لبنان.. كوكتيل «شقف»!
بقلم: الأستاذ أوّاب إبراهيم
لم يعد انفصام الشخصية مرضاً مخيفاً. فالأطباء النفسيون يؤكدون أن الكثير من الحالات المصابة به يتم علاجها وشفاؤها بالخضوع لعلاج نفسي وتناول بعض العقاقير.
هذه الطمأنة النفسية تسري على المصاب بالمرض إذا كان شخصاً فرداً مستقلاً بنفسه، ولكن ماذا لو كان المريض مجموعة من الناس.. أو حتى مجتمعاً بأكمله؟
فأنا أجزم بأن اللبنانيين مصابون جماعياً (بفتح الجيم لا كسرها) بمرض انفصام الشخصية، انفصام يطال كل شيء، يطال المواقف والقيم والأخلاق والمبادئ.
درس علم النفس هذا لا ينطلق من إدراك وجود مرضى انفصام الشخصية في المجتمع، بل ينطلق من أن هذا المرض بات منتشراً بين اللبنانيين كالنار في الهشيم، لدرجة بدأ معها الأطباء النفسيون يفكرون ببناء عيادات نفسية ضخمة و«عصفورية» وطنية، يحوّل إليها من لم يعد يُرجى شفاؤه من المرض.
أسامة بن لادن قال في يوم من الأيام إن العالم انقسم إلى فسطاطين، لكننا معشر اللبنانيين منقسمون إلى فساطين (أو فساطيط لا أدري أيهما أصح).
فبالتزامن مع التظاهرات التي نظمت في أكثر من مكان تنديداً بالمجزرة البشعة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق أسطول الحرية، كان آخرون يتجاهلون المجزرة في الإعلام ويعبّرون عن مشاعرهم الحقيقية في منتدياتهم الإلكترونية، التي فاضت بعبارات التشفّي والشماتة بالشهداء الذين سقطوا على متن الأسطول.
وفي الوقت الذي أقيمت الأعراس وأقواس النصر احتفاءً باللبنانيين الأربعة الذين كانوا على متن أسطول الحرية، وقبل أن تبرد دماء الشهداء، أقام آخرون أعراساً وأقواس النصر لاستقبال فرقة موسيقية وصلت من «إسرائيل» لإحياء حفلات فنية في لبنان.
وفي مقابل الإعلان عن جائزة مؤسسة سمير قصير لحرية الصحافة، كان آخرون يعتصمون ويرفعون دعاوى قضائية على المؤسسة لأنها سمحت لصحفيين إسرائيليين بالمشاركة في المسابقة.
حتى المواقف من الدول نعاني انفصاماً في الشخصية. فريق يعتبر الولايات المتحدة الشيطان الأكبر، وفريق آخر يعتبرها حليفاً استراتيجياً حاضناً لثورة الأرز التي تسلل الذبول إلى عروقها. فريق يعتبر فرنسا أماً حنوناً وآخرون يعتبرونها أباً قاسياً ترك عائلته ولم يعد يسأل عنها.
فريق يعتبر إيران مشروعاً فارسياً استعمارياً في المنطقة يريد السطو والسيطرة على المنطقة العربية بستار دعم المقاومة وتحرير فلسطين، وفريق يعتبرها دولة أقرب للبنان من مرتبة الحليف بكثير، ولو كانت إيران جارة للبنان، لسمعتم النداءات بإلغاء الحدود بين البلدين ودمج الجيشين اللبناني والإيراني تحت راية واحدة، شرط الإبقاء على المقاومة وسلاحها بعد أن ينضم إليها الحرس الثوري الإيراني ليؤازرها في جهادها.
أما سوريا فربما نعيش حقبة تاريخية في توحّد الزعماء السياسيين على خطب ودّها والإشادة بدورها، على الأقل أمام وسائل الإعلام.
حتى تركيا التي يكاد العالم -الإسلامي والعربي- يجمع على تأييدها ورفع راية العزة والكرامة لها، تجد اللبنانيين منقسمون بشأنها. ففي مقابل الأعلام الحمراء التي رفرفت على شرفات المنازل وتدلّت على «أنتينات» السيارات، تجد في لبنان بعض الأرمن ومن يجاهر بالعداء لتركيا ويتظاهر طالباً قطع العلاقات معها، وإقفال سفارتها وطرد سفيرها لاتهامها بارتكاب مجازر الإبادة الجماعية بحق الأرمن قبل قرابة مئة عام.
قد تكون «إسرائيل» الوحيدة التي يتفق اللبنانيون فعلاً على وصفها بالعدوّ، وينحصر الخلاف بما بعد كلمة «العدو»، حيث يتابع البعض وصفها بالغدّة السرطانية التي يجب إزالتها من الوجود.
الانفصام هذا لا يطال المبادئ والمواقف السياسية فقط، ففي لبنان انفصام في الشخصية الدينية والأخلاقية، هو أشبه ببرميل «كوكتيل شقف».
فتجد المنقبة التي أخفت عينيها «بفيشة» سوداء، وتجد المجلببة، وتجد المحجبة الملتزمة، وتجد المحجبة التي لا تجد ضيراً في «طلس» وجهها بمساحيق الماكياج، وارتداء ما يشفّ ويصفّ، وتجد كذلك السافرة التي تصلي وتصوم وتحترم دينها وتستعد لارتداء الحجاب، وتجد التي كشفت عن رأسها وعن كثير من جسدها المزركش بأشكال مختلفة من «التاتو».
وفي لبنان أيضاً تجد الشاب «الصايع» الذي يضع حلقة في أذنه ويزيّن ساعديه بوشم الجمجمة واسم حبيبته التي عشقها حين كان صغيراً، وتجد المسلم «الحليق» الذي يقيم فرائض صلاته لكنه لا يحب الاختلاط بأحد ولا الانتماء للأحزاب، كما تجد الشاب الملتزم الملتحي الذي ينتمي لجمعية أو جماعة إسلامية، وكذلك تجد الشاب الذي أصرّ على إطلاق لحيته لتصبح أطول من قبضتيه متلاصقتين، وحلق شاربه عوض حفّه، وأرخى ثوبه ليستر مؤخرته، وقصّر سرواله، وبدأ يناقش الآخرين في أقصر السبل لإقامة دولة الخلافة في لبنان.
هو كوكتيل شقف.. ينقصه قشطة وعسل.
المصدر
- مقال:لبنان.. كوكتيل «شقف»!موقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان