محمد : الصادق الأمين
محتويات
مقدمة
طريقتنا في استعراض هذه الصفة أن نأتي بالشهادات عليها وهذه الشهادات ثلاث
أ – شهادة الخصوم .
ب – شهادة الأتباع .
ج – شهادة الواقع . وشهادة الواقع تتمثل في أربع : في الإخبار ، وفي الوعد والعهد ، وفي المزح والمداعبة ، وفي النبوءات .
أ. شهادة الخصوم :
وشهادة الخصوم في هذا الباب لها وزنها الكبير ، إذ تدلك على مبلغ الثقة التي كان يتمتع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الجميع ، ولكن بعض الناس استغرب واستكبر فأنكر دون ووجود مبرر لهذا الإنكار وهذه نصوص تؤكد لك هذا الذي قلناه :
أخرج البيهقي عن المغيرة بن شعبة قال : " إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله r ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل : يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله ، أدعوك إلى الله . فقال أبو جهل : يا محمد هل أنت منتهٍ عن سبَ آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلَّغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلَّغت ، فوالله لو أني أعلم أن ما تقو لحق لاتبعتك . فانصرف رسول الله r ، وأقبل عليَّ فقال : والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء . أن بني قصي قالوا : فينا الحجابة . قلنا : نعم . ثم قالوا : فينا السقاية . قلنا : نعم . ثم قالوا : فينا الندوة . فقلنا : نعم . ثم قالوا : فينا اللواء . فقلنا : نعم ، ثم أطعموا وأطعمنا ، حتى إذا تحاكت الركب قالوا : منا نبي . والله لا أفعل " وأخرجه ابن أبي شيبة بنحوه .
وأخرج الترمذي عن علي : " أن أبا جهل قال للنبي r : إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به . فأنزل الله تعالى : {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} " .
وأخرج ابن عساكر عن معاوية – رضي الله عنه – قال : " خرج أبو سفيان إلى بادية له مردفاً هنداً ، وخرجت أسير أمامهما وأنا غلام على حمارة لي ، غذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو سيفان : انزل يا معاوية حتى يركب محمد . فنزلت عن الحمارة وركبها رسول الله r ، فسار أمامنا هنيهة ، ثم التفت إلينا فقال : يا أبا سفيان بن حرب ويا هند بنت عتبة ! والله لتموتن ثم لتبعثنَّ ثم ليدخلنَّ المحسنُ الجنة والمسيء النار ، وأنا أقول لكم بحق ، وإنكم لأول من أُنذرتم ثم قرأ رسول الله r {حـم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـ?نِ الرَّحِيمِ ...}... حتى بلغ {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} فقال له أبو سفيان : أفرغت يا محمد ؟ قال : نعم . ونزل رسول الله r عن الحمارة وركبتها ، وأقبلت هند على أبي سفيان : ألهذا الساحر أنزلت ابني ؟ قال : لا والله ما هو بساحر ولا كذاب " وأخرجه الطبراني أيضاً .
وروى الإمام البخاري ومسلم قصة أبي سفيان عند هرقل – كما حدّث بها أبو سفيان ابن عباس – ومنها سؤال هرقل لأبي سفيان : " قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال . قلت : لا " وفي آخر القصة يقول هرقل لأبي سفيان : " وسألتك هل كنت تتهمونه قبل أن يقول ما قال ، فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدعَ الكذب على الناسِ ويكذبَ على الله تعالى " .
وأخرج الشيخان الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : " لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد رسول الله r على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ ؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . قال أبو لهب : تبّا لك يا محمد ألهذا جمعتنا فنزلت : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .
من هذه النصوص يتبين لك أن الثقة بصدق محمد r كانت متوافرة ولم يكن هذا الموضوع فيه شك أبداً وهذا الذي يعلّل لنا :
1- ظاهرة الإيمان به من قِبل من حاربوه واحداً فواحداً طوعاً لا إكراهاً أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب ... لذلك لأنهم ما كانوا يشكون في أن محمداً صادق ، ولكن فاجأهم بشيء لم يسمعوا به هم ولا آباؤهم فأنكروه ، حتى إذا ذهب هول المفاجأة وحكّموا عقولهم التقى صدق الفكر بالثقة الأساسية بشخص محمد r فتولد عن ذلك إيمان .
2- ظاهرة الإخلاص له بعد الإيمان . فبعضهم لم يؤمن إلا آخراً بعد أن غلب كبقايا قريش فإنهم أخيراً غلبوا للإسلام ، وكان يمنعهم من ذلك ثارات وأحقاد وشبهات وشهوات ، حتى إذا دخلوا فيه تسليماً للأمر الواقع وإذا بهم مخلصون لرسول الله r كأتم ما يكون الإخلاص ، ومتفانون في الإسلام بعد أن زالت عن أعينهم غشاوات ، من بعدها تبينوا أن محمداً هو الأخ الكريم والابن الكريم فكانت معرفتهم به وثقتهم بشخصيته أساساً لإخلاصهم في طريقهم الجديد الذي ساروا فيه بعد ذلك فرحين .
وبعد فهذه شهادة خصوم ، بعضهم أسلم بعد خصومة شديدة ، وبعضهم مات على كفره ولكن الجميع حتى في أشد حالات الخصومة كانوا مؤمنين أن محمداً rصادق.
ب – شهادة الأتباع :
ونقدم لشهادة الأتباع بما يلي :
1- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائم الخلطة لأصحابه في طعامهم وشرابهم وسفرهم وصلاتهم ومجالسهم ، وهو عليه الصلاة والسلام كان يحب البساطة والصراحة ويكره التكلف ، وبعض الصحابة خالط الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها عشرات السنين.
