كريم الشاذلي يكتب: اعترف بالهزيمة!.

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
كريم الشاذلي يكتب: اعترف بالهزيمة!.


(4/5/2015)

كريم الشاذلي

"لقد أتت الأوامر الآن .. يجب أن تغادروا غزة قبل أن تشتعل الحرب .."

كانت هذه العبارة المقتضبة هي ما دفعنا بسرعة كي نبدأ في تجهيز حقائبنا مساء الليلة التي قُتل فيها القائد في كتائب عز الدين القسام "أحمد الجعبري"، بسرعة صعدنا (بصحبة الشاعر عبدالرحمن يوسف ووفد من الكُتاب والإعلاميين) إلى غرفنا نلملم أغراضنا على عجل وتخبط، وفي الظلام حيث انقطعت الأضواء عن غرف الفندق أخذنا نضع حاجياتنا على عجل، أصوات القذائف تقطع حبل تفكيرنا، وتصيبنا بالكثير من الارتباك والخوف.

دقائق معدودة وكنا في الحافلة، والتي ما إن تحركت حتى توقف السائق مقرراً العودة مرة ثانية، والسبب أننا قد دخلنا فعلياً أجواء الحرب، واستهداف المركبة صار أمراً متوقعاً .

عدنا ثانية إلى الفندق ومكثنا في بهوه طوال الليل نلتقط الأخبار.. بجواري جلس الشباب المكلف بحراستنا، كانت تبدو على وجوههم الجدية المخلوطة بالثقة والثبات، وعندما حاصرت البوارج الصهيونية سواحل غزة حتى أضاءت بكشافاتها باحة الفندق وحولته إلى نهار، بدأنا نسمع همساً عن احتمالية هجوم بري على القطاع، وهو ـ كما كنت أعلم مسبقاً ـ غاية المنى لكتائب المقاومة، حيث تتلاقى الجيوش على الأرض، وعندها يرى كل منهما من أشد بأساً وقوة .

لم نستطع النوم ليلتها، ومع بزوغ شمس اليوم الجديد تحركنا إلى مستشفى "الشفاء" حيث المصابين والشهداء، قررنا قبل أن نرحل التمهل قليلاً لنخضب العين بمرأى من سقطوا وهم يدافعون عن شرف عروبتنا، وإسلامنا .

مع دخولنا إلى ساحة المستشفى قابلتنا زخات الرصاص، طمئننا المرافق بأن هذه زفة شهيد!، وتوالت أصوات الرصاص واستمر عرس الشهداء قائماً طوال مرورنا على أقسام المستشفى المختلفة، نواسي هذا، ونطمئن على ذلك، ونحن في ذهول مما نراه .

انتهت الزيارة وعدنا إلى مقاعدنا في رحلة الخروج من أرض المعركة، يتملك بعضنا شيء من الحزن لما حدث، ويملك معظمنا شعوراً بالحرج، خاصة ونحن نفر من معركة كان يجب أن نتواجد في قلبها حتى تنتهي، فليست دماؤنا بأغلى من دماء هذا الشعب الأبيّ، وهو ما لم يحبذه المرافقون لنا حيث أننا كنا نُعد ثقلاً وهماً ومسئولية، وحملاً بحاجة إلى التخفف منه، وأمانة يجب الاطمئنان إلى أنها ستصل بلادها سليمة!.

وفي الطريق إلى معبر رفح لفت نظرنا عرس يتم التجهيز له! تعجبنا أن في هذا الوقت الحرج ووسط هذا الكم من الشهداء والجرحى هناك من يحتفل بزواجه، وعندما نقلنا تعجبنا إلى مرافقنا قال : وهذا أيضاً من المقاومة!، إنه مما يغيظ عدوك أن يجد لديك القوة على الاستمرار في العيش وهو يقطع أمامك كل سبلها، إن معظم هذه المباني قد دمرت من قبل وها هي أمامكم شاهقة سليمة كأن لم يمسسها سوء، لقد تكيفنا مع ما يحدث بشكل يثير عجب ودهشة العدو، ليس تكيف استسلام، ولكن تكيف من يملك المرونة ليعيش ويبدع ويجتهد تحت أسوء الظروف !.

والحقيقة أن معايشتي ومشاهدتي في زياراتي السابقة لغزة أكدت لي هذا المفهوم، حيث يوجد في هذا القطاع المحاصر أفضل مكتبة عامة للطفل وقعت عليها عيني "مركز ومكتبة القطان"، كما أن المدارس والجامعات تعمل بكامل طاقتها رغم الحرب، وهو ما أسفر عن نسبة أمية تقترب من 0%، وهو ما يعد شيئا من الخيال، كما أن القطاع المحاصر به نسبة اكتفاء ذاتي من الخضروات والماشية والطيور، دعك من الإبداع في تطوير بعض الأسلحة المستخدمة في المقاومة والحروب .

إن أحد أهم طرق مقاومة الهزيمة يكون بالقدرة على التكيف مع لحظات الضغط، ذلك أن الهزائم تأتي ومعها مخزون كبير من الصعوبات والأزمات والشدائد التي يفرضها المنتصر علينا، وتكيفنا هنا يكون تكيفاً لا يمكن أن نصمه بالسلبية والرضى بالأمر الواقع، وإنما هو القدرة على تلقي الأزمة والتفاعل وفق مستجداتها المفروضة، مع تأهيل نفسي لقيادة زمام المقاومة من جديد . ولذلك فإن أكثر الناس بؤساً هم من يفقدون القدرة على التأقلم مع المصائب التي تحل عليهم، ويحدث لديهم نوع من إنكار ورفض الواقع، وهو ما يسلمهم في النهاية إلى حالة من اليأس الشديد، والقنوط القاتل.

