قالب:كتاب حادث 4 فبراير

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

محتويات

استبداد الأغلبية

لقد كانت عودة الوفد في 4 فبراير 1942 سببا كافيا لكي تنصرف عنه قطاعات كبيرة من المصريين ولعل هذا مما ضاعف من هواجس النحاس باشا وخصوصا وأن فاروق قد حظي بشعبية حقيقية واسعة النطاق ليس مصدرها حادث 4 فبراير وحده بل بسبب زياراته المنتظمة لمساجد القاهرة والتي كان يزور أحدها في كل جمعة حيث كان يختلط بجماهير المصلين الفقراء مستكملا بذلك مظاهر تدينه وورعه.

وكان الوفد يرقب والهواجس تنتابه وبالرغم من محاولات الوفد نقل الصراع إلى مجال الدستور – كما كان يحدث زمن الملك فؤاد – إلا أن أحدا من المصلين لم تنطل عليه تلك الخدعة ومن هنا تضاعف الصراع بين الوفد والقصر بسبب وجود ملك ينافس الوفد نفوذه مع فاروق هام هو أن غالبية المصريين كانوا يتعاطفون مع فاروق في هذه المرة .

وأعتقد أن السياسة البريطانية قد أصابت مغنما بسبب سياستها في 4 فبراير حيث نجحت إلى حد كبير في زعزعة ثقة المصريين تجاه الوفد تلك المؤسسة السياسية الوطنية التي أقلقت الاحتلال أكثر من عشرين عاما ولعل الوفد في محاولة منه لإعادة ثقة الجماهير به مرة ثانية قد ضل الطريق حيث انصرفت جهوده إلى خدمة أنصاره وتعقب خصومه ولم يكترث برأي الأحزاب الأخرى أو معارضتها .

وأعتقد أن تلك السياسة جاءت بنتائج عكسية ضد مصلحة الوفد ولحساب القوي السياسية الأخرى لأن العناصر الواعية من أعضاء الوفد قد انتابها الفزع بسبب تلك السياسة التي جعلت من الوفد سندا للإنجليز وتابعا لهم بعد أن كان حربا عليهم ومقاوما لهم .

وعلى الرغم من الإجراءات العديدة والتي استخدمها النحاس بوصفه الحاكم العسكري العام والتي تعد في معظمها تنفيذ لقانون الطوارئ إلا أن كل ذلك لم يمنع حالة الغليان التي كانت تعم معظم فئات الشعب المصري .

وهكذا اتخذت حكومة الوفد من الأحكام العرفية والتي عارضها النحاس وطالب بإلغائها سنة 1940 سلاحا استغله أسوأ استغلال .

ونظرا لأن النحاس كان يريد أن يستعيض عن أفراد الطبقة الوسطي ( البرجوازية) والتي أخذ اغلبها ينصرف عنه بطبقة أخري من الأنصار من ذوي المصالح فقد سمح للمحامين الوفديين بالمرافعة في القضايا العسكرية الناجمة عن الأحكام العرفية دون غيرهم من المحامين وصارت هذه المحاكمات وما اتخذ من وساطات غير مشروعة فتحا كبيرا لهم ومصدرا جديدا لثراء العديد منهم وبدأت المحسوبيات والاستثناءات تغدق على الأنصار والمحاسيب وأصبح الثراء بالطرق الغير المشروعة هدفا لكثير من الوفديين كما أحيل كثير من الموظفين إلى المعاش لا لبلوغهم السن القانوني وإنما لكونهم غير وفديين.

ويبدو أ كل الأحزاب المصرية التي تعاقبت على الحكم منذ العشرينات من هذا القرن قد أسقطت من حساباتها كل المبادئ الديمقراطية التي تتعارض ومصالحها وحدثت تجاوزات في سياسة كل حكومة بما يتفق وظروف كل منها فلقد تولي حزب الأحرار الدستورين الحكم سنة 1928 , 1938 فعطل الدستور وضغط على الحريات وأنشأ في مصر ما يسمي بحكم البيونات وكان مهادنا للسراي معتدلا مع الانجليز وحاول أن يرصف الشعب عن مطالبه الوطنية بالدعوة إلى الإصلاح الداخلي .

وفي سنة 1925 ولي حزب الهيئة السعدية فزيف الانتخابات وضغط وقاوم في الحكم مستندا إلى القصر أى أن هذه التجاوزات التي وقعت فيها حكومة الوفد الوطني كانت من صنع أحزاب الأقلية إلا أن قناعتنا بالوفد باعتباره حزب الكفاح الوطني تدفعنا إلى لقاء قدر كبير من المستولية عليه حيث بدأ التناقض واضحا بين موقفه من الديمقراطية قبل مجيئه إلى الحكم وسياسته تجاهها بعد أن تولي الحكم في 4 فبراير .

وبدلا من أن يتخذ الوفد من الديمقراطية وسيلة وغاية إلا أن ناهضها بالعديد من الإجراءات بدأ من حرية الصحافة وانتهاء بالاعتقالات السياسية .

ولم يقتصر الأمر عند حد ما يكتب في الصحف بل تخطاه إلى تحديد عدد صفحات الجرائد اليومية إلى أربع صفحات فقط دون أن تصاحبها ملاحق أو تشتملا على نشرات ولا يجوز للصحف اليومية أن تصدر أكثر من ست مرات أسبوعيا ولا يجوز لها بأى حال إصدار جريدة أخري ولو باسم الأسبوعية على ورق يزيد حجمه على 30×44 سم وكل من خالف هذه الأحكام تكون عقوبته من 50 إلى 500 جنيه غرامة .

ولم يقتصر الأمر عند حد الصحافة إنما تعداه إلى الإرهاب السياسي عن طريق تفتيش مقار الأحزاب بما فيه نادي سعد زغلول حيث اقتحمته صفية زغلول زوجة مؤسس الوفد الأول سعد زغلول .

وعندما تقدم أحد نواب الشيوخ بسؤال إلى رئيس الوزراء حول الأسباب التي استدعت هذا التفتيش أجاب بأن أحد أعضاء النادي المشار إليه اعتاد أن يوزع على الشبان الذين يترددون على هذا النادي نشرات مثيرة دون ترخيص من إدارة النشر ومن أجل هذا أصدرت المر إلى البوليس بصفتي الحاكم العسكري العام.

وعلى الرغم من مبررات الحكومة ودوافعها إلا أن النحاس كان يجب عليه أن ينأي بنفسه عن هذه الأعمال نظرا لمكانة زوجة سعد زغلول في المجتمع المصري ولأن الاعتداء على مقار الأحزاب وإجراءات تفتيشها يعد ردة أكيدة عن الديمقراطية مهما كان العمل بقانون الأحكام العرفية .

ووفق مضابط مجلسي النواب والشيوخ فإن قضية الحرية الصحفية قد أخذت حيذا كبيرا في مداولات الأعضاء داخل المجلس بل تطرق الحديث عند تناول هذه القضية إلى معاهدة 1936 حيث اعتبر أحد الأعضاء أن الرقابة ليست من صنع الإدارة لمصرية وإنما هي وليدة المعاهدة وذهب النائب إلى المطالبة بإلغاء معاهدة 1936 وما يترتب عليها من إجراءات تتعلق بالحرية الصحفية .

وبالنظر إلى مذكرة الوفد والتي تقدم بها مصطفى النحاس إلى الحكومة البريطانية في أبريل سنة 1940 يبدو التناقض الأوضح فيما يتعلق بحرية الصحافة حيث أشار النحاس في تلك المذكرة بأنه لا معني لأن تمتد الرقابة على الأخبار لعسكرية إلى الرقابة على كل الشئون المصرية حتي أصبح المصريون في عهد الاستقلال وكنهم آلة عمياء لا يسمع لهم صوت في تصريف شئون البلاد ولا يدرون إلى أى مصير مسوقون ولا قدرة لهم على الشكوي مما هم إليه موجهون.

والجدير بالملاحظة أن الأحكام العرفية لم تطبق في انجلترا نفسها وقت قيام الحرب وعلى حد تعبير المستر براكن وزير الاستعلامات الانجليزي " لن توجد في بريطانيا صحافة تؤيد الحكومة على طول الخط فنحن ننظر إلى حرية الصحافة بنفس النظرة التي ننظر بها إلى استقلال القضاء والبرلمان .

وأعتقد أن حرية الصحافة في بريطانيا وقعت قيام الحرب كانت حقيقة أكيدة فلقد نشرت العديد من الصحف البريطانية مقالات افتقدت فيها المستر تشرشل لأنه يحتكر لنفسه معظم السلطات وطالبت بتوزيع المناصب حتى توقف الفوضي المتفشية في الوزارات ونشرت صحيفة الأحرار البريطانية مقالا انتقدت فيه جميع وزراء تشرشل وقالت : أن بقاء المستر كوبر في الوزارة محسوبية صارخة فإن العمل الوحيد الذي قام به أثناء توليه منصب وزير الدولة في الشرق الأوسط هو حضور السهرات وحفلات الكوكتيل , نشرت صحيفة " الديلي ميل" خبرا قالت فيه : أن أعضاء الوفد الروسي رفضوا حضور المآدب والحفلات قائلين : نحن جئنا إلى لندن لنعمل لا لنشرب الشمبانيا ونأكل الكافيار . وعلقت صحيفة المحافظين على هذا الخبر قائلة : كنا نود لو سمعنا هذا التصريح من الوزراء الانجليز كل هذا وأمثاله يكتب في انجلترا زمن الحرب ولا تتعرض له الرقابة حتى قيل للمستر تشرشل : استغل الرقابة في حماية وزارتك لقضية الحرب فأجاب : أن الوزارة التي تحمي نفسها بغير رضاء الشعب لا يمكن أن تعيش في انجلترا .

وبعد هذا الاستعراض يمكننا القول بأن بريطانيا وهي الدولة صاحبة المصلحة الأولي في الحرب لم تطبق أى نوع من القيود على حرية المواطن الانجليزي سواء بالحد من حرية الصحافة أو حرية الأفراد على وجه العموم ووفقا لقول النحاس باشا نفسه في أكثر من مناسبة " أن معاهدة 1936 هي معاهدة الشرف والاستقلال " أى أن مصر وعلى حد قوله قد حصلت على استقلالها عملا بالمعاهدة وحيث أنها لم تكن طرفا مباشرا في الحرب حيث أنها لم تعلن الحرب فعليا ( إلا في عهد حكومة أحمد ماهر 1945 ) وبناء على كل هذه الاعتبارات فلم أجد مبررا واحدا لكل هذه التسهيلات التي قدمتها حكومة 4 فبراير وبلا أى مقابل ولعل أعز ما قدمته مصر هو حرية المواطن المصري الذي بات غريبا في أرضه وعلى وطنه .

وإذا كان أحد زعماء الوفد يؤكد أن مصر قد حصلت من بريطانيا مقابل مل هذه التسهيلات على وعد يمكنها من ممارسة كافة أشكال الاستقلال وحقها في السودان ويضيف صاخب هذا الرأي . أن بريطانيا عندما أوشكت الحرب على نهايتها قد أعطت الضوء الأخضر للملك فاروق حتى يتخلص من الوفد وبالتالي يمكن لبريطانيا أن تتخلص من وعودها السابقة .

إذا كان هذا القول فإنه يحمل كل السذاجة السياسية فليس من المعقول ولا من المقبول شكلا ولا موضوعا أن تقدم مصر كل عزيز لديها طوال فترة الحرب بما في ذلك تعطيل الديمقراطية وتدهور الأوضاع الاقتصادية وقتل آلاف من الأبرياء في الإسكندرية بسبب غارات الألمان , كل هذا مقابل وعد سفهي قطعته بريطانيا على نفسها ونظرا لأهمية هذا الرأي فقد بحثت عن خيط ولو رفيع يرشدني إلى توثيق هذه المعلومة وبكل أسف لم أتمكن من ذلك سواء في المصادر أو الدراسات العديدة التي تناولت العلاقات المصرية البريطانية في القدرة موضع البحث .

ولقد بلغ من تعاون حكومة النحاس مع بريطانيا حدا تحدت فيه الحكومة كل مشاعر المصريين حتي أنه في سنة 1944 والحرب قد أوشكت على نهايتها فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب باقتراح وجوب إلغاء الأحكام العرفية على اعتبار أن الأسباب التي من أجلها أعلنت قد زالت ولم تعد هناك ضرورة حربية أو متعلقة بشئون التموين لبقائها بل أن جميع الضرورات حتى الأدبية والخلقية منها تقتضي المبادرة إلى إلغائها وإلغاء الآثار المترتبة عليها وفي مقدمتها الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين .

إلا أن ديكتاتورية الأغلبية وتحكمها في قرارات المجلس قد دفعها إلى مصادر كل رأي أو فكرة وطنية ولو حدث وأقدم الوفد على إلغاء الأحكام العرفية – في مثل هذا الوقت لكان من الممكن أن تكون مبادرة طيبة تعيد إلى الوفد بعضا من هيبته داخل صفوف الشعب المصري إلا أن الوفد قد ارتضي لنفسه أن يأخذ موقفا مناهضا لمشاعر المصريين جميعا وبلا أى ثمن إلا الوعود والأمنيات الطيبة والتي دفع الوفد ثمنها باهظا .

وفي العشرينات والثلاثينات من هذا القرن كانت القاعدة العريضة من الجماهير ترتضي الوفد حزبا لها وقيادة تتحرك بإشارته فقد نشأ في حوادث ثورة 1919 فالتفت حوله الجماهير باعتباره ممثلا لمطالبها في الاستقلال والحرية ثم كان حفل زفافه إلى السلطة سنة 1942 حفل الجناز له كحزب ثوري حيث لم يستطع المضي في الكفاح لأنه وضع أمام الاختبار الصعب الكفاح .. أو المساومة فاختار المساومة وكان تاريخ الانجليز معه هو تاريخ ترويضهم إياه حتى تعب وهدأ ثم كان من تخاذله عن إثارة المسائل الوطنية وهو في السلطة ومن حوادث المحسوبية والثراء والفساد واستغلال النفوذ ما نفر منه الكثير من العناصر الوطنية الجادة وبدأت الجماهير تفقد ثقتها فيه بالتدريج وتبحث عن قيادة جديدة.وفي محاولة من الوفد لإعادة شعبيته فقد صدر القانون رقم 85 لسنة 1942 والذي سمح لعمال الصناعة بتأسيس نقاباتهم الأمر الذي أتاح أمام العمل النقابي أن ينشط حتى وصل عدد النقابات في عام 1944 إلى 210 نقابة .

وشرعت حكومة الوفد تنفيذ الإصلاحات الضرورية الهامة بهدف تهدئة الخواطر الثائرة ولعل ن بين هذه الإصلاحات إصدار قانون التأمين الإجباري ضد حوادث العمل وتحديد ساعات العمل وعلاوة غلاء المعيشة وتجديد الحد الأدنى للأجور وكان أبرز هذه القوانين قانون الاعتراف بنقابات العمال , حيث اعترف القانون بحق العمال في تكوين النقابات إلا أنه قيد هذا الحق بعدة قيود لعل أخطرها أنه أخضع النقابات للرقابة البوليسية وجعلها معرضة للتفتيش والحل الإداريين وحظر إقامة اتحاد عاما لنقابات العمال .

ويبدو أن الوفد كان يقدر أهمية بقاء العمال ركيزة أساسية في بناء الحزب وجريا على سياسة الوفد فقد بدأ الاهتمام بمشاكل العمال حيث صدر لأول مرة أول قانون ينظم العلاقة بين العامل صاحب العمل ثم قانون مكافحة الأمية وبدأ الاهتمام في تكوين " رابطة النقابات " وأسند رياستها إلى محمد حسنين عضو الوفد وقامت الرابطة بعقد عدة اجتماعات عامة للعمل لتدارس شئونهم واقترح الرابطة بعقد عدة اجتماعات عامة للعمل لتدارس شئونهم واقترح في أحد هذه الاجتماعات انتخاب فؤاد سراح الدين ( سكرتير عام الوفد ) زعيما للعمال مدي الحياة وأدي تقديم هذا الاقتراح إلى نشوب انقسام بين العمال ولم يصل المجتمعون إلى قرار .

ويبدو أن القاعدة العريضة من العمال كانت تقدر محاولات الوفد بهدف السيطرة على الحركة العمالية ولذا فقد ظلت الحركة العمالية منقسمة على نفسها إلى أن أقيل الوفد سنة 1944 ومع اقتراب الحرب من نهايتها بدأت نذر البطالة تتجمع من جديد لأن وجود القوات المتحالفة في مصر ق أوجد العديد من مجالات العمل حتى وصل عدد العمال المصريين العلمانيين ضمن القوات المتحالفة 300,000 عامل سنة 1943 ومع زيادة الطلب إلى دفع أجور سخية نوعا ما وفجأة يتوقف هذا الدخل مرة واحدة وتتحول هذه الأعداد الهائلة إلى البطالة وهكذا أقبلت الموجة الشيوعية الجديدة لتجد الساحة العمالية مهيأة تماما ومن هنا بدأ المد الشيوعي يعرف طريقه بصور ة مكثفة نحو العمال .

والحقيقة أن الانعكاسات المباشرة لحادث 4 فبراير على الحركة العمالية يمكن استقراؤه من خلال الاستياء العام لدي الجماهير العمالية وخصوصا أمام الارتفاع الملحوظ في حاجيات الحياة وكان من السهل على الجماهير أن تربط بين تردي الحياة عموما وما حدث في 4 فبراير .

ويبدو أن الجماهير التي غفرت للنحاس والوفد " إهانات" كثيرة لم تغفر له مطلقا أحداث 4 فبراير بما فجره من مشاع وطنية جارفة وظهور العديد من الاتجاهات السياسية التي أثرت بشكل واضح على جماهيرية الوفد ونالت من قدرته ومكانته لدي الجماهير العمالية. وأستطيع أن أقول أن الديكتاتورية التي مارستها حكومة الوفد ضد القوي المعارضة بهدف التقليل من شأن المعارضة قد أتت بنتائج عكسية تماما حيث بدأت الجموع الغفيرة من جماهير الوفد تتعاطف مع تلك القوي بل أن بعضا من القوي الوفدية بدأت تبحث لها عن زعامة جديدة وفقا لمفهوم سياسي جديد أوجدته أحداث 4 فبراير ولذا فإنني أعتقد أن ردود الفعل المتباينة داخل الوفد نفسه كانت أكبر تأثيرا على الوفد من القوي السياسية التقليدية والتي عرفت بكراهيتها للوفد وزعامته ولعل انشقاق مكرم عبيد عن الوفد قد عجل بالقضاء على انهيار هذا الهرم الشامخ والذي بقي لأكثر من عشرين عاما رمزا للصمود الوطني ..

الفصل الرابع : القوي السياسية وموقفها من حادث 4 فبراير

الهيئة السعدية

لعل الدراسة السابقة توضح وبصورة كاملة مسئولية الوفد عن الأحداث التي وقعت مساء 4 فبراير 1942م تلك المسئولية التي نعتقد أنها لم تكن مطلقة وإنما شاركت فيها العديد من القوي الأخرى التي ساهمت بشكل أو بأخر في تصعيد حدة الصراع الدائر على الساحة المصرية .

وبما أن حادث 4 فبراير لم يكن وليد يومه بل تضافرت على بلوغه عوامل متعددة كان من أهمها سياسة القصر ومحاولته الاستثار بالسلطة وعدم اكتراثه بقوة الشعب وسلك القصر في سياسته طرقا متعددة كان من بينها أحزاب الأقلية حيث اتخذها تكاة للنيل من الوفد ووجدت الأحزاب ضالتها في القصر فقد كانت هي الأخرى تهدف إلى النيل من الوفد ولو سلكت في سياستها طرقا تتنافي مع الديمقراطية .

ويبدو أن ما حدث في 4 فبراير لم يكن مسئولية جهة محددة أو شخص بذاته لأن الحوادث لا تقع اعتباطا وانحراف الأمور إلى المبلغ الذي لغته مساء 4 فبراير يعد نتاج سلسلة طويلة من الأخطاء والتجاوزات ترجع في معظمها إلى أطماع شخصية ودوافع حزبية , ومن المؤسف أن الذين حملوا على التدخل البريطاني قبلوا وفي ظروف كثيرة ما يشبه هذا التدخل وارتضوه فتحمسهم من أجل السيادة المصرية لم يكن تحمسا خالصا وإنما لأن هذا التدخل لم يكن في صالحهم ومن هنا فإن تبعة 4 فبراير أوسع دائرة مما أراد الكثيرون أن يحصروها في هيئة واحدة فإن الرجال الذين استخدمهم القصر وقربهم واستمع إلى مشورتهم – وكان الملك لا يزال حدثا قليل التجربة – وعشرات النواب والوزراء والشيوخ الذين قبلوا أن يشتركون في برلمان ووزارات لا شأن ولا اعتبار لها عند الشعب لذا فإنني أعتقد أن المسئولية يجب أن تشمل هؤلاء جميعا .

وحزب الهيئة السعدية من بين الأحزاب التي انسلخت عن الوفد ( 1927) ولا يعنينا في هذه الدراسة صور الخلاف بين أحمد ماهر ومصطفى النحاس وإنما الذي يعنينا في المرتبة الأولي إبراز أثر هذا الانشقاق على مجري الأحداث السياسية .

والجدير بالملاحظة أن خروج أحمد ماهر والنقراشي من الوفد ثم ما تبع ذلك من إقالة حكومة الوفد ( ديسمبر 1937) يعد من أهم العوامل التي أثرت في سلوك الوفد وسياسته العامة سواء فيما يتعلق بعلاقاته بالقصر أو فيما يتعلق بعلاقاته بأحزاب الأقلية ولعل زيادة حدة الصراع بين القوي المتنافسة قد دفع الوفد إلى التضامن ولعل زيادة حدة الصراع بين القوي المتنافسة قد دفع الوفد التضامن مع بريطانيا لهدف ضرب القوي الأخرى ( القصر وأحزاب الأقلية ) .

أما عن أثر انشقاق الدكتور أحمد ماهر والنقراشي عن الوفد فعندما شكل محمد محمود حكومته( يناير 1938م) وحل مجلس النواب تمهيدا لإجراء انتخابات جديدة شع كثيرون ممن احتفظوا بولائهم للنحاس اعتقادا منهم بأن هذا الولاء يمكن أن يعيده إلى منصة الحكم إلا أنهم تأكدوا أنه لا سبيل لهم إلى العودة لعضوية مجلس النواب إلا إذا أنكروا هذا الولاء له فانضم كثيرون منهم إلى الدكتور أحمد ماهر وأنضم إليه غيرهم من الذين لم يرشحوا من قبل وكانوا يطمعون في الوصول إلى عضوية مجلس النواب وألف الدكتور ماهر والنقراشي من هؤلاء وأولئك الهيئة السعدية وبهذا التكوين خرجت الهيئة السعدية إلى حيز الوجود لتأخذ موقعها على مسرح الأحداث السياسية ليس من أجل أن تكون تجمعا سياسيا ينال أن هيبة الاحتلال ونفوذه وإنما لكي تكون جبهة معارضة تقف على الطريق المضاد لحزب الأغلبية ( الوفد ) وتنضم آليا إلى أحزاب الأقلية والمتعاونة مع القصر بهدف الانتقام من الوفد والنيل من شعبيته لدي الجماهير ويبدو أن هذه كانت المهمة الأساسية لحزب الهيئة السعدية خلال فترة الحرب.

وتشير الوثائق البريطانية إلى بعض مظاهر الصراع داخل الوفد ( قبل خروج ماهر والنقراشي ) ووفق رواية السفير البريطاني :" أن العناصر المعادية للنحاس لا تحظي بأية شعبية لدي الجماهير ومن ثم فلابد لها من زعامة رمزية تستطيع أن تنافس زعيم الوفد في شعبيته لدي الجماهير والملك الشاب وحده الذي يستطيع أن يمثل هذه الشخصية .

وبهذا التحليل يضع لامبسون أصابعه بمهارة فائقة على حقيقة العلاقة بين الملك فاروق وحزب الهيئة السعدية وهو يشير من طرف خفي إلى القصر كان وراء تفاقم الصراع بين القوتين المتنافستين ( أحمد ماهر والنقراشي من جانب ومكرم عبيد والنحاس من جانب آخر ) حيث يشير لامبسون في نفس البرقية قائلا " أن فاروقا قد استغل التنافس الدائر وعمل على تصعيده بصورة واضحة ولعل خروج ماهر والنقراشي من الوفد يعد من أقوي الدوافع التي شجعت فاروق على إقالة الوفد سنة 1937 م على اعتبار أن شخصية أحمد ماهر والنقراشي كفيلتان بأحداث خلل في هيكل الوفد وهو ما يسمي بسياسة الاستيلاء على الوفد من الداخل .

ويبدو أن من بين الأسباب التي ضاعفت من حدة التنافس بين فاروق والنحاس أن الأخير كان يعتقد أن فاروقا ضليع في تلك المؤامرة .

ولما كان الدكتور أحمد ماهر رجلا ماكرا في السياسة يعلم جيدا حقيقة القوي الأكثر تأثيرا في السياسة المصرية فقد أدرك أن الوقوف بجانب بريطانيا والاعتماد عليها هو الطريق الأمثل للوصول بحزبه إلى الوزارة من هنا كان قراره :" أن الحزب يري إعلان الحرب على ألمانيا نظرا لأن الحرب فرصة طيبة لتقوية الجيش المصري وتقوية لمركز مصر السياسي باعتبارها من أكبر الدول العربية "

والغريب في الأمر أن يري الدكتور أحمد ماهر وهو الشخصية التي لعبت دورا رائدا في الحركة الوطنية المصرية منذ ثورة 1919 م أن إعلان مصر الحرب على ألمانيا هو الحل الأمثل لتقوية مصر عسكريا متناسيا الثمن الباهظ الذي ستدفعه مصر لو سلكت هذا الاتجاه منذ بداية الحرب سواء فيما يتعلق بأرواح أبنائها أو تدمير مرافقها العامة حيث ستكون مصر في هذه الحالة شريك كامل في الحرب وعليها أن تتحمل تبعة ما يحدث .

والحقيقة أن بقاء مصر بعيدا عن التورط في إعلان الحرب كان مسلكا جادا ومتفقا إلى حد كبير مع مصلحة مصر القومية بالرغم من التضحيات الباهظة التي قدمتها مصر ثمنا لارتباطها بمعاهدة 1936م إلا أن هذه التضحيات كانت شيئا لا يذكر أمام أهوال الحرب وأضرارها بالإضافة إلى أن هذا الموقف المصري كان حجة تذرعت بها الحكومات المصرية المتعاقبة خلال الحرب لكي تحول دون قذف المدن والمرافق المصرية حتى أن حكومة الوفد ذاتها قد علمت على استغلال هذه الورقة الرابحة حينما بدأت قوات المحور تتقدم صوب الإسكندرية حيث ذود محافظها بتعليمات يرسلها بدوره إلى روميل مؤكدا أن مصر لا ذنب لها وأن الوجود البريطاني داخل الأراضي المصرية يعد شكلا من أشكال الاحتلال الذي لا ذنب لمصر فيه ومما يضاعف من مسئولية الهيئة السعدية تجاه قضية دخول مصر الحرب أن هذا الموقف جاء مناقضا لمشاعر الغالبية العظمي من المصريين حيث كانت قطاعات كبيرة من الرأي العام تنفر من اشتراك مصر في الحرب على اعتبار أنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل كما عبر عن ذلك الشيخ مصطفي المراغي شيخ الأزهر وهو يخطب في مسجد بيبرس وكان فاروقا حاضرا يؤدي صلاة الجمعة وكانت مشاعر الناس غاضبة أثر وقوع غارة عنيفة على القاهرة راح ضحيتها 39 قتيلا 33 جريحا . ولعل موقف الهيئة السعدية من دخول مصر الحرب كان لعبة سياسية بهدف الوصول بالحزب إل موقع الوزارة إلا أن السياسة البريطانية كانت تدرك أن هذه الدعوة لا تجد قبولا لدي الرأي العام المصري وأن بقاء مصر بعيدا عن هذا الصراع سوف يترتب عليه العديد من المكاسب التي قدرتها بريطانيا ومن هنا فقد صرفت بريطانيا نظرا عن هذه الدعوة على اعتبار أن الحزب السعدي لا يمثل واقعا ملموسا في صفوف الجماهير وأن فكرة دخول مصر الحرب لا تجد من يؤيده.

وجريا على سياسة التفاهم بين الهيئة السعدية وحزب الأحرار الدستوريين فقد فكر البعض في أن يندمج الحزبان في هيئة واحدة يكون محمد محمود باشا رئيسا الدكتور أحمد ماهر نائبا عن الرئيس وراقت هذه الفكرة بعض الجهات فشجعت علها ولم ير الدستوريون بالفكرة باسا ما دام محمد محمود سيكون رئيسا لكن هذه الفكرة لقيت مقاومة من الهيئة السعدية اعتقادا منهم بأنهم ورثة سعد زغلول وتشبث أصحاب هذه الدعوة بها تشبثا لم يكن يسيرا على زملائهم التغلب عليه ولذلك استبعدت فكرة اندماج الحزبين .

ولعل التفاهم الذي طرأ على العلاقة بين الهيئة السعدية والأحرار الدستوريين كان تفاهما صناعيا لم يزل ما بينهما من تنافس دل عليه وقوع العديد من الخلافات ومحاولة كل حزب النيل من الأخر .

ويلاحظ أن محاولة النيل من الدستوريين كان مسلكا تبناه الدكتور أحمد ماهر حتى يظفر بتشكيل الحكومة عن طريق التشكيك في نزاهة وزارة محمد محمود وتعد مزرعة الجبل الصفر أكبر دليل على هذا المسلك أما عن موقف الهيئة السعدية من بعض القضايا القومية .

فقد درج اليسار المصري على وصف هذا الحزب بأنه حزب البرجوازية الصناعية الكبيرة وقد وصفه أحد أقطاب اليسار بأنه الحزب الذي يمثل الرأسماليين الكبار ومن الطبيعي أن تقوم فلسفة الحزب على الدفاع عن مصالح أعضائه حيث ضم الحزب كثيرا من كبار الإقطاعيين مثل الدكتور محمد حلمي الجيار وعائلة الأتربي أحمد حلمي محمود .

وعلى الرغم من أن الحزب كان حريصا على إبراز فكرة الديمقراطية عن طريق توسيع دائرة اختصاص المجالس النيابية والتشريعية إلا أن هذه الأفكار النظرية قد تهاوت منذ اللحظة الأولي لتكوين الحزب ولعل هذا راجع إلى عدة عوامل أساسية :

أولا : لقد كان من بين العوامل الهامة في انسلاخ النقراشي وأحمد ماهر عن الوفد هو عدم موافقتهما على سياسة الوفد الليبرالية في مجال الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي حيث حمل الدكتور أحمد ماهر حملة عنيفة على الوفد وسياسته وخصوصا فيما يتعلق بالعمال وكان مما ذكره: " أن الحكومة أغدقت على العمال بالعديد من النعم حتى أبطرتهم وجرأتهم على الإخلال بالنظام والتحكم في رؤسائهم وأضاف الدكتور ماهر قائلا :

" إذا انسحبت هذه الفوضي حتى تعم عمال المصانع والزراعة فإنها ستحدث بلا شك فوضي اجتماعية لا يعلم مداها إلا الله ".

وكان افتقار الحزب إلى الطابع الاقتصادي والاجتماعي من بين العوامل التي أدت إلى انصراف غالبية الشعب المصري عنه ما عدا فئة قليلة من طلاب الجامعات والتي انبهرت بشخصية الدكتور أحمد ماهر وحجته القومية في العديد من القضايا القومية بالإضافة إلى مقدرته الفائقة على إجادة الحوار والبعد السياسي الكبير الذي كان يتمتع به .

ثانيا : محاولة الزج بمصر في الصراع الدولي القائم عن طريق الحرب ضد ألمانيا وهذه الدعوة لم تجد لها أى صدي لدي الجموع الكاسحة من المصريين بل وقد أتهم أحمد ماهر صراحة بأنه ينافق الانجليز على حساب المصالح القومية بهدف الوصول بحزبه إلى موقع الوزارة .

ثالثا : لقد اشترك الحزب في العديد من الوزارات التي افتقدت إلى أى أساس ديمقراطي أو دستوري بدأ من سنة 1938م وحتى 4 فبراير 1942م وكل هذه الوزارات كانت صنيعة من صنائع القصر والاحتلال وهكذا ارتضي الحزب لنفسه أن يتخذ من القصر والاحتلال تكاة لوجوده واستمراره مقابل العديد من أشكال المساومة التي مست في معظمها مصالح مصر الوطنية وبدلا من أن يكون الدكتور أحمد ماهر وحزبه حربا على الاحتلال وسياسته حتى يكون جديرا بتركه سعد زغلول وحتى تتجمع الجماهير من حوله بالعكس من ذلك فقد بدأ العديد من أعضاء الحزب يبحثون لهم عن موقع جديد بعد أن اكتشفوا أن الجمل الإنشائية والخطب العصماء لا يمكن أن تخلق نظاما دستوريا ولذا فقد انصرف عدد كبير من الأعضاء إلى جماعة الإخوان المسلمين أو إلى حركات اليسار بعد أن فقدوا الثقة في القيادات التقليدية إلى كانت موضع ازدراء وخصوصا وسط قطاعات الشباب المثقف ولم يعرف عن هذا الحزب أنه أخذ موقفا وطنيا تجاه العديد من قضايا مصر القومية والوطنية بل أنه صاحب سياسة اللين ومحاولة التقرب من بريطانيا والارتباط بها باعتبارها الإمبراطورية التي تناصر الديمقراطيات في العالم .

أما عن موقف الحزب من قضية الأحكام العرفية والتي صدرت بمرسوم في أول سبتمبر 1939 م وبمقتضي ذلك وضعت الرقابة على الصحف والمراسلات ووسائل الإعلام فلقد اتفق السعديون على دستورية الأحكام العرفية إلا أنهم طالبوا بدعوة البرلمان للتصديق على هذه الإجراءات عملا بنص الدستور .

واعتبر الحزب أن إعلان الأحكام العرفية من أهم الالتزامات التي يجب أن تنفذها مصر لأنها لو لم تعلنها لتعرضت تعرضا واضحا لحرق المعاهدة – 1936 – على اعتبار أن المعاهدة نصت صراحة على إعلان مصر الأحكام العرفية .

وهكذا دخلت الهيئة السعدية دائرة أحزاب الأقلية التي استخدمها الاحتلال لتحقيق أغراضه وأصبح هذا الحزب ألعوبة في أيدي كبار الماليين الصوريين المرتبطين بالشركات الاحتكارية الأجنبية وما يؤكد العلاقة الوثيقة بين هذا الحرب وبين بريطانيا أن العديد من الأعضاء البارزين لهذا الحزب كانوا أعضاء في العديد من الشركات البريطانية ولعل من مصلحة هؤلاء مهادنة الاحتلال حفاظا على مصالحهم وامتيازاتهم حيث أنه من المسلمات أنه كلما ارتفعت نسبة العناصر التي تمثل قطاعا اجتماعيا معينا في قيادة حزب من الأحزاب كلما كان ذلك مؤشرا على اتجاه سياسة الحزب نحو تحقيق مصالح هذا القطاع .

أما عن موقف الهيئة السعدية من أحداث 4 فبراير فلقد عبر عنه الدكتور أحمد ماهر بكلمته المشهورة : " لقد قبلت العودة إلى الحكم يا نحاس باشا على أسنة الرماح البريطانية " وهذه المقولة بقدر ما هي اتهام واضح للنحاس باشا إلا أن النظرة الموضوعية لعمق الأحداث وتطورها تقتضي منا العودة مرة ثانية إلى الأحداث التي وقعت مساء 4 فبراير وبطرح كل الحلول على المؤتمر الذي عقد بقصر عابدين والذي اشترك فيه زعماء كل الأحزاب ورؤساء الحكومات فقد أجمعت الآراء على قبول الإنذار البريطاني لكن كان الاختلاف فيما بينهم هل يشكل لنحاس الحكومة وفدية خالصة أو حكومة قومية من بين كل الأحزاب أو حكومة إدارية تكون مهمتها إجراء انتخابات نيابية يتولي الحكم على أثرها الحزب صاحب الأغلبية وأجمعت كل الآراء بما فيهم الدكتور أحمد ماهر " زعيم الهيئة السعدية " على الموافقة على أى حل من الحلول المطروحة ما عدا أن يشكل الوفد وزارة وفدية خالصة وفي هذه الحالة فقط يكون الوفد قد قبل المجئ على أسنة الرماح البريطانية – على حد قول أحمد ماهر – أما أن يشكل النحاس حكومة سواء أكانت قومية أو إدارية على الرغم من أنه يعد تنفيذا صريحا للإنذار إلا أنه من وجهة نظرهم " قادة الأحزاب " لا يعتبر تنفيذا للإنذار ويعتبر خروجا عن دائرة التسلط البريطاني .

ويبدو أن حزب الهيئة السعدية قد عمل على استغلال أحداث 4 فبراير 1942 لا لأسباب وطنية ولا لأن كرامة مصر قد أهينت واستقلالها قد أهدر وإنما كانت الدوافع الحزبية والكراهة الشديدة التي يكنها الدكتور أحمد ماهر للنحاس باشا هل العامل الأول في موقف الدكتور أحمد ماهر وحزبه من أحداث 4 فبراير حيث اعتبرت كل الأحزاب ( بما فيهم الهيئة السعدية ) أن الوفد قد حكم على نفسه بالموت البطئ وحقا كانت فرصة مواتية لكل الأحزاب كي تنال من الوفد ومن شعبيته الكاسحة ومن تاريخه العريق في قيادة النضال الوطني والمهم أن الوفد قد اختار لنفسه هذا الطريق والذي يعد خطأ سياسيا كبرا .

وعلى الرغم من أن سياسة الحزب السعدي كانت تعن التعاون مع الحليفة " بريطانيا " إلى أقصي حد حتى وصل الأمر إلى الإصرار على إعلان الحرب من جانب مصر ضد ألمانيا إلا أن الدكتور أحمد ماهر قد وصف ما حدث مساء 4 فبراير في مذكرته التي قدمها إلى السفير البريطاني " بأنه عدوان صارخ على استقلال مصر تعارض صراحة مع نص المعاهدة ( معاهدة 1936 ) ويعرض العلاقات بين الدولتين لخطر بالغ .

ويبدو أن الدكتور أحمد ماهر قد اتخذ هذا الموقف وفقا لعدة عوامل أساسية :

أولا : أن هذا الموقف يعد تطييبا لخاطر الملك فاروق والذي كانت تربطه بالدكتور أحمد ماهر علاقات وطيدة .

ثانيا : مواكبة لمشاعر الرأي العام والذي صدم صدمة عنيفة من جراء ما حدث .

ثالثا : والأهم من كل ذلك أن السعديين كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة سعد زغلول وأن ما حدث يعد فرصة أكيدة لكي يحتل السعديون مكانة لدي الجماهير الساخطة على الوفد والاحتلال معا .

ونظرا لأن رد الفعل كان عنيفا سواء لدي الرأي العام أو لدي الأحزاب زعماء الأحزاب وكان الدكتور ماهر أو لمن عمل السفير على الاتصال به حيث بعث إليه السكرتير الشرقي للسفارة في محاولة لإرضاء الدكتور ماهر وحزبه وتشير الوثائق البريطانية إلى موقف مغاير تاما للموقف الذي أعلنه الدكتور ماهر فبدلا من أن يمضي في موقفه والذي عن أن بريطانيا قد انتهكت معاهدة 1936 وارتكبت خطأ سياسيا لا يغتفر أخذ يتحدث في لقائه مع السكرتير الشرقي للسفارة عن ارتباط مصر ببريطانيا وأهميته وساسة حزبه في إعلان الحرب ضد المحور والتأكيد على أن النحاس باشا هو الذي ارتكب.

كل الخطأ حيث أهان بريطانيا في خطبة العامة ووافق مع الزعماء الآخرين في اجتماعات القصر ( مساء 4 فبراير ) على أن ما تطلبه بريطانيا يعد تدخلا لا مبرر له ومع ذلك قبل الحكومة تؤيده الحراب البريطانية .

وكأن أحمد ماهر كان يلوم بريطانيا لا لأنها أهدرت استقلال مصر ولا لأن ما حدث يعوض العلاقات بين الدولتين للخطر ولكن لأن بريطانيا جاءت بالوفد هكذا يبدو التناقص الواضح بين ما أعلنه أحمد ماهر صراحة وبين ما صرح به للسكرتير الشرقي وأخذت السفارة البريطانية انطباعا بأن موقف الدكتور ماهر يعد مناورة موجهة إلى النحاس أكثر من بريطانيا .

وعلى الرغم مما بذله السفير من محاولات لإقناع الدكتور ماهر بالعدول عن سياسة مهاجمة الوفد إلا أن المعارضة أخذت تضاعف من نشاطها على الرغم من الأحكام العرفية المفروضة على البلاد بهدف النيل من الوفد وأخذت تقارير الأمن العام تلاحق المعارضة في كل مكان وخصوصا الهيئة السعدية حيث بدأت أكبر حركة اعتقالات في المدن والقرى بتهمة توزيع صور من الاحتجاج الذي قدمه أحمد ماهر إلى السفير البريطاني .

وعلى ما يبدو فإن النحاس باشا قد انزعج انزعاجا شديدا بسبب الحملة المكثفة التي يتزعمها السعديون لأن حكومة الوفد كانت حريصة على إخفاء ما حدث 4 فبراير حيث امتنعت جميع الصحف عن الإشارة إلى هذا الحادث ولو من بعيد إلا أن أحد النواب قد فجر الموقف من خلال استجواب تقدم به إلى رئيس الحكومة بخصوص حرية الصحافة ولماذا لم ينتشر أى شئ عن أحداث 4 فبراير .

ولما كان هذا الاستجواب يمثل إحراجا واضحا لحكومة الوفد وأن الإجابة عليه تعد أكثر إحراجا للحكومة فقد اعتذر النحاس عن الإجابة بحجة أن فيها مساسا بسيادة العرش وهو ما يتعارض تماما مع الدستور .

ونظرا لأن هذا الموقف يعد تناقضا واضحا في سياسة الحكومة فقد حرصت المعارضة على طرق العديد من الأبواب التي تشير ولو من بعيد أحداث 4 فبراير وشهدت قاعات مجلس الشيوخ العديد من المواقف التي تمكنت المعارضة بمقتضاها من إحراج الحكومة .

وعلى الرغم من الأحكام العرفية القاسية والرقابة الشديدة على الصحف والمطبوعات عموما إلا أن الهيئة السعدية قد تمكنت من أن تنال من الوفد وأضعفت من شعبيته إلى حد كبير نظرا لأن الحكومة قد أخذت في تحري الرغبات البريطانية بصورة قوبلت باستنكار واستياء شديدين من بعض الوفديين قبل غيرهم وبشهادة أحد الوفديين " لقد كان حكم الوفد أقرب إلى الديكتاتورية منه إلى النظام الديمقراطي السليم .

وأسرفت الحكومة في تفسير " ضرورة الحرب" فاعتقلت أعدادا كبيرة من أعضاء الهيئة السعدية دون أن يكون لهم شأن في الإضرار بمجهود الحلفاء وتساءل أحد أعضاء مجلس الشيوخ : هل من حق الحاكم العسكري أن يعتقل ما يشاء بدون ذكر الأسباب ؟ وأضاف النائب قائلا : قد يكون ذلك مقبولا في بعض الظروف بحجة المحافظة على سلامة الدولة , افهم أن يقول الحاكم العسكري عندما قبض على علي ماهر باشا أنه يمتنع عن ذكر الأسباب لسلامة الدولة هذا مقبول لأن علي ماهر رجل متصل بشئون الدولة ولكن من غير المقبول أن يقبض على موظف في الدرجة الثامنة لتوزيع منشورات أو لاشتراكه في مظاهرة فإذا سئل الحاكم العسكري عن أسباب القبض أو الاعتقال امتنع عن ذكرها .

وفي الوقت الذي أسرفت فيه الحكومة في تفسير " ضرورة الحرب " فإنها قد أسرفت أيضا في مكافأة أنصارها من الوفديين وأساءت إلى الآخرين ممن ليسوا من أنصارها ولم يكن لها أن تحتج بأن الحكومات الأخرى تفعل ذلك حيث أن للوفد اعتبارا من آخر لأنه الحزب الذي يؤمن بالدستور وينادي بالديمقراطية ويستند إلى قواعد جماهيرية كاسحة , من هنا كان لزاما على الحكومة أن تسير في الحكم بالطريقة الديمقراطية وإذا كان الحكم الدستوري أصلا له خصومة وله الأحزاب التي تضييق به فلم يكن من المعقول أن تتغاضي حكومة الوفد عن السلاح الذي تستغله بقية الأحزاب وتشهره في وجه الوفد حيث أنه من المؤكد أن السلطة ستزول يوما ما عن الوفد وستذهب أيضا الأحكام العرفية وتبقي الحقيقة التي سيعجز الوفد عن مواجهتها .

ومضي الحزب السعدي متضامنا مع غيره من أحزاب المعارضة في محاولة مستميتة لإحراج الحكومة حيث اجتمع المعارضون وكتبوا خطابا إلى مصطفى النحاس يطلبون فيه التحقيق مع علي ماهر .

وكان أحمد ماهر صاحب فكرة أن يكون للمعارضة رأي في الأمور الخطيرة التي تتعرض لها مصر مثل محاولة إغراق الدلتا وتدمير آبار البترول وخطوط المواصلات بهدف إعاقة تقدم القوات الألمانية .

ولما كانت سياسة الهيئة السعدية هي كشف وتعرية حكومة الوفد بهدف التقليل من هيبتها لدي الرأي العام المصري فقد قاد الدكتور أحمد ماهر زعماء الأحزاب السياسية في أكبر مظاهرة سياسية توجهت إلى القرى المصري بعد أن ثبت أنه لا جدوي من مواجهة الحكومة في القاهرة ولعل الهدف من وراء تلك المظاهرة السياسية هو اطلاع الرأي العام على ما تفعله الحكومة ضد المصلحة القومية بدءا بالاستثناءات والاعتقالات وإجراءات فصل الموظفين وانتهاء بأحداث 4 فبراير واختارت المعارضة مديرية المنوفية بالذات لكثرة ما فيها من متعلمين يسهل إقناعهم ويعلق أحد زعماء الأحزاب على هذه الزيارة فيقول : " لقد عملت الحكومة على مضايقة الشخصيات التي استقبلتنا وأنزلت بهم متاعب كثيرة ونكلت ببعض العمد والمشايخ واعتقلت بعض الطلاب والفلاحين والمدرسين الإلزامي " وارجع صاحب هذه الرواية السبب في ذلك " إلى أن احترام القانون لم يصبح في أخلاقنا ولم يستقر في ضمائرنا بل على العكس يري الكثيرون من الحاكمين التحايل على القانون للتخلص من أحكامه ويعتبرون ذلك " شطارة " ويغتبطون لها وقد يكون مرجع ذلك إلى الاستعمار أذل حكم مصر أزمانا طويلة حيث فرض على المصريين أحكاما ظالمة بل بلغ منا الاغتباط بالتحايل على القانون أن أصبحنا نتحايل على أحكام الشريعة الإسلامية نفسها ".

ولعل الدكتور هيكل كان يشير إلى فتوي وزير الأوقاف - حسين الجندي- في وزارة النحاس حيث عقد الوزير اجتماعا حضره كثير من الفقهاء انتهي بفتوى كانت موضع سخرية وتعجب من جماهير الشعب وخلاصة الفتوى :"أن الملك فاروق ينحدر من الدوحة الشريفة عن طريق والدته الملكة نازلي حفيدة سليمان باشا الفرنسي " الكولونيل سيف سابقا " وقد يكون الكولونيل سيف بعد أن ألسلم قد صلح إسلامه وأصبح من أكرم الناس عند الله لكن أن يكون من سلالة النبي عليه الصلاة والسلام فهذا هو العجب العجاب .

ويلاحظ أن جهود المعارضة قد تركزت كلها ضد حكومة الوفد في شكل منسق وراحت تبث الدعايات والأقاويل بهدف كسب أرض جديدة على حساب الوفد وكأن القضية المصرية قد أصبحت قضية صراع بين الوفد وأحزاب الأقلية بعيدا عن القضية الأساسية وهي الوجود البريطاني والملفت لنظر أيضا أن الحديث عن 4 فبراير قد انصب على الوفد بعيدا عن الخطر الحقيقي وهو الاحتلال البريطاني ومما سترعي الانتباه أيضا أن الوفد لم يعالج تلك القضية ( 4 فبراير ) بذكاء وحنكة شديدين بل مضي ليسلم لمعارضيه نقطة بعد أخري ولعل أهمها تأثيرا على الوفد هي قضية مكرم عبيد .

وبالرغم من أن السعديين كانوا يعتبرون مكرم عبيد وراء كل المشاكل والانشقاقات التي أصابت الوفد بل وكان من بين أسباب خروج أحمد ماهر والنقراشي من الوفد هو مكرم عبيد نفسه إلا أنه وبمجرد أن انفصل مكرم عن الوفد حتى تلقفوه وصنعوا منه بطلا وطنيا نزيها وعدوه ضحية الانحرافات والسرقات التي ترعاها زوجة النحاس ومن ورائها أقاربها وأصدقائها .

وبمجرد خروج النحاس من الحكم – 8 أكتوبر 1944م – شن الدكتور أحمد ماهر حملة ضده متهما إياه بأنه كان يحكم مصر وفقا لأساليب هتلر وموسليني محتميا وراء برلمان جاء نتيجة انتخابات مزيفة .

وفي 8 نوفمبر 1944م صدر مرسوم بقانون رقم 48 لسنة 1944م يقضي بإلغاء كافة الترقيات والعلاوات والمعاشات الاستثنائية التي تمت في عهد الوزارة السابقة وأعيد الموظفون الذين عزلهم النحاس إلى وظائفهم وأحيل إلى المعاش كل ما عرف عنه أنه كان ضليعا مع الوفد ومن بين هؤلاء الدكتور طه حسين المستشار الفني لوزارة المعارف .

ولعل من أهم العوامل في تقوية الهيئة السعدية هو معاضدة السيدة صفية زغلول " حرم سعد زغلول " لهذا الحزب وكراهيتها الشديد للنحاس , ومما يستوقف النظر أنها رفضت أن تهنئ النحاس عقب توليه وزارة 4 فبراير عندما ذهب ليلتقي تهنئة أم المصريين " كما كان يطلق عليها" وقال النحاس وهو يقبل يدها :" جئنا لنتلقي من أم المصريين تهانينا " فقالت له :" أنا أعزيكم ولا أهنئكم " ليس خليفة سعد زغلول هو الذي يتولي الحكم على أسنة الرماح البريطانية " فقال النحاس " نحن أنقذنا العرش وأنقذنا الاستقلال " فقالت" لن تثبت الأيام إلا أن خليفة سعد تولي الحكم على دبابات الانجليز "

ويبدو أن السيدة صفية زغلول كانت تناصر الدكتور أحمد ماهر على اعتبار أن الهيئة السعدية هي الرصيد الوطني الباقي من تراث سعد زغلول ولذا فقد فتحت أمامهم النادي السعدي وراحت تستقبل أعضاء الهيئة السعدية وتزودهم بنصائحها وحدث في ذكر سعد سنة 1943م أن هاجم الشباب الوفديون الشبان السعديين أثناء زيارتهم لبيت الأمة وراحوا يقولون في مواجهة الدكتور أحمد ماهر :

النحاس : النحاس فما كان من الدكتور ماهر إلا أن قال : انجليزي انجليزي , وردد السعديون هذا الهتاف فأرسلت الحكومة قوات البوليس واقتحموا بيت الأمة وضربوا الشبان السعديين أمام أم المصريين من هنا كان إصرار أم المصريين على إعلان عدائها الصريح للنحاس وحكومته وذلك من خلال المواقف التالية :

أولا : أنها طلبت من الوفد أن يبحث عن مكان آخر غير بيت الأمة للاجتماع .

ثانيا: أنها ذهبت عقب 4 فبراير إلى القصر الملكي واعتذرت باسم سعد زغلول عما فعله خليفة سعد وقالت لحسنين باشا ( رئيس الديوان ) " قل للملك أنه ليس من مبادئ سعد أن يتولي الوفد الحكم على الدبابات وقد اختلف سعد كثيرا مع الملك فؤاد ولكنه لم يلجأ مرة واحدة للأجنبي وكان يقول : الملك هو رايتنا جميعا , وأضافت السيدة صفية زغلول " أنني منذ يوم 4 فبراير لا أنام الليل وأنني أعجب كيف ينام الرجال "

أما الوسائل التي اتبعها النحاس مع السيدة صفية زغلول فقد قاطع بيت الأمة ومنع جميع وزرائه من زيارتها وصدرت الأوامر إلى الرقابة بأن تحذف مقالات الثناء عليها أو حتى مجرد ذكر اسمها ويبدو أن النحاس قد حاول إعادة العلاقات مرة ثانية مع بيت الأمة فقد حاول عثمان محرم أن يبذل الوساطة تمهيدا لعودة العلاقات إلا أن السيدة صفية زغلول أجابت بأنها لا تضع يدها في يد النحاس وأنها تغفر له إساءته لشخصها أما أساءته لمصر ولملك مصر فهي لا تستطيع أن تنساه "

ويبدو ان السيدة صفية زغلول قد تأثرت كثيرا من أحاديث الدكتور أحمد ماهر – ضد النحاس فقد كان الأول كثيرا التردد عليها وكانت تصرح دائما أن الوفد وزعامته قد خرجا على خط سعد زغلول وأن الباقي من رصيده هو أحمد ماهر وهيئته السعدية .

وعلى الرغم من كل هذا فقد كانت صفية زغلول تعتبر النحاس ضحية للعدد من الشخصيات التي زينت له ما صنع في 4 فبراير وكانت تقول " أنني حزينة على النحاس الذي عرفته قبل 1942 ولا أستطيع أن أنسي أنه خدم مصر حتي ذلك الحين خدمات صادقة أما النحاس بعد ذلك " فمنه لله " ولعل هذا يفسر لماذا لم يشترك النحاس في تشييع جنازة صفية زغلول.

وهكذا تجمعت كل أنواع المعارضة لكي تتخذ من النحاس وحكومته هدفا حتى تنمو الأحقاد والضغائن ضد الوفد وحمل النواب السعدون حملة شديدة على الحكومة لدرجة أنهم طالبوا بإلغاء ما جاء في معاهدة 1936 مما يمس استقلال مصر وكان الزعماء السعديون أنفسهم لم يشتركوا في توقيع هذه المعاهدة بحكم أنهم كانوا أعضاء بارزين في الوفد وأصبح من الممكن أن نسمع في مجلس الشيوخ أثناء مناقشات دارت حول وباء الكوليرا مثل هذه الكلمات التي يتمثل في سخريتها المرة ذلك العداء الشديد الذي يكنه الأعضاء السعديون ضد حكومة الوفد " أن مصر تعيش ساعات عصيبة لقد جاءتنا الملاريا قد جاءتنا على متن الطائرة البريطانية كما جاءتنا الحكومة الحالية على ظهر دبابات بريطانيا العظم وعلى الرغم من أن هذه الكلمات لم تنشرها الصحف إلا أنه قد تنقلها الناس وأصبحت حديث رجل الشرع في مصر .

وعموما فلم يترك السعديون فرصة إلا استغلوها بهدف زعزعة ثقة المصريين في الوفد وقيادته وما كانت مذكرة نوفمبر 1943 إلا انطلاقا من هذه السياسة تلك المذكرة التي قدمها المعارضون ومن بينهم الحزب السعدي إلى قادة الدول الكبرى المجتمعون في القاهرة ( تشرشل- روزفلت – ساينج كاء شك ) شهروا فيها بالوفد وسياسته وحددوا مطالب مصر في أربع نقاط أساسية :

1- التسليم باستقلال مصر ورفع القيود التي أوجدتها المعاهدة وجلاء جميع القوات الأجنبية .

2- الاعتراف بحقوق مصر في السودان .

3- استرداد مصر كامل سيادتها على قناة السويس .

4- اشتراك مصر في مؤتمر السلام القادم كدولة مستقلة ذات سيادة .

5- وقد تضمنت المذكرة أيضا الشكوى من سوء استخدام الوزارة للأحكام العرفية والرقابة الصحيفة وهذه المذكرة لا تختلف عن مذكرة مفهما تعد مناورة سياسية بهدف لفت نظر السياسة البريطانية إلى أن المعارضة قد ملت الانتظار .

والمهم أن هذه المناورة البارعة لم تكن من اختراع المعارضة وإنما كانت بدعوة من الملك فاروق وهذا ما يؤكد الدافع الحقيقي من وراء تلك المذكرة أو غيرها من المواقف العديدة والتي كان الهدف في مجملها تشويه صورة الوفد بدرجة تسمح للقصر بإقالته في الوقت المناسب وبلا أى ردود فعل شعبية أو بريطانية .

وأستطيع أن أقول أن سياسة الهيئة السعدية لم تكن قائمة على أى أساس ديمقراطي أو دستوري وأن مبالغتها في فكرة الديمقراطية تتناقض تماما مع سياسة حكومات الأقلية والتي ترأست الحكم بدأ من يناير 1938 وحتى 4 فبراير وقد كانت الهيئة السعدية من بين الأحزاب التي اشتركت في الحكم على الرغم من مخالفة ذلك صراحة لنص الدستور الذي يخول لحزب الأغلبية حق تشكيل الحكومة إلا أن أحزاب الأقلية قد تمكنت من تزييف الانتخابات بالعديد من الوسائل وصادرت في ذلك حق الأمة في اختيار مرشحيها وللأسف فقد تعودت العديد من الحكومات على المضي في هذا الطريق الذي يعد انتهاكا صريحا لأبسط حقوق الإنسان المصري .

الأحرار الدستوريون

وهم أول تجمع خرج على الوفد سنة 1922 وتولوا الوزارة منفردين أحيانا ومؤتلفين مع غرهم أحيانا أخري وكانت أخر وزارة لهم تلك التي تولوها عقب إقالة الوفد 1937 واستمروا فيها حتى أغسطس 1939 ولعل من أهم الأسباب التي دعت إلى تأليف الحزب الدفاع عن الدستور والعمل على سرعة إصداره وتنفيذه والحفاظ على الحياة الدستورية وتأكيدا لأهمية الدستور عند مؤسسي الحزب نعتوا أنفسهم باسمه.

واعتمد الحزب في تكوينه على طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية ذوي الثقافات الأجنبية وعلى ضوء برنامج الحزب يبدو إلى حد كبير أنه جاء متفقا مع التكوين الاجتماعي والفكري للأحرار الدستوريين .

وبالرغم من أنهم يهدفون إلى استقلال البلاد إلا أنهم يحرصون على مكاسبهم الاقتصادية والاجتماعية حيث نصت المادة السادسة ن برنامج الحزب على ضرورة تنظيم العلاقة بين العامل وصاحب العمل على أساس من العدل .

والعدل مبدأ أخلاقي يفهم بأكثر من زاوية حيث يفهمه الرأسماليون بأنه الارتفاع بالمستوي الاجتماع للعامل في إطار النظام القائم ويفهمه الاشتراكيون على اختلاف درجاتهم بأنه تغيير في أساس ملكية وسائل الإنتاج ولذا فقد ظلت مبادئ هذا الحزب مصدر شك وريبة لد قطاعات كبيرة من العمال المصريين لأن الصفة الغالبة على هذا الحزب أنه تجمع يعتمد على العصبيات أكثر من اعتماده على مبادئ سياسية حيث ضم العائلات ذات العصبيات أكثر من اعتماده على مبادئ سياسية حيث ضم العائلات ذات العصبيات الريفية ومن هنا كان أكثر الأحزاب تفككا وتعرضا للخلافات الشخصية حول زعامته .

ويلاحظ أن كل الأحزاب السياسية فيما عدا الحزب الوطني انشطرت عن الوفد أو صدرت عن أشخاص أصلا من أنصار الوفد فالأحرار الدستوريين وحزب الإتحاد والهيئة السعدية والكتلة الوفدية كل هذه القوي تألفت من أشخاص انفصلوا عن الوفد في هذا الوقت أو ذاك .

وعلى الرغم من أن هذا الحزب يعد من أهم الأحزاب مطالبة بالدستور إلا أنه ما أن ترأس محمد محمود الحكومة ( ديسمبر 1937) حتى قامت حكومته بحركة تنقلات داخل الجهاز الإداري للدولة وشملت أيضا عمليات فصل واسعة النطاق للعناصر الوفدية وأحلت الموالين لها محلهم ولعل هذا كان مقدمة لتزيف إرادة الأمة حتى لقد شهد السفير البريطاني بأنه بات واضحا أن الانتخابات سوف " تزيف" بواسطة الحكومة. وبالفعل فقد بدأت الحكومة في القيام بالعديد من الإجراءات التي تؤكد عزمها على تزييف إرادة الأمة ولعل الخطوة الأولي في تلك العملية هي إجراء الانتخابات على مرحلتين ( الوجه القبلي في يوم والوجه البحري بعد ثمان وأربعين ساعة ) وتذرعت الحكومة بحجة الحفاظ على الأمن والنظام وحتى يبدو هذا الإجراء وكأنه لا يتعارض مع الدستور فقد تم إصدار فتوى من قلم قضايا الحكومة بأن هذا الإجراء لا يتناقض مع الدستور .

ولعل هذه هي المرة الأولي في تاريخ الحياة النيابية المصرية التي تجري فيها لانتخابات على مرحلتين بدلا من إجرائها في يوم واحد كما كان متبعا من قبل لا يخفي نائب رئيس الأحرار الدستوريين الهدف الحقيقي من وراء هذا الإجراء حيث يقول : ( لقد كان محمد محمود أكثر اطمئنانا إلى الوجه القبلي فإذا جرت فيه الانتخابات وظهرت نتيجتها وكانت الأغلبية الكبرى لأنصار الحكومة أثر ذلك في مجري الانتخابات في الوجه البحري تأثيرا كبيرا ) .

ولم تكتف الحكومة بهذا الإجراء وإنما أقدمت على تعديل الدوائر الانتخابية عن طريق فصل بعض المناطق أو ضم مناطق أخري بما يتفق ومصالح مرشحي الحكومة .

ومن المؤكد أن ما أقدمت عليه الحكومات من تعدل الدوائر الانتخابية أدي إلى الاستهانة بالقانون واقتناع الأحزاب بإمكان تعديل تلك الدوائر على هواهم ولم تفرق الأحزاب بين المبادئ القومية الثابتة والمنافع الحزبية العاجلة ولعل ما أقدمت عليه حكومة 4 فبراير من إعادة الدوائر إلى ما كانت عليه قبل سنة 1937 يعد مثلا واضحا لمدي الاستهانة بفكرة قبات الحدود الجغرافية بين الأقاليم .

وهكذا سلخ الدستوريين في الحكم أكثر من عام ونصف لم يقوموا إلا بالإجراء التقليدي الذي تتبعه كل وزارة حزبية وهو سن القوانين والتشريعات بهدف التضييق على خصومها السياسيين .

ووفقا لهذا الاتجاه فقد أصدرت الحكومة مرسوما في 8 مارس 1938 م- بمنع قيام الجمعيات أو الجماعات التي لها صورة تشكيلات شبه عسكرية " القمصان الملونة "

ويبدو أن الملك فاروق كان قاسما مشتركا في حركة الصراع الدائر بين القوي السياسية المختلفة بهدف أن يكون للقصر موقف الريادة أو بالمعني المتعارف عليه أن يكون فاروقا هو المصدر الفعلي للسلطات وفي المقابل فلا مانع من أن يتغاضي الملك عن أى تجاوزات تحدثها حكومات الأقلية حتى ولو كان من بين هذه التجاوزات تزيف إرادة الأمة.

ويمضي أحد زعماء الأحرار الدستوريين في تصوير ما حدث عقب فوز الدستوريين في انتخابات 1938 فيقول " لقد كان من المتوقع ألا يقبل الملك استقالة الحكومة و يكلف محمد محمود بإعادة تأليفها لكن ما حدث أن الوزارة قدمت استقالتها فاستبقاها الملك للبت فيها ومضت الأيام ولم يبت في أمر الاستقالة ولا في الوزارة الجديدة بل أن البرلمان افتتح وألقي محمد محمود بتأليف الوزارة قدم كشفا بأسماء أعضائها فاستبقاء الملك وطلب كشفا آخر وهكذا حتي قدم محمد محمود ثمانية كشوف .

ويبدو أن علي ماهر ( رئيس الديوان الملكي ) قد لعب الدور الرئيسي في إفساد العلاقات بين القصر والأحرار الدستوريين ولعل الهدف هو أن يكون كامل البنداري عضوا في الحكومة حتى ينقل للقصر ما يدور داخل جلسات مجلس الوزراء . ولم تستطيع حكومة محمد محمود أن تقف في وجه هيمنة القصر ومحاولاته المتكررة للنيل من استقلال الحكومة حتى وصل الأمر أن علي ماهر قد تخطي عمل الحكومة وقام بتمثيل مصر في مؤتمر المائدة المستديرة في لندن ( مارس1939) على الرغم من أن محمد محمود كان حريصا على الذهاب إلى هذا المؤتمر حتى يحظي ببعض الشعبية وخصوصا وأن هذا المؤتمر ( المائدة المستديرة) سيناقش القضية الفلسطينية التي تحظي باهتمام بالغ من الشعب المصري , وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن علي ماهر كان حريصا على عدم حصول محمد محمود على تلك الشعبية .

ويضيف نائب رئيس الأحرار الدستوريين قائلا :" لقد كان محمد محمود يريد أن يسافر بنفسه إلى هذا المؤتمر راجيا أن يكون له فخر المشاركة في تفريج أزمة العرب من أهل البلاد المقدسة وكان الرجل مغتبطا بما يرجو أن يقوم به من ذلك أيما اغتباط "

وإذا كان هذا الموقف يعد تصعيدا في الصراع بين القصر والحكومة فإنه من ناحية أخري يعتبر مخالفة صريحة لأبسط المبادئ الدستورية فلم يكن من الطبيعي أن يسافر رئيس الديوان في مهمة قد تترتب عليها مسئولية ساسة ه بلا شك من اختصاص الحكومة ولما كان علي ماهر لم يحصل على تكليف رسمي من الحكومة حتى تتحمل مسئولية أعماله فإن هذا الإجراء يعد مخالفة لأبسط القواعد الدستورية والقانونية .

وكان الأجدر بحكومة محمد محمود أن تقدم استقالتها ولعلها بذلك قد تحظي بشعبية أكثر من اشتراكها في مؤتمر المائدة المستديرة وهي بذلك تضع فاروق وحاشيته في موقف غاية في الصعوبة إلا أن الدستوريين قد قبلوا على أنفسهم أن يكونون تابعين للقصر على اعتبار انه مصدر السلطات الحقيقية وهم من هذه الناحية يتحملون القدر الأكبر في المسئولية.

والغريب أن كثيرا من المشاكل التي دار حولها النزاع بين الحزب والقصر كانت بخصوص مسائل سبق أن وقع النزاع حولها من قبل بين حكومة الوفد والقصر ويومها وقف الأحرار للدستورين إلى جانب القصر ضد الوفد .

وكان على الأحرار الدستوريين أن يدفعوا ثمن عدوانهم على الدستور وكان الثمن غاليا حيث نقلت خيوط السلطة التي تبقت في يد حكومتهم إلى يد القصر وما أن حل عام 1939 حتى كانت الحكومة قد وصلت إلى درجة لم تعد ملك من السلطة إلا ما تستمده من القصر وأصبح دستور القصر هو دستور الحكومة .

وظل الصراع قائما بين علي ماهر ممثلا للقصر وبين محمد محمود الذي كان يصارع المرض حتى اضطر إلى تقديم استقالته ولقد اختلفت الروايات حول ظروف الاستقالة فالبعض يعتقد بأن تقديم الاستقالة قد تم بناء على أوامر القصر .

والبعض الأخر يعتقد أن محمد محمود قد ابلغ الملك برغبته في الاستقالة بعد أن علم أن علي ماهر يتصل ببعض الأشخاص ليعرض عليهم الاشتراك معه في الوزارة الجديدة .

أما محمد محمود نفسه فيقول للسفير البريطاني غداة تقديم استقالته أنه ليس من سبب سوي ظروفه الصحية وأعتقد أن القصر هو الذي طلب من محمد محمود أن يقدم استقالته نظرا لأن علي ماهر كان حريصا على إقالة محمد محمود حتى تسند إليه رئاسة الحكومة ولما كانت العلاقة بين فاروق وعلي ماهر تتسم بالود المتبادل فمن الطبيعي أن يطلب فاروق من محمد محمود أن يقدم استقالته ومما يضاعف من هذا الاعتقاد ما تشر إليه الوثائق الأمريكية من أن محمد محمود لم يعد موضع ثقة الملك فاروق بسبب مؤامرات علي ماهر .

وسواء أكان القصر هو الذي أوعز إلى محمد محمود بتقدم الاستقالة أو أن محمد محمود هو الذي أقدم من نفسه على تقديم الاستقالة فالمحصلة واحدة وهو أن الاستقالة قد قبلت لأن الحكومة لم تعد تحظي برضاء الملك .

وهكذا سلكت أحزاب الأقلية طرقا لا تتفق مع الحياة الدستورية معتمدة على القصر الذي لم يتورع عن إقالة أية حكومة حينما يجد أن الغرض من بقائها قد استنفذ وبخروج الدستوريين من الحكم انتقلوا إلى صفوف المعارضة إلا أن معارضتهم كانت دائما في إطار التعاون مع بريطانيا باعتبارها الدولة الحليفة ولقد ذكر السفير البريطاني " أن الدكتور أحمد ماهر يبدي قدرا كبيرا من التعاطف مع الدول الديمقراطية وأنه يري ضرورة خلق روح الثقة بانجلترا وإعطائها حقوقا أكثر مما ورد في معاهدة 1936 وأن الأحرار الدستوريين يشاركون الدكتور أحمد ماهر في وجهة نظره تلك.

وعلى ما يبدو فإن موقف الأحرار الدستوريين لم يكن متفقا في أية قضية من القضايا القومية وإنما كانت السمة البارزة لهذا الحزب هي الانقسام فبينما كان رئيس الحزب موافقا على إعلان الأحكام العرفية كانت الغالبة العظمي تري خلاف هذا الرأي على اعتبار أن مصر لم تعلن الحرب فضلا عن بعدها عن ميادينها ومن ثم فلا موجب لفرض هذا القانون المقيد للحرية إذا كان الغرض من هذا القانون هو ضمان موقف مصر بجانب انجلترا ففي استطاعة الحكومة استصدار التشريعات الكفيلة بتحقيق هذا الغرض ولقد صدرت تشريعات مشابهة تتعلق بالسفن والتموين والصحف وأجهزة الإعلام وبعد مناقشة الموضوع داخل اجتماعات الحزب تمكن محمد محمود من أن يقنع الغالبية بأهمية إعلان الأحكام العرفية بحجة أن الدستوريين لو كانوا شركاء في الحكم لتضامنوا مع الوزارة في هذا الإجراء وليس من الإنصاف أن يكون للإنسان في الموضوع الواحد رأيان متناقشان تبعا لوجوده في الحكم أو كونه في المعارضة .

أما عن موقف السعديين من قضية دخول مصر الحرب ضد ألمانيا فلقد اختلفت وجهات النظر فبينما كان محمد محمود ( رئيس الحزب ) يري أن أفضل وسيلة لتدعيم الصداقة بين مصر وبريطانيا هو أن تعلن مصر الحرب ضد المحور كان نائب رئيس الحزب ( الدكتور هيكل) وغالبية الحزب يؤيدون الاتجاه القائل بضرورة تجنيب مصر ويلات الحرب .

وعندما تقدم الوفد بمذكرته إلى السفير البريطاني – أبريل سنة 1940 – تلك المذكرة التي وصفها السفير البريطاني بأنها تعد تطرفا في المطالب الوطنية بهدف أن يعيد الوفد هيبته وقدرته على خلق المتاعب وتعتبر نقطة تحول خطيرة في العلاقات المصرية البريطانية وعلى الرغم من أن المطالب القومية التي دعت إليها تلك المذكرة كانت موضع رضاء وقبول من كل القوي السياسية إلا أن محمد محمود ( زعيم الدستوريين) قد وصفها بأنها محاولة للحصول على شئ بالتهديد والابتزاز وأنه أبعد ما تكون عن الحنكة السياسية .

أما عن موقف الدستوريين من أحداث فبراير 1942 : فلقد انضم الدستوريين بكل قواهم إلى القوي المناهضة للوفد عقب 4 فبراير 1942 ولا غرابة في ذلك فقد كانوا أول الخارجين على الوفد سنة 1922 وكان العداء بينهما يتفاقم يوما بعد يوم , ولقد رأي الدستوريون في تلك الأزمة تكوين وزارة ائتلافية برئاسة النحاس فهي تضمن اشتراك الوفد وتحول دون انفراده بالحكم كما يريد هيكل وتنسجم مع ما للوفد من أقلية في البرلمان ولقد اعتبر الدكتور هيكل أن تأليف وزارة قومية برئاسة النحاس يعد حلا كريما للموقف ويجعل رفض الإنذار مأمون العاقبة ويحافظ على استقلال مصر وسيادتها وبعض محمد محمود رئس الدستوريين رسالة احتجاج واستنكار للسفير البريطاني حملها " دسوقي أباظة" سكرتير عام الحزب إلى " والتر سمارت" السكرتير الشرق للسفارة " وتضمنت تلك الرسالة العلاقة بين ما حدث في 4 فبراير ومعاهدة 1936 على اعتبار أن ما حدث يعد انتهاكا خطيرا لمعاهدة التحالف والصداقة بين مص وبريطانيا .

ومن المؤكد أن بريطانيا كانت تقدر أهمية العلاقة الوطيدة مع الدستوريين لذلك أوفدت والترس مارت " السكرتير الشرقي للسفارة " إلى منزل الدكتور هيكل – رئيس الحزب بالنيابة- ليحمل إليه تحيات الحكومة البريطانية وتقديرها لسياسة الحزب ومواقفه في مناصرة الديمقراطية ومما يلفت النظر أن الدكتور هيكل لا يثير موضوع 4 فبراير كقضية خلاف مع بريطانيا وإنما يطلب من السكرتير الشرقي " والترس مارت" أن تتوسط بريطانيا لدي الوفد لتخصيص عدد من المقاعد للمعارضة ويحاول الدكتور هيكل أن يربط بين هذا المطلب وحادث 4 فبراير بقوله : " لابد من تخصيص نسبة من الدوائر الانتخابية لأحزاب المعارضة وإلا سنضطر هذه الأحزاب إلى مهاجمة الوفد على اعتبار أنه جاء إلى الحكم على أسنة الحراب البريطانية .

ومزيدا في إرضاء المعارضة فقد كتب السفير البريطاني إلى حكومته بأن توعز إلى صحيفة التيمز وإلى الإذاعة البريطانية " ب. ب . س" ليقدما تعليقا على عودة الوفد إلى الحكم على اعتبار أن بريطانيا تتعاطف أيضا مع السعديين والأحرار الدستوريين لإخلاصهم لمعاهدة 1936 ولمناصرتهم قضية الديمقراطية في العالم .

ويبدو أن السفارة البريطانية في محاولة منها لكسب ود المعارضة قد بذلت محاولات مع الوفد فيما يتعلق بتخصيص عدد من المقاعد البرلمانية للمعارضة إلا أن حكومة الوفد اشترطت أن يعلن الدستوريين والسعديون أن مصطفى النحاس قد أدي خدمة جليلة للعرش وللبلاد بقبوله الوزارة في 4 فبراير فإذا ما وافق الدستوريين والسعديون على هذا التصريح يمكن الدخول في مفاوضات عدد المقاعد التي يمكن أن تترك للمعارضة وأبدي الدستوريون موافقتهم على الشرط السابق إلا أن عدد المقاعد التي تترك للمعارضة كانت موضع خلاف حيث طلب الدستورين 25% من مقاعد مجلس النواب وتمسك الوفديون بنسبة 15 % فقط.

وهكذا ابدي الدستوريون موافقتهم لأن يعلنوا أن مصطفى النحاس بقبوله الوزارة في 4 فبراير قد أد خدمة جليلة للبلاد على شرط أن يتنازل الوفد عن 25% من مقاعد مجلس النواب وإلا فإن عودة الوفد تعتبر علي أسنة الحراب البريطانية "

وعندما فشلت المفاوضات قرر الدستوريين متضامنين مع باقي الأحزاب مقاطعة الانتخابات وهنا فإن الأمر يعد أكثر غرابة لأن امتناعهم عن دخول الانتخابات لم يكن احتراما لمبدأ ولا احتجاجا على حادث وقع ولا إيمانا بعقيدة لأنهم مستعدون كما رأينا الدخول الانتخابات على شرط الاتفاق على الدوائر .

وهكذا عادت نفس المناورات التي حدثت يوم 4 فبراير يوم أن قالوا لمصطفى النحاس : إذا قبلت تشكل وزارة قومية فإن هذا يعد خروجا من دائرة الإنذار البريطاني " وعندما أصر النحاس على رفض الحكومة القومية قالوا له : " أنك جئت على أسنة الحراب البريطانية واليوم يطلبون عددا من المقاعد في مجلس النواب ويشهدون أن النحاس قد أفقد البلاد بقبوله الحكم وإذا رفض قالوا لن ندخل مجلس النواب لأنه امتداد للحكومة التي جاءت على أسنة الحراب البريطانية .

ومن هنا فقد اشترك الدستوريين مع باقي القوي المناهضة للوفد في مقاطعة الانتخابات وأخذوا يعقدون الاجتماعات للتباحث في كيفية واجهة الوفد على اعتبار أن الوفد هو قضيتهم الأولي وجريا على سياسة النيل من الوفد فقد بعث الدكتور هيكل بخطاب إلى الملك فاروق يتذمر فيه من الحكومة وسياستها واعتبارها الحكم مغنما وعاب عليها تأليفها لجنة لبحث تبعات مصر وقضايا ما بعد الحرب .

وظل رئيس الوزراء – مصطفى النحاس – هدفا لهجمات شديدة وجهتها إله المعارضة مشيرة إلى ظروف مجيئه إلى الحكم ولم تتوان كل الأحزاب عن اللجوء إلى أى الطرق مهما كانت بهدف النيل من الوفد وقيادته بما في ذلك اللجوء إلى قادة الحلفاء وتناسي الدستوريون أنهم قد أخذوا على الوفد هذا المسلك في مذكرة سنة 1940 حينما تقدم إلى السفير البريطاني بمطالب مصر حيث اعتبرها محمد محمود مسلكا غاية في الانتهازية وطعنه في ظهر الخليفة .

ومرة ثانية يحاول الأعضاء الدستوريين في مجلس الشيوخ إثارة مذكرة 1940م في محاولة لإحراج الحكومة على أساس أن ما كان يعتبره الوفد مطلبا وطنيا سنة 1940 قد أصبح أمرا منسيا عقب 4 فبراير .

إلا أن النحاس في محاولة منه لتبديد تلك الاتهامات قد أعلن أن المذكور بكل مطلب من المطالب الوطنية المدونة بها وفي مقدمتها الجلاء عن السودان هي فخرنا ولا تزال هي نفس مطالبنا نعمل لها جهد إمكاننا حتى يأذن الله بتحقيقيها أو نفني دونها .

والحقيقة أن ما أعلنه النحاس والخاص بمذكرة أبريل 1940 لم يقترن بأية خطوة عملية وإنما كان من قبيل الاستهلاك السياسي لرد الهجمات المتكررة التي توجهها المعارضة بهدف النيل من الوفد والتقليل من دوره أمام الرأي العام .

وأستطيع أن أقول أن الأحزاب المصرية قد أضاعت قدرا كبيرا من جهدها في قضايا تعد ثانوية بالنسبة للقضية الأولي وهي الاحتلال حيث لم تشغل هذه القضية المكانة اللائقة بها وبالتالي فإن حكومة الوفد قد انشغلت بالدفاع عن نفسها وسوق العديد من المبررات في محاولة لإقناع الرأي العام بسياستها .

وبالقدر الذي كانت تنشط به المعارضة كانت حكومة تندفع للارتباط بالاحتلال ولتبة كل طلباته سواء أكان هذا نكاية في المعارضة أو خوفا من تسلط الاحتلال ولذا فإن الوفد يعد مسئولا مسئولية مباشرة عن العديد من التجاوزات التي وقعت طوال فترة بقائه في الحكم حيث أتاح لخصومه فرصة قوية لمعارضته حتى وصل الأمر إلى التشكيك في وطنيته .

وبدلا من أن تقديم الحكومة على تبديد تلك المزاعم راحت تضاعف من هذا الاعتقاد عن طريق الإجراءات الإدارية التي شملت نقل وفصل العديد من المدرين وكبار الموظفين بحجة أنهم يناصرون أحزاب الأقلية .

والواقع أن الرقابة على الصحف ومنه الاجتماعات العامة والاعتقالات السياسية قد مكن الوزارة من أن تطلق يدها أكثر مما فعلت الوزارات الوفدية في أى عهد مضي أو حتى وزارات الأقلية .

وعملا بقانون النفي الإداري باتت المعارضة تتوجس خوفا من هنا السلاح الذي استعملته الحكومة أسوأ استعمال وحتى دور الأحزاب خضعت لرقابة شديدة من جانب البوليس السياسي مما اضطر الغالبية الكبر من أعضاء الأحزاب إلى الاعتكاف في منازلهم خوفا من الاعتقال .

والحقيقة أن أحدا لا يستطيع أن يعفي سياسيا مصريا من الاشتراك في إتاحة الفرصة للسفير البريطاني لانتهاك حرية مصر وكرامتها واستقلالها على النحو الذي حث في 4 فبراير سنة 1942 وزعماء الأحزاب كانوا يخشون دائما أن يحل البرلمان الذي يضم نوابهم مما جعلهم يخشون الاحتكام من جديد إلى الانتخابات حرصا على مكاسبهم وتأليف حكومة برئاسة النحاس قومية كانت أو إدارية أو وفدية لم يكن ليزيل آثار الإنذار البريطاني والمسئولية عن هذا الحادث قسمة بن القصر والزعماء والأحزاب والسفير البريطاني.

أما من منهم كانت مسئولية أثقل أو أخف فلا يغير من الحقيقة في شئ وكل الأحزاب كانت تقبل مبدأ التدخل البريطانية ولكن كل منهم يؤثر الزاوية التي تتفق مع مصلحته .

والنحاس يزيد أن تكون الحكومة كلها وفدية لمصلحته ومصلحة حزبه وأحزاب الأقلية تريد أن تكون الحكومة ائتلافية حتى يكون لهم نصيب في الحكم والقصر مرغم تحت ضغط الانجليز ولكنه يكره النحاس ويود أن تكون الحكومة مؤلفة من جميع الأحزاب لكي تتاح له فرصة المؤامرة تأييدا لسلطته وانتاقصا من سلطة الوفد.

ولم يعد الوفد ذلك الحزب الذي استطاع في الماضي أن يحوز إجماع مصر في ساعات الثورة العصيبة فانشقاق العديد من أعضائه قد أدي إلى تغير ملامحه الأصلية وما حدث في 4 فبراير كان بمثابة الضربة القاتلة لنفوذه لقد بعد به العهد عن ذلك الوقت الذي كان من الممكن ( كما حدث سنة 1935) أن نري شابا أصيب بجرح قاتل أثناء احدي المظاهرات فيغمس منديله في دمه ليرسله – حبا وتقديرا – إلى مصطفى النحاس قبل أن يلفظ آخر أنفاسه .

لقد فقدت الجماهير المصرية الذي لم يعد يدفعها للموت في سبيل الوفد ولذا فإنني أستطيع أن أقول أن ما حدث في 4 فبراير كان أهم الأحداث – وأعظمها تأثيرا على شعبية الوفد .