2- وهؤلاء الأصحاب لم يكونوا أغراراً ولا مغفلين ولا منعزلين عن العالم ، بل بعضهم من مكة التي كان العرب يقصدونها سنوياً للحج ، وتسلم الجزيرة العربية كلها لأهلها بالفضل والزعامة ، عدا عن صلات أهلها بواسطة التجارة مع اليمن ومع الشام حيث مراكز الحضارة . وبعض أصحابه من المدينة حيث الصلات الفكرية مع اليهود وما ينشأ عن ذلك من تفتح ذهني .
كما أن هؤلاء الأصحاب أثبتوا في حياة الرسول r وبعد مماته أنهم أرجح الناس عقولاً وأكثرهم دهاءً وحنكة ومعرفة بالرجال والشعوب وسياسة الأمم ، بدليل أنهم نجحوا رغم محدودية وسائلهم في فتح أعظم الدول المتحضرة وقتذاك وإدارتها وكسب مودة شعوبها ودمجهم في الأمة الإسلامية .
فإذا ما اجتمعت هذه الناحيتان : الخلطة الدائمة ، وذكاء المخالطين ، فإن أمر الكاذب يفتضح ، وأمر الصادق يتضح .
والظاهرة الواضحة في حياة الصحابة أنهم كلما ازدادوا برسول الله r خلطة ازدادوا به إيماناً وتصديقاً ، بل أكثرهم اختلاطاً به أكثرهم إيماناً به وطاعة له ، وقد بلغ منهم درجة انه أصبح الموت من أجل ما يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من الحياة ، وإنفاق المال أحب إليهم من إمساكه ، والطاعة أحب إليهم من المعصية ، ودين الرسول rأحب إليهم من الأموال والأولاد والمساكن والزوجات والوطن .
وكل هذا من مظاهر التصديق الكامل إذ لولا التصديق لما كان شيء من هذا .
فقد قتل منهم الابن أباه ، وأراد الأب قتل ابنه ، فعلام يفعلون هذا ؟!
لولا أن إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به وصل إلى ذروة الذرى .
وهذه أمثلة كل منهما يعتبر أثراً من آثار التصديق الكامل ودليلاً عليه نذكرها بلا تعليق ، وفي كل منها شهادة من صاحبها بعد تجربة على أن محمداً r صادق لا شَك في ذلك :
1- أخرج الحافظ أبو الحسن الطرابلسي عن عائشة رضي الله عنها – قالت : " لمّا اجتمع أصحاب النبي r - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً – أَلَحَّ أبو بكر على رسول الله rفي الظهور فقال : يا أبا بكر إنا قليل .
فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله r وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته ، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله rجالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله r.
وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين ، فضربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً ووطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً ، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه ، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه .
وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر ، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ، ولا يشكون في موته ، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة ، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب ، فتكلم آخر النهار فقال : ما فعل رسول الله ؟ ، فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه ، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير : انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه ، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول ؛ ما فعل رسول الله r ؟ فقالت : والله مالي علم بصاحبك .
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه ، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ، فقالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله ، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ، قالت : نعم . فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دِنفاً ، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت : والله إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق وكفر ، وإني لأرجو أن ينتقم الله لكَ منهم . قال : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : هذه أمك تسمع .
قال : فلا شيء عليك منها . قالت : سالم صالح . قال : أين هو ؟ قالت : في دار ابن الأرقم . قال : فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله r ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِجْل وسكن الناس ، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله r. قال : فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وأكب عليه المسلمون ، ورق له رسول الله r رقة شديدة .
فقال أبو بكر : بأبي وأمي يا رسول الله ، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي ، وهذه أمي برة بولدها ، وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها ، عسى الله أن يستنقذها بك من النار . قال : فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت " .
2- وأخرج ابن إسحاق عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : " لما أسلم عمر – رضي الله عنه – قال : أي قريش أنقل للحديث ؟ فقيل له : جميل بن معمر الجمحي ، فغدا عليه ، قال عبد الله : وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل – وأنا غلام أعقل كل ما رأيت – حتى جاءه فقال له : أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد r ؟ قال : فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعته أنا ، حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش – وهم في أنديتهم حول الكعبة – ألا إن ابن الخطاب قد صبأ . قال يقول عمر من خلفه : كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وثاروا إليه فما برح يقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم ، قال : وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا . قال : فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال : ما شأنكم ؟
قالوا : صبأ عمر . قال : فمه ، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا ؟ خلوا عن الرجل . قال : فوالله لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه . قال فقلت لأبي – بعد أن هاجر إلى المدينة -: يا أبت ! من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك ؟ قال : ذاك – أي بني –العاص بن وائل السهمي " . وهذا إسناد جيد قوي – كذا في البداية .
3- وأخرج البخاري في التاريخ عن مسعود بن خراش – رضي الله عنه – قال : " بينما نحن نطوف بين الصفا والمروة إذا أناس كثير يتبعون فتى شاباً موثقاً بيده في عنقه . قلت : ما شأنه ؟ قالوا : هذا طلحة بن عبيد الله صبأ . وامرأة وراءه تدمدم وتسبه . قلت : من هذه ؟ قالوا : الصعبة بنت الحضرمي أمه " .
4- وأخرج البيهقي وابن سعد والحارث ابن المنذر وابن عساكر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب – رضي الله عنه - : " أن صهيباً – رضي الله عنه – أقبل مهاجراً نحو النبي rفتبعه نفر من قريش مشركون ، فنزل فانتشل كنانته فقال : قد علمتم يا معشر قريش أني أرماكم رجلاً بسهر ، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه . ثم شأنكم بعد ذلك وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وتخلوا سبيلي .. قالوا : نعم . فتعاهدوا على ذلك فدلهم ، فأنزل الله على رسوله القرآن {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} حتى فرغ من الآية . فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صهيباً قال : ربح البيع يا أبا يحيى ربح البيع يا أبا يحيى ! وقرأ عليه القرآن " .
5- وأخرج الحاكم عن سليمان بن بلال – رضي الله عنه - : " أن رسول الله r لما خرج إلى بدر أراد سعد بن خثيمة وأبوه جميعاً الخروج معه ، فذكر ذلك للنبي rفأمر أن يخرج أحدهما فاستهما . فقال خثيمة بن الحارث لابنه سعد – رضي الله عنهما - : إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فأقم مع نسائك . فقال سعد : لو كان غير الجنة لآثرتك به إني أرجو الشهادة في وجهي هذا ، فاستهما ، فخرج سهم سعد ، فخرج مع رسول الله r إلى بدر . فقتله عمرو ابن عبد ود " وأخرجه أيضاً ابن المبارك عن سليمان وموسى بن عقبة عن الزهري ، كما في الإصابة .
6- وأخرج الطبراني عن ابن عمر " أن عمر – رضي الله عنه – قال يوم أحد لأخيه : خذ درعي يا أخي ! قال : أريد من الشهادة مثل الذي تريد ، فتركاها جميعاً " قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح .
7- وأخرج ابن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخي بني عدي بن النجار قال : " انتهى أنس بن النضر – عم أنس بن مالك – إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار – رضي الله عنهم – وقد ألقوا ما بأيديهم . فاقل : فما يجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقبل القوم ، فقاتل حتى قُتل " .
8- وأخرج الحاكم عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – قال : " بعثني رسول الله r يوم أحد لطلب سعد بن الربيع – رضي الله عنه – وقال لي : إن رأيته فأقرئه مني السلام ، وقل له : يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تجدك ؟ قال : فجعلت أطوف بين القتلى ، فأصبته وهو في آخر رمق ، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم . فقلت له : يا سعد ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ قال : على رسول الله السلام ، وعليك السلام ، قل له : يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف . قال : وفاضت نفسه – رحمه الله – " قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وقال الذهبي : صحيح . ثم أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة حدثه عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع – رضي الله عنه – فذكر الحديث بنحو منه . وقال : فقال سعد : أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني من الأموات ، وأقرئه السلام وقل له : يقول سعد : جزاك الله عنا ، وعن جميع الأمة خيراً " .
9- وأخرج البيهقي عن مالك بن عمير رضي الله عنه وكان قد أدرك الجاهلية .، قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لقيت العدو ولقيت أبي فيهم ، فسمعت لك منه مقالة قبيحة فلم أصبر حتى طعنته بالرمح – أو حتى قتلته - ، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ثم جاء آخر فقال : إني لقيت أبي فتركته وأحببت أن يليه غيري ، فسكت " . قال البيهقي وهذا مرسل جيد .
10- وأخرج البزار عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " مر رسول الله rبعبد الله بن أبي وهو في ظل أطم فقال : غبّر علينا ابن أبي كبشة . فقال ابنه عبد الله بن عبد الله – رضي الله عنه - : يا رسول الله والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه ! فقال : لا ، ولكن بر أباك وأحسن صحبته " . قال الهيثمي رواه البزار ورجاله ثقات .
11- وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال لسعيد بن العاص – رضي الله عنه – وقربه : " إني أراك تظن أني قتلت أباك ، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة ، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بورقه ، فحدت عنه وقصد له ابن عمه علي فقتله " . كذا في البداية ، وزاد في الاستيعاب والإصابة : " فقال له سعيد بن العاص : لو قتلته لكنت على الحق وكان على الباطل . فأعجبه قوله " .
12- وأخرج ابن سعد عن الزهري قال : " لما قدم أبو سفيان بن الحر بالمدينة جاء إلى رسول الله r وهو يريد غزو مكة فكلّمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل رسول الله rفقام فدخل على ابنته أم حبيبة – رضي الله عنها - . فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دون . فقال : يا بنية ! أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه ؟ فقالت : بل هو فراش رسول الله r وأنت امرؤ نجس مشرك . فقال : يا بنية ! لقد أصابك بعدي شر " . وذكر ابن إسحاق نحوه بلا إسناد ، كما في البداية وزاد : " فلم أحب أن تجلس على فراشه " .
13- وأخرج الطبراني عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : " لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة . وقالوا : قُتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة . فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها – أي قتلى – لا أدري أيهم استقبلت به أولاً . كلما مرت على أحدهم قالت: من هذا ؟ قالوا : أبوك ، أخوك ، زوجك ، ابنك ، تقول : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يقولون : أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لا أبالي إذ سلمتَ من عطب " .
هذه نصوص تبين لك مدى الإيمان برسول الله rعند أتباعه المخالطين له ، مما يدلك على أن تصديقهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ حداً لا مثيل له .
