قالب:مقدمة
مقدمة
الحمد لله الذي خلق فسوى , والذي قدر فهدى .. سبحانه لا نحصى ثناء عليه, هو جل شأنه كما أثنى على نفسه.
والصلاة والسلام على النبي المختار, بعثه تبارك وتعالى بالحق هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
وبعد ....
فلقد ترددت قرابة ثلاثين عاما قبل أن أكتب شيئا عن تاريخ تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965والذي أثـّر ولاشك في تاريخ الإخوان, وتاريخ مصر بل والأمة العربية كلها. ولا أكون مغاليا إذا قلت أن بعض الأفكار التي صاحبت التنظيم صار لها دوى عالمي في الفكر الإسلامي المعاصر, تمثلت في كتابات الشهيد سيد قطب حيث كان ـ رحمه الله - قائدا للتنظيم ...وأثر- كذلك ـ في تاريخ مصر إذ يحكى بعض كبار الصحفيين أن هذا التنظيم كان أول مسمار في نعش عبد الناصر.
... لقد كان عبد الناصر يظن أنه قضى قضاءً مبرما ًعلى جماعة الإخوان المسلمين بعد الضربة القاصمة التي وجهها عبد الناصر للإخوان في عام 1954م حتى فوجئ بتنظيم 65 قوياً وعنيفاً ومدوياً .. وكل أجهزة عبد الناصر لا تدرى عنه شيئا ... رغم أن عبد الناصر كان يفخر ويقول " وأذني على كل قلب " أي أنه يسمع دقات قلوب الناس .. ناهيك عن أحاديثهم و أفعالهم.
فوجئ بتنظيم متشعب ... فهو يشمل المثقفين حتى طبقة أساتذة الطاقة الذرية.. والجامعة.. وعدد ضخم من المهندسين والمثقفين إلى جوار مستشارين وقضاه ومحامين .. ثم يمتد في قاعدة عريضة من عمال مصر في أعرق شركات الصناعة في المحلة الكبرى .. فهو تنظيم يضم عمالا ومثقفين .. وهو يمتد في ربوع مصر من أسوان إلى القاهرة إلى أغلب محافظات الوجه البحري مع كيان جيد للتنظيم في الإسكندرية. ويضم علماء من الأزهر الشريف إلى جانب طيارين في مصر للطيران ويضم ضباطاً في الجيش.. إلى جوار بعض شباب الصناعة النابهين... هذا العمق المتشعب للتنظيم كان مفاجأة أذهلت الكثيرين الذين كانوا قد نسوا أو تناسوا دعوة الإخوان المسلمين بمعاونه من كافة التنظيمات الشيوعية التي قال لها الشاعر " ألا خلا لك الجو فبيضي وأفرخي" فأفرخت الشيوعية تحللا من الدين ومظاهره . كما سنرى في الصفحات القادمة تحللا من الأخلاق الإسلامية والعادات والتقاليد الإسلامية ... و أفرخت سخرية من رجال الدين الأفاضل مثل أستاذنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي عام 1961 حيث تعرض هذا الأستاذ الجليل إلى حملة ضارية في الصحف والمجلات القومية ... وظن الجميع أن العقيدة الاشتراكية والسلوك الاشتراكي حلا محل الدين (أو كادا) .
لقد ساهمت أقلام الاشتراكيين الموتورة والذين قد خرجوا من المعتقلات في مايو 1964 بضغط من الاتحاد السوفيتي ورئيسه .آنذاك- خروشوف الذي زار مصر في مايو سنه 64 واستقبلته مصر استقبالا حافلا بمناسبة بدء تشغيل السد العالي . بوضع مقاليد أمور الصحافة والتليفزيون والراديو وكافه وسائل الإعلام في أيدي الشيوعيين كما أسلمتهم مصر عبد الناصر وزارة الثقافة من بابها ..ورغم كل هذا جاء دوى تنظيم الإخوان يقول لهم "إن الدعوة الإسلامية لن تموت في بلد الأزهر الشريف"
وثمة شئ آخر غيّر مخططات المنطقة مما عجّـل بتوجيه ضربه لمصر في حرب سنه 67... وهو شئ لا تخطئه العين فبعد عام 1948 حيث قبض على الإخوان وجهت إسرائيل ضربة للجيوش العربية .. وبعد عام 1954 حيث ضـُرب الإخوان وجهت إسرائيل ضربه لمصر في عام 1956. وبعد عام 1965 حيث وُجهت ضربة للإخوان المسلمين قامت إسرائيل بتوجيه ضربة لمصر عام 1967 .. و هذه ظاهرة تستحق دراسة تاريخية يجب أن يكتب فيها المؤرخون ولقد تنبأ الصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقاله الأسبوعي الشهير في عهد عبد الناصر " بصراحة" بقرب زوال دوله عبد الناصر بعد اكتشاف هذا التنظيم في مقال نشره عام 1966 فيه من التلميح أكثر من التصريح وأبلغ ... فهو الخبير باللغة الصحفية ويستطيع أن يقول ما يريد دون أن يوجه له لوم , وفصاحته ـ بلا شك- تساعده على ذلك .