الإخوان المسلمون

وفي الوقت الذي كانت دعوة مصر الفتاة تنتشر وتجد الأنصار من بعض الشباب وتحظي بتأييد صريح أو ضمني من بعض رجال السراي والأحزاب كانت تجري في مصر دعوة أخري تشابه دعوة مصر الفتاة من بعض الوجوه وتختلف عنها في وجوه أخري ولكن الدعوتين تتفقان من حيث أنهما خروج على المألوف في قيام الأحزاب فلم تكن الأوضاع الاقتصادية أو السياسية هي محق الارتكاز في قيام الجماعتين وإنما اتخذ كل منهما من الإسلام أساسا شاملا باعتبار أن الدعوة الإسلامية تجمع في إطارها كل جوانب الحياة .

ولعل قيام جماعة الإخوان على هذا الأساس يعد من أهم العوامل في شدة الإقبال عيها والاهتمام بها ولما كانت الدعوة ذات طابع ديني فقط في بدايتها لذلك انضم إليها كثيرون من أنصار مختلف الأحزاب القائمة حينئذ دون أن يجدوا في الانضمام إلها والولاء لها ما يخالف أو يتعارض مع ولائهم لأحزابهم السياسية.

وقبل أن يعلن حسن البنا نزول الإخوان إلى مجال العمل السياسي فإن مؤتمر الطلبة الإخوان بجمعية الشبان المسلمين ( مارس 1938) قد أبرز في قراراته الاهتمام بالجانب السياسي على اعتبار أن اهتمام المسام بشئون بلده من أهم المبادئ التي تقوم عليها الدعوة الإسلامية وانحصار معني الفكرة الاسمية في حدود الواجبات الروحية أمر يتنافي مع طبيعة الإسلام .

وكان نزول حسن البنا إلى ميدان العمل السياسي في مايو سنة 1938 هو الانتقال إلى المرحلة الثانية من مراحل الدعوة وكان المبدأ الأول من مبادئ هذه المرحلة أن الإسلام نظام شامل متكامل بذاته وهو السبيل النهائي للحياة بكافة نواحيها .

وفي العدد الأول من مجلة النذير يقول حسن البنا  :" أنه منذ عشر سنوات بدأت دعوة الإخوان المسلمين خالصة لوجه الله مقتفية أثر الرسول الأعظم صلي الله عليه سلم متخذة القرآن منهاجا ولم يشترك الإخوان في المنازعات الحزبية بل كرست جهدها في ميدان التربية وتغيير العرف العام وتطهير النفوس وإذاعة مبادئ الحق والجهاد وقد نجحت الجماعة في ذلك وأما اليوم فلن يكون ذلك وستخاصمون هؤلاء جميعا في الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا تعاليم الإسلام منهاجا يسيرون عله ويعلمون به فأمام ولاء وأما عداء ولسنا في ذلك نخالف خطتنا أو ننحرف عن طريقنا أو نغير مسلكنا بالتدخل في السياسة كما يقول الذين لا يعلمون ولكننا ننتقل خطوة ثانية ولا ذنب لنا أن تكون الساسة جزءا من الدين وأن يشمل الإسلام الحاكمين والمحكومين فليس في تعاليمه : أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ولكن في تعاليمه : قيصر وما لقيصر لله الواحد القهار .

وكان نزول حسن البنا إلى ميدان العمل السياسي مثار اهتمام كل القوي السياسية في مصر وخصوصا في هذا الوقت بالذات ففي هذا العام كان الملك قد تم انتصار له على الوفد بينما انسلخ عن الوفد حزب السعديين كما أخذت جماعة مصر الفتاة تهاجم الوفد علنا وتتنكر للدستور والحياة النيابية والمناداة بفاروق خليفة للمسلمين في الوقت الذي بدأت جماعة الإخوان في التقرب من القصر حيث كان الاحتفال بذكري جلوس فاروق على عرش مصر وتجمع الإخوان المسلمين في ميدان عابدين وهم يرددون يمين الولاء التقليدي " نمنحك ولاءنا على كتاب الله وسنة رسوله "

ويبدو أن نزول الشيخ البنا إلى ميدان العمل السياسي في هذا الوقت بالذات كان موضع اهتمام ولوم شديدين حيث اعتقد البعض أن هذه الدعوة على علاقة بالفاشية والنازية بل وقد تجرأ البعض وشكك في صدق هذه الدعوة مدعيا أنها تشبه إلى حد كبير الدعوة الفاشية في ايطاليا والنازية في ألمانيا .

ومن الإنصاف أن تقرر بعض العوامل التي قد تبدد مثل هذه الاتهام وتوضيح هوية الدعوة للإخوان ؟

أولا: أن علاقة حسن البنا بالقصر في فترة بداية الدعوة لا تفسر على أنها ولاء للنظام بقدر ما هي خطة مرحلية لخطة قضية الدعوة في مرحلتها الأولي .

ثانيا : أن اختيار سنة 1938 بالذات بداية للمرحلة الثانية من مراحل الدعوة وهي مرحلة الإعلان عن الهوية السياسية للدعوة فمن البديهيات أن أية دعوة تختار ما يناسبها من وقت للإعلان عن برامجها وأهدافها على اعتبار أن الجماعة قد وصلت إلى حالة تمكنها من الانتقال إلى هذه المرحلة حيث كثرت شعبها وتعددت وسائلها وأصبح لها صحفها الناطقة باسمها ( جريدة النذير ) و" مجلة المنار " وأصبحت الدعوة تنعم أرجاء مصر وخصوصا بين طبقة المثقفين الذين فقدا كل ثقة في الأحزاب التقليدية القائمة.

وإذا كانت الدعوة قد ارتبطت بالقصر أو بحكومات الأقلية فلم يكن هذا ولاء للقصر أو للحكومات أو ثقة فيهم إنما كان خدمة للقضية ذاتها فليس من المنطق أن تسعدي الحركة وهي ما تزال في دورها الأول القصر والحكومات معا وهو ذكاء يحسد عليه الشيح البنا أما محاولة بعض المؤرخين الربط بين أمور لا علاقة بينها وإلقاء التهم بلا تحقيق أو تفسير علمي اعتمادا على نظريات مادية وخدمة لبعض القوي على حساب الأخرى فإن هذا يعد مناقضا للحقائق وبعدا عن الالتزام العلمي والموضوعي .

ثالثا : أن محاولة بعض المؤرخين إيجاد نوع من الصلة بين جماعة الكشافة التابعة للإخوان وبين الفاشية هي محاولة لإيجاد صلة بين أشياء لا علاقة بينها إطلاقا فلقد كان للوفد فرقته الخاصة به " القمصان الزرقاء " وقد كان لمصر الفتاة تنظيماتها أيضا " القمصان الخضراء " وإذا كانت فكرة " النظام والطاعة " من بين أركان الدعوة فأي دعوة مهما كانت لابد لها من إطار عام ينظمها ولابد لها من قيادة مدربة واعية تكون موضع ثقة الجميع والالتزام بما تقره القيادة هو من أهم أركان أى عمل ناجح ولهذا فإن بعض الآراء العاقلة تري أن الدعوة ليست لها أية علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالدعوات في الدول الغربية .

ولعل إيديولوجية الإخوان المسلمين تكاد متقاربة من مدرسة الخار لصاحبها الشيخ رشيد رضا على الرغم من أن الشيخ البنا لم يشر إلى تأثير هذه المدرسة في نفسه وان اعترف بأنه حضر بعض مجالس رشيد رضا وأنه كان كثير المطالعة في مجلة المنار كما أنه اعتزم في احدي المرات إصدار مجلة شهرية تشبها بالمنار .

وعلى ما يبدو فإن هذه الدعوة قد حظيت بترحيب من القصر الذي كان حريصا على إدخال الجماعة ضمن الصراع التقليدي بين الوفد والقصر وكان الملك حريصا على أن يمسك بزمام الأمور في يده وفي المقابل فقد حظي فاروق بتأييد الإخوان ولعل مرجع ذلك ما لمسوه من استعدادا ديني عند الملك الشاب أو أن مرحلة الدعوة كانت تقتضي هذا النهج التزاما بعدم توسيع دائرة الخلاف وفي الوقت الذي كان يشكك في هذه الدعوة وقد يكون هذا التشكيك راجعا إلى ما يعتقده البعض من أن الإخوان قد قبلوا الدخول في دائرة الصراع بين الوفد والقصر أو أن الوفد قد لمس خطر الدعوة بسبب اتخاذها إطارا إسلاميا يدفعها إلى الانتشار السريع على حساب جماهيرية الوفد ومهما كانت دوافع الخلاف فإن جماعة الإخوان قد استطاعت وبذكاء شديد أن تستغل الصراع الدائر بين الوفد والقصر وأن توطد علاقاتها بعلي ماهر الذي احتضن هذه الدعوة نكاية في الوفد ومن الثابت أن فترة تولي علي ماهر الحكم تعتبر بداية انطلاقة جديدة لجماعة الإخوان حيث خاطب حسن البنا علي ماهر صراحة برغبة الإخوان في تولي الشئون الهامة في الجيش المرابط ووزارة الشئون الاجتماعية وهو ما يؤكد العلاقة الوطيدة بينهما .

وبالرغم من هذه العلاقة القوية فقد أعلن الشيخ البنا رأيه صراحة في موقف مصر من الحرب وقد سجل الموقف في رسالة بعث بها إلى علي ماهر يستنكر عزم الحكومة على إعلان الحرب بجانب بريطانيا مؤكدا استقلال مصر وفقا لقانون الدولي وأنه ليس في معاهدة 1936 ما يلزم مصر بدخول هذه الحرب وعلينا الالتزام بمبدأ الحياد ولعل هذا الموقف ما يؤكد بأن دعوة الشيخ البنا كان لها طابعها الخاص بها وأن العلاقة مع علي ماهر لم تكن إلا وسيلة لخدمة القضية الإسلامية .وخلال حكم وزارة علي ماهر ثم وزارة حسن صبري التي خلفتها ( يونيهنوفمبر 1940) طور الإخوان نظامهم وتضاعفت شعبهم وتعددت فرق الكشافة التي تتبعهم وتشكل المجلس الأعلي للكشافة وترأسه حسن البنا نفسه وعين محمود لبيب مفتشا عاما لها .

وأثناء وزارة حسين سري ( نوفمبر 1940 – 4 فبراير 1942 ) صدر قرار من وزير المعارف بنقل الشيخ حسن البنا من القاهرة إلى قنا ويعترف وزير المعارف بأن هذا النقل كان بإيعاز من السفير البريطاني الذي طلب من رئيس الحكومة ( حسين سري ) سرعة العمل على نقل الرجل لأنه يعمل لحساب ايطاليا .

ومن المؤكد أن الحكومة البريطانية كانت تلصق همة العمل لحساب المحور على أى شخص يري السفير من خلال عيونه المنتشرة بأنه لا يكن ولاء لبريطانيا وهذا السلاح الخطير راح ضحيته العديد من المصريين الشرفاء الذين كانوا يعتبرون بريطانيا دولة محتلة لوطنهم بصرف النظر عن الديمقراطية أو الفاشية فلقد كان التطور الموقف العسكري في أوربا وانهيار فرنسا مما شجع في مصر الميول التي كانت تتعاطف مع المحور شعبية كانت أم رسمية لا على اعتبار أن المحور صادق النية فيما يتعلق باحترام سلامة واستقلال مصر ولكن ومن ناحية أخري كان هذا الميل يحمل في طياته دوافع التشفي نحو حليف أكرهت مصر على محالفته ضد رغبة شعبها كما أنه كان يتضمن في الوقت نفسه معني الإعجاب بالعسكرية الألمانية التي لا تقهر من جانب بعض قطاعات الرأي العام المصري وقادته بل وحتي فاروق ذاته .

ويعلق وزير المعارف على نقل الشيخ حسن البنا بقوله : لقد أحدث نقل الشيخ البنا أثرا كبيرا لدي دوائر الحكومة وتعددت الرجاءات من النواب الدستوريين بشأن إعادته إلى القاهرة وأخيرا أبدي حسين سري موافقته على إعادة حسن البنا إلى القاهرة مرة ثانية ولعل حسين سري قد استجاب لرجاء الأحرار الدستوريين خشية أن يزداد ضغط النواب وخصوصا وأن حد أعضاء مجلس النواب قد تقدم بسؤال إلى الحكومة حول المبررات التي اعتمدت عليها في نقل مدرس من القاهرة إلى قنا .

وكان من الممكن أن تقع الحكومة في حرج شديد فليست لديها مبررات معقولة على اعتبار أن حسن البنا من أكفأ المعلمين في حقل التربية والتعليم وأن ما يقوم به من نشاط إسلامي يعد بعيدا عن نطاق عمله كمدرس في وزارة المعارف .

وبعودة حسن البنا مرة ثانية إلى القاهرة فقد انتقلت حركة الإخوان إلى مرحلة جديدة وهامة حيث قد استشعر قوته مما ضاعف من نشاطه وكان لهذا أكبر الأثر على دعوة الإخوان وانتشارها وكانت مصدر إعجاب قطاعات كبيرة من المصريين .

وبعودة الوفد إلى الحكم في 4 فبراير سنة 1942 وكسر شوكة القصر لم تتنكر الجماعة لعلاقتها بالملك فاروق وإنما احتفلت بعيد جلوسه علي العرش ( مايو 1942 ) وشبهته جريدة النذير بالفاروق عمر بن الخطاب ولقبته بأمير المؤمنين ونشرت مجلة الإخوان المسلمين والتي أعيد إصدارها سنة 1942 صورة الملك على غلاف عددها الأول ونشرت في عددها الثاني نبأ عن ذهاب وفد من الجماعة إلى الملك على رأسه المرشد العام ليقدم العدد الأول من المجلة إلى الملك فاروق .

ويبدو أن ردود الفعل لما وقع 4 فبراير لم يكن قويا لدي الإخوان على الرغم من بعض المظاهر التي أبرزت ولاء الجماعة للملك فاروق وقد يكون هذا الموقف بدافع عدم الاصطدام بالوفد وما يترتب على ذلك من حل الجماعة ومصادرة صحفها عملا بقانون الطوارئ وهذه سياسة بلا شك يحسد عليها المرشد العام للإخوان وهذا مما يضاعف من اعتقاد بأن ولاء الجماعة لم يكن خالصا للملك ولا لأي حزب سياسي وإنما كانت الضرورة تقتضي التضامن مع هذه الجماعة أو غيرها ولو لفترة تكون بعدها جماعة الإخوان قادرة على الوقوف كقوة يعتد بها وهذا لن يتحقق إلا إذا هادن الشيخ البنا كل القوي المؤثرة في السياسة عن يوسف رشاد الذي حاول إفهام الملك بأن ولاء البنا إلى العرش ليس موضع شك وكان تعليق الملك على ذلك : - " لقد خدعك حسن البنا " وجريا على سياسة بريطانيا عقب 4 فبراير في العمل على تهدئة الأعصاب الثائرة فقد تقابل كايتون " وكيل المخابرات البريطانية " مع حسن البنا تفاهما في دوافع بريطانيا وراء ما حدث في 4 فبراير وحرصا من حسن البنا على تأكيد أن الإسلام دين ودولة فقد قرر الدخول في – انتخابات سنة 1942 هذا من جانب ومن جانب آخر فقد أراد أن يعطي لجماعته نوعا من الشرعية التي كانت تفتقدها حيث كانت فرصة للحل والمصادرة في أى وقت وتحت أى ظروف.

إلا أنه لم يكد يذاع خبر ترشيح حسن البنا لعضوية النواب عن دائرة الإسماعيلية حتى اتصل به عبد الواحد الوكيل ( صهر مصطفى النحاس ) وطلب منه الرجوع إلى النحاس لكي يكون على بينة من أمر هذا الترشيح .

وبعد بضعة أيام تلقي حسن البنا دعوة لمقابلة مصطفى النحاس حيث طلب إليه أن يتنازل عن الترشيح مقابل بعضا من الوعود من أهمها عدم التعرض لأعضاء الجماعة أو لنشاطاتهم وعدم مراقبتهم أو التضييق عليهم وقد لخص المرشد العام للإخوان أسباب تنازله فيما يأتي :

أولا : كسب ثقة النحاس باعتباره رئيس الحكومة وزعيم الأغلبية .

ثانيا : العمل على قيام الجماعة بأداء دورها وانتشارها في مختلف البلاد .

ثالثا : عدم الاطمئنان إلى نتيجة الانتخابات خوفا من التلاعب وسيستغل الخصوم ذلك لتشويه سمعة الجماعة .

ومن المؤكد أن تراجع حسن البنا عن الانتخابات قد أعطي هدنة للطرفين عبرت عنها صحيفة الإخوان بترحيبها بخطوات الحكومة لاهتمامها الخاص بإلغاء الدعارة .

وفي الوقت الذي اتخذت فيه كل القوي السياسية موقفا عدائيا من الوفد بسبب أحداث 4 فبراير نجد أن وزيرا وفديا يقوم بزيارة المركز العام للإخوان مبديا استعداد الحكومة لتقديم كل الإمكانات خدمة للدعوة الإسلامية ويلاحظ أن الوفد قد قدر أهمية جماعة الإخوان باعتبارها من أهم الدعوات التي كانت قادرة على التأثير في المجتمع المصري ونظرا لهذه الأهمية فقد ترأس فؤاد سراج الدين وفدا ضم عبد الحميد عبد الحق وأحمد حمزة ومحمود سليمان غنام ومعهم مجموعة كبيرة من نواب الوفد وقاموا بزيارة لدار الإخوان مؤكدين على أن هذه الدعوة سوف يكون لها شأن كبير ووعد الجميع بتنفيذ مطالب الإخوان وتقديم قطعة أرض لبناء دار لهم ومدهم بالورق اللازم لإصدار صحفهم وتعددت زيارة زعماء الوفد لشعب الإخوان ولعل الوفد كان يسلم بقوة الإخوان ومقدرتهم الفائقة على التنظيم وإثارة الشغب والاضطراب في وقت كان الوفد حريصا على أن يثبت لبريطانيا أنه الوحيد القادر على استقرار الأوضاع وعودة الطمأنينة والهدوء إلى المجتمع المصري .

ومن المهم أن جماعة الإخوان قد استفادت من هذه العلاقة الطيبة مع الوفد حيث أعيد إصدار صحفها وتركت لهم الحرية في ممارسة أنشطتهم حيث نحوا الأوضاع السياسية جانبا وبدأ الاهتمام بفكرة تطبيق الشريعة الإسلامية بمفهومها الشامل الكامل مما أثار عليها بعض الصحف متهمة إياها بالرجعية والجمود .

ومما لا شك فيه أن ما وقع في 4 فبراير قد أفاد الإخوان بدرجة كبيرة حيث انصرفت إليه جموع غفيرة من الوفديين احتجاجا على سياسة الوفد في 4 فبراير وبعد أن فقدوا الثقة في الزعامات التقليدية التي ارتضت لنفسها أن تهادن الاحتلال وأن تساوم على المبادئ الوطنية مقابل العودة إلى الحكم مهما كان الثمن ووجدت هذه الجموع في دعوة الإخوان ما يتفق وخلاص المجتمع من كل تلك الشرور التي تحيق به .

وبالرغم من أن حكومة الوفد كانت تقدر خطورة هذه الدعوة وأثرها على شعبية الوفد إلا أنه كان اختيار لابد منه أمام كل القوي التي اجتمعت وتناصرت بالرغم من افتراقها في المبدأ لكي تتخذ من الوفد هدفا تشهر في وجهة كل أسلحتها ولا ترضي عن سقوطه بديلا .

للعلاقات الطيبة مع الوفد وأعلنوا أنهم كانوا وما يزالون من أشد خصوم الوفد وهذا الموقف يختلف عن موقفهم من الملك فاروق عقب 4 فبراير حيث أعلنوا ولاءهم للملك في أكثر من مناسبة وهذا الموقف بقدر ما يدل على ذكاء مطلق لحسن البنا إلا أنه يحمل قدرا كبيرا من الانتهازية حيث كان يدرك أن حكومة الوفد زائلة لا ريب في ذلك أما الملك فسيبقي دائما المصدر الفعلي لكل السلطات .

وبينما كل القوي السياسية قد انشغلت بأحداث 4 فبراير حيث أخذت منه مادة خصبة للمزايدة انصرف الإخوان المسلمون إلى رفع شعارات تتعلق بالتشريع الإسلامي وجعل القرآن أساس للتشريع .

وعلى ما يبدو فإن هذه الدعوة قد وجدت قبولا كبيرا لدي قطاعات عريضة من الشباب المثقف وخصوصا طلاب الأزهر وتشير تقارير البوليس السياسي إلى الدور الرائد الذي كان يضطلع به طلاب الأزهر وسط جماعة الإخوان حيث قام عدد من طلاب الأزهر يتقدمهم محمد الغزالي , حفني أبو زيد من كلية أصول الدين وهلال مصيلحي هلال من معهد القاهرة قاموا بتوجيه دعوة لطلبة الأزهر لعقد مؤتمر بمثل طلاب الأزهر عقب صلاة الجمعة 30 يناير 1942 بالجامع الأزهر والدعوة غلى تكوين اتحاد إسلامي يقوم بالعمل على الاتصال بالجهات المسئولة بغرض جعل الشريعة الإسلامية هي أساس الحكم وهدد الطلاب بالإضراب عاما كاملا في سبيل تحقيق هذه الغاية .

ومن المؤكد أن الدعوة لهذا المؤتمر قد وجدت قبولا هائلا لدي طلاب لأزهر حيث حضر المؤتمر حوالي 3000 طالب من مختلف الكليات والمعاهد الأزهرية وافتتح المؤتمر عبد العزيز عبد الستار بكلية أصول الدين حيث ألقي كلمة قوية مطالبا السلطات المعنية بجعل التشريع الإسلامي أساس لنظام الحكم في مصر .

وألقي الطالب إبراهيم البسيوني من كلية اللغة العربية قصيدة طويلة مؤكد نفس المطلب ثم تحدث إبراهيم الجندي من كلية الشريعة والطالب حمودة أمام من أصول الدين ثم هلال مصيلحي وهكذا تعددت الكلمات وكلها تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية وفي نهاية المؤتمر اتفق المؤتمرون على عدة قرارات من بينها :

1- دعوة العلماء إلى تكوين اتحاد ينادي بجعل القرآن أساس للتشريع .

2- المطالبة بتأليف لجنة من كبار العلماء لتتولي صياغة ما ورد في القرآن من أحكام تتفق والعصر الحديث .

يواصل طلبة الأزهر الدعوة للعمل بالشريعة الإسلامية حيث اجتمع عدد هائل من طلبة الكليات الأزهرية توجه لمقابلة رئيس الوزراء لعرض الفكرة إلا أنه لم يعط وعدا مؤكدا على اعتبار أن الوقت لا يسمح .

كما أن هذه الدعوة تتعارض مع ما للأجانب من حقوق أقرها التشريع الوضعي واتفق المؤتمرون على أن تطبع المذكرة باللغة الفرنسية والانجليزية لتوزع على الجاليات الأجنبية ليعرفوا أحقية تلك المطالب التي لا تتعارض مع حقوقهم .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى الصلة بين النشاطات المكثفة داخل الأزهر حادث 4 فبراير على اعتبار أنها محاولة لمضاعفة مشاكل الحكومة ومحاولة إحراجها في قضاياتهم الغالبية العظمي من الشعب المصري.

ونظرا لأهمية الأزهر وخطورته في الصراع الدائر فقد اتجهت أنظار النحاس منذ اليوم الأول لتوليه الوزارة ( عقب 4 فبراير ) إلى الحد من نفوذ القصر داخل الأزهر مستندا في ذلك إلى المبادئ الديمقراطية القائلة بأن الملك يملك ولا يحكم وإلى ما ورد في الدستور من أن رئيس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة بينما القصر من ناحيته يتمسك بسلطته المستمدة من الدستور أيضا فالملك هو الذي يعين الوزراء ويقيلهم وهو الرئيس الأعلى وهو الذي يعين الرؤساء الدينين .

وفيما يتعلق بالأزهر فقد اتجهت الحكومة إلى احتوائه باعتباره مؤسسة من مؤسسا الدولة واتخذت لهذا الغرض من الإجراءات ما يلي :

1- أنشأت في مجلس الوزراء إدارة للشئون الدينية وعينت الشيخ محمد البنا مديرا لها وكان معروفا بميوله الوفدية وبهذا أصبح ضابط اتصال بين النحاس باشا وأصحاب المناصب القيادية في الأزهر .

2- أعدت الوزارة مشروعا لتحسين حال العلماء والمدرسين والخرجين من الأزهر ولكنها علقت تنفيذه على إخراج الشيخ المراغي من مشيخة الأزهر .

3- شجعت الوزارة على إشعال الفرقة بين شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية مما ترتب عليه اضطراب الدراسية في الكليات والمعاهد الدينية ووضعت العراقيل في سبيل الشيخ المراغي إلى أن قدم استقالته ولكن الملك لم يقبلها .

وفي الوقت الذي كانت حركة الإخوان تجد صداها لدي الكثرة من الشباب والطلاب ( عقب 4 فبراير ) كان حسن البنا متفهما حالة الاستياء العامة لدي غالبية الشعب المصري وخيبة الأمل التي أوجدها الوفد بمسلكه في 4 فبراير ليستقطب لجهازه بعض ضباط الجيش من بينهم جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي الأمر الذي قد أوحي لبعضهم بأن الوقت قد حان للتخلص من الاحتلال وضرب الجيش البريطاني المتقهقر غرب الإسكندرية .

ويبدو أن المرشد العام للإخوان قد بدأ في هذه الفترة بالذات في تكوين ما يسمي بالجهاز الخاص أو الجهاز السري بهدف التخلص من الجيش البريطاني العائد من العلمين .

إلا أن هذه الخطوة لم يكتب لها النجاح نظرا لعيون الاحتلال المنتشرة في كل مكان والخوف على الدعوة من جبروت الاحتلال الذي كان يرقب حركات كل القوي السياسية والدينية بدقة متناهية .

وخلاصة القول أن الإخوان المسلمين لم تسهم كغيرها من القوي في تهيئة المناخ الذي أوجد أحدا 4 فبراير وإنما انشغلت بالعديد من القضايا ذات – الطابع الديني بالإضافة إلى تربية العديد من الكوادر التي أسهمت في نجاح تلك الدعوة دون الدخول في أى نوع من الصراع مع أية حكومة من الحكومات التي تعاقبت على مصر طوال الثلاثينات وأوائل الأربعينات ولهذا فهي لا تتحمل أية مسئولية من هذه الناحية .

أما ردود فعل حادث 4 فبراير على الإخوان فقد تجاوبوا بالقدر الذي يمكنهم من تحقيق غايتهم بصرف النظر عن الآثار السياسية التي ترتبت علي هذا الحادث وهي أمور في مجملها تسجل للإخوان ولا تؤخذ عليهم فبينما انصرفت كل القوي للنيل من الوفد واستنفاذ طاقاتهم في صراع حزبي مرير انصرف الإخوان وبدقة متناهية إلى تحقيق رسالتهم مستغلين كل الوسائل الممكنة.

وبحق فقد كان هذا الصراع المرير الذي أحدثه 4 فبراير بين كل القوي السياسية في مصر فرصة استغلها الإخوان واستفادوا منها بقدر يحسدون عليه ووفقا لشهادة أحد المعاصرين " لقد كان الإخوان أقوي قوة تلي الوفد لأنهم كانوا يتمتعون بأمرين خطيرين جدا :

أولهما : التنظيم الشديد والدقة المتناهية .

وثانيهما : الطاعة للقيادة .

مصر الفتاة

تعد جماعة مصر الفتاة من أكثر الحركات السياسية التي أثرت في المجتمع المصري منذ الثلاثينات وحتى الخمسينات من هذا القرن بالرغم من أن البعض قد حاول التقليل من شأنها على اعتبار أنها صدي للقوي الفاشية والنازية .

وهذه الاتهامات بالرغم من خطورتها إلا أنها لا تقيم دليلا ضد مصر الفتاة فهي حركة مصرية أصيلة سبقت فكرتها الحركات الأوربية وهي حركة قد نشأت من خلال الصراع الدائر ضد الاحتلال حيث الفاشية والنازية حركة استعمارية وليس جمال عبد الناصر وأنور السادات إلا أعضاء في حركة مصر الفتاة .

ولعل مما يميز هذه الحركة عن غيرها من الأحزاب السياسية الأخرى أنها بدأت بعيدة عن الوفد في الوقت الذي بدأ معظم السياسيين المصريين حياتهم في حظيرة الوفد حين كان يركب قمة الموجة الثورية ثم انشقوا عليه .

ولقد ظهرت هذه الفكرة في العشرينات من هذا القرن من خلال المجلات المدرسية حيث توثقت أواصر الألفة بين عدد من طلاب المدارس الثانوية فالتفكير في مصر الفتاة كان أقدم من ازدهار النازية والفاشية اللذان ظهرا في الثلاثينيات من هذا القرن بل لقد هاجم أحمد حسين ايطاليا عند هجومها على الحبشة ووصفها بأنها الدولة التي لا يعرفها الشرق الطاغية جبارة في طرابلس تقتل أبناءه وتستحل حرماته وتستعمر أرضه وفي عدد آخر من جريدة " الصرخة" نشرت مقالا هاجمت فيه موسليني بأنه آخر من يتحدث عن مصر فهو الذي اغتصب منا جغبوب والذي يتهيأ في أقرب فرصة لغزو مصر والذي يقتل أبناء المسلمين في طرابلس والذي لا يمثل لنا شيئا ذا قيمة إلا القتل والنهب .

بل إن الحكومة الإيطالية طلبت من وزارة الداخلية المصرية موافقتها على الشكل القانوني الذي يمكن السفارة الايطالية من رفع دعوي قضائية ضد أحمد حسين بسبب كتاباته العدائية ضد ايطاليا والتي اعتبرتها عملا عدائيا ليس له ما يبرره وتحريضا على كراهيتها .

ومن الملاحظ أن العلاقة بين مصر الفتاة والحركتين الفاشية والنازية في كل من ايطاليا وألمانيا لم تكن في يوم ما علاقة مودة أو صداقة حتى يكون التأثير ايجابيا وعلى الرغم من أن العلاقة تبدو واهية إذا ما حاول المؤرخون اليساريون إيجاد رابطة من أى نوع إلا أننا نعتقد أن ظاهرة الربط بين التيارات الإسلامية والنازية والفاشية هي محاولة دأب عليها المؤرخون اليساريون انطلاقا من موقف واضح من كل التيارات الإسلامية وهذا مما يقلل من قيمة مثل هذه الدراسات ويفقدها أهم أركان البحث العلمي وهذه التهمة قد سبق أن ساقها خصوم مصر الفتاة وخصوصا حزب الوفد حيث أعلن النحاس باشا من داخل مجلس النواب : أن أحمد حسين وجماعته يعملون لحساب دولة أجنبية ضد مصلحة البلاد.

ولعل هذا الاتهام قد أثار عددا من أعضاء مجلس النواب حيث طلبوا من الحكومة التحقيق في هذا الموضوع وإثبات هذه التهمة حتى تكون درسا لغيرهم من الشباب وردعا لمن تسول له نفسه أن يقدم على مثل هذه التصرفات التي تتسم بالعمالة .

ويبدو أن النحاس كان يهدف من وراء هذا التصريح الخطير إلى الإساءة لجماعة مصر الفتاة بسبب رفضها لمعاهدة 1936 ولأن هذه الدعوة كانت تلقي ترحيبا عظيما من الشعب المصري وخصوصا طلاب الجامعات والمدارس الثانوية ووفقا لسياسة النحاس فإن هذا يتناقض مع ما للوفد من موقع الصدارة في المجتمع المصري وبالرغم من إصرار أعضاء مجلس النواب على إقامة الدليل على هذا الاتهام الذي أن صدق يكون كفيلا بالقضاء على مستقبل هذه الجماعة إلا أن النحاس عجز على أن يقدم دليل مقنعا للنواب وبالتالي لم تجر تحقيقات قضائية ضد جماعة مصر الفتاة مما كان سببا في تعاطف بعض النواب مع الجماعة وهذا مما يضاعف من اعتقادنا بأن هذا الاتهام لم يكن قائما على أسس موضوعية .

وفي أكتوبر سنة 1937 وأمام المخاطر التي كان يواجهها الوفد سواء في علاقاته مع القصر أو بسبب انشقاق الوفد وخروج أحمد ماهر والنقراشي رفع أحمد حسين قضية ضد النحاس بصفته الشخصية وبصفته وزيرا للداخلية .

مطالبا بمبلغ عشرة آلاف جنيه على سبيل التعويض بسبب الإضرار الأدبية التي لحقت به والتي نتجت عن تصريحات النحاس في مجلس النواب وما لبث النحاس أن تقدم هو أيضا ببلاغ إلى النائب العام يطلب فيه التحقيق مع أحمد حسين بسبب علاقاته مع هيئات أجنبية .

وبعرض الموضوع على القضاء حسم الموقف لصالح مصر الفتاة حيث لم يجد النائب العام ما يقيم دليلا على ما يزعمه النحاس وعلى حد تعبير صحيفة مصر الفتاة " أن النائب العام قد تغاضي عن بلاغ النحاس بعد أن رأي انه لا يستحق مجرد النظر إليه "

وبسقوط وزارة مصطفى النحاس ( ديسمبر 1937) والمجئ بوزارة محمد محمود والتي ضمت من بين وزرائها كامل البنداري صديق أحمد حسين بالإضافة إلى محمد محمود نفسه والذي كانت تربطه بأحمد حسين علاقات وطيدة.

دخلت جماعة مصر الفتاة إلى دور جديد هيأ لها مكانة مميزة وسط القوي السياسية المتصارعة .

ومن المؤكد أن فترة حكومة محمد محمود تمثل ذروة النجاح في تاريخ مصر الفتاة حيث أطلق لها العنان في ممارسة دعوتها سواء من خلال المؤتمرات والندوات العديد التي حرصت الجماعة على إقامتها أو من خلال صحفها ولعل هدف محمد محمود هو الحصول على قدر من الشعبية واستخدم الجماعة كوسيلة بقصد النيل من الوفد ألد أعداء الحكومة القائمة .

ومن قيمة النجاح الذي وصلت إليه جماعة إلى منحدر الضيق والاضطهاد ويرجع أحمد حسين ذلك إلى سببين :-

أولاهما : هو الشباب المتحمس الذي كان يتصرف من منطلق المثالية وغني عن البيان أن وزارة محمد محمود كانت لا تحقق هذه المثالية فهاجمتها الجماعة واشتدت في مهاجمتها واتخذت من شيخوخة محمد محمود واعتلال صحته ذريعة للهجوم.

ثانيهما : لقد كانت محلات بيع الخمور منتشرة فدعوة " أحمد حسين" إلى مهاجمتها وتحطيمها وكان من أشهر هذه الأحداث انقضاض إسماعيل عامر على مهاجمة " الكاب دور" في الإسكندرية حيث وصلت المأساة إلى ذروتها إذ تعرض لهم أحد الجلوس وكان موظفا كبيرا فاعتدوا عليه بالضرب حتى أصبح بين الموت والحياة واعتبر الانجليز أن عملية تحطيم الحانات من كبري الكبائر فقرروا سحق مصر الفتاة سحقا حيث أعتقل العدد الأكبر من الجماعة ووجهت إلى أحمد حسين تهمة قلب نظام الحكم .

ويبدو أن السلطات البريطانية كانت متيقظة تماما لحركة مصر الفتاة على اعتبار أنها تندد بمعاهدة 1936 وتصفها بمعاهدة " الخزي والعار ط ناهيك عن محاولة الاعتداء على الأجانب ومهاجمة دور اللهو مما ضاعف من كراهية الاحتلال لمثل هذا النوع من النشاط ووفقا لرأي السفير البريطاني " أن مثل هذا النوع من الأنشطة مما يسبب قلقا لدي الأجانب في مصر "

وعلى الرغم من النجاح الذي حققته مصر الفتاة وانتشارها وسط قطاعات كبيرة من الشباب أو انحدارها مرة ثانية بسبب موقفها من حكومة محمد محمود على اعتبار أنها عجزت عن تحقيق أى نوع من الإصلاح الداخلي فإن مصر الفتاة تعد على رأس القوي التي استهانت بالقيم الدستورية وساهمت بشكل أو بآخر في خلق مناخ سياسي يفتقد إلى الديمقراطية فليس من قبيل المصادفة أن يتقدم أحمد حسين ببلاغ إلى النائب العام ( أكتوبر 1937 ) يطلب التحقيق فيما ورد من اتهامات وجهها إليه النحاس باشا ( بالتخابر مع دولة أجنبية) بالرغم من مرور أكثر من عام على هذه التهمة وليس من قبيل المصادفة أيضا أن يتضامن أحمد حسين مع ألد خصومة كي يعملوا جميعا على إسقاط حكومة الوفد بل ويعتبر أحمد حسين أن إقالة الوفد هي البرنامج الوحيد الذي تتبناه الجماعة .

وأعتقد أن ما تقدم عليه الملك فاروق من إقالة الوفد ( ديسمبر 1937) تعد المدخل الفعلي سواء لما أصاب مصر من حالة عدم الاستقرار السياسي في فترة أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينيات أو لما وقع في 4 فبراير من أحداث تركت آثارا خطيرة على تاريخ مصر السياسي طوال فترة الحرب العالمية الثانية .

وتعددت أساليب المخطط الذي آمنت به مصر الفتاة والذي يعني إقالة الوفد حيث رسمت الجماعة خطة بهدف النيل من الحكومة لا في القاهرة وحدها بل في القري والمدن المصرية.

وكان خروج النقراشي وأحمد ماهر من الوفد فرصة ثمينة استغلها أحمد حسين للوقيعة بين صفوف الوفديين حيث استغل هذا الحادث أسوأ استغلال وسواء أكان هذا في إطار سياسة عامة رسمتها أحزاب الأقلية أم أن هذه السياسة كانت مسلكا خاصا بمصر الفتاة فإنها تتحمل قدرا كبيرا من المسئولية على الرغم مما ساهم به الوفد من تصرفات تفتقد في معظمها إلى الحنكة السياسية ووفقا لرأي أحد زعماء الوفد " لقد كان فصل النقراشي وأحمد ماهر وبكل المقاييس خطأ سياسيا كبيرا .

ولم يتورع أحمد حسين في أن يتقدم بالتماس في أغسطس 1937 إلى الملك فاروق بطرد الوزارة بحجة أنها قد خالفت كل القوانين والأعراف .

وبالرغم من أن نزاهة الوفد المالية حتى هذا التاريخ – كانت فوق كل الشبهات إلا أن أحمد حسين تقدم بالتماس إلى الملك فاروق يشكك في ذمة النحاس ونزاهته المالية .

وهكذا ساهمت مصر الفتاة بنصيب لا بأس به من استعداء الملك ضد لحكومة الشرعة التي تمثل وبكل المقاييس الغالبية الفعلية من الشعب المصري وتناسي أصحاب هذه الدعوة بقصد أو بغيره أن اقله حكومة تتمتع بالغالبية العظمي في البرلمان وتلقي تأييدا كاسحا من الجماهير يعد بداية لسلسلة من المخاطر دفعت فاروق إلى الاستهانة بالدستور والقانون ودفعت الوفد أيضا إلى الاقدام على تصرفات لا تتفق بحال مع تاريخه الوطن العريق ودوره الرائد في قيادة الحركة الوطنية المصرية ويلاحظ أن السمة المميزة لتلك الجماعة هي التناقض في الرأي وافتقاد الرؤية السياسية الثاقبة حيث كانت الغالبية العظمي من أعضاء الجماعة من بين طلاب المدارس الثانوية والجامعات وحداثة السن والتحمس كلاهما شرط مطلوب في الإيمان المطلق وتقبل النظريات التي تخاطب العواطف أكثر مما تخاطب العقول . ومن بن القضايا التي ظهر فيها التناقض واضحا اشتراك مصر في الحرب بجانب بريطانيا فعندما تأزم الموقف الدولي وبدأت نذر الحرب أخذ أحمد حسين يدعو جميع الأحزاب وكل القوي السياسية إلى التضامن في مواجه المخاطر التي قد تتعرض لها مصر وعندما تعقدت الأوضاع الدولية وبدأ واضحا أن الحرب واقعة لا محالة أعلن الدكتور مصطفي الوكيل ( نائب رئس مصر الفتاة ) أن التضحيات التي قدمتها الشعوب العربية والإسلامية لكل من انجلترا وفرنسا طوال السنوات الطويلة الماضية قد ذهبت هباءا ولم نحصل في مقابل ذلك إلا على كل ما يسئ إلى وحدة واستقلال هذه الشعوب ولذلك فإن نقف إلى جوار الحلفاء في الحرب ويضيف أحمد حسين قائلا أن الجلاء عن الأراضي المصرية إذا انتهت الحرب هو ثمن وقوف مصر إلى جانب انجلترا .

ثم يتراجع أحمد حسين عن هذا الموقف وبلا أى مبررات معقولة ليعلن أن علاقاتنا الوطيدة بالدولة الحليفة تلزمنا بالوقوف مع الحلفاء وإعلان الحرب ضد النازية ونشرت صحيفة مصر الفتاة سلسلة من المقالات تبرر أهمية دخول مصر الحرب على اعتبار أن بريطانيا ستقدر هذا الموقف من مصر ومن المؤكد أن النصر سكون في جانب الحلفاء ولذا فإن الفرصة متاحة لكي تحصل مصر على استقلالها .

وعندما تندلع الحرب بالفعل تتراجع مصر الفتاة عن موقفها السابق فيعلن أحمد حسين أن موقف جماعته من قضية الحرب يتوقف على أن تعلن بريطانيا استقلال مصر استقلالا عمليا وأن تعترف بحقوقنا في السودان وحل قضية فلسطين حلا مرضيا .

على ضوء كل هذه التصريحات والبيانات المتناقضة فلم يكن لمصر الفتاة موقف محدد وإنما كان التردد أهم سمة لازمت تلك الجماعة على الرغم من أن أحمد حسين قد حاول أن يبرر هذا الموقف بقوله : إن الانتصارات الماسحة التي حققها الألمان اقتضت منا أن نعيد خطتنا حيث تحددت مهمة مصر الفتاة بالثورة المسلحة على الانجليز وطردهم من مصر وقد قوي من فكرة الثورة المسلحة ضد الانجليز تلك الانتصارات الكاسحة التي أحرزها هتلر في بادئ الأمر وكانت خطتنا أن وقت هجوم الألمان على الانجليز هي ساعة الصفر حيث تعلن الثورة المسلحة في كل أرجاء مصر .