ج - وأخيراً شهادة الواقع:
إن شهادة الواقع أعلى الشهادات لأن الإنسان يصل بواسطتها إلى اليقين الذي لا يخالطه شك فليقم الإنسان بإجراء اختبار كامل لكل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل . فإذا ما وجد أن كل قول وفعل مما يمكن أن يدخل تحت الاختبار لا يخرج عن الحق والصدق . ل
م يبق أمام الإنسان إلا طريق واحد هو الإيمان والتصديق . وسنرى في الباب الثاني أن الاختبار الكامل للقرآن يجعلك – على مثل الشمس وضوحاً – أن القرآن كله حق وصدق وأنه من عند الله ، وسنرى في الباب الثالث – إن شاء الله – أن الاختبار الكامل لنبوءاته يدلك على أن المستقبل كان كشفاً لها وتوكيداً .
أما هنا فسننقل نماذج من مزاحه ومداعباته لنرى أنها لا تخرج عن الحق والصدق ، ونماذج عن وعوده وعهوده وصدقه فيها ، ونماذج من أحاديثه التي يستطيع الإنسان أن يعرف صدقها بالاختبار ، لنرى العجب في مطابقة ما عرفه إنسان عصرنا بعد التجربة ، لما نطقت به شفتا رسول الله rمن عصور ، وسنختم هذه الفقرة بالتذكير بأن المصدر الوحيد الذي نستطيع أن نأخذ عنه العلم بالغيبيات بثقة هو رسول الله r ، وكلامه حجة على غيره فيه ، مع مناقشة بعض القضايا التي لها علاقة بهذا الأمر ونبدأ باستعراض ما ذكرنا :
1- نماذج من صدقه صلى الله عليه وسلم في مزاحه ومداعباته :
إن الناس عادة لا يلتزمون الصدق في المزاح ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم داعب صادقاً ومازح صادقاً وألزم أمته الصدق في كل حال .
أخرج أحمد عن أنس بن مالك : " أن رجلاً أتى النبي فاستحمله ، فقال رسول الله r : إنا حاملوك على ولد ناقة ، فقال يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة ؟ فقال رسول الله r: وهل تلد الإبل إلا النوق ؟ " رواه أبو داود والترمذي .
وقال زيد بن أسلم : " إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي r فقالت : إن زوجي يدعوك ، قال : ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض ؟ قالت : والله ما بعينه بياض . فقال : بل إن بعينه بياضاً . فقالت : لا والله . فقال : ما من أحدٍ إلا وبعينه بياض " هو أراد البياض المحيط بالحدقة وهي فهمت البياض على الحدقة الذي يكون به الرجل أعورَ .
وأخرج أحمد عن أنس : " أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً ، وكان يهدي النبي الهدية من البادية فيجهزه النبي إذا أراد أن يخرج . فقال رسول الله r : إن زاهراً باديتنا ونحن حاضره ، وكان رسول الله يحبه وكان رجلاً دميماً . فأتاه رسول الله r وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل ، فقال : أرسلني من هذا ؟ فالتفت فعرف النبي r فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي حين عرفه وجعل رسول الله يقول : من يشتري العبد ؟ فقال يا رسول الله إذن والله تجدني كاسداً ، فقال رسول الله : لكن عند الله لست بكاسد . أو قال لكن عند الله غالٍ " . رواته ثقات . فأنت ترى من سياق الحديث أنه عنى بالعبد عبد الله وكلنا عبد الله .
وأخرج الترمذي في الشمائل عن الحسن قال : " أتت عجوزٌ النبي r فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة : فقال : يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز ، فولت تبكي فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول : {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} " .
وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس قال : " قال لي رسول الله : يا ذا الأذنين " . قال أبو أسامة يعني يمازحه ، وكل إنسان له أذنان .
فأنت ترى من هذه الأمثلة أنه داعب ومازح دون أن يخرج عن الحق والصدق ، ولكنه استعمل هذا الصدق استعمالاً لطيفاً ، على غير المتعارف . ففهم المخاطب فهماً كانت فيه نكتة وهكذا كانت مداعباته كلها حقاً .
أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : " قالوا : يا رسول الله ! إنك تداعبنا ، قال : إني لا أقول إلا حقّاً " . إنها نبوة صدق وما كان للنبوة أن يكون للباطل عندها أو معها نصيب .
2- نماذج من صدقه صلى الله عليه وسلم في وعوده وعهوده :
أخرج أبو داود عن عبد الله بن أبي الخنساء قال : " بايعت النبي r قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك . فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه ، فقال : يا فتى لقد شققت عَلَيَّ ، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك " .
وأخرج ابن حبان والحاكم : " كان صلى الله عليه وسلم جالساً يقسم غنائم هوزان بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال : إن لي عندك موعداً يا رسول الله . قال : صدقت فاحتكم ما شئت . قال : أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها . قال : هي لك وقال : احتكمت يسيراً ... "
وأخرج الحاكم عن حويطب بن عبد العزى في قضية إسلامه عندما كان مشركاً تولى مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلاء عن مكة في عمرة القضاء بعد انقضاء مدة الثلاثة أيام المتفق عليها يقول حويطب : " ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخرجت قريش من مكة كنت فيمن تخلف بمكة أنا وسهيل بن عمرو فقلنا : قد مضى شرطك فاخرج من بلدنا فصاح يا بلال لا تغب الشمس وواحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا " .
وهذه فقرأت من كتاب ( بطل الأبطال ) يحلل فيها صاحبه بعض مواقف الوفاء بالعهد والوعد التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قبل سنة من هدنة الحديبية كانت قريش تحاصر المدينة وقد جمعت لذلك الأحزاب من أهل القرى والأعراب فنقض بنو قريظة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . واشتد بذلك الكرب وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً ، ولكن الله نصر عبده ، وأعزه وألقى الرعب في قلوب المشركين ، ولم تمض إلا فترة وجيزة حتى كان جيش الإسلام بقيادة رسول الله يزحف إلى مكة ، فنزل الحديبية وبعثت قريش رسلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو ذا عروة بن مسعود الثقفي رسولها يعود إليها يصف حال محمد صلى الله عليه وسلم وجنده بهذه العبارة :
" إني قد جئت كسرى في ملكه ، قيصر في ملكه والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه " . كان محمد في منعة وقوة ولكنه كان يعلن أنه لا يريد الحرب ، ويقول : لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها . فلما جاءه سهيل بن عمرو مفوضاً من قريش لعقد الهدنة يرجع بها محمد وجيشه عن دخول مكة ، كان من شروط هذه الهدنة شرط ظاهر الغبن وهو أن محمداً يسلم إلى قريش من لجأ إليه من المسلمين بغير إذن وليه ولا يطلب تسليم من لجأ إلى قريش من أتباعه ...
ذلك الشرط أهاج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى إن عمر – رضي الله عنه – كان يذهب تارة إلى أبي بكر وتارة أخرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول : ألسنا المسلمين ! أليسوا المشركين ! ألست رسول الله !!.. فعلام نعط الدنية في ديننا ؟ فيقول الرسول : أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني ، ويقول أبو بكر : أشهد أنه رسول الله .
فقبول المسلمين هذا الشرط هو استسلام منهم لأمر لم يدركوا سره ، وكان ذلك أعظم بلاء وامتحان لصبرهم ، وبينما هم على هذه المضاضة وقد فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من الجدل مع مفوض قريش سهيل بن عمرو ، ولم يكتب العقد ولم يمض ، جاءهم أبو جندل مستصرخاً يرسف في قيوده وأبو جندل هذا هو ابن سهيل بن عمرو نفسه ، فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه وقال : يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك – أي فرغنا من المناقشة – قبل أن يأتيك هذا .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : صدقت ، وأبو جندل ينادي يا معشر المسلمين ! أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ تصوروا ذلكم المقام مقام محمد صلى الله عليه وسلم وهو الشجاع الذي حدثتكم عن شجاعته المنقطعة النظير ، وهو القوي الذي خرج من المدينة زاحفاً بجيش .
سمعتم الآن وصف عروة بن مسعود له تصوروه وهو يرى أقرب أصحابه ( في حالة تذمر ) ثم تصوروا لاجئاً يرسف في القيود ، وهو من أبناء الأعزة في قريش ، يرسف فيها ( اتباعاً ) لمحمد ودين محمد ، ثم انظروا إليه لا يحتال ولا يتردد ولما يكتب ولما يمض ، يقول لسهيل : صدقت لقد لجت القضية ، ويرد صاحبه باكياً إلى أعدائه تصوروا كل ذلك ، ثم ليكتب إليَّ من يشاء بمثل واحد في تاريخ البشر كله كهذا المثل يضربه محمد في رعاية الكلمة التي قالها ولما تكتب ولما تمض .
ويقول صاحب الكتاب ذاكراً مثلاً آخر :
ثم انظروا إلى وفائه للمشركين أيضاً : كان بين شروط هدنة الحديبية أن من شاء دخل في عقد محمد وعهده ، ومن شاء دخل في عقد قريش وعهدها . فدخلت خزاعة على شركها في عهد محمد فلما نقضت قريش عهدها معه ونصرت حليفتها بكراً عليها . ذهب عمرو بن سالم الخزاعي يطالب ( رسول الله r) بالعهد ويطلب ( منه ) نصر حلفائه فوقف على رسول الله وهو في المسجد ينشده ويقول :
يا رب إني ناشد محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصرا اعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
فكان ذلك الاعتداء على المشركين من حلفاء المسلمين سبباً في تجهيز أضخم جيش عرفته الجزيرة والسير لنصرة الحليف وكان من آثار ذلك فتح مكة كما هو معروف هذه أمثلة سقناها من وفاء ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لأعداء الملة وقد عاهدهم ... أو قبل محالفتهم على غيرهم " .
هذه نماذج من صدقه في وعده وعهده وسواها كثير فما حدث أن وعد رسول الله ، أو عاهد فأخلف أو غدر . روى البخاري أن هرقل لما سأل أبا سفيان عن محمد : هل يغدر ؟ فأجاب أبو سفيان : لا . فقال هرقل بعد ذلك : وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر " .
إن الغدر نوع من أنواع الكذب والخلف بالوعد كذب . والرسول r منزه عن ذلك ، ومن النماذج القليلة التي ذكرناها ترى أنه ما أحد من البشر غير الرسل وصل إلى ما وصل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الوفاء لشرف الكلمة ، إلا إذا كان تلميذاً من تلامذته ، يقتدي به . لقد كانت كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الضمان الذي ما بعده ضمان ، حتى أن ألد خصومه وأعرقهم في دعواته كان لا يتردد إذا تأكد أن محمداً أمنه أن يلقي بنفسه في أحضان المسلمين ، ثقة منه أن كلمة محمد ضمان لا يعدله ضمان . ومن تتبع حوادث السيرة وجد الأمثلة الكثيرة على هذا ، إنها صفة الصدق عن الأنبياء لا تتخلف .
3- نماذج من حديثه r الذي صدقته علوم عصرنا من غير النبوءات :
أ) – قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء " .
إن هذا الحديث ذكر قضيتين كلتاهما لم تكونا معروفتين قديماً . أولاهما أن الذباب ناقل داء وهذا شيء أصبح الآن معروفاً لدى الجميع ، فالذباب ناقل جراثيم ممتاز . والثانية وهي التي يجهلها الكثير أن الذباب يحمل مضادات للجراثيم من النوع الممتاز كذلك ، وهذا تحقيق كتبه " الدكتور عز الدين جوالة " حول هذا الموضوع ننقل منه ما يلزمنا هنا يقول :
قبل الخوض في هذا الموضوع لنتذكر ما يلي :
1- من المعروف منذ القديم أن بعض المؤذيات قد يكون في سمها نفع ودواء ، فقد يجتمع الضدان في حيوان واحد ، فالعقرب في إبرتها سم ناقع ، وقد يداوى سمها بجزء منها ، وفي ذلك يقول العلماء : " وقد وجدنا لكون أحد جناحي الذباب داء والآخر شفاء ودواء فيما أقامه الله من عجائب خلقه وبدائع فطرته شواهد ونظائر ، منها النحلة يخرج من بطنها شراب نافع ويكمن في إبرتها السم الناقع ، والعقرب تهيج الداء بإبرتها ويتداوى من ذلك بجرمها "
2- وفي الطب يحضر لقاح من ذبيب الأفاعي والحشرات السامة يحقن به لديغ العقرب أو لديغ الأفعى ، بل وينفع في تخفيف آلام السرطان أيضاً .
3- إن الطب الحديث استخرج من مواد مستقذرة أدوية حيوية قلبت فن المعالجة رأساً على عقب ، فالبنسلين استخرج من العف ، والستربتو مايسين من تراب المقابر .. إلخ أو بمعنى أدق من طفيليات العفن وجراثيم تراب المقابر . أما والحالة كذلك ، فهل يمتنع عقلاً ونظرياً أن يكون في الذباب هذه الحشرة القذرة ، والتي تنقل القذر طفيلي أو جرثوم يخرج أو يحمل دواء يقتل هذا الداء الذي تحمله .
4- من المعروف في فن الجراثيم أن للجرثوم ذيفاناً ( مادة منفصلة عن الجرثوم ) وأن هذا الذيفان إذا دخل بدن الحيوان كَوَّنَ البدن أجساماً ضد هذا الذيفان ، لها قدرة على تخريب الذيفان والتهام الجراثيم ، تسمى بمبيدات الجراثيم .
فهل يستبعد القول بأن الذباب تلتهم الجراثيم فيما تلتهم ، فيكون في جسم الذباب الأجسام الضدية المبيدة للجراثيم والتي مر ذكرها ، ولها القدرة على الفتك بالجراثيم الممرضة التي ينقلها الذباب إلى الطعام أو الشراب ، فإذا وقعت في الطعام فما علينا إلا أن نغمس الذبابة فيه فتخرج تلك الأجسام الضدية فتبيد الجراثيم التي تنقلها وتقضي على الأمراض التي تحملها.
وبعد كلام للدكتور عز الدين ، يستمر فينقل تحقيقاً للطبيبين المصريين محمود كمال ومحمد عبد المنعم حسين في إثبات ما في الحديث ، ننقل بعضاً منه ، يقولان :
ما تقوله المراجع العلمية :
في 1871 وجد الأستاذ الألماني " بريفلد " من جامعة هال بألمانيا أن الذبابة المنزلية مصابة بطفيلي من جنس الفطريات سماها " امبوزاموسكي " وهو طفيلي يعايش الذبابة على الدوام ، وبالتدقيق فيه وجده من نوع الفطور التي تسمى " انتوموفترالي " تنتمي إلى أهم فصيلة في الفطور الأشنية ، وهي المسَّاه بالفطور الشنية المرتبطة أو المتحدة ، وهو من النوع الثاني للفطر المسمّى الفطور الأشنية الطفيلية ، وهذا الطفيلي يقضي حياته في الطبقة الدهنية الموجودة داخل بطن الذبابة بشكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة سيأتي ذكرها . ثم لا تلبث هذه الخلايا المستدير أن تستطيل فتخرج من الفتحات أو من بين مفاصل حلقات بطن الذبابة فتصبح خارج جسم الذبابة .
ودور الخروج هذا يمثل الدور التناسلي لهذا الفطر ، وفي هذا الدور تتجمع بذور الفطر داخل الخلية ، فيزداد الضغط الداخلي للخلية من جراء ذلك ، حتى إذا وصل الضغط إلى قوة معينة لا تحتملها جدر الخلية انفجرت الخلية وأطلقت البذور إلى خارجها بقوة دفع شديدة ، تدفع البذور إلى مسافة 2 سم خارج الخلية ، على هيئة رشاش مصحوباً بالسائل الخلوي .
وعلى هذا إذا أمعنا النظر في ذبابة ميتة ومتروكة على الزجاج نشاهد :
أ – مجالاً من بذر هذا الفطر حول الذبابة المذكورة .
ب – ويشاهد حول القسم الثالث والأخير من الذباب على بطنها وعلى ظهرها وجود الخلايا المتفجرة ، التي خرجت منها البذور ، وقد برز منها رؤوس الخلايا المستطيلة التي مر ذكرها . وقد جاءت مكتشفات العلماء الحديثة مؤيدة ما ذهب إليه " بريفلد " ومبينة خصائص عجيبة لهذا الفطر الذي يعيش في بطن الذبابة منها :
1- في عام 1945 أعلن أكبر أستاذ في علم الفطريات وهو " لانجيرون " أن هذا الفطر الذي يعيش دوماً في بطن الذبابة على شكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة ( أنزيم ) قوية تحلل وتذيب من أجزاء الحشرة الحاملة للمرض .