ولقد كتب كثيرون عن تنظيم الإخوان (65) منهم الأستاذ / أحمد رائف في كتابهِ "البوابة السوداء" ونشر كثيرا من فظائع التعذيب في السجن الحربي وحكى رحلته في السجون في تلك الفترة الكئيبة في تاريخ مصر , ولاشك أن قلمه الرشيق جعل لهذا الكتاب جاذبية , وكتب الأخ الصحفي /جابر رزق جابر الفولي ــ رحمه الله رحمة واسعة ــ كتابه "مذابح الإخوان في سجون ناصر " وكتب أحد قادة التنظيم الأستاذ / أحمد عبد المجيد عبد السميع كتابهُ "القصة الكاملة لتنظيم 1965" وكتب الأستاذ / على عشماوى كتابه " التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين" وأبرز ما فيه هو الغمز واللمز للقيادة في ثنايا الكتاب وذلك بعد أن أعلن تركه لجماعة الإخوان المسلمين .
كما كتب أيضا المهندس/ محمد بدير زينه الذي كان من أفراد التنظيم , وبعد خروجه من السجن سافر إلى السعودية واُعتقل في أحداث الحرم المؤسفة وأمضى في سجون السعودية سبع سنوات ثم خرج من السجن في السعودية وألّـف كتابه عن تنظيم (65) يهاجم فيه الإخوان أيضا,وللأسف لم أعثر علي نسخة منه كما كتب الأستاذ المحامى/ كمال الفرماوى .. أحد القياديين في الصف الثاني في تنظيم (65) كتيبا عن التعذيب في (65) أيضا.
هذه الكتب بعضها من الإخوان وبعضها الآخر يحمل وجهة النظر المعاكسة للإخوان مثل كتاب على عشماوى , ومحمد بدير زينه.
لكن هذه الكتب لم تشبع بعد رغبة كثير من القراء في معرفة المزيد عن تاريخ تلك الحقبة وعن أسرار هذا التنظيم, لقد ألحّ عليّ كثير من الأصدقاء أن أكتب في هذا الموضوع منذ نيفً وعشرين عاما ولم أكن مستريحا للكتابة... إذ أن للكتابة أهلها الذين لست أنا منهم.
ولكن بعد مزيد إلحاح استخرت الله في الحرم النبوي الشريف وكذلك في الحرم المكي وبعد عام من الاستخارة شرح الله صدري للكتابة.
ولعل الدافع لهذا التأخير أنني لم أكن قياديا في التنظيم , ولم أكن كذلك من صانعي القرار أو ممن يعلمون بواطن كثير من الأمور قبل القبض عليّ في 21/ 8/1965م ولكن بعد القبض علىّ أمضيت رحلة مع أعضاء هذا التنظيم ومع أحداثه أيضا حوالي ثلاثة آلاف يوم هي زهرة شبابي, فلقد دخلت السجن بعد تخرجي من الجامعة بشهر واحد وكان عمري اثنين وعشرين عاما وبضعة شهور , وخرجت من السجن وعمري واحد وثلاثين عاما بالتمام والكمال , وكان يوم خروجي موافقا لعيد ميلادي ـ كما يقولون ـ بالتقويم الميلادي في 4 /4/ 1974
ولقد كنت آنذاك أتمتع بذاكرة حافظة موهبة من الله , وكذلك بعين ثاقبة ترصد كل شيء ــ مما جعل لي رصيدا كبيرا ولعل القارئ يجد في هذه الصفحات ما يلقى بعض الضوء على هذا التنظيم وتلك القضية.