ووفقا لخطة الثورة والتي وضعها أحمد حسين وفتحي رضوان فإنها تقوم على احتلال عدد معين من القرى حول كل مركز ثم الزحف من القرى لاحتلال المراكز ومن المراكز إلى عواصم المديريات على أن يكون ذلك مشفوعا بقطع السكك الحديدية والتليفونات والتلغرافات وأعدت الخطة في شكل منشورات لا تفتح ولا يعرف محتواها إلا بعد إعطاء كلمة السر وبدأت عملية جمع الأسلحة واستأجر الحزب عددا من المنازل لكي تكون مكانا للأسلحة والمنشورات إلا أن عيون الاحتلال كانت ترقب كل حركة من حركات الحزب ويبدو أن الانجليز كانوا على علم بحقيقة الثورة التي يخطط لها أحمد حسين وفتحي رضوان إلا أنهم كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة الكفيلة بالقضاء على هذا الحزب واقتلاعه من جذوره ولعل هذا يفسر اضطهاد بريطانيا لمصر الفتاة أكثر من غيرها من القوي الأخرى ولما كانت ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق وموقف مصر الفتاة المؤيد لها حزبه بعد أن جاهروا بدعوتهم في أهمية الثورة ضد الانجليز كما فعل العراق وهكذا صفيت حركة مصر الفتاة وتمكن الاحتلال من تسديد ضربة قوية مكنته من اقتلاع هذا النبت الذي يعد نتاجا لتربة مصرية خالصة بالرغم من ظاهرة التردد والتي تبرره ثورة الشباب وحماسة وفي الوقت الذي وقعت فيه أحداث 4 فبراير الفتاة وعلى رأسهم أحمد حسين وفتحي رضوان ولذا فلم يكن وقع هذا الحادث عليهم إلا بالقدر الذي تسمح به ظروف الاعتقال حيث تصور أحمد حسين أن النحاس قد أنقذ مصر بقبوله تأليف الوزارة ويضيف أحمد حسين عن ذكرياته في تلك الفترة قائلا " لم نعلم بالملابسات التي صاحبت تشكيل وزارة 4 فبراير وبدأ النحاس وكأنه المنقذ فاتفقنا أنا وزملائي أن نرسل له برقية تأييد ولم نكن ندري أننا بذلك تصطدم مع عواطف الكثير من زملائنا والذين تركوا الحزب احتجاجا على هذا الموقف .

ويعلق فتحي رضوان على هذه الرواية قائلا : لقد بعث أحمد حسين ببرقية تأييد إلى النحاس تحكمه عوامل شخصية قد يكون الاعتقال من أهمها وليس صحيحا أنه قد استشار البعض أو أخذ رأينا في ذلك.

وبالرغم من المبررات التي يسوقها أحمد حسين والي دفعته إلى أن يبعث إلى النحاس مهنئا بما حدث على اعتبار أن حالة الاعتقال كانت حائلا دون معرفة ملابسات الموضوع إلا أن نص البرقية يفيد خلاف ما ذكره حائلا دون معرفة ملابسات الموضوع إلا أن نص البرقية يفيد خلاف ما ذكره أحمد حسين " لقد منحتكم الأمة ثقتها بأعظم مما فعلت في أى يوم ولن يكون هناك سوي شرذمة قليلة من الرجال الحسودين الحقودين الذين يشرعون في دسائسهم وهؤلاء لن يكون لهم حظ قليل أو كثير .. لقد أصبحت أثق ثقة مطلقة في أن مصلحة مصر ومستقبلها هو هدفكم في كل ما تعملون أو تقولون .

والجدير بالملاحظة أن برقية أحمد حسين تعد البرقية الأولي في تهنئة النحاس فلم يحدث أن أقدمت أى قوة سياسية أخري على اتخاذ هذا الموقف وإنما كل الاتجاهات السياسية والحزبية قد استنكرت هذا الحادث من منطلق أن الوفد ضليع في تأمره مع الاحتلال .

ومن المؤكد أن أحمد حسين قد مل أمر الاعتقال أن النحاس من الممكن أن يعيد النظر في أمر اعتقاله وأما القول بأنه يكن يعرف كل ملابسات الموضوع فلا يقيم دليلا على موقفه بدليل أنه قد عرف فيما بعد ولم يقدم على ما يناقض موقفه السابق ومن البراهين التي تقوم دليلا على هذا الاعتقاد هو هروب أحمد حسين من السجن ثم اتصاله بفؤاد سراج الدين الذي وعدة بعدم العودة إلى الاعتقال وبالفعل فقد وافق النحاس على الإفراج عن أحمد حسين بصفة خاصة .

ويبدو أن أحمد حسين قد عمل على الخروج من السجن بكل الوسائل إلى درجة أنه بعث برسالة إلى مدير المخابرات بالجيش البريطاني " جنرال كلايتون" يقول فيها : عندما بدأت الحملة الانجليزية على ليبيا شعرت برغبة شديدة في أن أكتب لك لا عرب لك عن تمنياتي الصادقة لنجاح هذه الحملة إلا أنني توقفت خوفا من أن تفسر كتاباتي بأنها نوع من المراهنة أو الرغبة في أن يطلق سراحي إلا أن توقف المعارك على حدود ليبيا دفعني إلى أن أكتب لك لقد كان رأيي الذي بسطته لك منذ مقابلتنا الأولي وظللت متمسكا به أن مصلحة مصر الحاضرة والمستقبلة تقضي بضرورة تعاونه مع انجلترا تعاونا على أوسع نطاق ممكن فإن موقف مصر بعيدا عن هذا النزاع يعتبر موقفا شاذا .

ولعل هذا الموقف من زعيم مصر الفتاة يشير إلى عدة اعتبارات هامة :-

أولا : أن رسالة أحمد حسين إلى النحاس عقب 4 فبراير سنة 1942 هي محاولة لجس نبضه ولعل أحمد حسين قد اتخذ من صداقته . لفؤاد سراج الدين وسيلة من وسائل الضغط على النحاس وهذا ما تحقق فعلا .

ثانيا : أن تاريخ الصراع الطويل بين حزب الوفد وجماعة مصر الفتاة والخلافات التي لم تتوقف بينهما كل هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن رسالة أحمد حسين إلى النحاس تعد تراجعا أكيدا بسبب حالة الاعتقال .

ثالثا : أن رسالة أحمد حسين إلى " كلايتون" مدير المخابرات البريطانية تعد تناقضا غريبا في سياسة أحمد حسين يؤكد من خلالها إيمانه العميق بقضية الحلفاء وهذا ما يتعارض تماما مع سياسته السابقة وهذا الموقف يعد تراجعا ليس له ما يبرره إلا محاولة النظر في أمر الاعتقال وعلى الرغم من موقف مصر الفتاة من معاهدة 1936 هذا الموقف الذي يتسم بالرفض الشديد إلا أنه لا مانع لدي أحمد حسين من أن يعتبر بريطانيا دولة صديقة وحليفة وهو يشير من طرف خفي إلى رغبته في الإفراج عنه .

ولعل عددا كبيرا من أعضاء مصر لفتاة قد اعتبروا أن موقف أحمد حسين يعد تراجعا عن الخط الوطني الذي اتخذه الحزب لنفسه حيث تعرض الحزب لأول مرة إلى انقسامات خطيرة حيث اعتبر فتحي رضوان ( سكرتير عام الحزب ) أن ما حدث في 4 فبراير يعد صدمة تجمدت بسببها المشاعر فلقد كان الاعتداء على الملك بهذه الصورة اعتداءا على مصر كلها ولم يكن موقف أحمد حسين موقفا مسئولا .

ومن هنا فقد تقدم فتحي رضوان باستقالته من الحزب احتجاجا على موقف أحمد حسين من أحداث 4 فبراير ونجح فتحي رضوان في اجتذاب عدد من الأعضاء الحانقين على سياسة أحمد حسين وكونوا اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني .

وهذه اللجنة لم تقم بأي دور ظاهر خلال سنوات الحرب اللهم إلا بعض النشاطات السرية التي سيرد الحديث عنها في موضع آخر من هذا البحث .

ومن المؤكد أن حادث 4 فبراير 1942 قد ترك أثرا على حزب مصر الفتاة يختلف تماما عن أثر نفس الحادث على بقية الأحزاب فبينما كل الأحزاب قد استمدت من أحداث 4 فبراير قدرا كبيرا لشعبيتها على حساب الوفد إلا أن مصر الفتاة قد انقسمت على نفسها مما حدا بالكثيرين من أعضائها إلى البحث عن قوي أخري بخلاف القوتان المتنازعتان .

ومنذ منتصف سنة 1941 فقد صدرت الأوامر باعتقال زعماء مصر الفتاة والغالبية العظمي من أعضائها وبذلك تجمد نشاطها تماما فلا حزب ولا أعضاء ولا صحيفة ولا نشاط من أى نوع خلال الفترة المتبقية من الحرب ويمكن أن نلخص بعض العوامل التي أدت إلى إجهاض مصر الفتاة  :

أولا : موقفها من ثورة رشيد علي الكيلاني وما ترتب على ذلك من اعتقال معظم أعضائها .

ثانيا : عدم صلابة أحمد حسين ومحاولة اتصاله بألد خصومه وعم الانجليز والوفديين مما ترك انطباعا سيئا لدي غالبية أعضاء الحزب .

ثالثا: موقف أحمد حسين من أحداث 4 فبراير سنة 1942 وما ترتب على ذلك من خروج فتحي رضوان لكي يكون " اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني "

وعلى العموم فإن العلاقة بين حادث 4 فبراير وحزب مصر الفتا لم تكن علاقة وطيدة نظرا لأن الاحتلال قد تمكن من القضاء على الحزب في منتصف 1941 عن طريق العديد من الإجراءات سواء بالنفي أو الاعتقال ولذا فإن الأثر كان محدودا لدرجة كبيرة وعلى الرغم من كل ذلك فإن عددا كبيرا من الشباب قد انتابته حالة عدم الثقة سواء في مصر الفتاة أو في غيرها من الأحزاب الأخرى ولذا فقد انصرفت أعداد هائلة للعمل في تنظيمات سرية اعتقادا منهم بأن الاغتيالات هي الطريق الوحيد لخلاص مصر من أوضاعها المتردية وهذا ما سنتناوله في الدراسة التالية .

قوي أخري لعبت دورا هاما في مجري الأحداث

بصدد الحديث عن القوي التي تأثرت بشكل أو بآخر بأحداث 4 فبراير يتصدر الحزب الوطني مكانة هامة سواء في خلق المناخ الذي تمخضت عنه الأحداث أو في ردود الفعل التي نجمت عن الحادث بالرغم من أن مساهمة الحزب لم تكن تتناسب والمكانة الهامة التي كان يتبوأها في أوائل هذا القرن حيث كان يتصدر حركة النضال الوطني إلا أن مواقف الحزب من القضايا الوطنية وتشدده بالمطالبة بأحقية مصر في الحصول على استقلالها بلا قيد أو شرط وبعده عن أى نوع من أشكال المساومة وتمسكه بمبدأ " لا مفاوضات إلا بعد الجلاء كل تلك العوامل جعلت من الحزب الوطني هدفا للاحتلال ثم كان موقفه من معاهدة 1936 والتي اعتبرها حماية قاسية تجعل الاحتلال شرعيا وتؤيد تصريح 28 فبراير 1922 وتمكن الانجليز من التسلط على أرضنا وسمائنا .

وبات الحزب هدفا للقوي التي ساهمت في مفاوضات 1936 وموضع تهكم من رجالات الأحزاب والذين كانوا يعتبرون معاهدة 1936 معاهدة الشرف والاستقلال في الوقت الذي تنكر لها الحزب الوطني واعتبرها معاهدة الخزي العار والاستسلام .

وهذه السياسة المتشددة لا تتفق بحال مع ما ارتضاه حافظ رمضان ( رئيس الحزب الوطني ) من الاشتراك في حكومة محمد محمود سنة 1938 ثم حكومة حسن صبري سنة 1940 حيث كان الاشتراك في هاتين الحكومتين يعد اعترافا ضمنيا بمعاهدة 1936 لا يتفق والسياسة العام التي ارتضاها الحزب بالإضافة إلى أن الاشتراك في هاتين الحكومتين يعد مساهمة أكيدة لضرب القوي الديمقراطية لأن قبول العمل مع حكومات لا تستند إلى أى قاعدة جماهيرية يعد خدعة أكيد للقصر ورجالاته والذين أفسدوا للحياة السياسية بتصرفاتهم الأنانية وخلافاتهم الشخصية ولعل اشتراك الحزب الوطني بماضيه الطويل وكفاحه المشرف يعد صدمة أكيدة قضت على البقية الباقية من نضال الحزب .

والحقيقة أنه على الرغم من عدم جماهيرية الحزب في تلك القدرة موضع البحث - إلا أن بعضا من أعضائه أمثال فكري أباظة وعبد العزيز الصوفاني قد أثروا الحياة البرلمانية بمناقشاتهم الموضوعية وسلوكهم الحميد ولم تأت مناسبة إلا وكان لأعضاء الحزب الوطني صوت مسموع منددين دائما بالسياسة الانجليزية وضرورة وضع حد للعلاقات المصرية البريطانية على ضوء الاعتداءات المتكررة والتي يرتكبها جيش الاحتلال جهارا نهارا ضد المواطنين المصريين وحمل فكري أباظة حملة شديدة ضد المشروعات الاستعمارية صناعية وحربية والتي وصفها بأنها تهدف إلى خدمة الاحتلال وضد مصالح البلاد .

وفيما يتعلق بموقف الحزب سواء من إعلان الأحكام العرفية أو من قضية دخول مصر الحرب بجانب بريطانيا فقد رفض أى شكل من أشكال المساعدة لبريطانيا على اعتبار أن مصر قد قدمت العديد من التضحيات طوال فترة الوجود البريطاني في مصر ولم تحصل إلا على الجحود والنكران .

وبوقوع حادث 4 فبراير سنة 1942 اجتمع الحزب الوطني برئاسة حافظ رمضان وأعد مذكرة مستفيضة عن مركز مصر السياسي واعتداء انجلترا المسلح على السيادة المصرية وعدم احترام حكومة النحاس لأي قانون أو دستور ولم تغفل المذكرة أن تندد بمعاهدة 1936 باعتبار أنها أساس كل بلاء وأرسلت صور من هذه المذكرة إلى الملك فاروق وإلى النحاس كما بعث بصور منها إلى وزير أمريكا المفوض في القاهرة ووزير السويد والقائم على مصالح روسيا في مصر بل وقد حاول حافظ رمضان - واستطاع الحزب الوطني ممثلا في رئيسه أن يحصل على توقيع الدكتور أحمد ماهر والشوربجي بك وإسماعيل صدقي باشا إلا أن الخطة لم تنجح لأن البعض كحافظ عفيفي والشمس باشا لم يقبلا التوقيع على مثل هذه الوثيقة ولذا فقد أخفقت الفكرة .

وعلى ما يبدو فإن عددا كبيرا من أعضاء الحزب الوطني وخصوصا من بين الشباب قد انخرطوا في العمل السري بعد أن فقدوا كل أمل في الأحزاب التقليدية تلك الأحزاب التي تسبح بحمد الاحتلال وتكيل له المديح والثناء .

من هنا فقد تصدر قطاع كبير من شباب الحزب الوطني العمل السري واتخذوا من الاغتيالات وسيلة لجبار الاحتلال على الرضوخ لمطالبهم ولعل خطتهم كانت تقوم على إبادة مدرسة ثورة 1919 والتي وصفت بأنها مدرسة المفاوضات والتخاذل حيث كانت معاهدة 1936 من وجهة نظرهم اعتراف واضح بإشراك بريطانيا في حكم مصر ثم كان حادث 4 فبراير 1942 وعلى مرأي ومسمع من كل الأحزاب السياسية هو بداية تشكيل جماعة حسين توفيق والتي وضعت في برنامجها اغتيال كل من ساهم في أحداث 4 فبراير وفي مقدمتهم النحاس باشا ثم أمين عثمان .

ويعتقد حسين توفيق أن الوفد قد خان خيانة عظمي في مسألة 4 فبراير وأن زعماء الأحزاب ليس فيهم نفع بل جميعهم قد أضروا البلد ضررا كبيرا .

ووفق ما ذكره حسين توفيق في قضية مقتل أمين عثمان تبدو عدة حقائق هامة :-

أولا : أن جماعة حسين توفيق كانت تسمي جماعة الشباب المجاهد.

ثانيا : أن هذه الجماعة قد تكونت عقب 4 فبراير وكرد فعل السياسة التواطؤ بين الوفد والانجليز .

ثالثا : أن هدف التنظيم هو اغتيال كل من ساهم في صنع أحداث 4 فبراير بدءا بالسياسيين المصريين .

ويبدو أن هناك علاقة وطيدة بين جماعة حسين توفيق والتنظيم الذي أعده القصر والذي يسمي " بالتنظيم الحديدي" والذي كان من أهم أهدافه اغتيال كل صانعي 4 فبراير 1942 حيث ذكر أحمد مرتضى المراغي والذي شغل منصب وزير الداخلية عدة مرات وقبلها كان مديرا للأمن العام وكان على علاقة وطيدة بالقصر  : " أن الملك فاروق قد دفع مبالغ طائلة لإعداد هذا التنظيم بهدف اغتيال النحاس وأمين عثمان وكل من ساهم في 4 فبراير إلا أن الملك قد فقد ثقته في هذا التنظيم بعد فشل محاولة قتل النحاس مرتين مما اضطره إلى التفكير في إعداد تنظيم آخر يكون قادرا على اصطياد الرؤوس الكبيرة .

وعلى ما يبدو فإن مصرع أمين عثمان ( يناير سنة 1946 ) هو العمل الوحيد الذي قام به هذا التنظيم وكانت الخطة تعني مقتل أمين عثمان ثم قتل النحاس أثناء سيرة في جنازة أمين عثمان .

ويؤكد أحد زعماء التنظيم السري والمنتمين إلى الحزب الوطني أن سعد كامل " ابن شقيقة فتحي رضوان هو المدبر والمخطط للمجموعة التي اغتالت أمين عثمان وأن كل الأعضاء كانوا من الشباب المنتمين إلى الحزب الوطني .

ووفق اعتقادي فإن انتماء التنظيم إلى الحزب الوطني لا ينفي علاقاتهم بالقصر على اعتبار أن التنظيم كان يمر بمراحل مختلفة وأن أعضاءه في الغالب لم يكونوا على علم بأن القصر وراء مخططهم حيث كانت الاتصالات تتم عن طريق شخص معين هو قمة التنظيم ولعله الدكتور يوسف رشاد .

ويعتقد احد المعاصرين أن باقي التنظيمات السرية لم تكن إلا من حيث الكيف ولا الكم بالقدر الذي تتطلبه حالة البلاد والتنظيم الوحيد الذي كان فعالا هو تنظيم حسين توفيق والذي اعتمد على شخصية حسين توفيق فقط .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى العلاقة بين القصر والتنظيم الحديدي والذي امتد ليشمل عددا كبيرا من ضباط الجيش المصري والذين يؤيدون الألمان بصورة مطلقة وتشير الوثائق الأمريكية أيضا إلى أن عيون المخابرات البريطانية كانت متيقظة لمثل تلك الأنشطة الضارة بقضية التحالف على اعتبار أن ضباط الجيش المصري يخططون لشئ ما ولعل هذا الشئ هو إعلان ثورة عسكرية داخل الجيش أو اغتيال ضباط الحلفاء في القاهرة وهذا مما ضاعف من قلق السفير البريطاني في القاهرة.

وتعتبر قضية مصرع أمين عثمان هي مفتاح الوصول إلى هذه الجماعة وتعتبر المحاكمة في هذا القضية من المحاكمات التاريخية الهامة في تاريخ مصر السياسي حيث دار معظمها حول الكشف عن جنود حادث 4 فبراير وأن المتهمين جميعا قد ركزوا على هذا الحادث باعتباره دافعا وطنيا " هو نفس الشئ الذي اعتمد عليه الدفاع على اعتبار أن الاعتداء على الملك وهو رمز البلاد يعتبر اعتداء على الوطن كله .

وتشارك النيابة المتهمين في اعتبار حادث 4 فبراير وصمة في جبين الإمبراطورية البريطانية ودليلا على البربرية التي هوي إليها الانجليز في ذلك اليوم لا غير .

وعندما يسحب النائب العام " محمود منصور " الكلام السابق الذي أشار إليه " أنور حبيب " وكيل النائب العام " يثور المتهمون ويعلق حسين توفيق : عار عليك يا حضرة النائب العام أن تسحب هذا الكلام الوطني وكن شجاعا ولا تخشي شيئا وقال : أنور السادات أنا أفضل أن أشنق ألف مرة على أن أري النائب العام يتراجع ويقف هذا الموقف غير المشرف .

واستند المحامون في دفاعهم عن المتهمين إلى ما نشرته الصحف عقب إقالة الوفد سنة 1944 على اعتبار أن ما اقترفه يعد جرما لا يغتفر ثم تناول الدفاع أيضا مسلك أمين عثمان وتحيزه الواضح إلى جانب الانجليز حيث شبه مصر في علاقاتها بانجلترا بالزواج الكاثوليكي ولذا فقد شبه مصر بامرأة وبريطانيا برجل .

ولم تقتصي هيئة الدفاع عن تورط أمين عثمان في حادث 4 فبراير وإنما أمتد الحديث ليشمل موقفه أيضا من مفاوضات 1936حيث يؤكد علي ماهر أن طلبات الانجليز كانت كثيرة ولما أشار على السفير البريطاني بهذه الملاحظة أجاب بأن الذنب ليس ذنبه لأن أمين عثمان أفهمه أن النحاس يساوم كثيرا ويحاول دائما أن ينتقص 50 % من طلبات الانجليز ولذا فقد تقدموا بطلبات مبالغ فيها .

ولقد أشارت تقارير البوليس السياسي إلى صعود نجم أمين عثمان اعتمادا على الانجليز ففي أحد التقارير ما يشير إلى قرب تولي عثمان الوزارة كما يشيع هو ذلك ويقول أن معه من الوزراء الحاليين ما يؤيده في وجوده في رئاسة الوزارة عند اعتزال النحاس الحكم .

ومن غير شك فإن هيئة المحكمة قد أكدت على تلك الدوافع التي دفعت هؤلاء الشباب للإقدام على ما فعلوا اعتقادا منها بأن مصر كلها تشاركهم في دوافعهم الوطنية إلا أنها – هيئة المحكمة – لا تقر مبدأ القتل كوسيلة للوصول إلى أى غرض مهما كان نبيلا ولقد رأت المحكمة أنه لا يرجي من مثل التهم أن يزن ويقدر عوامل الاستفزاز بل دعاها على أنها خيانة للبلاد إلى جانب تاريخ الاحتلال لمصر كلها عوامل راعتها المحكمة في الحكم على هؤلاء الشباب . ومن المؤكد أن هؤلاء الشباب كانت تحركهم دوافع وطنية خالصة وبالرغم من اعتقادنا بأن هذا التنظيم كان يعمل في فلك القصر ولأهداف خاصة من وجهة نظر السراي إلا أننا نعتقد أن هؤلاء الشباب لم يكونوا على بينة من مخططات السراي وإنما كان للدكتور يوسف رشاد طبيب الملك الخاص وزوجته ( نهي ) الدور الرئيسي في استغلال هؤلاء الشباب وتوجيههم بما يتفق وأغراض القصر وفي الوقت نفسه فليس هناك ما يثبت إدانة القصر وهذا ما حرص عليه فاروق جيدا.

والمؤكد أن أحزاب الأقلية قد نجحت في استغلال حادث 4 فبراير والنيل من الوفد مما حدا بالكثيرين من أعضائه إلى الانصراف عنه وكانت الفرصة مهيأة لظهور قوي أحري احتلت حبذا هامشيا على مسرح الأحداث المصرية وتعني قوي اليسار حيث الدعاية السوفيتية قد حققت قدرا كبيرا من النجاح وغاليا وبدون قصد فقد كان الأمريكيون والبريطانيون يقومون بمهمة الدعاية للسوفيت والتأكيد على تطورهم العسكري وتقدمهم الاجتماعي والاقتصادي وعللوا هذا الطفرة في حياة المجتمع الروسي بالثورة الروسية التي تمكنت من استيعاب كل مشاكل المواطن الروسي .

ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن تنتشر وبسرعة الأفكار الإشتراكية والماركسية وخصوصا بين الناقمين على النظام ولعل ظروف الحرب من العوامل التي ساعدت على ازدهار هذا النشاط حيث الظروف الاجتماعية والاقتصادية أخذة في التدهور والقوة الشعبية الوحيدة القادرة على التأثير في المجتمع المصري ( الوفد) بدأت تنهار عقب أحداث 4 فبراير ووفقا لشهادة أحد المعاصرين لقد كانت أحداث 4 فبراير من أهم العوامل التي لفتت الأنظار إلى الأفكار الماركسية والإشتراكية وفوق كل ذلك مراعاة بريطانيا لظروف التحالف مع الاتحاد السوفيتي حيث سمحت بممارسة هذا النوع من النشاط هذا بالإضافة إلى الانتصارات الكاسحة التي حققها السوفيت ضد قوات المحور وإقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي سنة 1942 كل ذلك أدي إلى انتشار الماركسية في مصر الثانية وإنما ترجع جذورها إلى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين حيث تنشا الحزب الشيوعي المصري الذي تمكن من ضم مجموعات من العمال الذين أسهموا في ثورة 1919 إلا أن ظروف الحرب وما ترتب عليها من علاقات شاذة خلفتها معاهدة 1936 قد ساعد على خلق المناخ المناسب الذي ترعرت فيه تلك الأفكار بشكل أقلق كل القوي السياسية الأخرى حيث تشكلت العديد من الخليات حملت كل منها اسما مغايرا لأخر فهناك " اللجنة المركزية للمنظمة الشيوعية المصرية والتي كانت تصدر نشرات إلى الطبقة العاملة .. وأخري تحمل اسم " منظمة المقاومة الشعبية" واقتصرت مهمتها على توزيع الكتب الشيوعية على الطلبة والعمال ثم " الحزب الشيوعي المصري " والذي كان يتولي كتابة التقارير والنشرات وحفظها في مكان سري وهناك منظمة أخري تحمل حركة ديمقراطية تقدمية وطنية وكان يختصر اسمها بكلمة " حدتو" ويرأسها صهيونيات أحداهما مليونير يدعي " موريل " والأخر يدعي " دويك" والأول كان ينفق بسخاء على منظمته وعمل تحت ستار التجارة وكانت المهمة الحقيقية لهذا الجماعة إمداد الصهيونية في فلسطين بما تحتاج إليه من معلومات عن مصر .

وفي سنة 1942 تأسست " الحركة المصرية للتحرر الوطني " ولعل اسمها كافة للدلالة على نوعية النشاط الذي اختاره مؤسسها " هنري كورييل وخلال أحداث 4 فبراير سنة 1942 وبينما كانت القاهرة تموج بالمظاهرات قامت الحركة بطبع المنشورات باللغة العربية تقول فيها : " لا تتصوروا أيها المصريون أن الألمان أفضل من الانجليز ويمضي كورييل في روايته قائلا : وخرجت لأوزع هذه المنشورات أنا وجورج بوانتيه وكان منظرا مضحكا اثنان من الأجانب يوزعان منشورات باللغة العربية وقد وزعنا 400 نسخة من هذه المنشورات . وقد اعتقل هنري كورييل سنة 1942 وأودع في معتقل الزيتون ويقول عن هذه الفترة : وفي المعتقل استفدت فائدة كبري حيث مارست احتكاكا مباشرا وجادا مع كثير من السياسيين هم في الأساس أبناء البراجوزية الصغيرة وباختصار لقد أخذت في المعتقل حمام تمصير وأحسست إحساسا عميقا أن البرجوازية الصغيرة تموج بحركة وطنية عارمة وأنه يتعين الاستفادة منها .

ويعتقد البعض أن هذا التنظيم كان أكثر التنظيمات اليسارية ارتباطا بالواقع المصري حيث تشكل من الطلاب والمدرسين والعمال وغيرهم من ذوي الأصول الصغيرة وكان أسلوب التجنيد يتم من خلال المعارك السياسية والاضطرابات .

وتستهدف الحركة المصرية للتحرر الوطني تكوين حزب شيوعي إصلاح زراعي , وتنظيم الكفاح المشترك مع الشعب السوداني باعتبار أن وحدة وادي النيل قضية مصيرية ووفقا لتقارير البوليس السياسي فد كان هنري كوريول يدير احدي المكتبات بهدف الترويج للكتب الشيوعية .

ومن خلال المكتبة استطاعت الحركة أن تجد صداها لدي الشباب خصوصا المتعطش للثقافة والمعرفة وتمكن هنري كورييل أن يضم عددا كبيرا من المصريين الناقمين على القوي السياسية التقليدية في مقدمتهم الوفد.

وعلى الرغم من أن الحركة المصرية للتحرر الوطني كانت أقوي الحركات التي تشكلت عقب 4 فبراير سنة 1942 إلا أن هناك مجموعة أخري تكونت عقب نفس الحادث وتسمي " منظمة القلعة" حيث قامت على أكتاف ثمانية أشخاص " خمسة من طلاب الذين يدرسون في المدارس الثانوية وطالب أزهري وحرفي " تأثروا بما حدث في 4 فبراير تأثيرا هز وجدان هذه المجموعة هزا عنيفا دفعهم إلى البحث عن اتجاه جديد يخالف الاتجاهات التقليدية .

وبدأت هذه الخلية توسع نشاطها من خلال مجموع الشباب الساخط على الوفد بعد 4 فبراير وحددت برنامجها في المطالبة بالاستقلال الوطني والاستقلال الاقتصادي وعلى ضوء العديد من القراءات في الفكر الاشتراكي فقد تمخض نشاطها عن إقامة تنظيم شيوعي يستند إلى برنامج شفوي ومبادء غير منشورة ولم يكن لهذا التنظيم أجهزة فنية ولا مجلة سرية ورغم ذلك فقد وأصل النمو معتمدا على الأرض الخصبة التي مهددتها أحداث الحرب وإلى جموع الشباب الذي تملكته الحيرة والقلق عقب 4 فبراير.

ثم تمكن التنظيم من أن يضم إليه بعضا من ضباط القوات المسلحة في مقدمتهم " أحمد حمروش " ورويدا رويدا بدأت الحركة تتسع وتجد لها أنصار بين طلاب الجامعات وعدد لا بأس به من العمال .

وعموما فإن عام 1942, 1943 قد شهدا تكون العديد من المنظمات اليسارية في القاهرة والإسكندرية وتاريخ هذه الجماعات ويكتنفه الغموض نظرا لتعقب البوليس لهم مما كان يدفعهم إلى حرق أوراقهم ووثائقهم حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون إلا أن أسماء التي تسمت بها هذه الجماعات تشير إلى أن عددها كان أكثر من عشرين جماعة تسمت كل منها باسم خاص وتباينت أسماء الدوريات والنشرات التي كانت تصدرها تبعا لأهداف كلا منها واحتدم الصراع بينها من أجل إقامة حزب شيوعي مصري حقيقي .

وعلى ما يبدو فقد برزت إلى الوجود اتجاهات سياسية احتلت مكانة لا بأس بها وسط العديد من القوي الأخرى وهذه الاتجاهات الجديدة أخذت مواقف متباينة فإذا كان البعض يتحالف مع المحور ضد الانجليز بدعوي الوطنية وإذا كان البعض الآخر يتحالف مع الانجليز ضد المحور بدعوي الديمقراطية فإن الشيوعية المصريين قد رفعوا شعارا مغايرا فهم ضد الفاشية وضد الاحتلال البريطاني لمصر ورفعوا شعارا ضد الفاشية ولكن ليس مع الانجليز , ولم يكن هذا هو التمايز الوحيد ففي مواجهة شعار أجمع عليه كل الساسة وهو وحدة وادي النيل رفع الشيوعيون شعارا " الاستقلال السياسي والاقتصاد والكفاح المشترك مع الشعب السوداني وحقه في تقرير مصيره "

ولعل قوات الاحتلال قد تغاضت عن النشاط الشيوعي في مصر على أمل الاستفادة من تأثيرهم الفكري والسياسي المناهض للفاشية ولأول مرة في تاريخ الانتخابات البرلمانية المصرية ( انتخاب 1944) شهدت البلاد مرشحين يعلنون أنهم يدخلون المعركة الانتخابية ويلصقون على الجدران إعلانات يقولون فيها – انتخبوا المرشح الاشتراكي سيناضل في سبيل الإشتراكية وقد انتشرت هذه الإعلانات في الإسكندرية بصفة خاصة حيث تقدم ثلاثة من العمال إلى الانتخابات تؤيدهم طائفة كبيرة من سكان دوائرهم .

وعلى ضوء هذه الدراسة يمكننا أن نذكر بعض النتائج الهامة :

أولا: لم تكن الحركات الشيوعية في مصر وليدة الحرب العالمية الثانية وإنما ترجع في جذورها إلى العشرينات من هذا القرن إلا أن الحرب العالمية الثانية وما واكبها من تناقضات سياسية واجتماعية واقتصادية تعد أنسب الفترات التي ساعدت على نمو هذا الاتجاه .

ثانيا : أن حادث 4 فبراير سنة 1942 قد ساعد على نمو أكبر الحركات أعمها بسبب الاعتقاد على عنصر الشباب دائما يعد عامل قوة تدفع القوي التي يساندها إلى أخذ مواقف أكثر تطرفا .

ثالثا : أن السياسة البريطانية في مصر تعد المسئول الأول عن تفاقم هذه التنظيمات المصرية الروسية ولما كانت الحركات اليسارية تعلن دائما عن عدائها السافر ضد الفاشية والنازية فلقد كان لهذا وقعا طيبا لدي الدوائر البريطانية .

رابعا : أن ظهور الاتجاهات اليسارية عموما وفي هذه الفترة يعد تعبيرا أكيدا عن وجود خل هائل في كل مناحي الحياة المصرية اقتصادية واجتماعية وسياسية وبشكل مكن هذه الاتجاهات من أن تجد لها واقعا وسط المجتمع المصري .

خامسا : أن مجمل نشاط هذه التنظيمات وما استطاعت أن تقدمه للمجتمع المصري لم يتعد الفكر النظري المنقول عن مؤلفات لينين – وماركس – وستالين – وبعض المنشورات التي لا تخرج أفكارها عن هذه المؤلفات .

سادسا : أن عددا من المنضمين إلى هذه التنظيمات من المصريين المسلمين قد بهرتهم الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ولم يؤمنوا بالفكر المادي حيث دعوا إلى التمسك بتعاليم الإسلام مع اعتناقهم لفكرتي العمل الاجتماعي والاقتصادي إلا أن محاولة التوفيق بين بعض النظريات الماركسية وبين إسلام لم تجد لها واقعا ملموسا بين الغالبية العظمي من المسلمين .

الفصل الخامس : الجيش المصري وحادث 4 فبراير 1942م

الجيش المصري والحرب العالمية الثانية

لقد أصبح الجيش المصري هو حجر الزاوية في قضية الاستقلال وفقا لمعاهدة 1936 والتي نصت صراحة على أن خروج القوات البريطانية من مصر مرهونا ببلوغ الجيش المصري درجة الأهلية اللازمة للدفاع عن قناة السويس ولذا فلقد حرص الوفد على أن تكون هذه القوة الوطنية بعيدا عن سلطة القصر وتحكمه .

ولعل عهد الدفاع الأعلى وهيئة أركان الجيش وبمقتضي هذا القانون فقد أصبح رئيس الوزراء رئيسا لمجلس الدفاع الأعلى ووزيري الحربية والبحرية " نائبان للرئيس " وكل من وزير الأشغال ووزير المالية ووزير المواصلات ووكيل الحربية والبحرية ورئيس هيئة أركان حرب الجيش " أعضاء" ولم تذكر أية إشارة إلى الملك على الرغم من أن المادة 46 من الدستور تقضي بأن الملك هو القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية وهو الذي يولي ويعزل الضباط ويعلن الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات ويبلغها إلى البرلمان ولعل هذا الإغفال المتعمد كان له أكثر الأثر على تفاقم الصراع بين القصر والوفد.

ولما كانت معاهدة 1936 قد نصت صراحة على إلغاء كافة القيود الموضوعة على عدد القوات المسلحة المصرية فإن حكومة الوفد حرصا منها على أعداد جيش قوي فقد سعت إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للضباط الجدد وأمكن للوفد ولأول مرة أن يضم إلى الجيش شبابا من أبناء الطبقات الفقيرة وليس من قبيل المصادفة أن يكون في طليعة الأحرار. جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وغيرهم ممن ينتمون إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة , ولذا فإن هذه السياسة تعد حسنة كبيرة تؤكد صدق الوفد على الارتفاع بتلك القيمة الوطنية الكبيرة حيث سهل نمو التحرك الثوري في صفوف القوات المسلحة وأمكن للجيش ولأول مرة منذ الثورة العرابية بين أن يساهم بقدر كبير في النشاط السياسي لمختلف القوي والاتجاهات والتي تعمل لصالح القضية الوطنية .

وجريا على سياسة أبعاد الجيش عن مؤامرات القصر ودسائسه ولما كان يمين الجيش أولي المسائل التي تحتاج إلى تعديل لأن صيغة اليمين قد وضعت قبل الدستور ولذا فلم تشر إليه حيث تضمن : أقسم بالله أن أكون خادما مخلصا للملك مطيعا لأوامره الكريمة " فرأي الوفد تعديل هذا اليمن بهذه الصيغة : أقسم بالله العظيم وبشرفي العسكري أن أكون مخلصا للوطن ولحضرة صاحب الجلالة وقائد قواتها الأعلى وأن أكون مطيعا الدستور والقوانين الأمة المصرية . الخ.

وعلى ما يبدو فإن الملك فاروق كان على علم بما يهدف إليه الوفد وقد علقت صحيفة " البلاغ " على " يمين الجيش" في محاولة منها للوقيعة بين القصر والوفد فقالت " إن تمام الدستور في اليمين يتضمن إقحام السياسة في واجبات الجيش الذي تقتصر وظيفته فقط على الدفاع والطاعة فيما يصدر إليه من الأوامر وليس من وظائفه إقامة نظام سياسي معين والمحافظة على هذا النظام وحمايته .

ونظرا لأهمية الجيش وحرصا من الملك على أن يبقي تحت أمرته بعيدا عن أى منافسة فقد أعلن فاروق صراحة أنه لن يقبل تعديل اليمين بالشكل الذي رأته الوزارة.

وكان من الصعب على الحكومة أن تتراجع عن موقفها وتمسكت بالمشروع مما دفع فاروق إلى إلغاء الحفل الذي كان معدا لكي يحلف الجيش اليمين في اليوم الثاني لتولي الملك سلطته الدستورية وأن يؤدي وزير الحربية اليمين بالنيابة عن الجيش ولم يعجز فاروق عن توجيه الإهانة إلى الحكومة وذلك بدعوة جميع الضباط العاملين على اختلاف رتبهم إلى حفل شاي بقصر عابدين حيث أعلن بصريح العبارة عدم استغلال الجيش بالسياسة .

وظل هذا الوضع معلقا بين القصر والوفد حتى إقالة حكومة الوفد في نهاية 1937, ولم تستطيع حكومة محمد محمود إلا أن ترضخ لأوامر الملك ن وجودها في الحكم مرتبط بالرضاء الملكي وهكذا بقي يمين الجيش القديم كما هو عليه . وبصدد هذه الأزمة ورغبة من الوفد أن يضمن ولاء الجيش إلى الدستور والذي يعني من وجهة نظرهم – الولاء للوفد – باعتباره حزب الأغلبية فقد حرص النحاس على أن يقوم بالعديد من المحاولات بهدف الاتصال بالجيش لمعرفة هل يقف إلى جانبه في موقفه من السراي .

ولعل من الأمور الجديرة بالملاحظة أن حكومة الوفد حرصا منها على أهمية الجيش فقد عملت على تطويره سواء بزيادة عدده إلى ثلاث فرق قوامها خمسون ألف جندي أو باستخدام كل وسائل الدفاع الحديث أو بإيفاد البعثات العسكري إلى انجلترا بهدف الارتفاع بمستوي الأداء وعلى ما يبدو فإن تلك الآمال الكبيرة قد اصطدمت بالعديد من المؤثرات التي قد أعتقد الوفد أن معاهدة 1936 قد وضعت حد لها وأولي هذه المؤثرات هو القصر الذي لم يعجز عن اتخاذ الوسائل الكفيلة للحد من طموحات الوفد ثم البعثة العسكرية البريطانية التي كانت تمثل عقبة أكيدة في سبيل الارتفاع بمستوي الجيش حيث فرضت شكلا معينا للتسليح وخصوصا بعض الأسلحة التي لم تجد المصانع البريطانية لها أسواقا أخري غير مص أو بوضع نظام معين للتدريب يمثل عقبة أكيدة نحو ارتفاع الجيش سواء من حيث الكيف أو الكم .

ولعل عودة عزيز المصري لكي يشغل منصب مفتش عام الجيش خلفا لسبنكس باشا ( 11 يناير 1938 ) هي محاولة حادة لخروج الجيش المصري من تحت الوصاية البريطانية إلا أن البعثة العسكرية البريطانية كانت تمثل عقبة في سبيل أى محاولة ناجحة ولما كانت الحكومة المصرية قد تعاقدت على شراء سربين من طائرات القتال العسكرية من المصانع البريطانية فإن الحكومة البريطانية قد عادت لتعتذر بحجة أن الحالة الدولية تنذر بالخطر وأن مصانعها لا تستطيع في ذلك الوقت أن تكفي الجيش البريطاني حاجته من الطائرات .

وعندما قرر مجلس الدفاع البدء في وضع الرسومات اللازمة لبناء نواه لأسطول بحري مصري فإن البعثة العسكرية البريطانية قامت بوضع العديد من العقبات في سبيل تحقيق هذه الأمنية الوطنية .

