قيم ومفاهيم د. محمود غزلان يكتب: الحصانة المطلقة مفسدة مطلقة
من أهم حقوق الإنسان مبدأ المساواة؛ المساواة فى القيمة الإنسانية المشتركة، والمساواة أمام القانون، والمساواة أمام القضاء، وهذا ما قرره الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان فى آيات وأحاديث كثيرة نكتفى منها بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا أن أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ أن اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات].
وقول النبى صلى الله عليه وسلم "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وقول عمر لأبى موسى الأشعرى: "آسِ بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك (أى سوّ بين المتقاضين فى جميع هذه الأمور) حتى لا يطمع شريف فى حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك".
بيْد أن القوانين الوضعية الحديثة استثنت طوائف من الناس من هذه المساواة المطلقة ومنحتهم حصانة بدعوى تمكينهم من أداء أعمالهم، ومن هؤلاء أعضاء المجالس النيابية (النواب والشورى) والقضاة وغيرهم، فالنواب يمنحون الحصانة حتى يستطيعوا التعبير عن رأيهم داخل المجالس النيابية بمنتهى الصراحة ودون خوف من مؤاخذة أو عقاب، وبالنظر إلى هذا الهدف نجده هدفًا نبيلًا مستحقًا للاعتبار، لأن هؤلاء النواب يقومون بمراقبة الحكومة وكشف أخطائها أو مفاسدها ومن ثمّ لا ينبغى أن يعتريهم وجلٌ أو تردد وهم يؤدون هذه المهمة.
وإن كنا نرى أنه مع إطلاق حرية الرأى ينبغى الالتزام بالآداب العامة وعدم اللجوء للسبّ والقذف والتجريح وعدم الخروج على النظام العام، ففى النقد الشريف وإن كان حادًا وفى كشف الحقائق أو حتى الفضائح ولو كانت مريرة لا يجوز السقوط فيما يخالف الأخلاق والقيم والمبادئ.
وهذا ما عبرت عنه المادة (89) من دستور 2012 (لا يُسأل العضو عما يبديه من آراء تتعلق بأعماله فى المجلس الذى ينتمى إليه)، إلا أن المادة (90) من الدستور نفسه مدت مظلة الحصانة على الأعضاء فى تصرفاتهم العامة خارج المجلس إلا بإذن من المجلس ذاته فقالت: (لا يجوز فى غير حالة التلبس اتخاذ أى إجراء جنائى ضد العضو إلا بإذن سابق من مجلسه..) .
ومن هنا أصبحت الحصانة فى حد ذاتها هدفًا يسمو على النيابة نفسها عند كثير من الفاسدين الذين اتخذوها سبيلًا للتربح، والاحتماء من القانون، حتى رأينا المئات فى العهد البائد يتهافتون عليها ويدفعون للحزب الحاكم أرقامًا فلكية على سبيل الرشوة حتى يضمهم إلى هيئته البرلمانية ويزور من أجلهم الانتخابات، وأوضعت هذه السياسة من قيمة المجالس النيابية حتى سمعنا عن (نواب القروض) و(نواب الكيف والمخدرات) و(نواب سميحة) حتى غدت الحصانة مادة للسخرية فى أقلام رسامى الكاريكاتير.
ولم يقف استخدامها عند حد المفاسد المادية وإنما تعداها للمفاسد السياسية، فقد قام الرئيس المخلوع بتعيين وزير داخليته وعدد آخر من الوزراء ورؤساء مجالس إدارات الصحف ورؤساء التحرير التابعين له وعدد من بطانته فى مجلس الشورى ليضمن لهم عدم الملاحقة القانونية وهم يقومون بالدفاع عنه وعن نظامه بالتعذيب والفساد والخوض فى أعراض المخالفين له والافتراء عليهم.
والقضاة أيضًا يحتاجون -بلا شك- حصانة فى أثناء أداء أعمالهم حتى لا يتدخل أحد ليكرههم على ما يخالف ضمائرهم ويخالف القانون ويجافى العدل ويوقع فى الظلم ومن ثمّ نص الدستور فى المادة (168) منه على ما يلى: (والتدخل فى شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم) ولكن مدّ مظلة الحصانة على كل سلوك القضاة سواء كان هذا السلوك متعلقًا بالعمل أم غير متعلق به، أغرى عددًا منهم باقتراف جرائم يعاقب عليها القانون وهم فى مأمن بأن تحقيقات النيابة لا يمكن أن تطالهم إلا بعد إذن المجلس الأعلى للقضاء.
وللأسف الشديد رأينا القيادات العليا للهيئات القضائية كثيرًا ما تتستر على أتباعها من القضاة وترفض رفع الحصانة عنهم فيعيث بعضهم فى الأرض فسادًا، وفى هذا إهدار لمبدأ المساواة والعدالة واحترام القانون، الأمور التى تغض من سمعة هذه المؤسسة العريقة وتفقد الناس الثقة فى قضائهم، وقد رأينا بعضهم يسلب وينهب ويستقوى بالخارج ويؤلب القضاة على الدولة ويغمسهم فى السياسة بهدف حماية نفسه من المحاسبة.
كما رأينا أيضًا تهافتًا على تعيين الأبناء فى سلك القضاء ولو كانوا لا يصلحون من حيث تقدير التخرج أو تحصيل القانون أو السلوك الشخصى، كل ذلك من أجل الحصانة والمميزات الأخرى حتى رأينا بعضهم يرفع السلاح فى وجه رئيسهم فى العمل ويحاصرونه حتى يجبروه على كتابة استقالته تحت الإكراه، وبعد ذلك لا يحاسب منهم أحد، رغم تجريم القانون لهذه الأفعال.
حتى غدت هذه المهنة تورث ولو كان التوريث بلا كفاءة؛ حتى رأينا عائلات بأكملها تعمل فى سلك القضاء، وكثير من هذه الوظائف مغتصبة من أصحابها الحقيقيين المتفوقين فى دراستهم الممتازين فى تقديراتهم المستقيمين فى سلوكهم ولكنهم أبناء مواطنين عاديين لا واسطة لهم ولا ظهر، وهذا أيضًا ظلم كبير وفساد عريض، ومن ثم كانت الحصانة المطلقة مفسدة مطلقة تحتاج إصلاحا كبيرا، فهل نحن فاعلون؟
المصدر
- مقال:قيم ومفاهيم د. محمود غزلان يكتب: الحصانة المطلقة مفسدة مطلقة موقع: إخوان الدقهلية