2- في عام 1947 – 1950 تمكن العالمان الإنجليزيان " آرنشتين وكوك " والعالم السويسري " روليوس " من عزل مادة سموها " جافاسين " استخرجوها من فصيلة الفطور التي تعيش في الذباب وتبين لهم أن هذه المادة مضادة للحيوية تقتل جراثيم مختلفة من بينها جراثيم غرام السالبة والموجبة والديزانتريا والتيفوئيد .
3- وفي عام 1948 تمكن " بريان وكورتيس وهيمنغ وجيفيرس وماكجوان " من بريطانيا من عزل مادة مضادة للحيوية أسموها " كلوتيزين " وقد عزلوها عن فطريات تنتمي إلى نفس فصيلة الفطريات التي تعيش في الذباب وتؤثر في جراثيم غرام السالبة كالتيفوئيد والديزينطريا .
4- وفي عام 1949 تمكن عالمان إنجليزيان هما " كومسي وفارمر " وعلماء آخرون من سويسرا هم " جرمان وروث واثلنجر وبلاتنز " من عزل مادة مضادة للحيوية أيضاً أسموها " انياتين " عزلوها من فطر ينتمي إلى فصيلة الفطر الذي يعيش في الذباب وتؤثر بقوة على جراثيم غرام موجب وسالب وعلى بعض فطريات أخرى كالزحار والتيفوئيد والكوليرا .
5- وفي عام 1947 عزل " موفيتش " مواد مضادة للحيوية من مزرعة للفطريات الموجودة على نفس جسم الذبابة ، فوجدها ذات مفعول قوي على الجراثيم السالبة لصيغة غرام . كالزحار والتيفوئيد وما يشابهها ووجدها ذات مفعول قوي على الجراثيم المسببة لأمراض الحميات ذات الحضانة القصيرة المدة . وأن غراماً واحداً من هذه المادة يمكنه أن يحفظ أكثر من 1000 لتر من اللبن المتلوث بالجراثيم المذكورة .
والخلاصة يستدل من كل ما سبق أنه :
1- يقع الذباب على الفضلات والمواد القذرة والبراز وما شابه ذلك ، فيحمل بأرجله أو يمج كثيراً من الجراثيم المرضية الخطرة .
2- يقع الذباب على الأكل فيلمس بأرجله الملوثة للمرض هذا الطعام ، أو هذا الشراب ، فيلوثه بما يحمل من سم ناقع ، أو يتبرز عليه فيخرج مع ونيمها تلك الجراثيم الدقيقة الممرضة .
3- فإذا حملت الذبابة من الطعام ، وألقيت خارجه دون غمس ، بقيت هذه الجراثيم في مكان سقوط الذباب ، فإذا التهمها الآكل وهو لا يعلم طبعاً ، دخلت فيه الجراثيم ، فإذا وجدت أسباباً مساعدة تكاثرت ثم صالت وأحدثت لديه المرض ، فلا يشعر إلا وهو فريسة للحمى طريحاً للفراش .
4- أما إذا غمست الذبابة كلها ، أو مقلت في الطعام فماذا يحدث؟ إذا غمست الذبابة أحدثت هذه الحركة ضغطاً داخل الخلية الفطرية الموجودة مع جسم الذبابة فزاد توتر البروز والسائل داخلها زيادة تؤدي إلى انفجار الخلايا ، وخروج الأنزيمات الحالة لجراثيم المرض والقاتلة له ، فتقع على الجراثيم التي تنقلها الذبابة بأرجلها فتهلكها وتبيدها ، ويصبح الطعام طاهراً من الجراثيم المرضية .
5- وهكذا يضع العلماء بأبحاثهم تفسيراً للحديث النبوي المؤكد لضرورة غمس الذبابة كلها في السائل أو الغذاء ليخرج من بطنها الدواء الذي يكافح ما تحمله من داء .
ويستنتج من ذلك أن العلم الحديث قد حقق ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم .
فقد أثبت العلم الحديث أن الذباب ينقل الجراثيم والأقذار بأرجله من النفايات والكنف والمزابل إلى الأطعمة والأشربة ، وإلى فتحات الوجه والتنفس فيسبب الأمراض المعدية من تيفوئيد وسل وكوليرا وغيرها ، وهذا ما أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم من أن بأحد جناحي الذبابة الداء .
والداء يجب الوقاية منه والبعد عنه ، ولا يكون لك إلا بمكافحة الذباب وإبادته والاحتراس منه .
ويقرر العلم الحديث أيضاً كما رأينا أن في الذباب طفيليّاً له ذيفان يبيد الجراثيم ويفتك بها بشدة ، وأن هذا الذيفان لا ينفصل عن جرثومة إلا بعد وصول توتره إلى درجة معينة ، يكفي لبلوغه الضغط عليه بغمسه ولو في الشراب أو الطعام . وهذا ما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} .(النجم : 3 ، 4)
ب )- عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال : " لا إن ذلك دم عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي " .
المسألة هنا كما يلي : للمرأة عادة شهرية يخرج فيها الدم من رحمها كأثر من آثار عدم تلقيح بويضة الأنثى بماء الذكر والدم الذي يخرج منها في هذه الحالة يسمى دم حيض وهذه امرأة يخرج منها الدم دائماً وكانت تتصور أن الدم كله حيض ولكن الرسول أفهمها أن هذا الدم ليس دم حيض ولكنه نزيف عرق .
فماذا يقول العلماء المختصون المعاصرون ؟
يقولون : إن الدم الوحيد الذي يخرج من الرحم – عادة – هو دم الحيض والنفاس أما الدم الآخر فمرجعه إلى نزيف يحدث في بعض الأغشية مما لا علاقة له بدم الحيض ، فهل كان حديث أهل الاختصاص في عصرنا إلا مصدقاً لما قاله عليه السلام من عصور لم يكن فيها معروفاً ؟ .