ولعل عزيز المصري قد قدر منذ توليه رئاسة أركان الجيش العقبات التي تضعها البعثة العسكرية البريطانية ولذا فقد طرق الأبواب بما فيها الملك فاروق حيث التمس من جلالته أن يستغل نفوذه كقائد أعلي للجيش في الإسراع نحو إنشاء جيش قوي لأن الحوادث العالمية خطيرة وإذا لم تلعب فيها مصر دورها بجدارة وكفاءة فقدت حقوقها في الاستقلال والعالم لا يقر قيمة الأمم إلا بقيمة جيوشها .

ومن المؤكد أن كل الحكومات المصرية كانت صادقة في عزمها على الارتفاع بمستوي الجيش المصري وعملا بتلك السياسة فلقد أصدر علي ماهر قرارا في 31 أغسطس 1939 بإسناد رئاسة أركان الجيش إلى عزيز المصري ووفقا لرأي بعض المعاصرين فإن هذا القرار كان له أكبر الأثر على معنويات الضباط والجنود كان حافزا كي تتضافر الجهود تحقيق الغاية الوطنية على اعتبار أن عزيز المصري كان يمثل للضباط والجنود رمزا وطنيا كريما إلا أن البعثة العسكرية البريطانية كانت تسكك دائما في نوايا عزيز المصري متهمة إياه بانحيازه نحو ألمانيا نظرا لأنه قد درس الفنون العسكرية في ألمانيا وكان دائم الإعجاب بالعسكرية الألمانية وبمقدرة الألمان الفائقة على إعادة بناء جيشهم فلا عجب أن تمتلئ نفس السفير البريطانية وأعوانه غضبا على عزيز المصري.

وتشير الوثائق البريطانية إلى أن عزيز المصري يمثل عقبة أكيدة في العلاقات البريطانية المصرية وتنصح الحكومة البريطانية بطرده من رئاسة أركان الجيش حتى تتمكن البعثة العسكرية البريطانية من أن تؤدي دورها المنوط بها لأن عزيز المصري دائم النقد لكل ما تقدم البعثة على عمله ولأن إهانة البعثة أمر لا يمكن احتماله , وتشير نفس الوثيقة إلى ما يفهم من أن علي ماهر قد قطع وعدا على نفسه بطرد عزيز المصري إذا سبب نوعا من المصاعب سواء في طريق البعثة العسكرية البريطانية أو مع القوات البريطانية ووفق رأي السفير فإن عزيز المصري يعد أحدي صنائع ألمانيا وهو يمثل أمرا في غاية الخطورة .

والواقع أن هذا الاتهام لا يمثل قدرا من الحقيقة لأن مصر وألمانيا وجدتا نفسيهما تحاربان عدوا واحدا الأمر الذي خلق بالطبع رابطة ما بينهما بل أن بعض الضباط المصريين الذين كانت لهم اتصالات مع ألمانيا لم يكونوا موالين للنازية وإنما كانوا مناهضين للبريطانية وأن بعض الضباط المصريين الذين كانت لهم اتصالات مع ألمانيا لم يكونوا موالين للنازية وإنما كانوا مناهضين للبريطانية وأن بعض الضباط المصريين الذين كانوا يعملون لتحرير بلادهم لم يكونوا جميعا راغبين في العون الألماني فقد كان بعضهم من أمثال جمال عبد الناصر يخشون أنهم بالحماس لهتلر لأن يفعلوا أكثر من أن يستبدلوا المحتل الألماني بالمحتل البريطاني .

وبينما الخلافات قائمة بين البعثة العسكرية البريطانية ورئاسة أركان حرب الجيش المصري كان قائد القوات البريطانية ( جنرال ولسون) حريصا على إقامة علاقات طيبة مع الجيش المصري منه على تجنب أى خلافات مع القوات المصرية فقد اتبع طريقة عقد مؤتمر يومي يحضره بنفسه أو أحد كبار مساعديه مع كبار الضباط المصريين للاتفاق على الإجراءات اللازمة لتحقيق التعاون بين القوتين وبهذه الطريقة تم حل العديد من المشاكل من غير الرجوع إلى البعثة العسكرية أو إلى السفير .

ومن غير شك فإن الجنرال ولسون كان يقدر أهمية التعاون بين الجيش البريطاني والجيش المصري وأهميته على استقرار الأوضاع في الجبهة الداخلية وجريا على هذه السياسة فقد أستن فكرة اشتراك الجيش المصري مع الجيش البريطاني في التدريبات وقيامهما بمناورات مشتركة واشترك الضباط المصريون كأعضاء فخريون في ميس الضباط الانجليز ولعل كل هذه العامل قد قصد بها توثيق صلات التعاون التفاهم بين الجيشين .

ولعل الجنرال ولسون كان يؤمن بمبدأ التعاون مع القوات المصرية اعتقادا منه بأن سياسة اللين والتفاهم من الممكن أن تؤدي إلى تحقيق كل الرغبات البريطانية بلا أى تصادم أو خلافات يؤكد هذا موقفه من حادث 4 فبراير 1942 فقد علم به وهو في سوريا حيث يقول : لقد ذهلت وفزعت لأنني شعرت بأن كافة الجهود التي بذلتها في الأيام الأولي للحرب بهدف إقامة علاقات طيبة مع المصريين وضمان تعاونهم قد تبددت وكان من الممكن أن يكون لهذا الحادث ردود فعل خطيرة داخل الجيش المصري بسبب ما يتمتع به فاروق من شعبية وخصوصا وسط الضباط الشبان الناقمين على الوجود البريطاني في مصر .

ووفقا لهذا المبدأ فقد تمسك ولسون بوجهة نظره السابقة عندما أراد السفير البريطانية أن يعيد ما حدث في 4 فبراير 1942 حينما أراد فاروق أن يقبل وزارة النحاس في أوائل 1942 وكان من رأي وزير الدولة البريطاني المقيم في الشرق الأوسط مستر كايس " النصح بعدم اللجوء إلى القوة خشية تدخل الجيش المصري أو إغضابه وقواته تعاون الحلفاء في منطقة القتال وقال وزير الدولة أن الرأي العام العالمي سوف يفتقد حمايتنا بقوة السلاح لوزارة تحوم حولها الشبهات وأنه يفضل تنحيه الوزارة عن تنحية الملك فاروق .

وعلى الرغم من تلك النصائح إلا أن الحكومة البريطانية قد وافقت على إسداء النصح للملك فاروق على اعتبار أن إخراج النحاس في الوقت الحاضر يعتبر عملا يتعارض مع مصلحة مصر ومصلحة المجهود الحربي فإذا صمم الملك على إقالة الوزارة فإن على السفير البريطانية أن يهدد باستعمال القوة العسكرية .

ورأى القادة العسكريون ضرورة الاستعداد لمواجهة رد الفعل لدي الجيش المصري إذا ما دعا الحال إلى استعمال القوة ضد الملك , فإذا ما اقتصر الأمر على المقاطعة السلبية أو عدم التعاون فإن في استطاعة القوات البريطانية مواجهة الموقف أما إذا تطور الموقف إلى عداء مباشر فإن الأمر يختلف لأنه سوف يتطلب نزع سلاح القوات المصرية المسلحة .

ويبدو أن عزيز المصري رئيس أركان الجيش كان متيقظا لما يدبره الانجليز من محاولات أبعاد الضباط الشبان من الحياة السياسية واعتقادا منه أن الانجليز هم الأعداء الحقيقيون وأن عدة البلاد في التخلص منهم هم الضباط الشبان والجنود فقد اتخذ من السكنات حول القاهرة ومن مراكز الجنود مقرا لعمله وهجر مكتبه المعد له في وزارة الحربية وبدأ يبث روح التضحية والفداء داخل صفوف الضباط الشبان وليس صحيحا أن عزيز المصري قد عمل على إقامة تنظيم داخل الجيش وإنما كانت الكلمة سلاحه اللاذع الذي كان يعتمد عليه حيث انتشرت روح عزيز المصري وكلماته الصريحة في المعسكرات وبين الضباط والجنود وكأنها الكهرباء .

ويتحدث أحد الضباط عن عزيز المصري قائلا .. لقد كان للزيارات التي يقوم بها داخل الوحدات العسكرية أكبر الأثر في نفسي فقد شاهدت بعيني هذه الشخصية الاسطورية التي شاركت في الثورة التركية مع كمال أتاتورك كما كان أحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي وجمعية تحرير الأمة العربية هذا إلى جانب تاريخه الطويل الملئ بالكفاح وولعه بالثقافة والدعوة إليها .

ومن المؤكد أن بريطانيا قد أقلقها تعيين عزيز المصري رئيسا لأركان حرب الجيش بسبب طموحاته ومعلوماته العسكرية ومقدرته الفائقة على تنظيم وإعداد الجيش وهذا ما يتعارض تماما مع استراتيجية بريطانيا في مصر حيث يفقدها احدي حججها الهامة وهي مقدرة مصر على الدفاع عن نفسها وما يترتب على ذلك فقد من جلاء القوات البريطانية عن منطقة قناة السويس وفوق كل ذلك فقد كانت الدوائر البريطانية على علم بالعلاقات الوطيدة التي تربط عزيز المصري بالعديد من الشخصيات الألمانية وما كان يصرح به دائما من إعجابه الشديد بالعسكرية الألمانية ولعل كل هذه العوامل قد جعلت السفير البريطاني يطلب من الملك أبعاد عزيز المصري عن رئاسة أركان الجيش .

وتقوم فلسفة عزيز المصري في بناء الجيش على فكرة المشاركة الشعبية وخصوصا بعد أن تطورت أحوال العالم ولم تعد الجيوش عبارة عن وحدات متفرقة بل ويجب أن تكون الأمة كلها حاملة السلاح ويتعذر على المرء أن يتصور أن الجيش يستطيع أن ينهض في الميدان إلا إذا عبثت قوة الأمة بحيث يؤدي كل عضو في المجتمع دوره على الوجه الأكمل ووفقا للقانون رقم 100 لسنة 1939 فقد أنشئت القوات المرابطة بهدف أعداد مصر المستقلة لحمل رسالتها الجديدة بما يناسب العصر الحاضر وقد يخشي أن تعجز مصر عن القيام بواجب الدفاع عن النفس إذا هي ذهبت مذهب التقليد والنقل دون أن تراعي حالتها المادية وظروفها الاجتماعية والذي انتهي الرأي إليه هو إنشاء قوات مرابطة تكون أولي وظائفها أن تعفي الجيش العامل من كثير من المسئوليات والواجبات المحلية فتزداد بذلك القوة المقاتلة التي يمكن استخدامها في الميدان على أن ذلك ليس من شأنه أن يسقط عن القوات المرابطة ما يجب أن تؤديه من ضريبة الدم فإن عليها واجب النجدة للجيش العامل في الميدان وفوق كل ذلك فقد روعي في تكوينها عاملا في تربية الخلق القوي .

وعلى ما يبدو فإن الدوائر البريطانية قد انزعجت بسبب تلك الطموحات التي يتسم بها عزيز المصري ولعل من أولي مهام البعثة العسكرية البريطانية الحيلولة دون الارتفاع بمستوي الجيش المصري بالرغم من أن وجودها كان بهدف ارتفاع بمستواه ولم تعجز البعثة العسكرية عن وضع العديد من العقبات التي تحول دون انطلاقه عزيز المصري لترقية الجيش ورفع كفاءته ولم تجد السلطات البريطانية ذريعة للنيل من عزيز المصري إلا مسألة الميول الألمانية وهذه حجة الصفات بالعديد من المصريين لا لأن لهم ميولا ألمانية وإنما لأن لهم ميولا عدائيا ضد بريطانيا وبلا شك فإن وقع خروج عزيز المصري من الجيش كان له أكبر الأثر على مشاعر الضباط الصغار الذين كانوا يعلقون آمالا عريضة على شخصية عزيز المصري إلا أنه قد تأكد لديهم أنه لا أمل في أى نوع من الإصلاح طالما بقي الاحتلال متذرعا بحجة او بآخري .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن قرار الحكومة البريطانية بعزل عزيز المصري عن منصب رئيس أركان حرب الجيش قد سبب اضطرابا كبيرا لدي كل الدوائر السياسية والحزبية بل امتد الأثر إلى السودان حيث انتشرت موجة من الاضطراب بين السودانيين الذين ضايقهم عزل عزيز المصري .

ووفقا للوثائق الأمريكية أيضا فإن رئيس الوزراء المصري ( علي ماهر ) قد حاول نقل عزيز المصري لكي يتولي رئاسة الجيش المرابط إلا أن السفير البريطاني قد طلب صراحة أبعاد عزيز المصري عن أى موقع سياسي أو عسكري .

ووفق رواية بعض المؤرخين فإن عزيز المصري لم يكن يعمل لصالح الألمان لكنه كان يعتقد وهذه سذاجة سياسية منه أى الألمان يستطيعون مساعديه في تحرير مصر من الاحتلال البريطاني ويعتقد نفس المؤرخ أن الهدف من محاولة هروب عزيز المصري وصاحباه ( عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين ذو الفقار ) فقد كانت تراوده فكرة إنشاء جيش التحرير على غرار ما فعل ديجول بعد سقوط فرنسا .

ومن الصعب أن نميل إلى هذا الاستنتاج لأن من أولي المهام التي يبدأ بها أى قائد سواء في الأعداد لثورة أو غير ذلك من وسائل الكفاح هو إعداد تنظيم يعهد إليه بالقيام بتلك المهام وليس هناك ما يؤكد أن عزيز المصري كان صاحب تنظيم معين سواء داخل الجيش أو خارجه .

وعلى ما يبدو فإن عزيز المصري – وفق رواية أنور السادات – اتصل بالضباط الأحرار وطلب مساعدتهم لتمكينه من السفر إلى العراق حيث وصلته رسالة من الألمان يطلبون فيها سفرة لمعاونة رشيد علي الكيلاني في ثورته التي قام بها في العراق ضد الاحتلال البريطاني .

ومن المؤكد أن عزيز المصري لم يحاول ان يقوم بأعداد تنظيم سواء داخل الجيش أو خارجه ولعل مرجع ذلك إلى اعتماده على اتصاله المباشر بالضباط وتكرار نصائحه لهم بأعداد أنفسهم ثقافيا وفكريا وما يواكب ذلك من يقظة قومية سوف تؤتي ثمارها حتى ولو على المدي الطويل , وعندما عرض عليه أحد الضباط العمل على رأس لتنظيم أبدي عزيز المصري عدم موافقته قائلا ؟" أول درس أقوله لكم اعتمدوا على أنفسكم ولا تنتظروا أى رائد المبادرة يجب أن تأتي منكم أنتم – نابليون وصل إلى رتبة جنرال وكان زعيما ولعل عزيز المصري كان يعلم جيدا أن عيون الاحتلال ترقب كل خطواته وأن قيامه بإعداد تنظيم من نوع ما سوف يكون مصدر خطر حقيقي على الحركة الوطنية داخل الجيش وإذا اقتصر دوره على النصائح العامة وبث الروح الوطنية لدي الضباط الشبان .

والحقيقة أن موقف الجيش المصري من بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية كان يتسم بنوع من التناقض حيث كان الضباط ذوي الرتب الكبيرة من أعوان الانجليز في جملتهم وكان الانجليز يحسنون الرأي فيهم حيث يشير ولسون ( قائد القوات البريطانية ) بالخدمات الجليلة التي أداها إبراهيم عطا الله ( رئيس أركان حرب الجيش المصري والذي خلف عزيز المصري ) ويري أنه لو لا عطا الله أحدثت أحداث خطيرة وكبيرة داخل الجيش المصري نتيجة حادث 4 فبراير والميجور سانسوم رئيس المخابرات البريطانية يذكر أن حجازي مدير المخابرات العسكرية كان متعاونا مع السلطات البريطانية إلى حد كبير .

أما موقف الضباط الصغار والذين دخلوا الجيش بعد سنة 1936 فقد كانوا بحكم أصولهم الاجتماعية عناصر وطنية شديدة الحماس لقضية وطنهم كارهون للاحتلال ولا يمكن أن غفل تأثير عزيز المصري على هؤلاء الشباب .

وما من شك في أن حادث 4 فبراير في مصر وحركة رشيد علي الكيلاني في العراق يعطيان أكبر الدلالات بالنسبة إلى المستقبل حيث كان يعتقد الانجليز أن مصر والعراق دولتان متحالفتان مع انجلترا ضد دولتي المحور وان القوات البريطانية التي أسقطت ثورة رشيد علي الكيلاني وأرغمت ملك مصر على قبول النحاس رئيسا للوزارة قد ساندت " المخلصين " " ضد الأقليات" " الخائنة" مستهدفة صالح العرب والمصريين الانجليز على قدم المساواة والحقيقة أن العرب بوجه عام والمصرين بوجه خاص قد نظروا إلى هاتين الحادثتين نظرة مخالفة فقد رأوا في الحرب العالمية نضالا بين الاستعماريين يبغي كل منها الاستحواذ على بلادهم واستغلال مواردها وقد وجد في مصر معسكرات يختلف كل منهما عن الآخر حول الوسائل لا الأهداف وكلاهما يبغي تحقيق الاستقلال عن انجلترا على حين أن أحد المعسكرين كان يري أن خير وسيلة لتحقيق هدفه هي التعاون مع انجلترا فغن المعسكر الآخر اختار التعاون مع دولتي المحور وبينما كان جمال عبد الناصر يقوم بحراسة مؤخرة القوات البريطانية في العلمين كان أنور السادات يتخابر لصالح الألمان ضد بريطانيا و لا يمكننا أن نتهم جمال عبد الناصر بأنه يناصر بريطانيا وفي الوقت نفسه فلا يمكن أن نتهم أنور السادات بالعمالة لألمانيا وببساطة شديدة فإن كلا منهما يعتقد أنه يعمل لصالح بلاده .

وعندما تأكد للسلطات البريطانية أن هناك شعورا معاديا ضد الموجود البريطاني يعم الجيش المصري ولما كانت القوات المصرية تقوم بحراسة مؤخرة القوات البريطانية في الصحراء الغربية فقد صدرت الأوامر بانسحاب هذه القوات وتسليم أسلحتها إلى القوات البريطانية ( نوفمبر 1940) إلا أن هذا القرار ووجه بحركة تذمر واستنكار داخل الجيش المصري مما كان سببا في السماح للقوات المصرية بالانسحاب مع الاحتفاظ بأسلحتها .

ولقد راودت الضباط الشبان في ذلك الوقت فكرة القيام بثورة تستولي على طرق المواصلات وقطع كل خطوط الاتصال أمام القوات البريطانية والمطالبة بتسليم علي ماهر زمام الحكم إلا أن تنظيم الضباط لم يكن قد وصل إلى درجة تمكنه من الإقدام على هذه الخطوة حيث كان تجمع الضباط ما يزال في مرحلته الأول وإذا كانت الأهداف الوطنية قد تحددت فإن الزعم الذي يجب أن يجسد تلك الأهداف لم يكن قد ظهر بعد واقتصرت الخطة على جمع الرجال من ذوي الضمائر الحية اعتقادا بأن أى عمل ناجح لابد من أن يبدأ بفكرة ناجحة أيضا .

وتأكدت المخابرات البريطانية أن هناك حركة استياء تعم الضباط لكن لم يكن هناك من الأدلة المادية ما يقوم دليلا على إدانتهم .

ولذا اقتصرت بريطانيا على تنقلات الضباط وتشتيتهم بحيث يصعب إيجاد أى نوع من التفاهم بينهم ولعل هذا الأسلوب لم يقض على الحركة وإنما كان عائقا أدي إلى تأخيرها لسنوات طويلة.

ردود فعل 4 فبراير على الجيش

في جميع الأزمات التي مرت بمصر كانت للحكومة البريطانية تأخذ في الاعتبار موقف الجيش المصري إلى جانب موقف الرأي العام عندما طلبت بريطانيا مصر بإعلان الحرب على دولتي المحور قالت أنها تقدر الأهمية البالغة للقوات المسلحة المصرية وعندما نصحت بتغيير وزارة علي ماهر على أن تجئ الوزارة الجديدة حائزة لولاء الجيش وعند الاستعداد لمحاصرة قصر عابدين يوم 4 فبراير احتفظت السلطات العسكرية بأسرار العملية إلى ساعة الصفر واتخذت جميع الاحتياطات لك لا يقع تصادم بين الجيش المصري والقوات البريطانية .

ولقد كان معظم الضباط يعقدون أمالا كبيرة على حزب الوفد باعتباره الحزب الذي قاد حركة الكفاح الشعبي ضد الاحتلال البريطاني والذي وقف في صلابة وحزم ضد تسلط الملك فؤاد وعبثه بالدستور لكن ذلك الأمل لم يلبث أن خبا عقب أحداث 4 فبراير 1942 حيث أحدثت مظاهرة السفير البريطاني العسكرية ودعايات أحزاب الأقلية أكبر إساءة إلى الوفد وأصبح هذا الحادث نقطة سوداء في تاريخه يطعنه عن طريقها أعداؤه ويلطخون بها صفحة كفاحه ولعل هذا قد أحدث تحولا كبيرا في مشاعر الضباط أدي إلى التفافهم حول الملك الذي نجح وقتئذ في الظهور بصورة البطل المناضل الذي جابه وحده سطوة الاحتلال علاوة على ما أحس به الضباط من شعور بالمهانة حيث اعتبروا عدوان على شرفهم العسكري ولذا كانت النتيجة الحتمية هي ابتعاد الجيش عن الوفد .

ويمكن معرفة انعكاسات 4 فبراير على صفوف الضباط الصغار من خلال مراسلات جمال عبد الناصر في هذه الفترة , وعقب وقوع الحادث كتب إلى أحد أصدقائه قائلا ؟ أني أشعر بخزي وعار شديدين لأن جيشنا سكت على هذا الاعتداء وارتضاء ولكني مسرور على كل حال لأن ضباطنا كانوا يشغلون وقت ذراعهم بالحديث عن المتع والسهرات ولكنهم بدوا يتحدثون عن الانتقام والثأر ولو أن الانجليز قد أحسوا أن بعض المصريين ينون التضحية ويقابلون القوة بالقوة لانسحبوا كأى امرأة من العاهرات .

ومن المؤكد أن الانتقام والثأر الذي كان يعنيهما جمال عبد الناصر لم يكونا من أجل فاروق بل من أجل مصر على اعتبار أن الاعتداء على ملك مصر يعد اعتداء على السيادة المصرية ويلاحظ أن هذا المعني لم يكن خافيا على السفير البريطاني والذي كتب إلى حكومته يوم 10 فبراير قائلا : أبلغني الجنرال ستون قائد القوات البريطانية في القاهرة أن حادث 4 فبراير قد أحدث قدرا كبيرا من الاستياء في الجيش المصري لأن الاعتقاد السائد لدي الضباط أن ثمة إهانة لحقت بمصر عن طريق فرض القوة على الملك .

ويبدو أن السلطات البريطانية كانت تقدر موقف الجيش المصري وهو ينشر ليس فقط في قطع الاتصال بين سكنات الجيش المصري في ألماظة وبين قصر عابدين بل كذلك في تحديد الأسلوب والتوقيت لعملية محاصرة قصر عابدين فمن الواضح إن السلطات البريطانية في القاهرة كانت تري أهمية قصوي في إتمام العملية بسرعة وبشكل مباغت ومن المؤكد أنه روعي عدم الاصطدام بالجيش ولعل هذا ه الذي تطلب أن تكون العملية على كل هذا القدر من السرية إلى جانب السرعة والمباغتة . لكن جانبا هاما من العملية كان الخوف من تحرك الجيش المصري الذي سيلازمه بالضرورة ثورة وطنية شعبية قد يضطر الانجليز إزاءها ليس فقط إلى ضرب حركة الجيش المصري بل إلى اعتبار مصر أرضا محتلة الأمر الذي سيغير تماما من استراتيجية القوات البريطانية في المنطقة ويضاعف من مشاكلها .

وفي الوقت الذي بدأ فيه الضباط يتناقلون فيما بينهم أحداث هذا اليوم وبناء على أوامر الحكم العسكري العام امتنعت كل الصحف عن نشر ما يشير إلى هذا الحادث ولو من بعيد إلا أن صحيفة المانشتر جارديان كتبت تقول : أن الضباط الشبان يعتقدون أن ما حدث كان امتهانا لكرامتهم ولعزتهم الوطنية ونصحت الصحيفة الحكومة البريطانية بأن تعالج الموقف بسعة صدر وبروح جديدة يتفقان مع مقتضيات التحول الجديد في الأفكار المصرية .

ولعل من الملاحظ أن الأمر لم يقتصر على مجرد أحاديث يتناقلها الضباط بل تخطي الغضب مرحلة الإحساس إلى الأقدام على خطوات عملية حيث تقدم الضباط محمد نجيب ( أول رئيس الجمهورية ) باستقالته من الجيش بالرغم من علاقته الوطيدة بحزب الوفد حيث ذكر في استقالته حيث أني لم أستطع أن أحمي مليكي وقت الخطر فإني لا خجل من ارتداء بذلتي العسكرية والسير بها بين المواطنين ولذا أقدم استقالتي.

وتحت ضغط الملك فاروق ونزولا على راي العديد من الضباط اضطر محمد نجيب إلى سحب استقالته .

ووفقا للمصادر قريبة الصلة بالقصر فقد توجه وفد من ضباط القوات المسلحة إلى قصر عابدين عقب وقوع الحادث وقابلوا رئيس الديوان ( حسنين باشا ) وأعربوا له عن استعدادهم للثأر من المسئولين عن محاصرة القصر بالدبابات وقد أثناهم رئيس الديوان عما يفكرون فيه وناشدهم الهدوء وقد قدر الملك هذا الشعور ولذا فقد حرص على أن يمضي يوم 4 فبراير من كل عام مع الضباط في ناديهم .

وتشير الوثائق الأمريكية وفقا لمصادرها الخاصة داخل الجيش إلى أن نتائج 4 فبراير قد أحدثت ردود فعل متباينة فبينما يري الضباط الكبار أن القضية تقتضي قدرا من التعقل في معالجتها إلا أن الضباط الصغار يحسون بمرارة شديدة ويعقدون العديد من الاجتماعات السرية داخل الوحدات وهو أمر يعد غاية في الخطورة .

وبلا شك فقد كان تأثير هذا الحادث على المصريين عموما وعلى الضباط على وجه الخصوص ساحقا ووفق العديد من الروايات فإن هذا الحادث كان له تأثير الكهرباء وسط الضباط حيث قرر أحدهم ( جمال عبد الناصر ) ألا تتجرع مصر كأس الذل مرة أخري بهذه الطريقة , ويرجع البعض بداية حركة الضباط الأحرار كحركة متكاملة إلى اللحظة التي سددت فيها أول دبابة بريطانية مدفعها إلى قصر عابدين فلم يعد للضباط من حديث سوي الحرية وكرامة بلادهم المطعونة وبدأ عبد الناصر يخطط الثورة 23 يوليو .

وتكاد تجمع الآراء على أن ما حدث في 4 فبراير كان هو الدافع الأقوى إلى تحريك الثورة الوطنية داخل الجيش وبدأ قيام التنظيمات السرية بين الضباط والتي كان من بينها تنظيم الضباط الأحرار كما أن هذا الحادث يعد أقوي ضربة وقعت على رأس حزب الأغلبية الشعبية وكان فقدان حزب الوفد لقوته وسلطاته الوطنية وزعامته الشعبية أكبر الثر في اهتزاز النظام السياسي الذي كان يحكم مصر.

وأخذ الضباط يبحثون عن منفذ يمارسون من خلاله نشاطهم الوطني بعد أن فقدوا كل أمل في الأحزاب التقليدية التي اهترأت بسبب خلافاتها المستمرة وصراعها على الحكم ووجد الضباط ضالتهم في الجماعات الجديدة والتي بدأت تأخذ لها موقعا على مسرح السياسة المصرية والتي كانت وقتئذ تحاول اجتذاب الجماهير بمبادئها المتطرفة سواء اليمينية أو اليسارية ولعل أشد الدعوات نجاحا في اجتذاب الضباط هي جماعة الإخوان المسلمين فإنها بتنظيمها الهرمي الذي يقف المرشد العام على قمته وبجناحها العسكري الذي يضم العسكريين وبجهازها السري للقيام بالعمليات الخاصة كل هذا وجد فيه الضباط شيئا غير بعيد عن النظام العسكري الذي اعتادوه علاوة على أن الشيخ البنا كانت لديه مقدرة فائقة على اجتذاب الجماهير وعلى ضم الضباط إلى الجماعة من خلال أحاديثه عن علاقة الدين بالوطن وكان في مقدمة من انضم من الضباط إلى الجماعة ثمانية من أعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار وهم جمال عبد الناصر عبد المنعم عبد الرؤوف عبد الحكيم عامر كمال الدين حسين عبد اللطيف البغدادي حسن إبراهيم خالد محيي الدين صلاح سالم .

ومن المؤكد أن مجموعة الضباط قد اكتسبت خبرة وأصبحت أكثر مقدرة على مزاولة نشاطها بعد لقائها بالشيخ البنا حيث قدمت لجنة الجنود الأحرار بالجيش ولأول مرة تقريرا إلى الملك ( ديسمبر 1942 ) يعبر عن مدي تأثرهم بفساد الحياة الاجتماعية والأخلاقية ومن ثورتهم على انتهاك الجنود البريطانيين لحرمة الفتاة المصرية بما يتناقص تماما مع الشريعة الإسلامية وطالبت اللجنة بعدة مطالب كان من بينها :

أولا: بث الروح الوطنية بين أفراد الجيش المصري ضد المحتل البريطاني .

ثانيا: مقابلة الاعتداء بالاعتداء عملا بالآية الكريمة " ومن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم ".

ثالثا: القبض على أى فتاة مصرية تسير مع أى جندي بريطاني .

رابعا : إلغاء معاهدة 1936 باعتبارها أساس كل الشرور التي لحقت بالوطن .

وعلى الرغم من أن علاقة الضباط بالشيخ حسن البنا قد سبقت أحداث 4 فبراير إلا أن هذا الحادث قد ضاعف من سخط الضباط على البريطانيين وزاد من حماستهم للثورة ودفعهم إلى أن يعرضوا على الشيخ حسن البنا خطة ترمي إلى إبادة الجيش البريطاني العائد من العلمين إلا أن حسن البنا لم يكن يملك القوة الكافية لتنفيذ الخطة وقد يكون هذا من بين الأسباب التي دفعت الضباط إلى الاعتماد على أنفسهم بعيدا عن أى قوة أخر .

ولم يقتصر عمل الضباط على محاولة التنسيق مع الإخوان المسلمين وإنما كانت في مظاهرتهم التي قاموا بها قصر عابدين يوم 11 فبراير 1942 أكبر دليل على رفضهم واستناركهم لما حدث حيث تجمع الضباط والجنود وساروا إلى قصر عابدين وهم يهتفون بحياة الملك والوطن .

واجتمعت الجمعية العمومة للضباط بناديهم في الزمالك ليتشاورا في الأمر وليقرروا ماذا يفعلون إزاء تلك الأهانة التي لحقت بالوطن وأسفرت مناقشتهم عن التوجه لسراي عابدين وتسجل أسمائهم في سجل التشرفات إثباتا لولائهم للملك وتعبيرا عن مساندتهم له . وفي أثناء الاجتماع تقدم عبد اللطيف البغدادي باقتراح عمل خلايا سرية من ضباط الجيش تكون مهمتها قتل كل سياسي ينحرف أو يخون البلاد ويعترف – البغدادي – بأنه كان متأثرا بما قرأه عن مثل تلك التنظيمات السرية التي كانت موجودة داخل الجيش الياباني في ذلك الوقت ولكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض الشديد من الضباط ذوي الرتب الكبيرة ومن المؤكد أن هذا الموقف من البغدادي لم يكن ينم عن إدراك سياسي كامل لأن الإعلان عن قيام تنظيم تقتصر مهمته على الاغتيالات السياسية أمر من السهل القضاء عليه لأن مثل هذه الأعمال تقتضي قدرا كبيرا من السرية ودقة كاملة في التخطيط ولذا فإن رفض الضباط الكبار لهذا الاقتراح يتسم بقدر كبير من التعقل .

ويمكننا القول .. أن حادث 4 فبراير قد أثار حالة من الغليان الشديد داخل الجيش المصري وتشير الوثائق البريطانية إلى : أن عددا كبيرا من الضباط قد أخذوا مسألة 4 فبراير على أنها إهانة خطيرة لحقت بالكرامة المصرية وبدت العديد من التجمعات داخل الجيش بهدف القيام بمظاهرة معادية للسفارة البريطانية إلا أن كبار الضباط قد استطاعوا السيطرة على الموقف وقرر – حمدي سيف النصر – نقل بعض الضباط الصغار من القاهرة إلى بعض الأماكن النائية .

وتشير الوثائق البريطانية أيضا غلى زعماء تلك الاضطرابات وهو للقائمقام عقيد أحمد فؤاد صادق ( قائد الجيش المصري في حرب فلسطين ) والثاني الاميرالاى محمد كامل الرحماني أول مدير للإذاعة بعد الثورة والثالث هو الأميرالاي حمدي طاهر . ويبدو القلق واضحا من خلال ما كتبه العسكريون البريطانيون ووفق ما ذكره لورد ويلسون أن ردود الفعل التي أعقبت حادث 4 فبراير تؤكد أن أوضاعنا العسكرية تتعرض لمخاطر أكيدة ولابد من معالجة الموقف بأسرع ما يمكن .

ولعل هذا الإحساس قد تملك الدوائر الأمريكية في القاهرة حيث يشير السفير في احدي رسائله إلى حكومته قائلا: لقد أسديت نصيحتي في سرية السفير البريطانية بأن هناك معلومات مؤكدة تشير إلى وجود مخطط داخل الجيش بهدف أحداث نشاطات تدميرية ضد الحلفاء وأن هذا الموقف جاء ردا على سياسة بريطانيا التي طالما حذرنا منها في 4 فبراير 1942 .

وهكذا كان حادث 4 فبراير سببا كافيا لنمو المشاعر الثورية داخل الجيش وكان بداية انهيار الشعبية الكاسحة التي يتمتع بها حزب الوفد والذي كان يعد أمل الأمة المصرية في نظر الكثير من الضباط ولذا فإنني أميل إلى الرأي القائل بأن بداية التكوين الفعلي لحركة الضباط الأحرار كان عقب 4 فبراير 1942 حيث بدأ عبد الناصر يضع أول الخطوات الجادة نحو أبراز التنظيم إلى واقع عملي ولم تخدعه الوعود الكاذبة التي كانت تطلقها بريطانيا من حين لآخر من أن مصر ستحصل على استقلالها عقب انتصار الحلفاء .

وتنبه الضباط الذين كانوا قبل عام 1943 يعتمدون على ألمانيا لطرد انجلترا من مصر إلى أن قوة انجلترا ستظل قائمة بعد الحرب بفضل أمريكا وبينما هب السياسة المصريون إلى نجدة الحلفاء وراحوا يطالبون بالاستقلال التام مكافأة لتعاونهم لم يستسلم العسكريون لتلك الوعود وإنما بدأوا يعدون أنفسهم لتولي مقاليد البلاد بعد أن اعترت أمامهم كل الأحزاب السياسية وراحت تتنافس وتتناحر ليس من أجل الوطن وإنما خدمة وتملقا للمحتل .

وبصدد الحديث عن 4 فبراير والجيش يتحدث جمال عبد الناصر فيقول عقب 4 فبراير 1942 كان علينا أن نعمل عملا وطنيا وذهبنا إلى عزيز المصري وكان معي كمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر وطلبنا منه النصيحة ... فقال الثورة ومن هنا كان الأمل الذي صممنا عليه وتعاهدنا على المضي من أجله إلى آخر الطريق .

ولما كان الاستياء موجها إلى الوفد والانجليز معا فقد قام النحاس بأكبر حركة اعتقالات داخل الجيش وصفتها تقارير السفير الأمريكي بأنها محاولة من الوفد لإحداث حالة من " التخويف " داخل القوات المسلحة المصرية .

ويبدو أن بعض الضباط قد خرجوا على التقاليد العسكرية المتبعة لدرجة أن الأميرالاي أحمد فؤاد صادق قد تقدم بعريضة اتهام ضد وزير الدفاع ( حمدي سيف النصر ) متهما إياه بما يأتي :

أولا : لقد حرصت جميع الحكومات على إبعاد الجيش عن السياسة وعدم الزج به في الحزبية ولكن سياسة وزير الدفاع دفعت بصولات الجيش إلى دخول النادي السعدي والتحدث في السياسة بما أعزي ضباط الصف بالتمادي في هذا السبيل .

ثانيا : أن الحكومة قد استطاعت استقطاب بعض الضباط ضعاف النفوس وقربتهم ومنحتهم الامتيازات والعلاوات بالرغم من أنهم أقل كفاءة من زملائهم لا لشئ إلا بهدف الزج بالجيش في السياسة .

ثالثا: لقد جرت التقاليد على عدم نقل كبار الضباط الحائزين على رتبة اللواء إلا بعد موافقة القصر ولكن حمدي سيف النصر نقل محمد زكي الحكيم مدير الحدود وعلي حسنين الشريف مدير القرعة كلا منهما مكان الآخر دون الرجوع إلى القصر.

رابعا : لقد عرض على الوزير كشفا بأسماء طائفة من الضباط طلب الانعام عليهم بنياشين بمناسبة عيد جلوس الملك ( يوليو 1942 ) ولكن الوزير اعترض على بعض الأسماء وانتهي الأمر بحرمان الجيش من عطف الملك .

خامسا : انتدب الوزير نجله " فوادي حمدي " للخدمة في إدارة الجيش على أن يظل في مركزه بسلاح الفرسان الملكي والغرض من ذلك هو الحصول على علاوة انتداب .

ولعل حكومة النحاس في محاولة منها لتهدئة المشاعر الثائرة داخل الجيش قد وقعت في العديد من الأخطاء التي ضاعفت من حركة الاضطراب في صفوف القوات المسلحة ووفق المصادر البريطانية فإن القصر كان وراء حركة التذمر في صفوف الجيش وأن حكومة الوفد لم تستطيع السيطرة الكاملة على الجيش ومن المؤكد أن القصر وراء كل هذه الاضطرابات وأن الضباط أحمد فؤاد صادق لا يستطيع أن يستمر في حملته بدون مساندة القصر .

ومن المؤكد أن النحاس باشا كان أشد ما يخشاه هو حدوث ردود فعل داخل الجيش تؤدي إلى تقلص شعبيته وبدلا من أن يعالج الموقف بأعصاب هادئة ألا أنه قد أقدم على اعتقال الضابط صاحب عريضة الاتهام ( أحمد فؤاد صادق ) والبكباشي " محمد كامل الرحماني " وبالرغم من أن الأول قد ساءت حالته الصحية لدرجة كبيرة وحدث له تسمم في الدم مما دفع الدكتور هيكل إلى أن يثير قضيته في مجلس الشيوخ إلا أن النحاس قد انبري بدافع قائلا : أن حالة الضباط على خير ما يرام وليس هناك ما يستحق الاستجواب وذلك في الوقت الذي قرر فيه الأطباء أن حالة المريض خطيرة ويجب نقله فورا من معتقل المنيا إلى القاهرة للعلاج ولما كان الدكتور هيكل يحتفظ بصورة قرار الأطباء فقد ذهب إلى الحاكم العسكري " النحاس باشا " وقال له : " لولا أنني أخشي تعريض حياة الضابط للخطر بإضافة الوقت لأريت المجلس ما تحت يدي من المستندات الرسمية التي تنفي تصريحك هذا فاستمهله النحاس حتى ينقل المريض إلى المستشفي بالقاهرة ولكنه نقله بمستشفي الأحداث بالجيزة حيث بقي بها تسعة أشهر .

ولما أراد الضابط أن يكتب برقية تهنئة إلى الملك بمناسبة عيد جلوسه رفضت الحكومة وبقي فؤاد صادق في الاعتقال ثلاث عشر شهرا دون أن يصرف له ما يستحقه من المعاش مما اضطره إلى كتابة برقية إلى الحاكم العسكري يقول فيها عندما اعتقل رفعتكم في سيشل كان الانجليز يصرفون لك ماهية شهرية للإنفاق على نفسك وأسرتك فأرجوا أن تعاملني كما كان يعاملك الانجليز أو أن تعاملني كما تعامل أحمد حسين الذي تسكنه هو وعائلته في منزله وتنفق عليه .

وبقي هذان الضابطان مدة اعتقالهما ( 23 شهرا ) لا يصرفان مليما واحدا ومرض محمد كامل الرحماني أيضا وبدلا من أن ينتقل إلى المستشفي أنول في معتقل الزيتون حيث بقي شهرين ثم اضرب عن الطعام والشراب حتى أوشك علي الموت فنقلوه إلى مستشفي صيدناوي ليعال وإذا كان هناك من ينفي عن النحاس مسئوليته في 4 فبراير بحجة أنه لم يكن يعلم بنية الانجليز فإن الإجراءات التعسفية التي لحقت ببعض ضباط القوات المسلحة المصرية من جراء سياسة النحاس تعد خطأ لا يغتفر . وفي الوقت الذي أقدمت عله حكومة 4 فبراير من اعتقال كل من تحوم حوله الشبهات من ضباط الجيش فقد أصدر الحاكم العسكري العام عفوا عن عزيز المصري وصاحباه – عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين ذو الفقار – ولعل القصد من وراء هذا العفو كان ترضية الضباط لما كان يتمتع به عزيز المصري من شعبة واسعة وسط ضباط الجيش ومع أن هذا الإجراء قد استقبلته الجماهير استقبالا طيبا إلا أنه افتقد إلى الشرعية حيث كانت إجراءات المحاكمة ما تزال مستمرة ولذا فقد كان هذا الإجراء موضع تساؤل داخل البرلمان وانبري النحاس مفندا أمر العفو العام بحجة أن المحاكمة التي طالت شهورا قبل أن تبدأ في صميم التهمة والتي كانت مسرحا لكثير من المناورات السياسية التيلبست ثوب القانون , وأن تلك المحاكمة قد شغلت الرأي العام أمدا طويلا وسياسة الوفد هي تهدئة المشاعر من هنا كان قرار العفو العام أما عن الاضطرابات التي وقعت في سلاح الطيران عقب فبراير فيؤكد النحاس باشا عدم وجود أى نوع من العلاقة بينها وبين موضوع عزيز المصري وإنما أرجع هذه الاضطرابات إلى عوامل متصلة بالجاسوسية الألمانية وقت أن اشتد ضغط قوات المحور حتى وصلت إلى العلمين في يوليه 1942 . فلقد اعتقد هؤلاء أن المغيرين على الأبواب فأرادوا أن يثبتوا وجودهم فكان أن وقع حادث الضابط الطيار ( 7 يوليه 1942 ) وحادث زميله " الصول " الطيار ( 8 يوليه 1942 ) أى بعد وصول قوات المحور إلى العلمين بأسبوع واحد ويؤكد النحاس أن لدي المحكمة من المعلومات ما يدل على أن الصول الذي هرب بطائرته كان يعمل لحساب المحور وقد عثر على طائرته بمرسى مطروح .

