مبدأ (الموطنة) عند الدكتور مصطفى السباعي
بقلم: الدكتور منير الغضبان
رغم كلّ ما كُتِب في المواطنة، فلا يزال الحديث عنها بحاجة إلى تأصيل وتعميق شرعي.
والدكتور مصطفى السباعي رحمه الله رائد كبير من روّاد هذا المبدأ، ولرأيه أهمّية كبرى إذ يمثّل أكبر تنظيم إسلامي في سورية؛ الإخوان المسلمون.
وسنعرض لهذا الموضوع ضمن الفقرات التالية:
بعد نزول آية الجزية في السنة التاسعة للهجرة، وابتداء الفتوحات الإسلامية في عهد الصدّيق ، صار كلّ من هادن الإسلام ذمّياً بحماية المسلمين.
ولم يكن الأمر كذلك في الدول التي دخلت الإسلام عن طريق التجارة والدعوة إلى الله.
بقي هذا الأمر سائداً خلال التاريخ الإسلامي وفي الدولة العثمانية التي تمّثل المسلمين في العالم حتّى عام 1839، حيث صدر مرسومان سلطانيّان نصّا على اعتبار المساواة بين المواطنين، وذلك خلال عهد السلطان عبد المجيد.
أوّلهما: صدر خط شريف همايوني بمنشور كولخاتة الذي وضعه الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا في عام 1839 وعرف بخطّه المعتدل الإصلاحي في الدولة العثمانية.
وقد كفلت هذه التنظيمات مساواة المسلمين والذمّيين من الرعايا العثمانيين أمام القانون مقابل الحفاظ على الدولة العثمانية بعد أن هدّدها محمد علي باشا في الفترة 1839 – 1842 بموجب معاهدة لندن.
وقد بدأ العلماء يشرحون للأمّة أنّ هذا المنشور لا يتعارض مع الإسلام، ثمّ كان المنشور الثاني في عام 1856 المعروف بخط شريف همايوني ثم عُرف بمنشور التنظيمات الخيرية، وقد صدر عقب حرب القرم (1854 – 1856) حيث أكّد كسابقه المساواة في ذلك بالضرائب (إلغاء الجزية) وتمثيل الطوائف غير الإسلامية بمجالس محلّية ومجلس القضاء، وقد أخذ شرعيّته باعتباره صادراً عن الخليفة العثماني أكثر من شرعيّته بتبنّي العلماء له (انظر الرجل المريض، أو السلطان عبد الحميد الثاني.
د. موفّق بنّي المرجة ).
وأخذ مبدأ المواطنة الشرعية الكاملة يوم تجاوز أن يكون بياناً ليكون مواداً في الدستور، وتكمن أهمّية الدستور العثماني في أنّه هو المرجع الوحيد الذي يُعطي الشرعية لهذا المبدأ ولم يصدر إلاّ بموافقة مفتي الخلافة.
لقد أُلغي الرّق في العالم الإسلامي، وانتهى وجوده في الدول والشعوب الإسلامية لأنّ الخليفة العثماني وقّع على وثيقة إلغاء الرّق في العالم.
ونعرض مبادئ تغيير العقد مع غير المسلمين في الدستور العثماني من عقد (الجزية) إلى عقد (المواطنة) من خلال المواد التالية:
المادة
8- يُطلق لقب عثماني على كلّ فرد من أفراد التبعية العثمانية بلا استثناء من أيّ دين ومذهب كان.
المادة
9- إنّ جميع العثمانيين متمتّعون بحرّيتهم الشخصية، كلّ منهم مكلّف بعدم تجاوزه حقوق غيره.
المادة
10- إنّ الحرّية الشخصية مصونة من جميع أنواع التعدّي.
المادة
11- إنّ دين الدولة العثمانية هو الدين الإسلامي، ومع مراعاة هذا الأساس وعدم الإخلال براحة الخلق والآداب العمومية، تجري جميع الأديان المعروفة في الممالك العثمانية بحرّية حماية الدولة مع دوام الامتيازات المعطاة للجماعات المختلفة كما كانت عليه (1) المشروطية العثمانية عام 1976.
(الرجل المريض أو السلطان عبد الحميد / الدكتور موفّق بني المرجة).
وفي الشأن السوري عاد فتثبّت في مؤتمر رابطة العلماء الذي عُقد بعد مائة عام من خط كولخانة عام 1839، وكان عددهم ينوف عن مائة عالم، حيث كان للسباعي الدور الأكبر في صياغة بيانه.
