما ترون في قتال القوم ؟ فقام المقداد بن عمرو فقال : إذاً لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى – عليه السلام – اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون .
تكلم آخرون ثم قال سعد بن عبادة : إيانا يريد رسول الله rوالذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بر الغماد لفعلنا .
وقال سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله
قال : أجل
قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق لو استرضعت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً إن لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك ما تقر به عينك فسر على بركة الله .
هذه المواقف ، وكل حياة الرسول r مع أصحابه مواقف من هذا النوع تدلك على مقدار الثقة التي كانت لرسول الله في قلوب أصحابه .
والحقيقة أن شخصية الرسول rكانت من الأسر والقوة والنفوذ ، بحيث لا يملك من يخالطها إلا أن يذوب فيها ، إلا إذا كانت شخصيته معقدة ، ولعل في قصة مولاه زيد بن حارثة ما يؤكد هذا المعنى . إذ يأتي أبو زيد وأعمامه ليشتروه ويرجعوا به إلى أهله حراً ولكن زيداً يختار صحبة محمد مع العبودية والغربة . على فراقه مع الحرية ولقاء الأهل ، وهذه ظاهرة عجيبة أن يصارح زيد أهله بهذا . وهو ليس صغير السن بل كان وقتذاك ناضج الفكر ، فكافأه محمد r ( كان ذلك قبل النبوة ) أن حرره وتبناه .
ويكفينا ما ذكرناه في هذا الباب . فالسيرة وحياة الصحابة كلها شواهد على أن الثقة التي تمتع بها رسول الله r بين أتباعه لم يعرف العالم لها مثيلاً .
5 – استطاعة القائد الاستفادة من كل إمكانيات الأتباع العقلية والجسمية أثناء الحركة ، مع المعرفة الدقيقة بإمكانية كل منهم ووضعه في محله :
إن عبقرية القيادة لا تظهر في شيء ظهورها في معرفة الرجال ، ووضع كل في محله ، واستخراج طاقات العقول بالشورى ، واستخلاص الرأي الصحيح ، وفي كل من هذين كان الرسول r الأسوة العليا للبشر .
إن الشورى في فن السياسة عملية تستجمع فيها طاقات العقول كلها لاستخلاص الرأي الصالح ، ويتحمل فيها كل فرد مسؤولية القرار النهائي ، ويقتنع فيها كل فرد بالنتيجة . فيندفع نحو المراد بقوة ، وترتفع بها ملكات الفرد وروح الجماعة . ويبقى الإنسان فيها على صلة بمشاكل أمته وجماعته ، ولذلك جعل الله أمر المسلمين شورى بين المسلمين ، حتى يتحمل كل فرد من المسلمين المسؤولية كاملة ولا يبقى مسلم مهملاً .
والظاهرة التي نراها في حياة الرسول r كقائد . حبه للشورى ، وحرصه عليها ، ومحاولته توسيع دائرتها ، واستخلاصه الرأي الأخير في النهاية :
قبيل غزوة بدر استشار الناس فأشار المهاجرون ، فلم يكتف ، ثم استشار الناس فأشار الخزرج والأوس ثم اتخذ قراره الأخير في الحرب حتى يمحو أي تردد عن أي نفس .
ولما عسكر المسلمون يوم بدر في أدنى ماء جاء الحباب بن منذر إلى رسول الله r فقال : أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟
قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة .
قال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي ماء من القوم فنعسكر فيه ثم نغوّر ما رواءه من الآبار ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشر ولا يشربون . فقال رسول الله r : لقد أشرت بالرأي . ونفذ rما أشار به .
وقبيل يوم احد استشار الناس وأخذ برأي الأكثرية . ويوم الأحزاب أخذ برأي سلمان الفارسي . ويوم الحديبية أشارت عليه أم سلمة زوجته فأخذ برأيها .
إنها القيادة التي لا تستكبر أن تنزل على رأي مسلم كائناً من كان ، ما دام الرأي سليماً صحيحاً ، والقيادة الصالحة هي التي تعمم الشورى حتى لا يبقى أحد عنده رأي إلا قاله ، وخاصة فيما يكون فيه غرم .
بعد غزوة حنين جاءت هوازن مسلمة وسألوا رسول الله r أن يرد عليهم سبيهم وثروتهم فقال لهم : إن معي من ترون وإن أحب الحديث إلي أصدقه فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً . فقام رسول الله r في المسلمين فأثنى على الله ما هو أهله ثم قال : أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول مال يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله ، فقال لهم : إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم عادوا إلى رسول الله r يخبرونه أنهم قد طيبوا وأذنوا .