ووفق مضابط مجلس النواب فقد تقدم النائب عبد السلام الشاذلي بعدة استجوابات :

أولا : موقف الحكومة من الاضطرابات التي وقعت داخل سرح الطيران .

ثانيا : اضطهاد الحكومة لضابطين من أكفأ الضباط – فؤاد صادق – كامل الرحماني – وفصلهما ثم اعتقالهما بلا تحقيق بسبب ما أقدما عليه الضابطان من التقدم بشكوي إلى رئيس الحكومة . والغريب أن النحاس قد دافع عن سياسة الحكومة تجاه الجيش مؤكدا حرص الحكومة على أن يظل الجيش فوق الخصومات السياسية ويشير النحاس من طرف خفي إلى وجود علاقة بين هذين الضابطين وبين القصر ( وأن لم يعلن هذا صراحة) .

وإذا كان هناك من ينفي عن النحاس مسئوليته في 4 فبراير بحجة أنه لم يكن يعلم بنية الانجليز فإن الإجراءات التعسفية التي لحقت ببعض ضباط القوات المسلحة المصرية من جراء سياسة النحاس تعد خطأ لا يغتفر وفي الوقت الذي أقدمت عليه حكومة 4 فبراير من اعتقال كل من تحوم حوله الشبهات من ضباط الجيش فقد أصدر الحاكم العسكري العام عفوا من عزيز المصري وصاحباه – عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين ذو الفقار – ولعل القصد من وراء هذا العفو كان ترضية الضباط لما كان .

ومما يدل على موقف الجيش المصري من أحداث 4 فبراير ما نشر في الأهرام ( 7 فبراير 1942) وهو كما يلي : " لقد تأجلت الحفلة التي كانت ستقام اليوم في نادي ضباط الجيش بالزمالك لتوديع الجنرال ستون إلى موعد سيعين فيما بعد ولم تقم الحفلة ولعل فيما حدث في 4 فبراير كان من أهم العوامل التي دفعت حركة الضباط إلى التنسيق مع المخابرات الألمانية حيث أرسل الألمان أحد جواسيسهم إلى القاهرة ورأت لجنة الضباط الأحرار تكليف أنور السادات وحسين عزت بالاتصال بالجاسوس الألماني .

ولعل الضباط قد راودتهم فكرة القيام بحركة عسكرية بهدف الانقضاض على القوات البريطانية العائدة من العلمين وخصوصا وأن الهزائم المتتالية التي أنت تلحقها قوات المحور بالحلفاء على الجبهة الغربية في هذا الوقت شجعت الضباط على التفكير فيما هو أبعد من ذلك وهو إسقاط حكومة النحاس والمجئ بعلي ماهر رئيسا للحكومة .

ويبدو أن الهزائم المتكررة لقوات الحلفاء قد فتحت باب الأمل أمام الضباط للقيام بحركتهم وخصوصا عندما سقط شطر كبير من الشرق الأقصى في أيدي اليابان وكان الموقف في الصحراء الغربية غاية في التدهور حيث أخذ روميل يتقدم في الأراضي المصرية وأخذت القيادة البريطانية تعد العدة للجلاء عن مصر وقامت بحرق أوراقها ووثائقها العسكرية وطلب السفير البريطاني من الحكومة المصرة الاستعداد لمغادرة البلاد في أى وقت .

ومن المؤكد أن الضباط أرادوا أن يستغلوا تدهور الأوضاع العسكرية لصالح القضية الوطنية إلا أن عبد الناصر كان مترددا خشية أن يستبدل المحتل الألماني بالمحتل البريطاني ووفق التنسيق القائم بين الضباط والإخوان المسلمين فقد ذهب أنور السادات إلى حسن البنا وأفضي إليه أن ساعة الصفر قد حانت وأن الضباط قد تدارسوا الموقف بالتنسيق مع الألمان إلا أن حسن البنا قد تردد في الأمر ثم قرر الانتظار لأن الحرب لم تحسم بعد.

وعلى ما يبدو فإن ساعة الصفر كانت وقت دخول الألمان الإسكندرية وبما أن هذا لم يحدث فقد بدأ الضباط يتدارسون الموقف على ضوء التطورات الجديدة والتي بدأت تشير إلى تغيير الموقف العسكري لصالح الحلفاء وعلى ضوء كل ما ذكرنا يمكننا أن نستخلص بعض النتائج :

أولا : أن حادث 4 فبراير قد أيقظ الشعور الوطني لدي الغالبية العظمي من الشعب المصري .

ثانيا : أن حالة الغضب التي شملت الضباط لم تكن بسبب الإهانة التي لحقت بشخص الملك وإنما لأن الملك هو رمز الأمة وإهانته تعد إهانة لمصر كلها .

ثالثا : أن حادث 4 فبراير يعد البداية العملية لتنظيم الضباط الأحرار .

رابعا : لقد حاول الضباط التعاون مع كل القوي المعادية لبريطانية سواء الداخلية منها أو الخارجية " ألمانيا "

خامسا : لقد كان هذا الحادث نهاية الشعبية التي كان يتمتع بها الوفد داخل الجيش .

حركة الضباط الأحرار

إن التاريخ لحركة الضباط الأحرار من المسائل التي تبدو في غاية الصعوبة نظرا لعدم توفر لوثائق الرسمية التي تمكن الباحث من الوصول إلى الحقيقة من أقصر الطرق ومما يزيد الأمر تعقيدا تضارب العديد من روايات المعاصرين بما فيهم أعضاء حركة الضباط الأحرار إلا أن هذا التضارب والاختلاف في الروايات لن يثنينا عن غايتنا إيمانا منا بأن القضايا كلما افترقت الآراء والمذاهب حولها كلما بدت مهمة الباحث أكثر أهمية وعلى ضوء هذا الاعتبار تبدو أهمية العودة إلى معاهدة 1936 باعتبارها حدا فاصلا في تاريخ الجيش المصري حيث أتيحت الفرصة ولأول مرة أمام الطبقات المتوسطة والفقيرة للالتحاق بالكلية الحربية وشاءت الظروف أن ترسل مجموعة من الضباط بعد تخرجها سنة 1938 إلى معسكر منقباد" في صعيد مصر "

ولعلها كانت فرصة ثمينة لكي يتحدثون ويتناقشون فيما بينهم حول اضطراب الحالة السياسية في منقباد وضعت اللبنة الأولي في تنظيم الضباط حيث تعاهدوا ( جمال عبد الناصر وأنور السادات وزكريا محيي الدين ) على العمل من أجل خلاص مصر من السيطرة البريطانية .

وفي الوقت الذي كانت فيه مصر تعج بالألوف الحاشدة من جنود بريطانيا ومستعمراتها من شتي الملل والألوان الوافدون من مختلف أنحاء الإمبراطورية تعرض الجيش المصري لأبشع الإهانات من الجنود السكارى الذين كانوا يرتكبون الفظائع كل يوم في شوارع القاهرة والإسكندرية كان الضباط الشبان يشاهدون هذه المناظر الأليمة ويرون بأعينهم اعتداءات الجنود البريطانيين على الأهالي وهم يمادون يتمزقون من الغيظ والغضب ولم يكن هذا هو مصدر المهم الوحيد وإنما كانوا يعانون داخل الجيش منم السيطرة البريطانية ممثلة في البعثة العسكرية البريطانية وعلى الرغم من أن قيادة الجيش المصري كانت قد تمصرت عقب معاهد 1936 وتخلص الجيش من السردار الانجليزي إلا أن السياسة البريطانية لم تتخل عن قبضتها الحديدية على الجيش من خلال البعثة العسكرية التي كانت تعمل في الظاهر على تطوير الجيش وتحديثه بينما كان هدفها الحقيقي هو العمل على إضعاف هذا الجيش والحيلولة دون تقدمه فقد كان بقاء الجيش البريطانية في مصر رهنا بعدم مقدرة الجيش المصري على حماية قناة السويس .

ولعل كل هذه المؤثرات قد دفعت الضباط الشبان كي يتجهوا إلى العمل السياسي بهدف تحرير مصر من الاحتلال كان هو الأساس الذي تركزت عليه أفكار الضباط الوطنيين بعد أن تأكد لهم عمليا أن معاهدة 1936 لن تؤد إلى الاستقلال الحقيقي .

وإذا كانت الأسس التي تجمع من حولها الضباط كانت كفيلة بتعميق المفهوم القومي والوطني لديهم انطلاقا لتنظيم أنفسهم إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بأن اللقاءات والمناقشات التي دارت في منقب تعد البداية العملية للحركة وإنما على ما نعتقد كانت " اللبنة" الأولي في وضع الأساس لأنه من البديهات أن كل الأعمال العظيمة تبدأ بفكرة وهكذا كان تواجد بعض الضباط الشبان في منقباد هو بداية الفكرة وانطلاقا من الفكرة التي وضعت تحت سفح جبل الشريف في منقباد كان على الأعضاء أن ينتشروا بأفكارهم ليس فقط داخل القوات المسلحة وإنما محاولة التنسيق مع القوي الدينية والسياسية خارج القوات المسلحة.

وحينما طلب عبد الناصر نقله إلى السودان بالكتيبة الثالثة مشاة كان يريد دراسة أحوال السودان الذي يحكمه حاكم انجليزي يمثل الحكم الثنائي ( الانجليزي المصري ) بالإضافة إلى العمل على نشر أفكار الجماعة واجتذاب بعض الضباط الناقمين على الاحتلال .

وفي السودان قضي جمال عبد الناصر ثلاث سنوات عاد بعدها إلى مصر ليواصل نشاطه وسرعان ما أخذت حركة الضباط تتسع داخل الجيش وتضم إلى صفوفها العناصر المخلصة الساخطة على الأوضاع السياسية الفاسدة وعلى قيادة الجيش المتعاونة مع قوات الاحتلال .

ونحن بصدد الحديث عن بداية حركة الضباط يجدر عدم إغفال ذكر عزيز المصري حيث كان تعيينه في منصب رئيس أركان حرب الجيش حافزا قويا لدي الضباط الشبان كي يضاعفوا من نشاطهم بالرغم من عدم وجود علاقة بينه وبين التنظيم إلا أن أحاديثه مع الضباط والمرارة الشديدة التي كان يكنها للمحتل ونصائحه المتكررة باعتماد الضباط على أنفسهم وضرورة مواكبتهم للعلوم العسكرية المعاصرة كل هذه المعاني كانت حافزا قويا أمام الضباط.

وعلى الرغم من أن الأستاذ فتحي رضوان ( بحكم صلته الوثيقة بعزيز المصري ) ينفير قيام علاقة رسمية بين تنظيم الضباط وعزيز المصري إلا أنه يؤكد أن دوره كان دور الملهم قد كانت أحاديثه مع الضباط عما فعله في تركيا وفي تبنية للحركة العربية ودعوته الدائمة للمزيد من الثقافة والمعرفة كل هذه المعاني دفعت الشباب إلى الإقدام على الأعمال الوطنية حيث قوي فيهم روح المغامرة فقد كان يحظي بحب الضباط وكانوا يعتبرونه رمزا للوطنية وهو من هذه الناحية يعد صاحب البذرة الأولي في الثورة فقد كان دائم الحديث معهم عن المهانة التي يلحقها الاحتلال بالوطن وكان ينزع الخوف من قلوبهم .

وكما تعلق الضباط الشبان بعزيز المصري وهو على رأس الجيش بحماسته ووطنيته كان أبعاده عن الجيش سنة 1940 عن طر يق الانجليز سببا في أن يزداد ارتباط الضباط بشخصه وتعلقهم بأفكار وسرعان ما أخذوا يسعون إليه فرادي وجماعات يستمعون إليه وهو يحدثهم عن أنفسهم باعتبارهم الوسيلة الوحيدة لخلاص مصر .

وعلى ما يبدو فإن هذا التنظيم بقي حتى سنة 1942 مفتقدا إلى الهيكل التنظيمي وكل ما حدث أن جماعة من الضباط تجمعهم الصداقة تارة والزمالة في الدراسة تارة أخري ويربط الجميع شعور واحد هو كراهية الانجليز لذلك فقد اتسمت خططهم بالحماسة بعيدا عن الموضوعية ومن هنا كان رأي جمال عبد الناصر بأن العمل على قيام جهاز قوي لقيادة هذا التنظيم هو بداية الشرارة التي من الممكن أن تنطلق في أى وقت .

ووفقا لمعظم الروايات فإن فكرة التنظيم قد بدأت في منقباد سنة 1937 بما في ذلك رواية أنور السادات والتي ضمنها كتابة – أسرار الثورة المصرية حيث يقول : تبدأ القصة بمجموعة من الملازمين الشبان اجتمعوا للخدمة معا في منقباد – وأخذت تلك المجموعة تلتف حول شاب من بينهم يمثل الشخصية الصعيدية وكان هذا الشاب هو جمال عبد الناصر الذي استحوذ بخصاله واتزانه على إعجاب واحترام زملائه وأضحي بمثابة الرائد لهذه المجموعة حيث رسم لأفرادها رسالتهم الكبرى في مقاومة الانجليز .

ويبدو من حديث السادات أن هناك تنظيما قائما ولعل هذا واضحا من خلال لقاءات أنور السادات بالشيخ حسن البنا والفريق عزيز المصري حيث كان لقاؤه بهما سنة 1940 بصفته مندوبا عن تشكيل الضباط حيث يتحدث عن عزيز المصري قائلا : لقد كان على أن أرجع إلى التشكيل قبل المقابلة وكان على أن أعود إليهم بعد المقابلة , فلابد من الحذر لأن أى شك يحوم حولي قد يذهب بالتشكيل كله .

ووفق رواية أنور السادات أيضا وهو يتحدث عن لقائه بحسن البنا " أنني لا أعمل وحدي بل أن هناك تشكيلا معينا موجودا وأن البلاد لن تتخلص من الاستعمار إلا بانقلاب عسكري يقوم به رجال الجيش .

وهذا مما يضاعف من اعتقادنا بأن التشكيل كان قائما بالفعل وأن الاتصالات التي يقوم بها أنور السادات كانت بتكليف من الضباط الأحرار .

وعلى ما يبدو فإن التنظيم سنة 1942 كن قد وصل إلى درجة متقدمة من التخطيط والتنظيم لأن ردود الفعل التي أحدثها حصار الدبابات في 4 فبراير 1942 تؤكد هذا الاعتقاد سواء فيما قرره الأعضاء من إعلان ثورة عسكرية بهدف إبادة القوات البريطانية لعائدة من العملية أو مما اقترحه بعض الأعضاء من اغتيال كل الذين اشتركوا في مأساة 4 فبراير 1942 أو في محاولة التنسيق مع بعض القوي الأخرى مثل الإخوان المسلمين أو بعض اليساريين .

وعلى ضوء العديد من الروايات التي ذكرناها تبدو عدة أمور أشبه بالحقائق :

أولا : أن فكرة تنظيم الضباط الأحرار ترجع إلى سنة 1938 حيث تجمع الضباط الشبان في معسكر منقباد .

ثانيا : لعل الفترة من سنة 1938 وحتى سنة 1942 تعد فترة إعداد وترتيب ولم ترق بالتنظيم إلى شكله النهائي .

ثالثا : أن أحداث 4 فبراير وما صاحبها من ردود فعل عنيفة داخل الجيش تعد بمثابة المرحلة الثانية من التنظيم ولعلها مرحلة الإعداد وقيام التنظيم ببناء العديد من الخلايا داخل الجيش وخارجه .

وأعتقد أن ما حدث في 4 فبراير كان بداية الخطوات العملية حيث أقسم الضباط على الثأر من الانجليز وليس من المعقول أن يقدموا على عمل خطير كهذا سواء بالثورة ضد الانجليز أو اغتيال كل من شارك في 4 فبراير إلا إذا وضعت الأسس الكفيلة ببناء هذا التنظيم باء جيدا أو بمعني آخر الوصول بالتنظيم إلى مرحلته العملية وبصدد الحديث من الضباط الأحرار لابد من تناول كل الدراسات التي أعدت سواء ممن شاركوا في الأحداث أو من عاصروها على حد سواء إلا أن الأمر يزداد غرابة تبدوا الأمور أكثر تعقيدا حينما يناقض أنور السادات نفسه ففي كتابه " البحث عن الذات سنة 1978 " تجده يضرب عرض الحائط بكل ما ذكره في كتابة" أسرار الثورة المصرية هذا عمك جمال يا ولدي " حيث يتحدث عن تنظيم مغاير تماما للتنظيم الذي تحدث عنه من قبل فيقول لقد أنشأت سنة 1939 أول تنظيم سري من الضباط وكان من بين أعضائه عبد المنعم عبد الرؤوف وعبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين وأحمد مسعودي وحسن عزت والمشير أحمد إسماعيل ونظرا لاعتقال أنور السادات ( أغسطس 1942 ) فقد تسلم جمال عبد الناصر قياده هذا التنظيم في أوائل سنة 1942 عقب عودته من السودان ولم يترك السادات أية فرصة كي يتجه بنا الظن إلى أن التنظيم الذي يعنيه كان تنظيما أخر خلاف الضباط الأحرار ولعل هذه المعلومات الجديدة والتي تضمنها كتاب البحث عن الذات تكشف لنا عن أمرين هامين :

أولهم : أن المؤسس الحقيقي لتنظيم الضباط الأحرار هو أنور السادات وليس جمال عبد الناصر .

ثانيهما : أن بداية التنظيم ترجع إلى سنة 1939 وليس إلى سنة 1938 كما ذكر معظم الضباط الأحرار .

ونظرا لأهمية تلك الرواية وخطورتها فلابد من تحقيقها ودراستها دراسة موضوعية نظرا لما يترتب عليها من نتائج بالغة الخطورة وعلى ضوء ما ذكره الضباط الطيارين والذين ذكر السادات أسماءهم ضمن تنظيمه أنهم جميعا أنكروا انضمامهم في هذه الأونة إلى أى تنظيم خلاف تنظيم الطيران .

فإذا كان السادات يعمل ضابطا في سلاح الإشارة فمن البديهي أن يتجه تفكيره إلى زملاء السلاح الواحد بدلا من الاتجاه إلى الطيران هذه واحدة أما الثانية فلقد ذكر السادات أن من بين الذين قام عليهم التنظيم هو الضابط خالد محيي الدين فإذا تغاضينا عن حقيقة صارخة وهي أنه عندما ذكر السادات اسمه ضمن تنظيم سنة 1939 لم يكن قد تخرج بعد من الكلية الحربية فكيف نتغاضي عما ذكره خالد محيي الدين نفسه من أن أول صلة له بأحداث السياسة كانت في صيف سنة 1942 عندما عين حارسا على الطيار حسن عزت بعد اعتقاله مع السادات في ميس سلاح الفرسان في قضية الجاسوسيين الألمانيين في أغسطس 1942 وأن حسن عزت هو أول من وجه اهتمامه إلى السياسة .

ومن المؤكد أن أنور السادات قد صدق نفسه ومضي في ذكر العديد من المغالطات التاريخية والتي تتناقض ومذكرات أعضاء الضباط الأحرار سواء منها ما نشر في عهد عبد الناصر أو بعد وفاته حيث حرص السادات على أن يؤكد في كتابه " البحث عن الذات أن عودة عبد الناصر من السودان كانت في ديسمبر سنة 1942 وربما لو ذكر السادات التاريخ الحقيقي لعودة عبد الناصر من السودان وهو نوفمبر 1941 لانتابت الناس الدهشة ولتساءلوا ؟ كيف لم تتم أية لقاءات بين عبد الناصر وزميله السادات في القاهرة عقب عودة الأول من السودان طوال المدة التي أمضاها في مصر قبل اعتقال السادات – من نوفمبر 1941 وفي أغسطس 1942 – والسؤال الذي يعرض لماذا لم يدعو السادات زميله وصديقه عبد الناصر قد خدم مع السادات عقب عودة الأول من السودان حيث امضيا معا ما يقرب من تسعة أشهر من نوفمبر 1941 وحتى أغسطس 1942منها ستة أشهر قضاها عبد الناصر بالكتيبة الثالثة مشاة بمنشية البكري بالقاهرة وكان السادات باعترافه يخدم في نفس الفترة كضابط إشارة بمنطقة الجبل الأصفر في القاهرة .

وعلى ما اعتقد فلو أن السادات قد ذكر التاريخ الحقيقي لعودة عبد الناصر من السودان ( نوفمبر 1941 ) لما استقامت القصة ولتساءل الناس اين كان عبد الناصر طوال الفترة إلا أن اعتقال السادات في أغسطس 1942 وعودة عبد الناصر من السودان في ديسمبر 1942 وفقا لرواية السادات يتمشي مع ما نسجه عليه الخيال من قيادة الحركة الوطنية داخل الجيش والمسألة من وجهة نظره تستلزم تغييرا بسيطا في التاريخ ليصبح تاريخ عودة عبد الناصر من السودان ديسمبر 1942 بدلا من نوفمبر 1941 وهكذا استقام الأمر ليصبح التسلسل منطقيا ومقبولا إلا أنه يعد منطقيا من وجهة نظرة فقط لأن الحقائق التاريخية تبقي ناصعة وأما الزبد فيذهب جفاء .

ولعل أنور السادات قد تناسي أنه قد ذكر في احدي كتبه والتي نشرها في عهد عبد الناصر أن عودة الأخير من السودان كانت في نوفمبر سنة 1941 وفي مارس 1942 انضم إلى الكتيبة الثالثة مشاة وفي نوفمبر سنة 1942 اختير مدرسا في الكلية الحربية وهي الفترة التي قام فيها التنظيم بعمليات البناء العملي بعد ما تأكد للضابط أن الأحزاب السياسية قد اهترأت وعجزت عن تمثيل الشعب المصري تمثيلا حقيقيا .

وعلى ضوء العديد من الروايات فإن التنظيم الذي أقيم سنة 1939 داخل سلاح الطيران والذي أشار إليه السادات كان شعبة من ضمن عشرات الشعب التي أنشئت داخل الجيش إلا أن شهرة تنظيم الطيران ترجع إلى بعض الأعمال الانتحارية التي أقدم عليها الطيارين ولعل أهمها ما تفق عليه الأعضاء من جمع المعلومات والصور عن نشاط قوات الحلفاء في مصر وإرسالها إلى القيادة العسكرية الألمانية في مرسى مطروح حيث استقل أحد أفراد اللجنة وهو الضابط أحمد مسعود أبو على طائرة مقاتلة من النوع البريطاني ومعه حقيبة بها كل ما أمكن جمعه من معلومات واتجه بها نحو منطقة مرسى مطروح ( الاثنين 29 يونيو 1942 ) والغالب أن طائرته قد أسقطت بواسطة الدفاع الجوي الألماني لأن نفس النوع من الطائرات كانت تستخدمه القوات البريطانية .

ويضف أحد أعضاء التنظيم قائلا : لقد كلف أحد الطيارين المضربين بالبحث عن الطائرة التي استقلها مسعودي ولكن بدلا من أن يعود هذا الزميل فقد توجه هو الآخر بطائرته نحو مرسى مطروح تاركا تشكيله ويبدو أن هذا التصرف قد كشف للمسئولين في البعثة العسكرية البريطانية الغرض من عملية سعودي وأجروا تحقيقا ولكنهم لم يوصلوا إلى شئ يكشف أمر التنظيم إلا أن عدد من أفراد سلاح الطيران قد أبعدوا عن الجيش أثر هذا الحادث .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى العلاقة بين حركة الاضطراب في الجيش حالة من الغليان الشديد في صفوف الضباط وتؤكد نفس الوثيقة وفقا لمصادر السفارة الأمريكية أن هناك خططا محكمة ومتقنة لنشاطات تدميرية على النحو التالي :

أولا : نشر دعايات مضادة للإنجليز ومؤيدة للألمان للتقليل من حجم التعاون الممكن مع الجيش المصري .

ثانيا : القيام بعمليات تخريب لوسائل الاتصال والمنشئات الحيوية الأخرى في وقت متزامن مع هجوم ألماني ناجح صوب الإسكندرية .

ثالثا : جمع ونقل المعلومات للأعداء .

ووفق مضابط مجلس النواب فإن النحاس باشا قد أشار من طرف خفي إلى أن القصر وراء تلك الاضطرابات التي تحدث سواء في سلاح الطيران أو في غيره من الأسلحة الأخرى هذا ما يؤكد العلاقة بين ما حدث في 4 فبراير وحركة الضباط الأحرار ومن الملاحظ أن موقف الضباط في ذلك الوقت لم يكن يحمل أى نوايا عدوانية تجاه فاروق والذي كان يحظي بشعبية جارفة وسط صفوف الضباط ولم يكن التفكير في خلعه من بين المسائل التي كانت موضع تفكير لدي قوة سياسية أو عسكرية .

وإذا كانت حركة الضباط قد استمدت قوتها من أحداث 4 فبراير وما صاحب ذلك من رضاء فاروق على تلك الحركة إلا أن هذا لا يعني أن الحركة كانت تعمل في إطار مخططات القصر بدليل أنها قد غيرت من إستراتيجيتها عقب الحرب ووضعت في اعتبارها التخلص من فاروق والاحتلال معا ولو كان فاروق على علم بسياستها لأمكنه التخلص منها ووأدها في الوقت المناسب وهذا يدفعنا إلى الإشارة إلى ط التنظيم الحديدي" والذي نشأ في إطار القصر بهدف محدد وواضح وهو اغتيال كل من ساهم في 4 فبراير وهذا التنظيم يختلف تماما عن تنظيم الضباط الأحرار على الغرم من أن بعض الضباط الأحرار كانوا يعملون ضمن هذا التنظيم اعتقادا منهم بأن لهدف واحد وهو التخلص من الانجليز والوفد معا .

ولعل هذا مما دفع السفير الأمريكي إلى أن يبعث إلى حكومته قائلا : أن الملك فاروق يلعب لعبة خطرة ترتكز على ما يسمي ( بالحرس الحديدي ) المكون من بعض ضباط الجيش والحرس الخاص للملك فاروق وأن المخابرات البريطانية على بينة من أمر هذا التنظيم الذي قد يترتب عليه أبعاد فاروق عن مصر نهائيا .

وإذا كان تنظيم الضباط الأحرار لم يكن يحمل أى نوايا عدوانية إلى فاروق حيث اقتصر تفكير الضباط خلال الحرب العالمية الثانية على الانتقام من الاحتلال البريطاني باعتباره حجر الزاوية في حركة الاستقلال الوطني. إلا أن تصرفات الملك فاروق فيما بعد وانغماسه في الملذات وانصرافه تماما عن مصالح الشعب وقضاياه العامة ثم ما أعقب ذلك من حرب فلسطين والتي استهلكت قدرا كبيرا من نشاط الضباط الأحرار حيث تأكد لهم من خلالها أنه لا فريق بين المحتل البريطاني والملك فاروق فكلاهما عدو حقيقي للشعب المصري .

وقبل أن نخلص من تلك الدراسة فإننا ننوه إلى عدة أمور هامة :

أولا : أن التاريخ للضباط الأحرار من بين الموضوعات التي تعرضت لحركة تزييف ومزايدة لأن العديد من الكتابات التي تناولت هذا الموضوع لم يتجرد أصحابها من عامل الرغبة أو الرهبة في محاولة لإظهار بطولات شخصية على حساب الحقائق التاريخية اعتمادا على عدم الإفراج عن الوثائق الرسمية لثورة 23 يوليو ولذا فإننا نعتقد أن الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع لم تذكر بعد.

ثانيا : أن حركة الضباط الأحرار قد بدأت بفكرة راودت بعض الضباط الشبان في منقباد سنة 1938 حيث وضعت اللبنة الأولي في قيام هذا التنظيم وأن ما ذكر من قيام تنظيمات أخري سواء في سلاح الطيران أو في غيره من الأسلحة كانت في إطار هذا التنظيم .

ثالثا : أن المرحلة الثانية من حركة الضباط قد بدأت عقب 4 فبراير 1942 حيث عاد عبد الناصر إلى القاهرة ضمن الكتيبة الثالثة مشاة ولذا فإن هذه الفترة تعد البداية العملية للتنظيم حيث بدأ ينتشر داخل وحدات القوات المسلحة المصرية .

رابعا : أن المرحلة الثالثة ( وهي لا تدخل ضمن دراستنا ) تبدأ من حرب فلسطين حيث تأكد للضباط أن الإصلاح لابد وأن يكون شاملا وجامعا بهدف الإطاحة بكل الذين يعملون ضد مصر بما فيهم الملك فاروق نفسه.

الفصل السادس : سياسة القصر عقب حادث 4 فبراير

مسئولية القصر عن تفاقم الصراع بين مكرم عبيد والنحاس

لم تكن القوي المناوئة للوفد بغافلة عن الظروف الصعبة التي أحاطت بأحداث 4 فبراير ردود الفعل التي واكبت تلك الأحداث ومن هنا تعددت المؤامرات بهدف النيل من الوفد ولعل أخطر وأقسي هذه المؤامرات هي تلك التي توجت بانقسام مكرم عبيد باشا عن الوفد وما تلي ذلك من حملة تشهير واسعة انتهت بتجميع المئات من التهم باستغلال النفوذ والمحسوبية والفساد ضد قيادات الوفد وضد الدوائر المقربة من النحاس وزوجته وكان لابد لهذه الحملة من أن تترك أثرها على جماهيرية زعيم اكتسب أكبر قدر من زعامته الطاغية بسبب بساطته وترفعه عن الكسب الشخصي.

وكان من الصعب على دوائر القصر أن تتلقي هزائم 4 فبراير دون أن تفكر في الانتقام من الوفد ومن زعميه مصطفى النحاس واختار القصر ميدانا جديدا للنيل من الوفد وهو الوقيعة بين القطبين الكبيرين في الوفد وهما مصطفى النحاس ومكرم عبيد .

وبينما كانت البلاد ترقب بكل اهتمام تطورات الحرب على حدودها الغربية وتتوقع ما قد تسفر عنه من حوادث جسام كانت الوزارة تعاني في داخلها بوادر انقسامات خطيرة بدأت تظهر آثارها في النصف الثاني من شهر مايو سنة 1942 فلقد اعتقدت الجماهير أن مكرم عبيد ( سكرتير الوفد ووزير المالية ) هو محرك الوفد ومركز نشاطه وحركته الدائمة والقوة الدافعة في الانتخابات وفي غير الانتخابات من مظاهر الناشط الشعبي بل وزاد الاعتقاد أنه هو الذي يحرك النحاس باشا في نشاطه السياسي إلى اليمين وإلى اليسار بحكم اتصاله بعدد كبير من السياسة الانجليز وبحكم دراسته في أكسفورد وأسفاره الكثيرة إلى انجلترا وعلاقته الوطيدة برجال حزب العمال وعلي رأسهم رامزي ماكدونالد ( رئيس حزب العمال ) وقد كان النحاس يضاعف اعتقاد الجماهير في مكرم عبيد وقوته بما سبغه عليه من أوصاف وما يظهره من ثقته به ثقة لا حد لها وكان مكرم هو همزة الوصل بين النحاس والسفارة البريطانية مساء 4 فبراير وهو الذي أشرف على صيغة الخطابين الذين تبودلا بين النحاس والسفير البريطاني لتأليف الوزارة .

ووفق العديد من الروايات التي أدلي بها عدد كبير من المعاصر فإننا نستطيع أن نجمل أسباب الخلاف بين النحاس ومكرم عبيد فيما يأتي :-

أولا : - تلك الغيرة التي دبت بين مكرم عبيد وبين السيدة زينب الوكيل حرم النحاس ويقول السفير البريطاني " أن زوجة رئيس الوفد قد سعت ما وسعها الجهد إلى استقلال زوجها عن الجل الذي استمر لسنوات طويلة مستشاره الرئيسي والرئيس الحقيقي لحزب الوفد وتعترف زينب الوكيل أنها سعت إلى استقلال زوجها عن الرجل الذي كان سببا في كل الانشقاقات التي أصابت الوفد وانها أقدمت على ذلك حرصا منها على مصلحة الوفد في المرتبة الأولي .

وعلى ما يبدو فإن النحاس باشا كان مجالا للصراع بين السيدة زينب الوكيل وبين مكرم عبيد حيث أن الأولي بدأت تمارس على زوجها نوعا من السيطرة فاصطدمت بذلك مع مكرم عبيد الذي كان يعمل هو الآخر على السيطرة على النحاس أو كان يسيطر بالفعل عليه ولذا فقد اعتقد البعض بأن هذا النزاع يعد صراعا بين قوتين تحاول كل منهما السيطرة على شخصية أخري ومن هنا فقد كان انتصار زينب الوكيل باعتبارها زوجة وعلى قدر كبير من الجمال وأقرب إلى النحاس من مكرم عبيد. وأعتقد أن النحاس وقد تخطي الستين من عمره وأمام زوجة ما تزال في عقدها الثالث وعلى قدر كبير من الجمال والذكاء لذا فقد تنازل عن أشياء كثيرة تتعارض مع مصلحة الوفد وتتفق مع مطامع الزوجة الشابة الذكية والتي اهتمت أولا وقبل كل شئ بأذونات التصدير والاستيراد وجمع الأموال عن طريق ما يسمي " بجمعيات البر " بل وقد وصل الأمر بتلك الزوجة أن يكون لها النفوذ الأكبر في تصريف الأمور إلى الحد الذي يجعلها تقترح أسماء وزراء بل وتعين هؤلاء الوزراء .

ثانيا : لقد بدأت منذ وزارة 4 فبراير سنة 1942 ظهور نجم جديد في ساحة السياسة المصرية لم يكن له نشاط سياسي من قبل إلا أن نجوميته قد تألقت بسرعة استرعت انتباه الجميع ذلك هو محمد فؤاد سراج الدين حيث عين وزيرا للزراعة في تلك الوزارة وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره ثم عين وزيرا للداخلية والشئون الاجتماعية ثم سكرتيرا عاما للوفد عقب خروج مكرم عبيد ولا شك أن ظهور فؤاد سراج الدين والثقة الكبيرة التي كان يحظي بها من مصطفى النحاس وزوجته زينب الوكيل لا شك أن هذا العامل قد أضاف عنصرا جديدا وهاما ضاعف من حدة الصراع بالرغم من تنصل فؤاد سراج الدين من كونه قد شارك بأى جهد لإساءة العلاقات بين الرجلين إلا أن الخوف قد بدأ يتسرب إلى قلب مكرم عبيد من هذا النجم الجديد الذي اخذ يستطع في سماء الوفد .

ثالثا : لقد عمل فاروق وأحمد حسنين رئيس الديوان على توسيع شقة الخلاف بين عناصر الوفد وذلك باستخدام وسيلة رخيصة وهي أغراء مكرم على أنه سيكون زعيم الأمة ورئيس الوزراء المقبل وأنه يستطيع أن يرث النحاس الذي فقد قدرا كبيرا من شعبيته بعد 4 فبراير سنة 1942 وفق رأي النحاس فإن كل الخلافات التي كانت بينه وبين مكرم كان من الممكن احتواؤها لولا أحمد حسنين والذي عمل بمهارة على تنمية تلك الخلافات وتفاقمها لصالح القصر.

ومن المؤكد أن القصر باختياره هذا المجال لكي يكون ميدانا للصراع يعد ذكاء من أحمد حسنين والذي لعب دورا ماكرا في استغلال هذا الحادث بهدف النيل من الوفد لا حبا في مكرم عبيد ولا حرصا على مصلحة البلاد وإنما إرضاء لشهوات القصر وانتقاما من مصطفى النحاس حيث أقسم أحمد حسنين عقب 4 فبراير أن يرد له الصاع صاعين وهكذا واتته الفرصة وتمكن من النيل من الوفد وشعبيته حيث أخذ يعمل على توسيع شقة الخلاف بين رئيس الوزراء ووزير المالية فرتب مقابلة لمكرم عبيد باشا مع الملك خرج بعدها ليقول لمندوب الأهرام أنه لقي من الملك فاروق " إرشادا نافعا واطلاعا واسعا ونظرة دقيقة وعميقة إلى جوهر المسائل المعروضة رغم تباينها وبعد نواحيها " إلى أن قال : " ولم البث طويلا حتى أدركت أن ملكنا الشاب قد ملك زمام الأمور فصل ما أوتي من رجولة وخبرة منوعة قلما أتيحت لملم من الملوك "

وهذا الوصف الذي سجله مكرم عبيد يختلف تمام الاختلاف عن الصورة التي رسمها النحاس ومكرم عن الملك للسفير البريطاني منذ سنة 1937 وعندما تحرج الموقف في فبراير سنة 1942 .

ويقدم محمد التابعي شهادته في هذا الصدد وهو واحد ممن اتصلوا بأحمد حسنين فيقول : " لم يكن أحمد حسنين سبب الخلاف بين رئيس الوفد وسكرتير الوفد ولكنه كان أحد الذين عملوا بمهارة على توسيع شقة الخلاف .

ومع اعتقادنا بأن شخصية زينب الوكيل وظهور نجم سراج الدين كانا من الأسباب التي أدت إلى القطيعة بين مكرم والنحاس إلا أن هذين العاملين كان من الممكن التغلب عليها لولا أن القصر قد لعب الدور الهام .

والأساسي وخصوصا وأن الموضوعات التي طرحها مكرم عبيد والتي أراد أن يتخذها سلاحا للتشهير بالنحاس وأقاربه سواء في مسألة الاستثناءات أو في أذونات التصدير والاستيراد كل هذه العوامل لم تكن جديدة سواء في سياسة أو في سياسة غيره من الأحزاب وأن كل الأحزاب المصرية كانت تلجأ إلى هذه الوسيلة لتدعيم أنصارها هذه السياسة لم يسبق لمكرم عبيد أن اعترض عليها .

وهنا يبدو السبب الثالث والهام وهو دور القصر وخصوصا أحمد حسنين والذي أحس بمرارة 4 فبراير سنة 1942 ولذا فقد رسم سياسته على استخدام مكرم عبيد بمهارة فائقة حتى يقوض حزب الوفد من الداخل من ثم يمكنه الاجهاز على النحاس في الوقت المناسب وأعتقد أن هذا هو العامل الحقيقي وراء القطيعة بين الرجلين ومما يؤكد وجهة نظرنا تلك أن مقابلة مكرم عبيد للملك فاروق كانت في12 مارس 1942 ولم يمض على أحداث 4 فبراير أكثر من شهر .. وحتى يبدو هذا الحكم أكثر موضوعية فلابد من تتبع مراحل الصراع بين النحاس ومكرم والترقب الذي كان باديا على القصر حتى تمكن من الانقضاض في الوقت المناسب وعلى ضوء شهادة أحمد حسنين ( رئيس الديوان ) والذي صرح قائلا رغبة مني في تصفية الجو بين الملك والوزارة سعيت عن الملك حتى وافق على مقابلة مكرم عبيد وأمين عثمان .. ولأننا الداخلية والمالية .. وأن أمين عثمان هو زراعه اليسري ومستشاره في الشئون الخارجية فكان من المرغوب فيه والحالة هذه أن نوثق علاقتنا بهذين الزراعين أو بالرجلين المقربين إلى رئيس الحكومة هكذا طلبت من مكرم عبيد أن يلتمس مقابلة الملك لسبب ما , واقترح مكرم أن أعداد أوراق النقد الجديد تقتضي أن يعرض الرسم الجديد على جلالة الملك قبل البدء في طبعه وتمت المقابلة واستطاع مكرم أن يحظي بعطف الملك .

إذن فإن أحمد حسنين السياسي الداهية يزعم أنه سعي لدي فاروق حتى أقنعه بالموافقة على مقابلة مكرم عبيد رغبة منه في تصفية الجو وتحسين العلاقات بين الوفد وفاروق وهذا ما قاله أو زعمه أحمد حسين .

ولعل غرض حسنين كان أبعد ما يكون عن الصفاء والوئام حيث كان الهدف الأول لرئيس الديوان أن يوقع بين النحاس ومكرم من جانب وبين أمين عثمان والنحاس من جانب آخر أو بعبارة أخري أن ينتزع من رئيس الوفد زراعية الاثنين اللذين يستند إليهما في إدارة شئون البلاد الداخلية والخارجية .

وياله من انتصار يمحو عار هزيمة 4 فبراير يوم أن ينجح حسنين في ضم مكرم وأمين عثمان إلى معسكر القصر ولعل هذا هو الغرض الحقيقي من هذه الخطوة والتي جمع فيها بين فاروق ومكرم عبيد ولو كان أحمد حسنين صادقا في نيته لعمل على أن يكون هذا اللقاء مع النحاس باشا نفسه باعتباره رئيس الحزب ورئيس الحكومة وبالفعل صدق قول مصطفى النحاس حيث أعلن عند سماعه بنبأ هذا اللقاء " أن الغرض من هذا اللقاء هو التفرقة بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد"

وكان هذا هو الفصل الأول حيث مضت الحوادث بعد ذلك سريعة متعاقبة فلقد خرج مكرم من مقابلة فاروق مغتبطا مسرورا وأملي تصريحا على الصحف يحمل كثيرا من كلمات الثناء على الملك وعلى حد قوله :" لقد أتيح لى أن أعرف الرجل الملك فكان الرجل في رجولته لا يقل جلالة عن الملك في مملكته ومما يضاعف من اعتقادنا بأن ما حدث كان مؤامرة نصبها أحمد حسنين لمصطفى النحاس ومكرم عبيد فلم تكن العادة قد جرت وقتئذ على أن يخرج الوزير من لقاء الملك ويصف المقابلة في مقال ينشر في الصحف مما أدي إلى التصادم بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد إلا أن عقلاء الوفد قد سعوا إلى ترضية النحاس ومحاولة إقناعه بصدق نية مكرم عبيد إلا أن مكرم على ما يبدو كان عازما على المضي إلى آخر الطريق.