ثمة شئ مهم أود كتابته , هو أن كل من كتب عن هذا التنظيم يكتب رأيه ووجهة نظره في الأحداث و الأشخاص , وليس وجهة نظر جماعة الإخوان المسلمين كذلك كل من كتب عن هذا التنظيم كتب معلوماته الشخصية وما أتيح له من معرفة ﺇبان تلك الفترة , ولا شك أن كل من كتب خُفي عليه جوانب من الأحداث والأشخاص بل وبعض الظروف المحيطة والملابسات التي كثيرا ما تُؤثر في وجهة النظر التي يكتبها الكاتب ...هذا بفرض الحيادية عند الجميع أثناء الكتابة ولا يخفي على القارئ أن كتابي هذا مثل ما سبقه من الكتب ينقصه الكثير , ومعلوماتي أيضا خفي عليها الكثير "وما أبرئ نفسي" ... لكن " إن ربى لغفور رحيم"
أمر آخر يجدر الإشارة إليه أنني تنقلت في بعض السجون (65) هم السجن الحربي ( 22 شهر ) ـ ليمان طره ( 17 شهر ) ـ سجن قنا العمومي ( 37 شهر ) ـ سجن مزرعة طره (29 شهر ) . لكن هناك سجون أخري ـ أقصد معتقلات أخري ـ حيث كان المعتقلون وهم بالآلاف وهؤلاء عندهم أحاديث وموضوعات وحكايات تخص التنظيم أيضا لم أحضرها , ولم أُخبرها لذلك أجدني لا أستطيع الكتابة عنها , فإن الحياة في جو القضية هي أصدق تعبير عن الموضوع , ولقد نما إلى علمي أن أحد الإخوة الأفاضل ينوى الكتابة عن هذه المعتقلات وتلك الأحداث فحمدت الله كثيرا ورجوت أن يكون الكتاب سدا لما تبقى من ثغرة المعلومات عن هذا التاريخ .. وهذه المعتقلات تحديدا هي سجن القلعة, وسجن أبو زعبل , وسجن مزرعة طره (فترة الاعتقال حتى 16 /10 /1971) حيث أخليت كل المعتقلات من جميع المعتقلين الإخوان في 16/10 /1971 م ولم يبق في السجون سوى من صدرت ضدهم أحكام , ثم خرج الجميع على دفعات بعد حرب أكتوبر التي انتصر فيها شعار" الله اكبر". وتوالت دفعات الخروج والعفو عن باقي العقوبة حتى خرجت أخر دفعه من المسجونين من الإخوان المسلمين في 27/ 3/ 1975 م
إن نسيت فلا أنسى ذلك الكتيب القيم للأخت الداعية الحاجة/ زينب الغزالي بارك الله فيها ومد في عمرها وهو كتاب " أيام من حياتي " تحكى فيه رحلتها في السجون , وفي التنظيم أيضا. وهو كتاب حينما صدر تلقفه كثيرون بالتأثر والبكاء , فلقد كان حديثا من القلب فشق طريقه سريعا إلى قلوب البنين والبنات .. بل لقد كان هذا الكتاب سببا في هداية بعض الشباب إلى الإسلام وإلى دعوة الإخوان المسلمين.
وهذا ولقد ساهم كثير من الاخوة الأفاضل معي بالمراجع والكتب والكتابة والتبويب والترتيب والمراجعة فجزاهم الله عنا خير الجزاء و أسال الله أن يكتب هذا كله في ميزان حسناتهم .. ﺇنه سميع مجيب.
أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه وابتغاء مرضاته , كما أساله التوفيق في إلقاء الضوء على هذا التنظيم وما لابسه من ظروف وأحداث قبله وبعده من وجهة نظر من عايش التجربة كاملة في كل مراحلها عدا مرحلة النشأة الأولى للتنظيم فلقد كنت من أواخر من انضموا إلى التنظيم قبل الاعتقال في (28/ 8/65 ) لكن الأسرار القديمة كلها صارت متاحة و واضحة أثناء التحقيقات في السجن الحربي وبوضوح شديد , مما جعل التجربة كلها تحت المجهر للدراسة وأخذ العبرة وأحسب أن الإخوان المسلمين قد اخذوا العبرة كاملة من هذه التجربة ورغم قوتها ومرارتها فلقد كان فيها الخير الكثير للتجربة الإسلامية كلها . " ولله الأمر من قبل ومن بعد"
محمد الصروي
الجيزة في 7 شوال 1424
أول ديسمبر 2003
Sarawy2002@yahoo.com