إنها الشورى التي يأخذ فيها كل إنسان حقه . ولقد علم المسلمون من نبيه هذا فأحسنوا القيام به ، حتى إن كان عمر بن الخطاب ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذ به .
وأما معرفة الرجال ووضع كل في محله المناسب له وتكليفه بالمهمة التي يصلح لها فكذلك لا يلحق برسول الله r أحد فيها .
إن أبا بكر وعمر كانا في زمن رسول الله r يلقبهما الصحابة بالوزيرين له ، وكان يسمر معهما في قضايا المسلمين ، ولما مرض rأمر أبا بكر أن يصلي بالناس وهذا الذي جعل المسلمين يختارونه بعده خليفة ، ثم كان عمر الخليفة الثاني ، والناس يعرفون ماذا فعل أبو بكر وعمر يوم حكما الناس ، فهل يشك أحد أن تركيز الرسول rعلى هاتين الشخصيتين كان في محله ، وأنهما من الكفاءة في المحل الأعلى وأن رأي رسول الله rفيهما في محله . وهذان مثلان فقط وإلا فما اختار رسول الله r رجلاً إلا ورأيت الحكمة في هذا الاختيار .
يقول عمرو بن العاص في قصة إسلامه وخالد بن الوليد : فوالله ما عدل بي رسول الله r وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا .
وما أحد إلا ويعرف كفاءة هذين الرجلين من آثارهما بعد .
وعندما أتى وفد بني تميم إلى رسول الله r قالوا : يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا .
قال : قد أذنت لخطيبكم فليقل . فقام عطارد بن حاجب فقال ، فأمر رسول الله r ثابت بن قيس الخزرجي أن يرد عليه فرد ، ثم قال شاعر بني تميم فقال ، فأمر رسول الله r حسان بن ثابت أن يرد ، فغلب خطيب رسول الله r خطيبهم وشاعر رسول الله r شاعرهم .
لكل مقام رجال وكان رسول الله r أكثر الخلق فراسة في اختيار الرجل المناسب للمقام المناسب .
ولعل في قصة نعيم بن مسعود بالغ الدلالة على ما قلناه :
" كان نعيم بن مسعود حسن الصلة بكل القبائل المعايدة للمسلمين يوم الأحزاب سواء في ذلك يهود بني قريظة أو قومه أو قريش ... وفي أحلك اللحظات أيام الأحزاب أسلم نعيم وقد أصبح المسلمون بين بني قريظة في الداخل والمشركين بعد الخندق ، وإذا أُتي المسلمون من قِبل قريظة لم يعد يصلح خط دفاع المسلمين واضطروا للدخول في معركة مفتوحة ليست متكافئة ولذلك فإن الرسول r وقد أسلم نعيم يكلفه ألا يعلن إسلامه وأن يقوم بعملية تخلخل صف العدو .
يقول عليه الصلاة والسلام لنعيم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة .
ورجع نعيم وكان من أمره ما سنقصه عليك مما يشهد أن اختيار رسول الله r كان موفقاً غاية التوفيق .
خرج نعيم حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما ًفي الجاهلية فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم .
قالوا : صدقت لست عندما بمتهم .
فقال لهم : إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم . البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره .
وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه . فقالوا له : لقد أشرت بالرأي .
ثم خرج حتى أتى قريشاً ، فقال لأبي سفيان ومن معه : قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً ، وإنه قد بلغني أمر رأيت عليّ حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني . فقالوا : نفعل . قال : تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد .
وقد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم ، فتضرب أعناقهم ؟ ثم تكون لك على من بقي منهم حتى نستأصلهم .
فأرسل إليهم أن نعم . فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً .
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي . ولا أراكم تتهموني . قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم . قال : فاكتموا عني ، قالوا : نفعل . ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم ..
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان من صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام فقد هلك الخف والحافر . فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه .
فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم .
ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل محمداً معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا . حتى نناجز محمداً .
فإنا نخشى إن ضرّستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا . ولا طاقة لنا بذلك منه .
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا .
فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا وقاتلوا .
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا .
فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم .
وهكذا أفلح المسلمون في فصم عرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة عليهم .
المصدر
- مقال:محمد رجل الدولة الأول : سياسياً وعسكرياً موقع : برهانكم