وجاءت الأزمة الفاصلة في موضوع الاستثناءات غذ طلب النحاس باشا ترقيات استثنائية لثلاثة من العاملين معه في وزارة الداخلية وأحيل الطلب إلى اللجنة العليا برئاسة مكرم باشا فرفضته بحجة أن تلط الترقيات لا تتفق والقواعد المعمول بها في وزارة المالية زيادة على ما فيها من إجحاف بحقوق الموظفين الذين يراد تخطي دورهم في الترقية علما بأن الكثيرين منهم أقدم من الموظفين المطلوب ترقيتهم ترقية استثنائية علاوة على أنهم أكفاء وممتازون في عملهم فإذا ما انفرد بالاستثناء فئة من الموظفين فيسيو التذمر نفوس الآخرين وينخفض تبعا لذلك مستوي العمل في المصالح والدواوين طالبت اللجنة في مذكرتها أن يوصد باب الاستثناء حتى تنجلي الحالة المالية المترتبة على الحرب والتي زادت من أعباء الميزانية وأن تلتزم الوزارات والمالح حدود القانون .

وفي اجتماع مجلس الوزراء في 21 مايو صمم النحاس باشا على طلبه ووافقته جميع الوزراء ما عدا وزير المالية (مكرم عبيد ) ونشرت احدي الصحف مذكرة اللجنة المالية بمنع الاستثناءات بين الموظفين وبهذا أصبح معروفا أن الخلاف بين النحاس ومكرم قد بلغ مداه .

وبالرغم من أن مذكرة اللجنة المالية قد بنت رفضها على العديد من المبررات الشرعية والقانونية إلا أن هذا المسلك يعد حديدا أو غريبا على مكرم عبيد وهو الذي انبري إلى الدفاع عن الاستثناءات التي أقدمت عليها حكومة الوفد سنة 1937 وكانت له وجهات نظر اعتمدت في أساسها على أن الوفديين قد اضطدوا في ظل وزارات الأقلية .

وكان قرار مجلس الوزراء بعدم الأخذ بوجهة نظر اللجنة المالية ضاربا عرض الحائط بما ورد في المذكرة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير حيث أعلن النحاس عدم إمكانه التعاون مع مكرم عبيد وطلب منه أن يستقيل من الوزارة فرفض مما اضطر النحاس إلى أن يتقدم إلى الملك باستقالة الوزارة كلها وعهد إليه الملك بتأليفها من جديد فألفها دون مكرم عبيد.

السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد ما الذي دعا إلى استقالة الوزارة الم يكن بالإمكان إقالة مكرم دون استقالة الوزارة كلها ؟... والحقيقة أن الذي يمكل إقالة الوزارة أو زير فيها هو الملك فقط ولما كان مكرم عبيد قد رفض تقديم استقالته وأن أية محاولة لاستصدار قرار بإقالة وزير المالية لقد تبوء بالإخفاق سواء العلاقة الجديدة بين مكرم والقصر أو بسبب سوء علاقة القصر بالنحاس فلم يكن أمام النحاس من سبيل سوي تقديم استقالة وزارته وإعادة تشكيلها بدون وزير المالية ولهذا الموقف سابقة في تاريخ الوزارات المصرية ولو أن الوضع في الحالتين جد مختلف .

ففي سبتمبر 1925 طلب رئيس الوزراء بالنيابة ( يحي إبراهيم ) استصدار مرسوم بإقالة عبد العزيز فهمي باشا وزير الحقانية إذ ذاك ووافق الملك فؤاد على الطلب فورا لأن عبد العزيز فهمي كان قد أمتنع عن تنفيذ رغبة الملك في عزل الشيخ على عبد الرازق ( القاضي بالمحاكم الشرعية ) بسبب كتابه " الإسلام وأصول الحكم " أما في حالة مكرم عبيد فإن الملك كان راضيا عنه تمام الرضا بل أن القصر كان يساند مكرم في تحديه للنحاس باشا .

ويبدو سؤال مخر هل كان النحاس على ثقة من أن الملك سيعهد إليه بتأليف الوزارة الجديدة وخصوصا وأن العلاقات بينهما كانت قد وصلت إلى درجة القطيعة وأن النحاس كان على يقين من أن القصر وراء الانسلاخ الأخير في الوفد.

لعل هذا الاحساس قد راود النحاس باشا ولذا فقد حرص على أن يثبت في كتاب الاستقالة أنها بسبب الخلاف بينه وبين وزير ماليته إذ قال : " نظرا لما قام بيني وبين حضرة صاحب المعالي مكرم عبيد باشا من خلاف جوهري طال أمده وتعددت مظاهره وتعذر علاجه بالرغم مما بذلته من المجهود ولما كان هذا الخلاف قد أدي إلى استحالة استمرار التعاون بيننا فإني أتشرف بأن أرفع إلى جلالتكم استقالة الوزارة .

وعلى ما يبدو أيضا فإن النحاس كان واثقا من أن الملك سيعهد إليه بتأليف الوزارة لأن أحداث 4 فبراير كانت ما تزال عالقة في ذهن فاروق حيث لم يمض عليها أربعة أشهر ومن السذاجة المطلقة أن يعيد الملك التجربة مرة ثانية وخصوصا وأن الأسباب التي من أجلها عاد الوفد لم تختلف كثيرا ولعل في هذا الموقف إزلال للملك فاروق مما ضاعف من حدة الصراع بين القوتين .

ومما يضاعف من اعتقادي أن النحاس عندما قرر إفراج النقراشي من الوزارة في صيف سنة 1937 فإنه تريث إلى أن حانت الفرصة في 29 يوليو سنة 1937 بمناسبة تولي الملك سلطته الدستورية حيث تقضي التقاليد الدستورية أن تقدم الوزارة استقالتها ويعهد الملك إلى رئيس الحكومة بتشكيل وزارة جديدة وهكذا تمكن النحاس من إخراج النقراشي وثلاثة وزراء آخرين ( محمد صفوت ومحمود غالب وعلي فهمي ) بلا أى مصادمات مع القصر أما هذه المرة فالموقف مختلف إلى حد كبير والصراع قد تفاقم بين القطبين الوفديين .

وبخروج مكرم من الوزارة قررت الهيئة الوفدية فصله من منصبه ( سكرتير عام الوفد) بعد أن ظل يتمتع بهذا المنصب خمس عشرة سنة متوالية وكذلك قرر الوفد حرمانه من عضوية الحزب بعد أن كان من أهم أعضاء الحزب ولم يبق لمكرم من المناصب سوي عضوية البرلمان والذي اتخذه أساسا لحملة ضارية ضد النحاس حيث كثرت الاستجوابات التي قدمها مكرم حتى وصلت إلى ثمانية استجوابات دارت في معظمها على أن النحاس قد فرط في حقوق الأمة وجامل الانجليز إلى حد الإغفاء عن مطالبتهم بتنفيذ مواد المعاهدة وسكوت النحاس عن وضع مصر في موضع البلاد المحمية والسماح لأشخاص معينين بتصدير المواد الأولية وسياسة الوزارة فيما يختص بالحريات العامة .

وتحت عنوان – حارس الهيكل بالأمس يريد أن يهدمه اليوم على ساكنيه كتب محمد التابعي يقول : " لقد قال مكرم يوم أن اختلف مع النحاس أن أسباب الخلاف هي الاستثناءات والسكر والزيت .. الخ ولم يقل شيئا عن الخيانة والتفريط في حقوق البلاد . هل كان التفريط وممالاة الانجليز موجودة يومها أو غير موجودة وإذا كانت موجودة فلماذا سكت الفارس الهمام ولماذا لم ينشرها يومها بين ما نشره على الناس أم تراها لم توجد إلا منذ خروج سعادته فقط من الوزارة وكأنما سعادته يريد أن يقول أن وجوده في الوفد كان الضمان الشافي لوجود الوطنية في صدر النحاس فلما خرج سعادته ضاع الضمان . ومن غير شك فقد كان خروج مكرم عبيد يعد الضربة الثانية التي لحقت بالوفد بعد ما أصابه من الضربة الأولي في 4 فبراير فلقد شن مكرم عبيد حملة ضارية ضد النحاس ضمنها ما سمي " بالكتاب الأسود" وقد امتلأ بالعديد من المطاعن التي تنال من رئيس الحكومة ومن زوجته السيدة زينب الوكيل .

وتشير مذكرات السفير البريطاني إلى مسئولية القصر عن إصدار الكتاب الأسود وأن فاروقا هو الذي أوحي لمكرم عبيد وشجعه على نشر هذا الكتاب حتى يتخلص من عدوه الأول وهو النحاس وبعد لك يتفرغ للتخلص من الثاني وهو السفير البريطاني .

ولا شك أن الوفد قد تأثر كثيرا بسبب خروج مكرم عبيد وتعددت وجوه معاناة مصطفى النحاس بسبب ما حظي به مكرم من تأييد منقطع النظير وخصوصا وسط قطاعات الشباب والمثقفين منهم على وجه الخصوص ولم يكن هذا التأييد على ما نعتقد لشخص مكرم عبيد بقدر ما كان لسوء تصرف الحكومة الوفدية واندفاعها في سياسة حزبية وضغطها على الحريات إلى حد الاعتقال ومصادرة الآراء المعارضة .

ولقد دفع الخوف من تأثير إخراج مكرم عبيد على التأييد القبطي للوفد إلى تعيين قبطي آخر مكانه في وزارة المالية وهو كامل صدقي والذي وصفته الدوائر البريطانية بأنه كان يفتقد إلى الكفاءة وكان بمثابة عقبة في حسن إدارة الأمور بسبب تصرفاته الصغيرة مما دفع النحاس إلى التفكير في فصله إلا أنه امتنع عن ذلك مخافة إثارة ضد الوفد.

وبلا شك فإن سياسة النحاس تجاه خروج مكرم عبيد من الوفد قد اتسمت بعدم الصواب والبعد عن الشرعية حيث لجأ الوفد إلى أساليب ديكتاتورية كان من بينها فصل عشرة من أعضاء مجلس النواب من الموالين لمكرم عبيد بحجة أنهم لم يكونوا قد بلغوا السن القانونية يوم انتخابهم ومن العجيب أن هؤلاء الأعضاء قد اقر المجلس نيابتهم من قبل حينما تقدم عدد من المعارضين للحكومة بطعون ضد هؤلاء النواب بسبب أنهم لم يبلغوا السن القانونية إلا أن المجلس قد اقر نيابتهم مؤكدا على استوفوا كل الشروط القانونية ولم تمض أيام حتى كان الكتاب الأسود قد أثار في البلاد كلها ضجة كبيرة مع أن الرقابة الصحفية قد منعت الإشارة إليه حتى كان الناس من كل الأحزاب يبذلون الجهد للحصول على نسخة منه ولم يقف الأمر على حدود مصر بل بدأت الصحف البريطانية تتحدث عنه مما ضاعف من مشاكل الحكومة بسبب هذه الحملة العنيفة التي وجهت إليها والتي تشعر أن لبعض المقامات يدا فيها .

وفي محاولة لتبديد الأثر الذي أحدثه مكرم وكتابه فلقد وضعت الحكومة خطة بأن أوحت إلى رجال حزبها في كل من البرلمان والشيوخ لكي يتقدموا بأسئلة عن الوقائع التي وردت في الكتاب الأسود وأخذ الوزراء يجيبون على هذه الأسئلة بتفسير بعض الوقائع تفسيرا يتسم بالغموض وعدم الموضعية في بعض الأحيان وباللجوء إلى العموميات في أحيان كثيرة ولما كانت اللائحة في كلا المجلسين " النواب والشيوخ " لا تجيز لغير مقدم السؤال بالتعليق فقد بذلت محاولات من قبل المعارضة للتعليق أو للاستفسار إلا أن كل هذه المحاولات قد باءت بالفشل وكثيرا ما ان التعليق من قبل مقدم السؤال بالشكر أو بتجريح واضح الكتاب الأسود والتشكيك في وطنيته مما دفع مكرم إلى أن يتقدم باستجواب إلى مجلس النواب طالبا من رئيس الحكومة إجابة محددة عن الموضوعات الأتية :-

أولا : استثناء رئيس الوزراء في تصريح علني بمجلس النواب إلى رسالة من وزير الخارجية البريطانية .

ثانيا : إجراءات الوزارة إزاء سياسة تجنيب البلاد ويلات الحرب.

ثالثا : بقاء الموظفين الانجليز في البوليس المصري .

رابعا : السماح لأشخاص معينين بتصدير بعض المواد الأولية .

خامسا : سياسة الوزارة فيما يختص بالحريات العامة .

وبالرغم من أن نقاط الاستجواب كانت محددة وواضحة إلا أن رئيس الحكومة قد انبري يكيل الاتهامات ضد صاحب الكتاب الأسود متهما إياه بالخيانة والخروج على خط الجماعة ونظرا لحالة الغضب التي سيطرت على رئيس الحكومة من خلال إجابات طويلة فقد افتقدت ردوده الموضوعية بتناولها القضايا بشكل يخرجها من دائرة الشك إلى دائرة اليقين وفقا لقول مكرم عبيد .

وفي محاولة من القصر لاستثمار الموقف لصالحه فقد ذهب أحمد حسنين إلى السفير البريطاني وحدثه في شأن الكتاب الأسود معربا عن رأيه بأن البيانات المدعمة بالوثائق تكفي للحكم على تصرفات رئيس الوزراء ولكن السفير ارتأي أما تقديم الاتهامات إلى القضاء وإما مناقشتها بالطرق الدستورية في البرلمان وعلى الرغم من أن أحمد حسنين قد استوثق من موقف الحكومة البريطانية والتي رأت إعطاء فرصة للنحاس للدفاع عن نفسه أمام القضاء أو بإجراء استثناء عام فإن حسنين قد أشار إلى أن التهم الموجهة إلى رئيس الحكومة إذ لم تثبت براءته منها فإن اللوم سوف يوجه بطريقة غير مباشرة إلى السفارة البريطانية لأنها تحتضن وزارة فاسدة .

ويبدو أن القصر قد فضل أن يمارس نوعا من الضغط على الحكومة البريطانية وذلك لمزيد من إحراج الحكومة حيث بدأ نشاط المعارضة باجتماع ويبدو أن القصر قد فضل أن يمارس نوعا آخر من الضغط على الحكومة حيث بدا نشاط المعارضة باجتماع عقدة إسماعيل صدقي في داره دعا إليه كبار السياسيين لتنظيم حركة المعارضة من خلال التنسيق مع كل القوي الحزبية بهدف الضغط على الحكومة البريطانية وبعد ان اتضح أن الانجليز مارسوا ضغطا شديدا على القصر لكي يوافق على مناقشة الكتاب الأسود تحت قبة البرلمان عاد زعماء المعارضة إلى الاجتماع وطلبوا مقابلة السفير البريطاني ولما أعتذر السفير عن عدم مقابلتهم أرسلوا إليه مذكرة قالوا فيها أنهم مع إخلاصهم للمعاهدة فإنهم يحتجون على تدخل انجلترا في شئون مصر الداخلية بعد أن ابتعد خطر الحرب عن أراضيها .

وسعيا وراء إيجاد جو من الود القصر والانجليز أوعز حسنين باشا إلى الملك أن يضع قصر رأس التين تحت تصرف السلطات البريطانية بمناسبة زيادة " دوق جلوستر " لمصر وأن تتبرع الخاصة الملكية بمبالغ للترفيه عن الجنود البريطانيين والأمريكيين لدرجة أن إحدي الصحف اليومية قالت : أن القصر يتنافس مع الحكومة على كسب صداقة الحلفاء .

وعلى الرغم من أن كل خطط القصر لم تؤت ثمارها في إقالة الحكومة وأن السفير مصمم على مساندة الحكومة إلى النهاية إلا أن القصر قد تمكن من أن يوجد في الوفد حالة من عدم التوازن وفقدان الرؤيا الصائبة لذا فقد اتسمت سياسته بالارتجالية وعدم التوازن وفقدان الرؤيا الصائبة لذا فقد اتسمت سياسته بالارتجالية وعدم الموضعية في كثير من القضايا القومية والوطنية مما دفع المعارضة إلى الانقضاض على هذا الهرم الشامخ والذي بدأ يتساقط أمام أول عاصفة رعدية نظمها القصر بمهارة فائقة ولولا معارضة بريطانيا لتمكن فاروق من أن يقتلع الوزارة الوفدية وهي في شهورها الأولي وإذا كان فاروق قد عجز على إقالة الوزارة وهي في تلك الأزمة إلا أنه قد تمن من النيل منها وتشويه صورتها أمام الرأي العام فلقد كانت المحسوبيات وأذونات التصدير حديث رجل الشارع العادي وعلى هذا استطيع أن أقول غذا كان حادث 4 فبراير قد أدي فقدان ثقة الجماهير في الوفد فإن الكتاب الأسود وما ترتب عليه كان بداية انصرف الناس عن الوفد وخصوصا الشباب المثقف والذي بدأ يبحث عن قوي أخري يعبر من خلالها عن ذاته بعد أن فقد ثقته في حزب الوفد وهكذا كان الشباب دائما ضحية لمنحرفي السياسة . ولم يقف أمر الكتاب الأسود عند الاستجواب والرد عليه بل رأي النحاس أن ما أقدم عليه مكرم يعد هرطقة لا يجوز معها أن يبقي عضوا بمجلس النواب لذلك تقدم النائب الوفدي عمر عمر باقتراح جاء فيه : أن مكرم عبيد قد أتي بما صنع أمرا منكرا يتعارض مع كرامة النيابة عن الأمة لذلك يجب فصله من مجلس النواب وإسقاط صفة النيابة عنه وعلى الرغم من المبررات القانونية التي أوردها النائب عبد السلام الشاذلي في محاولة مسميته لتبديد هذا الاقتراح إلا أن رئيس المجلس قد أخد الرأي بالمناداة بالاسم وأسفر عن 208 موافقون 17 غير موافقين .

وإذا كان الوفد قد حاول أن يجد مبررا معقولا حين أقدم على اعتقال علي ماهر داخل مجلس الشيوخ بحجة أنه يعمل لصالح المحور إلا أن ما أقدمت عليه حكومة الوفد من فصل مكرم عبيد ثم اعتقاله قد افتقدت إلى أية مبررات معقولة ولم يعد أمام الرأي العام أى شك في أن الدوافع الحزبية هي الأساس في أى إجراء اتخذ ضد مكرم عبيد وبدلا من أن يكسب الوفد أرضا جديدة من تحت أقدام المعارضة فقد أضحي مكرم عبيد أمام الرأي العام شهيد الديمقراطية ومدافعا عن الحرية ضد الاستبداد والمحسوبية والفساد وكل ما يناهض مبدأي الحق والعدل .

ولم يعجز الحاكم العسكري العام ( مصطفى النحاس ) عن ذكر بعض المبررات التي سوغت له الإقدام على هذا العمل الذي يفتقد إلى أى منطق أو قانون فلقد جاء في المذكرة التي نشرت بمناسبة هذا الاعتقال أن مكرم عبيد دأب على عقد اجتماعات سياسية متكررة في مكتبة وفي منزله تلقي فيها منه ومن بعض أنصاره خطب مثيرة ومخلة بالنظام ومهددة للأمن العام وأنه كان من نتاج الاجتماع الذي عقده بمنزله أخيرا أن ألف نفر ممن حضروا ذلك الاجتماع مظاهرة مرت ببعض الطرقات العامة وهتف المتظاهرون بهتافات تحت على الثورة وجاء في المذكرة أيضا أن مكرم عبيد عمد إلى توزيع نشرات مطبوعة في أنحاء البلاد وقد تم ضبط عدة الأف من هذه النشرات ويبدو من المذكرة أن مبررات الاعتقال قد اعتمدت على أن مكرم عبيد قد لجأ إلى عقد اجتماعات سياسية في مكتبة وفي منزله على الرغم من أنه كان يترأس حزبا قائما فعلا " الكتلة الوفدية " ومن حقه طبقا للقانون والدستور أن يمارس نشاطه الحزبي كغيره من الأحزاب أما عن المظاهرات التي ساقتها المذكرة كمبرر للاعتقال فكان على الحكومة أن تقدم على اعتقال زعماء تلك المظاهرة وبلا شك فلم يكن مكرم عبيد من بينهم أما عن النشرات التي توزع في البلاد فهي النشرات التي تصل إلى أعضاء الكتلة الوفدية في الأقاليم وهي وسيلة شرعية معترف بها حتى في ظل قانون الطوارئ بل هي القناة لربط أعضاء الكتلة في القري والمدن بإدارة الحزب في القاهرة وعلى ما أعتقد فإن ما أقدمت عليه الحكومة الوفدية من اعتقال مكرم عبيد يعد تجاوزا خطيرا دفع الرأي العام إلى أن يتعاطف مع مكرم عبيد .

وباعتراف أحد زعماء الوفد والشخصية الأولي يعد النحاس ( فؤاد سراج الدين ) حيث أعلن صراحة أن فصل مكرم عبيد من الوفد ثم اعتقاله يعد خطا سياسيا كبيرا .

وبالرغم من أن الحكومة قد سلكت في موضوع الكتاب الأسود مسلكا يبدو في ظاهرة الديمقراطية حيث نوقش الموضوع داخل مجلس النواب والشيوخ إلا أن المعارضة البرلمانية داخل المجلسين كانت تود أن تستدرج الحكومة إلى أن تتولي النيابة أمر التحقيق أن يعترض على تحقيق النيابة بحجة أن مكرم نائب يتمتع بالحصانة البرلمانية لأن الأغلبية الوفدية داخل مجلس النواب كفيلة بأن ترفع عنه هذه الحصانة وفي محاولة من المعارضة لإقناع الحكومة بوجهة نظرها فقد اعتمدت في مطلبها على العديد من الحيثيات القانونية على اعتبار أن المادة 66 من الدستور أعطت مجلس النواب حق الاتهام ومجلس الأحكام حق المحاكمة ولكنها تركت حق التحقيق مباحا لإظهار الحقيقة فلقاضي التحقيق أن يحقق وكذلك لوكيل النيابة ولكنه ليس لأحدهما أن يتهم ولما سئل مقدم الاقتراح ( عبد الرحمن الرافعي ) عن مصير التحقيق قال : أن نتيجته تقدم إلى مجلس النواب ليجد نفسه أمام رسمية في محاضر التحقيق.

ويبدو أن هدف المعارضة في إسناد أمر التحقيق إلى جهة قضائية محايدة كان بسبب عدم الثقة فيما تقدمه الحكومة داخل المجلسين ( النواب والشيوخ ) من إجابات تستند إلى بيانات غير دقيقة وليس من حق أعضاء المجلس الاعتراض إلا ضوء ما تقره لائحة البرلمان والتي أعطت حق المناقشة لمقدم الاستجواب فقط بينما إسناد أمر التحقيق إلى جهة قضائية محايدة يوفر على البرلمان العديد من الجهد حيث تقدم نتائج التحقيق مستوفاه لكل الأركان القانونية , ولو كانت الوزارة حريصة على نتائج سليمة في التحقيق لدفعت بالقضية برمتها إلى القضاء الذي يعد طرفا محايدا تماما .

وفي محاولة من النحاس لتبديد هذا المطلب فقد انبري للرد معتمدا على دستورية الاقتراح بحجة أن المادة 107 من الدستور تنص على أن لكل من أعضاء البرلمان ان يسأل الوزراء ويستجوبهم على الوجه المبين في اللائحة وأن المادة 108 نصت على أن لكل مجلس حق إجراء التحقيق ليستنير في مسائل معينة داخلة في حدود اختصاصه وورودها على هذا النحو يحدد الغرض المقصود بالاستنارة في الأسئلة والاستجوابات وأن من حق المجلس تشكيل لجنة تتولي التحقيق وعلى ضوء التقرير الذي تعده تلك اللجنة فإن المجلس الحق في إصدار ما يشاء من قرارات أما من إسناد أمر التحقيق إلى القضاء فإنه يكون تحقيقا أفلاطونيا لأن النتيجة أما أن تكون حفظ القضية أو تقرير أن هناك مسئولية وفي هذه الحالة الأخيرة يكون للمحقق أن يقدم المسألة إلى المحكمة أو غيرها وهذا أمر خارج عن اختصاصه ولا يمكن للبرلمان أن يكون تابعا لأي جهة أخري مهما كان وضعها لأن البرلمان لا يلتزم إلا بما يجريه هو في حدود اختصاصه وبالرغم من مبررات النحاس إلا أن الأمر كان من الممكن علاجه بأن يتولي القضاء التحقيق وما يتوصل إليه من نتائج تكون موضع الزام للجميع أما أن يكون المتهم قاضيا في نفس الوقت فهذا يتعارض مع أبسط المبادئ الدستورية .

ووفق ما ورد من أسئلة واستجوابات داخل المجلسين – النواب والشيوخ – فإن الأغلبية الوفدية لم تتنازل عن وجهة نظرها ورفضت أن يقوم بأمر التحقيق إلا اللجان البرلمانية وهي بلا شك لجان وفدية خالصة وهكذا أصبح القاضي خصما وكانت النتيجة التصفيق الحاد على نزاهة الحكم وأن النحاس وزوجته وكبار مستشاريه فوق مستوي الشبهات .

ولعل ما توصل إليه التحقيق من نتائج كانت موضوع مناقشات بين فاروق والسفير البريطاني حيث تقدم الملك بمذكرة إلى السفير يشكك فيها من إجراءات التحقيق وأن أفضل طريقة هي أن يطرح النحاس القضية على الشعب لمعرفة مدي ثقته في الحكومة الحاضرة وبما أن الحكومة التي سوف تقوم بأمر الاستفتاء ستزيفه لصالحها فمن الأفضل قيام حكومة محايدة يعقبها إجراء انتخابات نزيهة.

وعلى ما يبدو فإن الحكومة البريطانية قد تأثرت بالدعايات التي أحدثها مكرم عبيد وحملت مراسلات وزارة الخارجية البريطانية إلى اللورد كيلرن استطلاع وجهة النظر المصرية على ضوء التطورات الجديدة وتفويض السفير في إعطاء الملك الضوء الأخضر لإقالة الحكومة إذا ما أصبحت لا تتمتع برضاء الشعب المصري إلا أن السفير البريطانية أبدي بعض التحفظات على اعتبار أن إقالة الوفد في مثل تلك الظروف يعد تشجيعا للملك وهو موقف يتعارض مع مصالح بريطانيا في هذا الوقت بالذات .

وعلى ضوء كل ما سبق يمكننا أن نستخلص بعض النتائج الهامة :

أولا : أن ما أصاب الوفد من انقسامات بعد خروج مكرم عبيد يعد نتاجا طبيعيا لسياسة القصر والتي نتجت عن أحداث 4 فبراير .

ثانيا : بالرغم من التقليل في حجم العناصر الوفدية التي ناصرت مكرم عبيد إلا أن الوفد قد تأثر كثيرا من حدوث هذا الانفصال وواجه العديد من المشاكل التي كان من أهمها اهتزاز ثقة الناس في نزاهة النحاس والتي كانت سمة من سمات حكمة طوال العهود السابقة .

ثالثا: أن خروج مكرم عبيد قد أغري أحزاب الأقلية لكي تتجه إلى التنسيق مع بعضها بهدف القضاء نهائيا على الوفد الذي فاد حركة النضال الوطني أكثر من عشرين عاما .

رابعا : لقد كان خروج مكرم عبيد من أهم العوامل التي أغرت حكومة الوفد على المضي في العديد من التجاوزات التي تناهض الديمقراطية والتي كانت سمة من سمات الوفد طوال فترات نضاله الطويل.

سياسة فاروق تجاه الوفد

لقد سعي فاروق ورجله الأول أحمد حسنين ( رئيس لديوان ) على استغلال كل الفرص الممكنة لرد الإهانة التي لحقت بهما حينما ولي النحاس الحكم ضد إرادتهما وبتأييد من السفارة البريطانية في 4 فبراير 1942 .

وإذا كان القصر قد أقدم على إقالة الوفد سنة 1937 ولم يجد ما يحول بينه وبين حكم البلاد نحو أربع سنوات ببرلمان وحكومات لا تستند إلى أى قاعدة جماهيرية فإن القصر عقب 4 فبراير 1943 كان أشد شوقا لكي يكر هذه الإقالة وإذا كانت العلاقات في ديسمبر 1937 قد ساءت بين القصر والوفد فإنهما اليوم أكثر سواء بل وصلت إلى حد القطيعة وتبادل أقسي الاتهامات .

وقبل أن نستعرض سياسة فاروق تجاه الوفد عقب 4 فبراير 1942 يجدر أن نسجل بعض الأسباب الموضوعية لكراهية الملك فاروق للنحاس باشا :

أولا : لقد كان فاروق دائم الاستماع إلى أحاديث مستشاريه وخصوصا علي ماهر وأحمد حسنين عن العلاقات بين النحاس باشا والملك فؤاد تلك العلاقات التي اتسمت بالعديد من المصادمات في محاولة من الوفد لانتزاع أكب قدر ممكن من الحقوق الدستورية التي تعد من صميم اختصاص القصر وهكذا صور له مستشاروه أن الوفد كان دائم الاعتداء على حقوق الملك الدستورية وأن الخلاف بينهما ليس من باب توضيح الحقوق الدستورية لكل من القوتين المتصارعتين وإنما من باب أن الأمة مصدر السلطان وأن الملك يجب أن يبقي بعيدا عن الحكم ويترك الأمر لحكومة الأغلبية عملا بمبدأ أن الملك يملك ولا يحكم .

ثانيا : أن موقف الوفد في 4 فبراير قد أفقد القصر كل صوابه وبات مؤكدا أن الوفد لم يعد يكن أى نوع من الولاء للقصر حيث كان واضحا أن المجئ بالوفد كان ضد رغبة القصر وهذا مما ضاعف من حد الصراع بين الطرفين مما نتج عنه العديد من النوايا العدوانية لكل من الطرفين تجاه الآخر .

ثالثا : لقد كان النحاس يتعامل مع فاروق من منطلق أنه " ولد صغير " يفتقد إلى الخبرة والتجربة وأن الميول الاستبدادية هي من أهم السمات التي حصل عليها " الولد الصغير" من الولد الملك فؤاد وكانت هذه الاتهامات تصل إلى الملك فاروق عن طريق العديد من عناصر السوء .

رابعا : لقد كان فاروق يعتقد أن للنحاس مطامع خفية لا تصل عند حد رئاسة الحكومة وإنما يمني نفسه بأن يكون أول رئيس للجمهورية المصرية وعلى ضوء هذا الاعتقاد كان ينظر إليه كخطر يهدد العرش ويعترف فاروق صراحة بعد أن نجا من حادث القصاصين :" لما كنت أقرب إلى الموت مني الحياة كان أكثر ما يؤلمنى أنني قد أموت والنحاس في رئاسة الوزارة مما يمكنه من الوصول إلى غايته من اقرب الطرق . وبالرغم من أن الوفد ينفي تماما ما أشيع من أمر التفكير في عزل فاروق على اعتبار أن إعلان الجمهورية لم يكن موضع تفكير لدي الدوائر السياسية في الوفد إلا أن أحد المعاصرين يعترف صراحة بهذا الموضوع حيث يقول :" لقد ظهر أن الملك وحاشيته سائرون في سياسة غي وطنية .. ورأى كبار الوفديين عزل الملك عن العرش وتم عرش الأمر على مجلس الوزراء الذي أقر هذا الاتجاه وعهد إلى أحمد نجيب الهلالي بأن يصوغ بأسلوبه الدقيق مبررات خلع الملك فأعد بيانا وسلمه إلى محمود سليمان غنام " وزير التجارة الذي ذهب إلى منزل النحاس حيث كان الوزراء لا يزالون موجودين وتم توقيعهم جميعا على البيان كقرار صادر من مجلس الوزراء ( سنة 1943) .

ويعترف صاحب هذه الرواية أن هذا الإجراء كان رد فعل لسياسة الملك الذي أخذ يعد فرقا خاصة من ضباط الجيش بهدف الاعتداء على النحاس باشا ووزرائه انتقاما لقبولهم وزارة 4 فبراير .

وعلى الرغم من أن صحب هذه الرواية لم يقدم تبريرا لتراجع الوفد عن المضي في تنفيذ مخططاته إلا أنني أعتقد أن الوفد قد أراد أن يقوم بمناورة لإرهاب الملك حتى يثنيه عن تصرفاته التي اتسمت بالعداء الواضح تجاه النحاس ووزرائه حيث نجح فروق في النيل من الوفد سواء بانفصال مكرم عبيد ( الذراع اليمني للنحس ) أو بإقامة التنظيمات شبه العسكرية وأهمها – التنظيم الحديدي- الذي أعده لملك بهدف اغتيال كل من ساهم في أحداث 4 فبراير أو قبل الحكم في ظل 4 فبراير .

وعلي ضوء ما أعتقد فإن مجلس الوزراء الوفدي قد أقدم على هذه الخطوة كرد فعل لمحاولة الاعتداء على النحاس وأمام العديد من المؤثرات العدائية تجاه الوفد إلا أن مزيدا من التفكير والتروي اعتمادا على أن فكرة خلع الملك وإعلان الجمهورية لم تكن من بين الأفكار التي يتقبلها الشعب المصري وقتئذ حيث كان الملك ما يزال يحظي بشعبية كبيرة سواء وسط الجماهير أو داخل الجيش المصري .. لى ضوء كل هذه الاعتبارات فلقد كان على النحاس أن يعيد النظر في هذا القرار الخطير والذي لا يضمن عواقبه , واعتمادا على أن بريطانيا كانت تهدف من عودة الوفد في 4 فبراير إلى الاستقرار الأحوال داخل مصر وأقدام الوفد على هذه الخطوة الثورية يتعارض تماما مع استراتيجية بريطانيا في المنطقة حيث كانت الحرب ما تزال دائرة على الجبهة المصرية وكانت قوات الحلفاء ما تزال تلقي العديد من الضربات العنيفة من قوات المحور فليس من المنطقي والحالة هكذا أن تشجع الحكومة المصرية على سياستها هذه حتى ولو كان في نية بريطانيا التخلص من فاروق فقد كان عليها أن تنتظر الوقت المناسب سواء فيما يتعلق بسير الحرب أو في تهيئة النفوس المصرية لتقبل مثل هذه الأفكار الجديدة .

وتعددت مظاهر الخلاف بين الملك والوزارة في العديد من المناسبات مما أتاح لفاروق العديد من المبررات التي تمكنه من التخلص من الوزارة وإقالتها إلا ان السفير البريطاني " كيلرن" ظل واقفا أمام محاولات الملك بحجة أن ظروف الحرب لا تقتضي الإقدام على مثل هذه الخطوة .

ولا شك أن كل ظرف قد اصطنع لنفسه من الوسائل ما تمكنه من بلوغ أهدافه وبدأ هذا في العديد من الأزمات التي كان من بينها :-

1- لقد حضر الملك الاحتفال بليلة القدر في مسجد الفتح وحضر الحفل مصطفى النحاس وبعد أن انتهي الشيخ عبد الله عفيفي من إلقاء خطبته دعا للملك وللمؤمنين جميعا والتفت الملك إلى النحاس وسأله عن رأيه في الخطبة فأجاب بأن الخطيب لم يدعو في خطبته لحكومة الشعب ولا لزعيم لشعب وهنا تأفت الملك إلى أحمد حسنين ( رئيس الديوان الملكي ) وطلب إليه أن يبحث فمن المراجع الرسمية فإن وجد سابقة دعا فيها خطباء المساجد لرئيس الحكومة فمن حق النحاس أن تجاب رغبته وفي المساء اتصل صبري أبو علم " وزير العدل " بأحمد حسنين وأخبره أن النحاس سيستقيل أن لم تسو مسألة الدعاء له في المساجد ووفق نفس المرجع فإن النحاس خشي إذا أقدم على الاستقالة أن تقبل فورا مما اضطره أخيرا أن يتصل بأحمد حسنين ويبلغه اعتذاره .

2- لقد استقر الرأي على الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر ووضع برنامج الاحتفال بمعرفة الملك شخصيا وكان القائم على تنفيذه هو الشيخ المراغي شيخ الأزهر إلا أن مصطفى النحاس كان يود أن يكون الاحتفال تحت إشراف الحكومة على اعتبار أن الاحتفال سيكون شعبيا ودينيال وأحس النحاس أن اسمه لن يكون في الاحتفال وأن رجال الأزهر لن يذيعوا أن جوهر الصقلي كان وفديا ومن هنا فقد عمل النحاس على عرقلة الاحتفال أو منعه إن استطاع وبالفعل لم يعمل الاحتفال .

3- بحلول موسم صيف 1943 بدأت الوزارة في الانتقال إلى الإسكندرية وكانت القاعدة المرعية في جميع العهود أن يقر الملك موعد الانتقال الرسمي إلى المضيف وكان هذا التصرف من جانب الوزارة مظهرا من مظاهر التحدي للقصر وكان رد الفعل أن القصر أقام حفلا للطلبة المتفوقين دعا إليه نحو 450 طالبا من الجامعات والمدارس ثم تبع ذلك حفل آخر للطلبة الغرباء ولم يدع القصر إلى هاتين الحفلتين أحد من الوزراء .

4- لقد أعد النحاس باشا علما مصريا على سارية عالية في أعلا مكان من منزله وكان هذا العلم يرفع بمجرد دخوله إلى منزله ويظل مرتفعا طالما بقي داخل قصره حتى إذا ما خرج نكس العلم ويظل منكسا إلى أن يعود النحاس إلى قصره وكانت عملية رفع وتنكيس العلم تصحبها تحية عسكرية تقوم بها قوة من سلاح حرس الوزارات تحيي الزعيم عند الدخول وعند الخروج وعلم فاروق بموضوع العلم حيث كان من العلوم أن العلم لا يرفع ولا ينكس إلا لرمز الدولة وهو الملك وصدرت التعليمات من القصر برفع العلم فورا وعدم تكرار هذا التقليد الذي يفتقد إلى أى سند قانوني .

وعلى الرغم من أن معظم المصادمات كنت من باب تصيد المواقف حيث كانت في مجملها خلافات شكلية أكثر منها موضوعية إلا أنها كانت مقدمة للعديد من المحاولات من جانب القصر بهدف إقالة الحكومة ففي أعقاب أزمة الكتاب الأسود تقدم أحمد حسنين رئيس الديوان باستقالته من منصبه ( 14 أبريل 19429 بحجة أن استمرار الوفد في الوزارة بعد أن ثبت فساده سوف يؤدي إلى كراهية الشعب للنحاس مما سيجعل مركزه مستحيلا وقد أدرك " كيلرن" ما وراء هذه الحركة المسرحية ومن ثم سعي إلى إبطال مفعولها .

وعلى ضوء تعليمات الخارجية البريطانية إلى سفيرها في القاهرة فقد طلب السفير من الملك مزيدا من ضبط النفس محذرا من الإقدام على أية خطوة متهورة قد تكون لها عواقب ليست في الحسبان وبالطبع فإن " التهور الذي تعنيه لندن هو إقالة الوفد وأما العواقب التي ليست في الحسبان فهي تذكير الملك بما يشبه 4 فبراير أو يزيد.

وعلى كل فإن محاولات أحمد حسنين لم تتوقف فقد جعل همه أن يظهر الملك بمظهر الرجل الوطني وأن يظهر حكومة الوفد بمظهر المتساهل في حقوق الوطن المعتمد على تأييد البريطانيين وفي الوقت نفسه أدار أحمد حسنين حملة دعاية واسعة لصالح فاروق وجعله يغشي المساجد ولما أصيب في حادث القصاصين اتخذها فرصة لاستدرار العطف على الملك الجريح الذي يقاوم الطغيان البريطاني وجعل من يوم عودته إلى القاهرة مظاهرة شعبية كبيرة وكان واضحا أن كل هذه الحركات مما يضايق الحكومة ويحرجها ثم أنها تعد تعبيرا عن التأييد الذي يحظي به الملك لدي غالبية الشعب المصري .

ويبدو أن أحمد حسنين قد تصور أن محاولاته المتكررة بإظهار الملك في صورة " الملك المتدين" و" الملك الصالح" قد تؤدي إلى التفاف الشعب حول فاروق وانصرافهم عن الوفد وهو ما يتعارض مع سياسة الوفد باعتباره حزب الأمة المصرية كلها وحتى لا يتهم القصر بأنه لا يحس بمعاناة الجماهير فقد فتحت أبواب قصر عابدين أمام العمال حيث دعوا إلى مآدب لهم وقيام فاروق شخصيا بترحيبه بهم ولم يكتف الملك بهذا بل تعمد على أن يمضي يوم ذكري حلف اليمين الدستورية ( 29 يوليو 1937 ) بين عمال المحلة الكبرى متفقدا أحوالهم الصحية والاجتماعية حتى إذا دخل السرادق المقام لاستقباله قال : " أني أري حولي أصحاب رؤوس الأموال التي أنشأت هذه المصانع ولكني لا أري حولي أحد من أصحاب السواعد الذين قامت هذه المصانع على سواعدهم " وكثيرا ما ردد في خطبته مؤكدا على حقوق العمال وقد ترأس بنفسه المجلس الأعلى لمحاربة الجهل والفقر والمرض لدرجة أن كيلرن كان ينقد هذه السياسة معتقدا أنها تقلل من هيبة الملك .

وعلى ما أعتقد فإن كل هذه المحاولات التي كان يقوم بها الملك لم تكن خالصة لوجه الله وإنما كانت بهدف كسب أرض جديدة من تحت أقدام الوفد وهو ما نجح فيه فاروق إلى حد كبير حيث أن العمال كانوا يعدون الغالبية لعظمي لحزب الوفد وعلى ما أعتقد أيضا فإن انتقادات السفير لبريطاني " كيلرن" للملك فاروق بحجة أن سياسته تجاه العمال تقلل من هيبته هو استنتاج لا يتسم بقدر من الموضوعية ولعل السفير كان يهدف من وراء هذه النصيحة إلى أن يظل فاروق بعيدا عن أهم قطاع يمثل عامل ضغط هام في مجري الأحداث المصرية .