ففي القرارات التي بلغت ستّة وعشرين قراراً كان منها القرار (24) الذي يقول: إذاعة بيان من أعمال المؤتمر وفي مقدّمته إعلان المبادئ الإسلامية بين المسلمين وبقيّة المواطنين وشجب الدعايات الاستعمارية المشوّهة لسمعة الإسلام عن طريق إثارة فكرة الأقلّيات ووصم المسلمين بالتعصّب الذميم (من بيان رابطة العلماء في سورية عام 1938).
وبهذه المواد أصبح عقد غير المسلمين مع المسلمين على أساس المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات، وإنهاء عقد الذمّة الذي قام في الأصل على المقاتلة بين المسلمين وغيرهم.
في التخريج الشرعي لفكرة المواطنة وتغيير عقد الذمّة يقول السباعي رحمه الله:
"وكانت الجزية قبل الإسلام تُفرَض على من لم يكن من الفاتحين عرقاً أو بلداً أو ديناً، سواء حارب أم لم يحارب.
أمّا في الإسلام فلا تُفرَض إلاّ على المحاربين من أعداء الأمّة، أمّا المواطنون من غير المسلمين ممّن لم يحاربوا الدولة فلا تُفرَض عليهم الجزية كما فعل عمر بن الخطّاب مع نصارى تغلب".
وقال: "لو رجعنا إلى آية الجزية في القرآن لوجدناها تقول: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر..} فهي تجعل الجزية غاية لقتال أهل الكتاب حين نتغلّب عليهم، وليس كلّ أهل الكتاب يجب علينا أن تقاتلهم، إنّما نقاتل من يقاتلنا ويشهر علينا السلاح ويعرّض كيان الدولة للخطر، وهذا هو صريح الآية الكريمة: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين}.
... فلا شكّ في أنّ الذين يعيشون في الدولة مع المسلمين من أهل الكتاب، ويشاركونهم في الإخلاص والولاء لها، ليسوا ممّن يجوز قتاله. فلا تُفرَض عليهم الجزية التي هي ثمرة القتال بعد النصر، وهذا ما يُفهم من آيات الجزية من غير تأويل ولا تعسّف..." (مصطفى السباعي: الداعية المجاهد، والفقيه المجدّد – د. عدنان زرزور ص 320).
كان في الثالثة والعشرين من عمره، وأصدرت حكومة الكتلة الوطنية أثناء الاستعمار الفرنسي قانون الطوائف، فكتب في افتتاحيّة مجلّة الفتح وهو في مصر كلمة هاجم فيها قانون الطوائف قال فيها: "ماذا نقول في بلد دخله أوصياؤه وهو شعب واحد وأمّة واحدة.
فما لبثوا أن جعلوه موزّعاً بين عرب مسلمين ومسيحيين ويهود ونصيرية ودروز وإسماعيليين وشيعة وأكراد وتركمان وشركس وداغستان وغجر، ثمّ زادوا عليها الأرمن والآشوريين.."، فانطلاقه من فكرة الشعب السوري الواحد يجعله يرفض التوزيع الطائفي لأبناء الأمّة الواحدة وكان هذا عام 1938.
وقد تحدّث السباعي عن هذا الموضوع بمناسبة انتخابات 1949: "وكانت مخطّطات الوحدة هي الموضوع الأساسي في الانتخابات، يُضاف إلى ذلك مساندة الإخوان المسلمين لمرشّحين نصارى.. وقد ساهمت في أحد اللقاءات الانتخابية الكبيرة للجبهة الإسلامية الاشتراكية في لجنة تمثّل أحياء النصارى في دمشق يقودها جورج شلهوب، وامتدحَتْ الإخوان المسلمين لأجل جهادهم في المجالات الوطنية والدينية والاجتماعية".
وطالب مصطفى السباعي في كلمته بالتضامن بين أبناء الشعب والتعاون بين المسلمين والنصارى، ويعرض في كلمة انتخابية أخرى للمطالب الأساسية للجبهة الإسلامية الاشتراكية وهي الإصلاحات من خلال برنامجهم، وتطرّق بإسهاب إلى مسألة التعايش بين المسلمين والمسيحيين... "فإنّ الدين ليس عصبية أو طائفية" (كتاب الحركات الإسلامية في سورية من الأربعينات حتّى نهاية عهد الشيشكلي لـ: بوهانس واسيز – ألماني الجنسية – وهي رسالة دكتوراه).
كانت المواد المقترحة كما جاءت في بيان السباعي المشار إليه وكما أقرّتها لجنة الدستور:
1- الإسلام دين الدولة.
2- الأديان السماوية محترمة ومقدّسة.
3- الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.
4- المواطنون متساوون في الحقوق لا يحال بين المواطن وبين الوصول إلى أعلى مناصب الدولة بسبب الدين أو الجنس أو اللغة) السباعي لـ: د.زرزور