ج )- روى الإمام مسلم عن طارق الجعفي أنه سأل النبي r عن الخمر فنهاه عنه فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : " إنه ليس بدواء ولكنه داء " .
إن هذا الحديث يذكر أن الخمرة من أسباب المرض وليست من أسباب الشفاء . فماذا يقول الأطباء في عصرنا ؟ ننقل للجواب على هذا ما ذكره صاحب كتاب روح الدين الإسلامي في هذا الموضوع ، وقد نقل هو قسماً من بحثه عن الإسلام والطب الحديث يقول :
" الخمر أساسها مادة الكحول بكميات مختلفة ، وهذه المادة توجد بنسبة خفيفة جداً في جسم الإنسان في عملية هضم المواد السكرية ... ولها فوائد طبياً ولكن يظهر أن هذه الفوائد قاصرة على هذا القدر البسيط جداً ( والحديث لم يذكر أن ما يجري داخل الجسم من عملية التخمر فيه ضرر ولكن الكلام فيما نخمره ثم نشربه ) فإن زاد عن ذلك أحدث ضرراً خصوصاً إذا كان التعاطي لمدة طويلة ، فإنه يحدث التهاباً مزمناً في الأعصاب وفي الكلى ، وتصلباً في الشرايين وتحجراً في الكبد ، وضعفاً في القلب . وربَّ سائلٍ يقول : لم لا يؤخذ منه مقدار بسيط ؟ ( ولا يسأل هذا السؤال إلا إنسان يجهل أن الجسم متى اعتاد على الكحول طلبه وغلب عليه ، فلم يعد يستطيع الصبر عنه ) والجواب أن الكحول يختلف عن أغلب المواد في أنه حتى بالمقادير البسيطة يحدث ضعفاً في قوة الإرادة والحكم ، وتزداد به الانفعالات النفسية ، وهذا هو الخطر ، لأن الشخص يصبح شخصاً آخر ، وإرادته تصبح غير إرادته الطبيعية ، ومع علمه بضرر الزيادة في حالته الاعتيادية لا يقوى على منع نفسه ، وهو تحت تأثير البسيط منه وقد يحدث الشيء البسيط منه حركة انتعاش ولكن ضعف الإرادة المتولدة منه يجعل الشخص عبداً لعادة شرب الخمر .
وإن تأثير الخمر يبدأ بمجرد وصول عشرة جرامات من الكحول إلى الدم للشخص البالغ ، وهذا القدر يوجد في كأس واحدة من الويسكي أو الكونياك ، وقد لا يصل الشخص إلى درجة السكر ، ولكن على كل حال له أثر ملموس في حالة الشخص الجسمية والعقلية ، وإذا فحص الشخص في هذه الحالة ، نجد أن درجة إدراكه وتقديره قد تغيرت فعلاً ، فهو مثلاً إذا كتب على الآلة الكاتبة زادت أخطاؤه عن المعتاد ، وإذا قاد سيارة لم يتبع بالضبط قوانين المرور . وقد ثبت من الإحصائيات أن أكثر ن 13 في المائة من حوادث المرور سببها الخمر.
والجرعة الواحدة من الخمر تحدث شيئاً من الارتفاع في ضغط الدم ، وهذا الارتفاع وحده قد لا يكون له ضرر كبير ولكن الضرر يتضاعف إذا كان الشخص مرتفع الضغط من نفسه ، ثم إذا كانت كمية الخمر وافرة كانت كافية لأن تحدث هيجاناً يزيد في الضغط لدرجة ينفجر معها شريان في المخ ، يسبب شللاً قد ينجو منه الشخص جزئياً أو لا ينجو كلية ، إذ من المعلوم أن الشخص الذي ضغطه الدموي مرتفع يجب أن يلتزم الهدوء في حياته ، لأن أي هيجان يزيد في ارتفاع الضغط يعرضه لانفجار شرياني ، والسكران لا يمكنه أن يضبط عواطفه ، وبالتالي لا يمكنه أن يضمن لنفسه هذا الهدوء .
والخمر تحدث عند غير المتعوّد عليها احتقاناً في المعدة ، قد يسبب غثياناً أو قيئاً ، وإذا كانت الجرعة كبيرة سببت التهاباً في المعدة وعسر هضم يمتد إلى بضعة أيام .
ويرى بعض الأطباء أن الخمر ولو كانت قليلة جداً ، فهي ضارة بالخميرات في طول القناة الهضمية ، وهذه الخميرات ضرورية لسير حركة الهضم سيراً طبيعياً . والخمر لها تأثير في الوراثة ، فقد شوهد أن أولاد السكيرين ينشأون غير صحيحي الجسم ، ضعفاء البنية ناقصي العقول ، ويكون لديهم ميل إلى الإجرام ودافع إلى الشر . وأن من يبحث في كتب الطب يتولاه العجب عندما يقرأ مسببات الأمراض المختلفة . إذ يجد للخمر نصيب الأسد في ذلك .
لقد أصبحت فكرة التداوي بالخمر محض خرافة وتأكد كونها داء بعشرات الطرق ، وأقل ما فيها ما ذكره "بتنام " في كتابه أصول الشرائع : النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله وفي الأقاليم الجنوبية يجعله كالمجنون " .
ولعله وضح بعد هذا كيف أن كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينقصها شيء ، لأنها محض الحق الذي لا تزيده الأيام إلا تثبيتاً وتأكيداً .
بقية سعيد حوي - الصادق الأمين
المصدر
- مقال:محمد : الصادق الأمين موقع : برهانكم