قبل الحُكم:سيدي القاضي.. ترفَّق!!
ليس بالإخوان المحالين للعسكرية؛ فإن لهم مع الله في جميع أحوالهم عبادة وعبادات؛ فسجنهم خلوة، ونفيهم سياحة، وقتلهم شهادة.. فماذا يفعل أعداؤهم بهم؟!! لكن سيدي القاضي ترفَّق بنفسك واعلم أنك أحد ثلاثة قضاة؛ أحدهم في الجنة، والثاني في النار، والثالث في النار..
"القضاة ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة: فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار" (صحيح مسلم- كتاب الأقضية)..
فأيُّ القضاة أنت، وأنت تعلم الحق يقينًا بأن معتقلي الإخوان مظلومون ومبرَّؤون؟! أفبعد أن عرفت الحق تقضي بالباطل؟! سيدي القاضي.. اعلم أن الله من عليائه ينادي المؤمنين عامةً وعليك وعلى من ولي من أمرهم شيئًا خاصةً وذلك في المادة (90) من قانون سورة النحل فيقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
والمادة (58) من قانون سورة النساء (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ؛ لذا أدعوك سيدي القاضي أن تكون من حزب المقسطين، الذين قال فيهم رسول الله: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَىَ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ، وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا" (رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص- كتاب آداب القضاة) .. أتعدل عن هذا الأمر الرباني والهدي النبوي لأجل مكافأة زائلة أو منصب متروك أو بشر لا يملك لنفسه شيئًا؟!!
سيدي القاضي.. أنت خليفة الله على مصالح المسلمين، تصون مصالحهم بسياج الحق، وتذبُّ عنهم كل مفسدة بسيف العدل، وأنت سندُ كل مائل، ودليلُ كل حائر، ونجاة كل مظلوم، ودواء كل مكلوم، ولذا أذكِّرك بالمادة (26) من قانون سورة ص (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)) فلتكن داود المحكمة العسكرية، تحكم بالعدل ولا تشطط، وتقول الحق ولا تُفرِط، وليكن لك في النبي داود خير قدوة، ولتحكم بإخلاء سبيل الإخوان .. الآن.
أيها القاضي.. يا خليفة أبي موسى الأشعري وعليٍّ ومعاذ وعمر وغيرهم من هؤلاء المقسطين أنت مؤتمن ومسئول، فإن أخذت الأمانة بحقها أُعِنت عليها وإن أنت فرَّطت فيها وُكِلتَ إليها.. "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها"، وليكن لك في هذا الخبر خير راشد:
(رَوَوا أن أمير المؤمنين كلَّف عدي بن أرطأة بأن يختار أحد هذين الرجلين إياس بن معاوية والقاسم بن محمد لتولي قضاء البصرة. فقال كل منهما عن صاحبه: إنه أولى منه بهذا المنصب، وذكر من فضل أخيه وعلمه وفقهه ما شاء الله أن يذكر.
فقال عدي لن تخرجا من مجلسي هذا حتى تحسما أمركما. فقال له إياس: أيها الأمير، سل عني وعن القاسم فقيهَي العراق: الحسن البصري ومحمد بن سيرين؛ فهما أقدر الناس على التمييز بيننا، (وكان القاسم يزورهما ويزورانه، وإياس لا صلة له بهما) !!.
فعلم القاسم أن إياس بن معاوية أراد أن يورِّطه في الأمر، وأن الأمير إذا استشارهما- الحسن وابن سيرين- أشارا عليه به دون إياس، فما كان من القاسم إلا أن التفت إلى الأمير وقال: أيها الأمير، لا تسل أحدًا عني ولا عنه، فو الله الذي لا إله إلا هو إن إياسًا أفقه مني في دين الله وأعلم بالقضاء؛ فإن كنت كاذبًا في قسمي هذا فما يحلُّ لك أن توليني القضاء وأنا أقترف الكذب، وإن كنت صادقًا فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول!!.
فالتفت إياس إلى الأمير وقال: أيها الأمير، إنك جئت برجل ودعوته إلى القضاء فأوقفته على شفير جهنم فنجَّى نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر الله منها وينجوَ بنفسه مما يخاف!!. فقال له عدي: إن من يفهم مثل فهمك هذا لجديرٌ بالقضاء حرِيٌّ به، ثم ولاهُ قضاء البصرة).
أيها القاضي.. لتكن تقوى الله قرينك وكتاب الله دليلك، والعدل سبيلك، وإقامة الحق بين الناس مبتغاك ومَعِينك، فاتق الله واعدل؛ لأن الحكم قوامه العدل.. فالقويُّ ضعيفٌ عندك حتى تأخذ الحق منه، والضعيف قويٌّ حتى ترد الحق إليه، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وتذكَّر معونة الله لك، وتأييد الله لك، وأنه لا يزال لك من الله نصير وظهير ما دُمت تطلب الحق وتنشده، لأنك إذا طلبت الحق وتجرَّدت له لا يزال الله لك نَصيرًا وظهيرًا.
أيها القاضي.. تعلم أنَّ الأمة لا تحتاج إلى شيء من القيم والأخلاقيات كحاجتها إلى العدل والمساواة والحرية والأمن، وأن القضاة الذين بهم تحيا الأمم، وبعدلهم تشرق الحياة، وبهم راية الحق قد علت، وبعدلهم طابت الدنيا وسعدت.. هؤلاء القضاة ما وقف أمام حكمهم أمير، ولا خالف أمرهم وزير..
(كتب أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة كتابًا جاء فيه: "انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد".
فكتب إليه سوار: "إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أعطيها لغيره إلا ببينة"، فكتب إليه المنصور: "والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد".
فكتب إليه سوار: "والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق".
فلما وصل كتابُه إلى المنصور قال: ملأتها والله عدلاً، فصار قضاتي تردني إلى الحق).
سيدي القاضي.. وإنما ذكرت لك ما ذكرت ليس مرافعةً ولا مدافعةً ولكنها نصيحة وذكرى، أحسبك أحوج الناس أجمعين إليها الآن من غيرك. وأختم بصرختي إليك؛ حرصًا على نفسك وإبراءً لذمتك: سيدي القاضي.. ترفَّق بنفسك وأطلق الشرفاء
المصدر
- مقال: قبل الحُكم:سيدي القاضي.. ترفَّق!! موقع إخوان برس