عندما تخسر تجارتك، أو تفجع في خيانة صديقك، أو تتحطم سفينة حياتك الأسرية، أو تفقد مركزك المرموق، أو يضيع حلمك بعدما دنى واقترب أكثر من أي وقت مضى، في تلك اللحظات القاسية الخطيرة تتباين ردود الفعل .. ويظهر جلياً الفرق بين من يملك القدرة على امتصاص الصدمة واستيعابها والتعامل وفق القواعد الجديدة، ومن يصرخ ويرفض ويقاوم بعفوية غير مصدق لما يحدث .. وفي الغالب فإن هذا الصنف الأخير هو الذي يسلم نفسه لليأس والاستسلام فيما بعد، ويصبح ـ مع مقاومته التي رأيناها أول الأمر ـ الأقرب إلى الانقياد والتسليم بالهزيمة، و أول من يفنى وينتهي !.

الإنكار، ومحاولة الهروب من الواقع، والاختباء من أن يراني الآخرون، ورفض رؤية أي شيء يذكرني بالماضي الذي كنت فيه، و ربما إيهام النفس وخداعها،- للأسف- يكون حلاً بالنسبة إلى البعض .

الزعيم الهندي "نهرو" في مذكراته يحكي أنه عندما ذهب ليتعلم في جامعات لندن، وجد أن بعض الطلاب الهنود هناك قاموا بإنشاء جمعية سياسية لهم تناقش أمر الاحتلال البريطاني للهند، وتتحدث عن أهمية الاستقلال، يقول نهرو: ‹‹كانت العصبية شديدة، والعاطفة مبالغٌ فيها، والتحمس كبيراً متطرفاً، ولأني كنت قليل الكلام فقد كنت دائما هدفاً للنقد، ومتهماً بضعف الحس الوطني، ومرت الأيام وعاد هؤلاء الطلاب إلى الهند، فاكتشفت أمراً عجيباً، لقد وجدت هؤلاء المتحمسين بالذات قد أصبحوا موظفين في إدارة الانتداب الانجليزي في الهند، ولم يلعبوا في الحركات السياسية أي دور فعال، أين ذهب سخطهم على الانجليز؟!، أين ذهب حماسهم العنيف؟!، كل هذا تبدد على المكاتب الفاخرة التي أعدها الانجليز لهم في الهند!.››

يتعجب نهرو -الذي سُجِن وكافح وحارب من أجل استقلال الهند- من هؤلاء الذين كانوا يصرخون غضباً، ويضربون المناضد بقبضاتهم في جنون، أين الدور الذي كان مرجوا منهم .. بل و أين ذهبوا هم أنفسهم؟!.

هل خانوا مبادئهم، أم تبدل في وعيهم شيء ما، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون عاطفة غير سوية أخذت وقتها ثم ذهبت عندما تحدث المال و تكلمت المصالح بصوت عالٍ أخّاذ ..؟!.

وما أذهب إليه هو أن رؤيتهم للاحتلال، والهزيمة التي تقبع فيها بلادهم كانت رؤية عاطفية، ولم يكونوا متكيفين مع الحدث بشكل صحيح، مما دفعهم لإفراغ شحنة مشاعر .. والسلام .

ولذلك أعود للتأكيد على أن القفز فوق الهزيمة يحتاج إلى غير قليل من التكيف مع المستجدات القائمة، وتوجيه الذهن لبذل جهد إيجابي ناضج في تحديها والتغلب عليها .

أما هؤلاء الذين يتجمدون في فزع، أو يصرخون بالرفض، فينطبق عليهم ما يسميه علماء النفس "الجمود الإدراكي"، حيث الوقوف والتبلد والذهول، وللأسف وصولنا لهذه المرحلة -تحديداً- يعني أننا قد هُزمنا بالفعل، وأننا قد وُضِعنا – ضمنا- في قبورنا حتى وإن تأخرت أجسدانا عن الرحيل قليلاً أو كثيراً! فما قيمة أي شيء إذا ما هَرِم العقل وصارت مقاومتنا لما نحن فيه صفراً.

و قد يفهم صديق كلامي على أنه دعوة للرضا بواقع فرض نفسه علينا، أو أن نتكيف تكيف الراضي القنوع، وهذا –يقيناً- ليس مرادي، وإنما ما أود التأسيس له ابتداء هو أن الاعتراف بوجود الصدمة أو الهزيمة أمر لا بد منه، مع الوضع في الاعتبار أنك غير راض عن استمرارها، أو بأن تفرض نفسها كأمر واقع تعيش فيه، فالاعتراف بالهزيمة شيء وأن تقبلها وتقبل هيمنتها عليك شيء آخر .

ونحن للأسف شعوب تعيش منذ قرون في أجواء الهزيمة دون أن تعترف بها، تحاول أن تتخذ لها اسماء "مُخففة"، بدء من زعيم يسمي الكارثة والمصيبة التي ألقى وطنه فيها "نكسة"، وانتهاء ببعض علماء الدين الذين سمعتهم يرفضون القول بأن معركة "أحد" كانت هزيمة للمسلمين، تلك التي سماها ربنا "مصيبة".

إنها المراهقة التي لن تأتي بخير أبداً..

دعونا نعترف ..

نعم هُزمنا ..

نعم أُرهقنا ..

نعم خابت حساباتنا وخططنا ورؤانا المستقبلية..

وهذا الاعتراف على ما فيه من مرارة وحزن وألم، سيكون هو النقطة الرئيسية التي نبدأ من عندها التجهز للمعركة القادمة.

شريطة أن نكون صادقين ..

المصدر