ولم تتوقفا سياسة القصر بهدف النيل من النحاس وحكومته بل بدا ذلك النشاط المتزايد الذي شهدته الشهور الباقية من عام 1943 من تنظيم العمال والطلاب تحت راية القصر من خلال الاجتماعات المتكررة التي كان يعقدها أحمد حسنين مع زعماء تلك الطوائف لدرجة أنه تمكن من أن يقنعهم بأن النحاس مصمم على سلب الملك سلطاته وعلى وضع نفسه على رأس الدولة بدلا من أن يقنع بدوره في زعامة الحزب السياسي ورئاسة الوزراء .

ويسجل اللورد أن الملك فاروق قد حقق شعبية كبيرة على الوفد وخصوصا وسط الطبقات العاملة وأن عددا كبيرا من طلاب الجامعات أخذ في التحول من الوفد إلى الملك ويستشهدا السفير بتلك المظاهرات المستمرة التي قام بها الطلاب والعمال عندما أصيب الملك في حادث القصاصين ( نوفمبر 1943).

وفي الوقت الذي كان يقوم فيه القصر بالعديد من المناورات لإضعاف الحكومة والتقليل من هيبتها نستطيع أن نقرر أن معظم تلك المناورات قد حققت قدرا كبيرا من النجاح ولم يقتصر الأمر على مناورات القصر بل تعدي ذلك إلى أحزاب الأقلية التي انتشرت في القرى والمدن المصرية لعقد العديد من الاجتماعات المؤتمرات والتي أنصبت في مجملها على النيل من الوفد مما يجعلنا نعتقد أن كل أحزاب المعارضة كانت تعمل من خلال تنسيق أعدة أحمد حسنين باسم القصر الملكي .

ونظرا لأهمية الجيش في حسم أى نوع من الصراع السياسي فقد بدأ الملك يتقرب إلى الضباط حيث حرص على أدائه لصلاة الجمعة في مسجد فاروق بألماظة وتكررت هذه الزيارة في الفترة من 13 فبراير 1942 وحتى 25 فبراير وكل مرة كان الضباط يهتفون " يعيش الملك قائدنا الأعلى " الجيش فداء الملك ".

وعلى ما يبدو فإن أحمد حسنين قد استطاع أن يقنع فاروق بأن الوفد أضحي قوة هزيلة فقدت مكانتها لدي معظم الجماهير المصرية ولم يعد يمثل واقعا ملموسا وسط الجماهير ومزيدا من إحراج الوفد واعترافا من القصر بأن الوفد لم يعد يمثل الأمة المصرية فلقد دعا الملك زعماء المعارضة وطلب منهم التقدم بمطالب مصر إلى القادة الكبار ( نوفمبر 1943) في مؤتمرهم المنعقد في القاهرة ( تشرتشل روزفلت , شاينج كأى شك)

ويعترف أحد زعماء الأحزاب المصرية بأن هذا اللفتة الملكية كان لها مغزاها فالطبيعي أن تقوم الوزارة بهذا المسعي فهؤلاء الكبار ضيوفها وهي أقدر من المعارضة على الاتصال بهم والتحدث إليهم وهي مطالبة بحكم مركزها بأن تتولي هذا الأمر ومن خصائص الملك الدستورية أن يلفت نظر رئيس وزرائه إلى هذا الأمر فاختصاص الملك رجال المعارضة بهذا الأمر الحيوي له مغزاه البين على أن حادث 4 فبراير 1942 بقي عميق الأثر في نفسه .

وعلى ما أعتقد فإن تعليمات الملك إلى زعماء المعارضة لكي تقدموا بما طلب مصر إلى القادة الكبار لم يكن يهدف تقرير أحقية مصر في الاستقلال عقب الحرب بقدر ما كان يهدف إلى إحراج وإظهارها سواء أمام القادة الكبار أو أمام الشعب بمظهر الحكومة العاجزة عن تحقيق أماني الشعب المصري ولعل هذا ما يبدو واضحا من خلال إلحاح الملك بعزل حكومة النحاس باعتبارها عقبة في سبيل تحقيق الأماني الوطنية للشعب المصري .

ويلاحظ أن المذكرة التي تقدم بها زعماء المعارضة ( 21 نوفمبر 1943) كانت على غرار مذكرة مماثلة قدمها الوفد في 21 أبريل سنة 1940 إلى الحكومة البريطانية ولعل هاتين المذكرتين لم تكونا سوي مناورة لا تعبر عن حقيقة أو موقف جاد فقد قدم الوفد مذكرته كيدا للوزارة القائمة حينئذ وقدمت المعارضة مذكرتها كيدا لوزارة الوفد بدليل أن الوفد حينما ولي الحكم لم يقدم على أى إجراء عملي لتنفيذ ما جاء في مذكرته وكذلك كان موقف أحزاب المعارضة فإنها حينما وليت الحكم بعد ذلك بأقل من عام تناست كل ما طالبت به في مذكرتها .

وفي الوقت الذي كان فيه فاروق يبذل كل جهد ممكن سواء في توشيه صورة الوفد والنيل من مكانته أو في محاولاته المتكررة لطرد الحكومة كانت هناك محاولات أخري تأخذ طابعا سريا ونعني بها محاولة أعداد تنظيم سري بهدف اغتيال كل من ساهم في صنع 4 فبراير 1942 وعلى رأسهم النحاس باشا وأمين عثمان .

لقد وصلت العلاقات بين القصر والحكومة إلى أبعد مدا وخصوصا بعد انتشار الملاريا في مديرتي قنا وأسوان مع نهاية عام 1943 وبداية عام 1944 وزيادة المجاعة وكثرة الوفيات في تلك المناطق وفشلت جهود الوزارة في اتخاذ الإجراءات المناسبة مما حدا بالقصر لكي يستخدم هذا الفشل كورقة ضد الوفد وتراءي للملك أن يقم برحلة خاصة إلى الصعيد ومع أنه استقبل النحاس باشا يوم 7 فبراير فإنه لم يخبره بما يفكر فيه من زيارة المديريات المنكوبة . وفي صباح الخميس 10 فبراير سافر الملك ( عشية عيد ميلاده) حيث أحيطت تلك الزيارة بالعديد من مظاهر العطف الملكي على الفلاحين المنكوبين وقد أشار فاروق في أحاديثه إلى أهل النوبة بما يفهم من أن الحكومة قد أهملت إهمالا كبيرا في السيطرة على كل تلك المشاكل .

وكان لتلك الزيارة أثرها في تنبيه الأذهان إلى خطورة الموقف حيث جرت في الأسبوع الأخير من فبراير مناقشات حامية في البرلمان حول نقص المواد الغذائية وانتشار الملاريا وقد ألقي النحاس باللائمة على الوزارات السابقة لأنها أعاقت مشروع تعلية خزان أسوان ثم ألقي المسئولية على كبار الملاك في الوجه القلبي لأنهم يعطون أجور غير مجزية للعمال الزراعيين ولعل النحاس كان يقصد إلقاء التبعة على الملك فاروق شخصيا لأنه من المعروف أن الخاصة الملكية لها تفتيش واسعة في تلك المناطق ولم يكتف النحاس بذلك بل ألقي بيانا نشر في كل الصحف الوفدية وبعض صحف المعارضة مؤكدا على أن أبناء الصعيد في حالة جيدة وأنهم سعداء بإدارة الحكومة .

وإمعانا في تجسيم المنافسة بين الملك والنحاس قام الأخير في 13 مارس بزيارة أسيوط والمنيا واصطحب معه وزراء الأشغال والعدل والمعارف والداخلية والصحة والأوقاف وأعلن عن زيارته إلى قنا وأسوان بعد قليل وتمت الرحلة خلال مارس 1944 حيث افتتح النحاس عددا من المنشآت والساحات الشعبية وأطلق عليها مؤسسة مصطفى النحاس وفي الخطب التي ألقاها الوزراء في تلك المناسبة ركزوا على أن الحكومة تعمل الكثير لأبناء الصعيد بينما القصر لا يعمل شيئا .

وبالرغم من أن زيارة فاروق لتلك المناطق والتصريحات التي أدلي بها تعد إحراجا أكيدا للحكومة إلا أنه لم يكتف بذلك بل استدعي رئيس الوزراء كما أجتمع بوزراء الداخلية والشئون الاجتماعية والأوقاف والتموين والصحة ولفت أنظارهم إلى سوء حالة التغذية والتموين وانعدام الرعاية الصحية في المناطق التي زارها .

ويبدو أن فاروق قد حاول استثمار الموقف بهدف إقالة الوزارة واستدعي السفير البريطاني وأبلغه بنيته بحجة أن الأمة لم تعد تنظر باحترام كاف للعرش وأن البلاد لا تحتمل ملكين ورد السفير مداعبا " أن ملكا واحدا يكفينا وبالرغم من الاتفاق الذي تم بين الرجلين على انتظار رد لندن إلا أن فاروق حاول أن يضع السفير البريطاني أمام الأمر الواقع وأصدر أمرا ملكيا بإقالة الوزارة إلا أن السفير كان متيقظا وتنمكن من الضغط على فاروق وطلب منه انتظار رد تشرتشل الذي جمع وزارة الحرب لبحث المسألة وجاء قرار الحكومة البريطانية والذي تم إبلاغه إلى القصر وفحواة : أن مجلس الحرب يري أن رغبة الملك في إقالة حكومة يتمتع رئيسها بأغلبية كبيرة في البرلمان الذي لا زال أمامه ثلاث سنوات أخري يعد عملا محفوفا بالمخاطر .

وبعثت الحكومة البريطانية برسول يستطلع الموقف السياسي في مصر وقد حضر مستر " سكريفنر " رئيس إدارة الشرق الأوسط بوزارة الخارجية بعدد من زعماء المعارضة وخلص إلى أن الشكوى من الوزارة القائمة تنحصر في مرين :

أولهما : شدة الرقابة على الصحف .

ثانيهما : كثرة الاعتقالات السياسية وكان من رأي السفير البريطاني أن بعض الاعتقالات يتم لإغراض حزبية ولهذا فقد اقترح تأليف لجنة برئاسة أمين عثمان لمراجعة كشوف المعتقلين وتوضيح أسباب اعتقالهم وعلى سبيل التندر قال مستر " سكريفنر " أنه علم من مصدر ثقته أن النحاس أمر باعتقال الطاهي الخصوصي لأنه وضع في الحساء كمية من البصل أكثر من اللازم .

ووفقا لأحد المصادر وثيقة الصلة بالقصر الملكي فإن أحمد حسنين في حديثه مع " سكريفنر" قد أنحي باللائمة على بريطانيا لأنها تتمسك بوزارة قصرت في شئوت التموين وأن أهالي الصعيد قد يقومون بثورة كالتي حدثت في سنة 1919 وأن الوفد إذا دخل انتخابات جديدة فإنه لن يفوز بأكثر من 30 % من الأصوات .

ولعل النحاس باشا قد قرر خطورة المحاولات التي يبذلها القصر بهدف إطاحة بوزارة 4 فبراير لذا فقد ذهب إل ى السفير البريطاني معاتبا إياه قائلا : لقد بذلت قصاري جهدي لكي أبدو مفيدا في تلبية مطالبكم سواء بتأمين قواتكم أو بتوفير المواد الغذائية للقوات المحاربة واعتقلت غير المرغوب فيهم من الشخصيات العامة كل هذا وصل بي إلى موقف اتهمت فيه بأني أفعل ما يريده لانجليز لأبقي في الحكم وأخيرا وبعد كل ذلك أحس أنكم بدأتم تتخلون عني ويشير النحاس من طرف خفي أنه على استعداد لإلغاء الأحكام العرفية وإلغاء الرقابة والاعتقال والعودة إلى المحاكم العادية معتادون على تحمل قدر من اللوم لا يستحقونه على مسئوليات تعد من صميم عمل الحكومة المصرية ويضيف السفير في برقيته قائلا : أن النحاس أصبح يدرك بصورة متزايدة المشاعر المعادية ضده بسبب عيوبه ومطاردته لخصومه السياسيين بحجة تسئ إلى بريطانيا قبل أن تسئ إلى الوفد وعموما فإن الوفد بكل عيوبه لا يزال أفضل ما نعتمد على .

وإذا كان هدف بريطانيا من عودة الوفد في 4 فبراير هو استقرار الأوضاع المصرية بالإضافة إلى توظيف كل الإمكانيات المصرية خدمة لقضية الحلفاء بما يضمن أمن القوات البريطانية المحاربة وتأمين ظهرها فإن هذه البرقية تضاعف من قناعتنا بأن بريطانيا كانت تهدف أيضا بعودة الوفد إلى اهتزاز ثقة الجماهير في هذا البناء الشامخ " الوفد ط حتى إذا ما انقضت الجماهير من حوله فلا مانع من أعطاء الضوء الأخضر للملك لكي يقيله لكن إقالته هذه المرة ستكون أسوأ إقالة حيث شاخ وهرم وفقد المقدرة على لتأثير وأصبح تاريخا فقط لا يحمل نبضا صادقا ولعل فاروق كان مدركا هذا المعني واثقا من محاولاته ولذا فقد سعي جاهدا لمقابلة " كيرك" السفير الأمريكي في القاهرة طالبا منه التوسط لدي الحكومة البريطانية في محاولة لإقناعها بفكرة عزل النحاس وحكومته ووفقا لتعبير " كيرك ": فإن الملك عاقد العزم على إنهاء الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء بالقوة حتى ولو كلفه ذلك اعتزال العرش والإقامة في المنفي ويضيف السفير الأمريكي " أن الخلاف بين فاروق والنحاس من الممكن أن تكون له عواقب وخيمة على منطقة الشرق الأوسط كلها إلا أن السفير الأمريكي لم يقطع على نفسه وعد على اعتبار أن هذه المسألة تدور في إطار العلاقات البريطانية المصرية .

ولعل السفير الأمريكي لم يحاول أن يقطع على نفسه وعدا قد يورط الولايات المتحدة الأمريكية في أمر يعد من أخص خصائص الحكومة البريطانية اعتمادا على أن فاروق لا يساوي خلافا بين الولايات المتحدة وحلفائها ولهذا فقد امتنع " كيرك " عن التوسط في حسم هذا الخلاف وعلي ما اعتقد أيضا فإن امتناع السفير الأمريكي عن التدخل قد يكون راجعا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت تدرك أن الإمبراطورية البريطانية قد شاخت وأن مصيرها إلى زوال . والنظرة الموضوعية تقتضي التعقل بعيدا عن التدخل في صراعات قد تحدث أثارا ضارة للمصالح الأمريكية المنتظرة .

وعلى ما اعتقد فإن قضية التغيير التي كان يعتبرها فاروق قضيته الأولي والأخيرة كانت أشد ما تكون ارتباطا بانتصار الحلفاء في الحرب ومع نهاية 1944 حيث كان الأمريكان والانجليز قد نزلوا فرنسا وبدءوا يجلون الألمان عنها وكان الروس من ناحيتهم قد قاوموا الألمان في – ستالينجراد – مقاومة اضطرتهم إلى التراجع وأتاحت للروس أن يتقدموا إلى بروسيا الشرقية وكانت بوادر نصر الحلفاء تتبدي في الأفق نصرا حاسما بغير شرط ولا قيد وأدرك البريطانيون وفقا لسياستهم التقليدية أنه لم يتبق لهم في مصر حاجة لليد الحديدية التي جعلوا النحاس وسيلتها منذ أن فرضوه على الحكم في 4 فبراير 1942 .

وأدرك أحمد حسنين أن الفرصة مواتية لإقالة مصطفى النحاس وأدرك فاروق أن أحمد حسنين هو الرجل الذي من الممكن أن تقبله بريطانيا بديلا ن الوفد بعد أن استنزفت كل الوسائل المتاحة أمام القصر إلا أن بريطانيا كانت تدرك جيدا أن أحمد حسنين على الرغم من صداقته لبريطانيا إلا أنه ليس بالرجل المنتظر .

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة : لماذا أعتقد فاروق أن أحمد حسنين هو البديل المناسب عن الوفد على الرغم من أن استمراره في منصب رئيس الديوان يعد صمام أمن لفاروق ؟... وتأسيسا على العديد من القرائن النحاس هذا الرجل الذي استطاع أن يبث الطمأنينة في نفوس الساسة الانجليز منذ ولي الحكم في 4 فبراير ولعل هذا الاعتبار الذي استباحت من أجله بريطانيا كل القوانين والمعاهدات لا يمكن أن تقبل تغييره ولكن من الممكن أن تعيد تفكيرها إذا وجد على رأس الحكومة ما يستطيع أن يؤمن مصالح بريطانيا واختيار أحمد حسنين هذا الرجل الذي أجمع كل الساسة الانجليز على أنه لا يضمر أى نوايا عدوانية تجاه الانجليز بما عرف من صداقته للعديد من الشخصيات البريطانية وبمعني أكثر وضوحا لقد استطاع القصر أن يقدم البديل عن الوفد وعن النحاس أما الاعتقاد بأن الوفد يستند إلى قاعدة شعبية كبيرة تؤمن بالنحاس أما الاعتقاد بأن الوفد يستند إلى قاعدة شعبية كبيرة تؤمن بالنحاس ولا ترضي عنه بديلا أعتقد أن القصر قد قدر الانهيار الذي لحق بالوفد سواء بعد 4 فبراير أو عقب خروج مكرم عبيد ولذا فلم تعد لبريطانيا حجة من أن يستند إلى أغلبية شعبية .

إلا أن بريطانيا على ما يبدو لم تكن على استعداد لإجراء أى نوع من التغيير نظرا لأن الحرب سواء في الجبهة الأفريقية ( شمال أفريقيا ) أو في جبهات أوربا كانت تمر بأدق وأخطر المراحل وعلى حد تعبير السفير البريطاني :" سيظل السوط معلقا على الحائط ليراه الملك بين وقت وآخر "

وبالقدر الذي كانت فيه بريطانيا تحاول حماية الوفد من الإقالة كان النحاس يلقي بكل ثقله في جانب السفير البريطاني إيمانا منه بأن بقاءه في الحكم لا يستند إلى الأغلبية ولا لغيرها من الاعتبارات وإنما يستند إلى ما يقدمه الوفد للإنجليز ولذا فقد القي النحاس بكل ثقله في جانب الحليفة غير مدرك لإبعاد السياسة البريطانية التي ستتخلي عنه حتما في الوقت المناسب .

ووفق العديد من المخططات التي كان يقوم بها القصر فإنه لم يفقد الأمل في الإطاحة بالحكومة بل جعلها مبدأ استراتيجيا في سياسته وحتما سيكون من تحقيق أغراضه وعلى حد تعبير أحمد حسنين صبرا يا مولانا فالشباك قد أعدت "

ولعل فاروق كان مقدرا طبيعة الموقف الدولي وكان يلتمس النهاية التي تمكنه من تحقيق رغبته بعد أن طال صبره ما يقرب من ثلاثة أعوام حتى كان يوم الجمعة 15 سبتمبر 1944 فقد بعث كبير الأمناء إلى النحاس طبقا للعادة المرعية يخبره بأن جلالة الملك سوف يؤدي صلاة الجمعة في مسجد عمرو بن العاص . ولكن الأخطار لم يتضمن دعوة رئيس الوزراء إلى مصاحبة الملك طبقا لما جرت عليه التقاليد ولما سأل النحاس قال له كبير الأمناء أن حسنين باشا رئيس الديوان هو الذي سيصحب الملك في موكبه .

ويبدو أن هذا القرار جاء ردا على تحدي النحاس باشا للملك إذ لم يحضر ولم يعتذر عن عدم قبول الدعوة إلى مأدبة الإفطار التي أقامها الملك يوم 25 أغسطس لسفراء الدول العربية .

وبينما موكب الملك يمر لأداء صلاة الجمعة لاحظ الملك بعض اللافتات وقد كتب عليها " يحيا الملك مع النحاس " وكان اقتران اسم الملك باسم النحاس سببا لإصدار الأوامر من الملك إلى مدير الأمن العام محمود غزالي بك بنزع اللافتات ونفذ الأمر على الفور وفي اليوم التالي نشرت الصحف قرارا من وزير الداخلية بإيقاف مدير الأمن العام عن العمل , وأثار هذا القرار حفيظة الملك الذي صمم بدوره على بقاء مدير الأمن العام في منصبه واتصل حسنين باشا بمستر ( الآن ترنس شون) القائم بأعمال السفارة البريطانية وأبلغه أنه لا يعتزم اتخاذ أى إجراء متسرع ضد الوزارة .

ولكنه حفاظا لكرامة الملك يجب أن يعود محمود غزالي إلى منصبه وبادر مستر شون بإرسال خطاب إلى النحاس قال فيه أن انجلترا ما زالت تبدي اهتماما كبيرا بتأمين مصر باعتبارها قاعدة للعمليات الحربية وأنها ترغب في تجنب أية إجراءات قد تؤثر في سير المجهود الحربي .

وبدا واضحا أنه لابد من تنازل أحد الفريقين حتى تمر تلك الأزمة إلا أن كل منهما قد تطلع إلى دار لسفارة البريطانية باعتبارها المصدر الفعلي لحكم البلاد وغاب عن النحاس أن الموقف هذه المرة تحكمه اعتبارات دولية جديدة فلقد كانت الأوضاع الدولية توشك في نهاية الحرب لصالح الحلفاء في الوقت الذي كان فيه اللورد كيلرن صاحب أحداث 4 فبراير العسكرية غائبا عن مصر في رحلة صيد إلى جنوب أفريقيا وعلى ما أعتقد فإن غيابه لم يكن من قبيل المصادفة وحتى لو كان موجودا فلن يغير من الأمر شئ لأن السياسة البريطانية لا تقوم على اعتبارات شخصية وإنما تعتمد على اعتبارات موضوعية لعل في مقدمتها التخلي عن اليد الحديدية حتى يتطلع الشعب المصري إلى أمل جديد مما يخفف من حدة العداء التقليدي بين المصريين والانجليز ثم أن الرجل موضع الخلاف " محمود غزالي " كان موضع اهتمام الدوائر البريطانية وكان اختياره لهذا المنصب بناء على تعليمات الحكومة البريطانية .

ولما كانت حجة انجلترا في التمسك بوزارة الوفد أنها ما زالت تحتل الأغلبية بين جماهير الشعب وأنها تتعاون بصدق مع الحليفة في سبيل المجهود الحربي أما وقد انحصر خطر الحرب عن مصر نهائيا وتوالت انتصارات الحلفاء بحيث أخذوا يستعدون لعقد مؤتمر السلام فقد تغير الموقف تماما .

وعلى ما أعتقد فإن الوفد لم يدرك أن المجئ بحكومته كان لأهداف بريطانية بحتة حيث حصلت بريطانيا من مصر على كل ما ممكن أن تقدمه الدول المحاربة .

أما القول بأن بريطانيا قد ساهمت في عودة الوفد لأسباب ديمقراطية بحتة فهو قول لا يستند على أى دليل مادي أو عقلي وأعتقد أن بريطانيا كانت عازمة على إقالة الوفد حتى ولو لم تحدث مشكلة غزالي بك وإلا كيف نفسر ذهاب السفير البريطاني إلى جنوب أفريقيا في رحلة صيد والحرب لم تنته بعد وجيوش الحلفاء في القاهرة وباقي العواصم لمصرية تقرب من المائة وخمسون ألفا أو يزيد وما يترب على ذلك من مشاكل تستلزم بالضرورة بقاء الرجل الذي يعلق السوط على لحائط لكي يرهب به كل من تسول له نفسه الخروج على رغبة الحكومة البريطانية .

وعلى ضوء كل الاعتبارات السابقة حمل المستر شئون لقائم بأعمال السفير قرار الحكومة البريطانية إلى القصر وكان نصه : أن حكومة صاحب الجلالة لا تريد أن تتدخل في هذا الخلاف الداخلي ومن المؤكد أن الحكومة البريطانية كانت تعني حرية القصر في إقالة الوزارة اعتقادا من الحكومة البريطانية بأن القصر لن يفوت هذه الفرصة.

ووفق أحد المصادر قريبة الصلة الملكي فإن النحاس بعد أن أدرك حقيقة السياسة البريطانية كان يستعد لمواجهة القصر والانجليز معا وذلك بتقديم استقالته بدعوي ن الانجليز لا يستجيبون للمطالب الوطنية وأنهم يتدخلون في شئون مصر الداخلية .

وواقع الأمر أن النحاس قد أشار في احدي خطبة إلى ضرورة تعديل المعاهدة كما أشار إلى ضرورة صيانة حقوق مصر في السودان إلا أن السفارة البريطانية قد أدركت أهمية الموقف الذي من الممكن أن يحدث لو أقدم النحاس على تقديم استقالته ولذا فقد بادرت بإعطاء الضوء الأخضر حتى يتمكن القصر من تحقيق أمنيته التي يسعي إلى بلوغها منذ ثلاث سنوات .

ولما كانت مناقشات اللجنة التحضيرية لمؤتمر الاتحاد العربي تسير قدما نحو النجاح وتحدد يوم 5 أكتوبر سنة 1944 موعدا لانتهائها وتقرر الاحتفال بتوقيع ميثاق جامعة الدول العربية يوم 7 أكتوبر فكان على النحاس أن يتريث حتى يتم هذا العمل المجيد وبعدها يقدم استقالة مستندا إلى أسباب وطنية ومن جانب القصر كان الموقف يقتضي التريث أيضا لأن إقالة الوزارة وهي بصدد توقيع ميثاق الجامعة العربية قد يفسر بأن فاروق يعترض على قيام الوحدة العربية وهو الحريص على أن تكون له زعامتها ولهذا فقد التزم الطرفان جنب الترقب والانتظار .

وفي صباح الأحد 8 أكتوبر 1944 ذهب حسن يوسف وكيل الديوان حاملا قرار إقالة حكومة 4 فبراير والتي ورد ذكرها على النحو التالي : لما كنت حريصا على أن تحكم بلادي وزارة ديمقراطية تعمل للوطن وتطبق أحكام الدستور نصا وروحا وتسوي بين المصريين جميعا في الحقوق والواجبات وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب فقد رأينا أن نقليكم من منصبكم .. الخ

وزارة أحمد ماهر وانتقال الوفد إلى جبهة المعارضة

وفي نفس اليوم الذي وجه فيه الملك الإقالة التي النحاس (8 أكتوبر 1944) وجه أمر تأليف الوزارة إلى أحمد ماهر وكان من المتوقع أن يكون أحمد حسنين هو الرئيس الجديد إلا أن الموقف كانت تحكمه عدة عوامل موضوعية تفسرها القرائن الآتية :

أولا : لعل أحمد حسنين قد فضل أن يدع لغيره مواجهة التغيرات الجديدة وخصوصا وأنه كان دائم التصريح عن محاولاته المستمرة بهدف إصلاح الصراع الذي وقع في العلاقات بين القصر والوفد نتيجة لحادث 4 فبراير وحتى في أشد مراحل الصراع بين الملك والنحاس عقب إقالة مكرم عبيد كان أحمد حسنين يلعب دوره وبذكاء شديد محاولا إقناع الوفد بأن رئاسة ديوان القصر تسعي لوجود نوع من التفاهم بين القصر والوفد وعلى حد تعبير أحد المعاصرين :" لقد كان أحمد حسنين داهية سياسية يصعب فهمها وعلى ضوء كل هذه الاعتبارات فإن أحمد حسنين لم يكن من السذاجة لدرجة أنه يوافق على رئاسة الحكومة حتى لا يتهم بأنه كان وراء كل ما حدث من خلافات بين القصر والوفد بالرغم من أننا على درجة كبيرة من القناعة التي تجعلنا نقرر بأن أحمد حسنين يعد العامل الثاني في تصدع العلاقات بين القصر والوفد بعد العمل الأول وهو حادث 4 فبراير .

ثانيا : لقد كانت سياسة القصر قائمة على مبدأ تدمير الوفد والتجاوز عن فكرة الدستور أو القانون وأحمد حسنين بما عرف عنه من ذكاء وحنكة لا يمكن أن يكون كبش الفداء حيث تعود دائما أن يعمل من خلف الستار وكان اختيار أحمد ماهر ليس من قبيل المصادفة بل لما عرف عنه من كراهية شديدة للنحاس تؤهله أن يكون الزراع التي تمكن القصر من اقتلاع عروش الوفد.

ثالثا : أن منصب رئيس الديوان لا يقل أهمية عن منصب رئيس الحكومة علاوة على أن منصب رئيس الديوان يتسم بالثبات والاستقرار بعد مشاحنات الأحزاب بل غالبا ما كانت الأحزاب تلجأ إلى رئيس الديوان لحسم أى نوع من الخلافات التي تقع سواء بين الأحزاب وبعضها أو بين الأحزاب والملك وما كان لأحمد حسنين وهو في موقع الاختيار أن يقبل عن منصب رئيس الديوان بديلا وخصوصا في تلك الفترة التي تسلتزم وفقا لسياسة القصر العديد من الإجراءات التي لا تتفق مع مبدأ الدستور أو القانون .

وعلى الرغم من اعترافنا صراحة بأن الوفد قد تجاوز في تصرفاته إلى درجة لا تتفق وتاريخ هذا البناء الشامخ وإذا كان الدستور قد أعطي الملك حرية إقالة الحكومة باعتباره حقا مقررا في الدستور إلا أن هذا الحق ليس مطلقا بل مقيدا بشرط ألا تنقل السلطة من الشعب إلى الملك بل لابد من العودة إلى الأمة باعتبارها مصدر السلطات واستطلاع رأيها من خلال انتخابات حرة يتبين منها مصدر السلطات واستطلاع رأيها من خلال انتخابات حرة يتبين منها الرأي الصحيح للشعب إلا أن أحزاب الأقلية مجتمعة ما عدا الحزب الوطني كانت تسبح بحمد الملك وتقبله مصدرا لكل السلطات ولم يتورع رئيس الحكومة الجديدة من أن يتهم النحاس صراحة بأنه كان أسوأ الديكتاتوريين وأنه كان يحكم مصر بأساليب هتلر وموسليني .

ووصلت الحملة على الوفد ذروتها حينما تقرر تشكيل لجنة تحقيق يترأسها مكرم عبيد لتقدم تقريرا عن أعمال الفساد والمحسوبية المنسوبتان إلى النحاس ووزرائه وأقاربه ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أصدر الملك مرسوما بقانون هذا نصه :

مادة 1 : تبطل فيما يتعلق بالدرجة والماهية جميع التعيينات الاستثنائية في المدة من 6 فبراير سنة 1942 وحتى 8 أكتوبر سنة 1944 وكذلك جميع التعيينات التي تمت في المدة المذكورة ولا يسري الحكم السابق على التعيينات التي صدر بها مرسوم أو أمر ملكي .

مادة 2 : يبطل بالنسبة لأرباب المعاشات أيضا ويسري المعاش على أساس الماهية التي تستحق طبقا لتلك الأحكام مع إدخال المدة التي تكون قد أضيفت في حسابات المعاشات على ألا تتجاوز عامان .

وعلى ضوء المذكرة التفسيرية للقانون السابق فإن الأمر يبدو أكثر غرابة حيث إبانت المذكرة العلة القانونية في بطلان العلاوات والترقيات والتعيينات على اعتبار أنه لم يقصد في مجموعها تحقيق المصلحة العامة وإنما كان الباعث إليها هو محاباة ذوي القربي وإرضاء الشهوات السياسية على حساب المصلحة العامة .

ولعل من البديهيات أن كل الحكومات التي تعاقبت على حكم مصر في الفترة من 19371945 قد اتخذت من الاستثناءات والمحسوبيات وسيلة لتدعيم مكانتها وسلاحا تشهره في وجه معارضيها سواء لصالح أنصارها أو في النيل من معارضيها حتى باتت فكرة " الاستثناءات " وكأنها ظاهرة طبيعية في الحياة السياسية المصرية وفي الوقت الذي كانت تلجأ فيه الحكومة " أية حكومة " إلى التشهير بفكرة الاستثناءات تكون هي أكثر الحكومات عملا بذلك السياسة وغالبا ما كانت تلجأ الحكومات إلى تبرير هذا السلوك ولم تعدم المبررات التي تسوغها للإقدام على هذا السلوك الذي استقر في المجتمع المصري وأصبح سمة مميزة في تاريخ كل الوزارات المصرية المتعاقبة .

ولعل هذا السلوك قد خلق روح التذمر بين الموظفين فشاع الحقد وعمت الغيرة وفترة همة الموظفين عن العمل وانصرف البعض للبحث عن وساطة تشفع لهم عند القائمين بالحكم بل وعمت روح النفاق والتملق وهاتان الظاهرتان قد استشرفا في دماء المجتمع المصري وكأنهما علامة مميزة لتلك الفترة .

والملاحظ على حكومة أحمد ماهر أنها تألفت من جميع الأحزاب المصرية فيما عدا الوفد ولم تشمل أحدا من المستقلين ولعل الهدف من وراء ذلك أن تكون الحكومة الجديدة بديلا مناسبا عن الوفد ويبدو هذا من اقتراح لملك فاروق يتساوي عدد المرشحين لمجلس النواب من بين الأحزاب الأربعة المشتركة في الحكم والهيئة السعدية الأحرار الدستوريون , الحرب الوطني , الكتلة الوفدية) .

ولعل فاروق كان يهدف من اقتراحه إيجاد نوع من التعامل بين الأحزاب المشتركة في الحكم مما لا يرجح كفة على أخري وبالتالي يتمكن الملك من توجيه السياسة العامة باعتباره صاحب الفضل الأول في المجئ بأحزاب الأقلية في الحكم .

إلا أن الدكتور أحمد ماهر لم يوافق على هذه الفكرة على اعتبار أن مشورة الملك تسوي بين جميع الأحزاب في عدد الأعضاء بالرغم من أن بعض الأحزاب مثل الكتلة الوفدية والحزب الوطني ليس لديهم من المشرحين ما يمكنهم من النجاح في الانتخابات غلا عددا يسيرا وفضلا عن ذلك فإن أحمد ماهر لا يريد أن يجعل مركزه رهنا برضاء هذا الحزب أو غضب ذاك عليه ولابد له من عدة مناسب من الأعضاء يستطيع الاطمئنان إلى تأييده لبقاء الوزارة واستمرارها .

ويعترف أحد زعماء الهيئة السعدية الدكتور أحمد ماهر قد اعترض على فكرة التساوي بين الأحزاب بسبب سياسة القصر التي تريد أن تبسط نفوذها وسيطرتها التامة على الحكومة عن طريق تمزيق الأحزاب وخلق حزازات بل وعداوات صريحة بين بعضهم البعض لتضرب هذا بذاك إلى آخر سياسة " فرق تسد" وأن خطة أحمد ماهر كانت قائمة على فكرة جمع الشمل ودمج الأحزاب كلها في كتلة واحدة تواجه القصر والاستعمار معا .

وعلى ما أعتقد فإن هذه الرواية لا تحمل قدرا كبيرا من الحقيقة للأسباب الآتية :-

1- ان اعتراض الدكتور ماهر وفق رواية الدكتور هيكل لم يكن بسبب القصر وإنما لحاجة الدكتور ماهر إلى قاعدة برلمانية تساند الحكومة في سياستها حتى لا تفشل الحكومة بحجة فشل الائتلاف .

2- إذا كان اعتراض الدكتور ماهر على مبدأ التساوي بين الأحزاب في الانتخابات المقترحة فكيف يمكن إقرار فكرة الدمج التي تعتمد أولا وقبل كل شئ على إنكار لذاتية والموافقة على قبول الهوية العامة التي ترضها جميع الأحزاب ما عدا الوفد " تحت مبادئ الهيئة السعدية وهو مالا نعتقد بصحته إطلاقا .

3- أن المساوئ التي كان يتسم بها القصر لم تكن حديث الأحزاب المعارضة في تلك الفترة وإنما كانت جميعها تسبح بحمد القصر وتود لو انتزعت من الحقوق الدستورية لصالح القصر ثمنا لبقائها في الحكم .

ونظرا لأن كل القوي المناوئة للوفد وعلى رأسها القصر كانت ما تزال تئن من الضربات الشديدة التي تلقتها من الوفد فقد اتفق الجميع على تأليف لجنة تسمي " لجنة الترشيح للانتخابات وتكونت من الأحزاب الأربعة المشتركة في الوزارة وتم الاتفاق على تقسيم الدوائر إلى طائفتين : دوائر مغلقة ودوائر مفتوحة أما الدوائر المغلقة فهي التي تتفق الأحزاب الأربعة على ترشيح شخص بذاته في كل دائرة منها أما الدوائر المفتوحة فهي التي تركب ليرشح فيها كل حزب ما يشاء ... وإنما قصد بهذا التقسيم أن يترك لكل حزب فرصة النجاح بالعدد الذي يختاره ممن يستطيعون النجاح في هذه الدوائر المفتوحة .

وهكذا وزعت الأدوار وقسمت الدوائر وكان الوفد لم يعد له أى تأثير أو وجود في الحياة السياسية المصرية وبينما الدكتور ماهر قد وجه كلمته المشهورة إلى النحاس في اجتماع قصر عابدين مساء 4 فبراير – لقد قبلت المجئ يا نحاس باشا على أسنة الحراب البريطانية – ماذا يمكن أن نفسر مجئ الدكتور ماهر إلى الحكم على أسنة حراب القصر وتواطؤ الأحزاب التي تفتقد إلى الجماهيرية الفعلية لقد بات واضحا وفقا لسياسة القصر أن الهدف الأساسي من المجئ بحكومة أحمد ماهر هو المزيد من التشهير بالوفد والتنكيل بزعمائه والنيل منه بل وضربه الضربة القاضية أن أمكن إلا أن الحوادث قد كذبت ظن الدكتور ماهر فبينما كان الوفد قد خسر أكثر من نصف أنصاره في آخر حكمه إذا بإقالته بهذه الصورة يبدو – أن خطأ أو صوابا – شهيدا وإذا بالناس يتأولون سبب إقالته كل حسب اتجاهه ولكن كل سبب قيل أو انصراف إليه الخاطر لم يكن في صالح الوزارة الجديدة بسبب تواطؤها الواضح مع القصر وبعدها عن مبدأ الديمقراطية .

ثم كانت انتخابات مجلس النواب والتي تشبه إلى حد كبير انتخابات 1938 والتي أجرتها حكومة محمد محمود حيث عدلت الدوائر الانتخابية من جديد وتم نقل أو فضل العديد من مديري الأقاليم وبات واضحا أن الانتخابات ستزيف لذا كان قرار الوفد بمقاطعة الانتخابات .

ويرجع أحد المعاصرين عدم دخول الوفد في انتخابات 1944 إلى شعر الوفديين بأنهم فقدوا ثقة غالبية الشعب بسبب مساوئ حكومة 4 فبراير وطغيانها وتصرفاتها المنافية للعدل والاستقامة والنزاهة من هنا فقد آثروا الامتناع عن دخول الانتخابات سترا لفشلهم المرتقب ولكي ينسي الناس مع الزمن سيئاتهم لعلمهم في بلد كل شئ فيه ينسي بعد حين.

ولعل الوفد قد ارتضي أن يبقي بعيدا عن مسرح السياسة وسواء أكان هذا إيمانا منه بأن إرادة الأمة ستزيف أو لاعتقاده بان الوفديين فقدوا ثقة غالبية الشعب إلا أن هذا الموقف يعد ذكاء سياسيا ماهرا فلقد ضاعف من الاعتقاد القائل بان الوفد يعد شهيد الديمقراطية ولأن السياسة التي سارعت عليها أحزاب الأقلية " المشتركة في الحكم والتجاوزات العديدة التي أحدثتها والاضطهاد الواضحة التي لقيها الوفديون كل هذه الأمور قد أعادت إلى الوفد بعضا من مكانته التي فقدها وسط الجماهير ولعل من الصعب تحقيق هذه المكاسب لو ارتضي الوفد الدخول في عملية الانتخابات في وقت يعلم أن إرادة القصر قد أجمعت على سقوطه فلم يكن من المقبول أن يكذب القصر نفسه حيث قد أجمعت على سقوطه فلم يكن من لمقبول أن يكذب القصر نفسه حيث كان قرار إقالة الوفد لما كانت حريصا على أن تحكم بلادي وزارة ديمقراطية تعمل للوطن وتطبق أحكام الدستور وتسوي بين المصريين جميعا في الحقوق والواجبات وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب فقد رأينا أن نقليكم من منصبكم .

فليس من المعقول وقد أقر الملك حقيقة مؤكدة من وجهة نظره " وهي أن الوفد لم يعد يحظي بالإجماع الشعبي" لافتقاده إلى الأسباب التي وردت في قرار الإقالة وليس من المعقول أن يكذب القصر نفسه ويحظي الوفد بالأغلبية البرلمانية أى أن كل العوامل قد أجمعت على سقوط الوفد لذا فقد ارتضي الوفد لنفسه موقفا يتفق ومصلحته الفعلية وهو عدم دخول الانتخابات .

وكان مطلوبا أن يشمل التغيير مجلس الشيوخ وفقا لمواد الدستور القاضية بذلك وتمكن الدكتور أحمد ماهر من استصدار مرسوم بإلغاء لتجديد النصفي الذي أقره الوفد سنة 1942 والعودة إلى تعيينات سري باشا سنة 1941 وظل الوفد يرقب التطورات إلا أنه لم يكن ساكنا والأسهم توجه إليه من كل صوب بل انه قد استطاع أن يحرك بعض قواعده وخصوصا الطلاب إلا أن حركة الوفد هذه المرة لم تكن بالاتساع الذي تخشاه الحكومة وتمكن الدكتور ماهر بحكم خبرته القديمة وحنكته السياسية أن يتصدي لتيار مظاهرات الطلاب الوفديين وان يضعف من فاعليتها حيث قام بنفسه بالذهاب إلى جامعة فؤاد الأول وأجري حوارا ديمقراطيا مع زعماء الطلاب تمكن من إقناعهم بالعدول عن تظاهرهم .

وبالرغم من أن النية كانت متجهة ليس فقط إلى محاكمة الوزراء الوفديين وإنما إلى محاكمة النحاس باشا نفسه إلا أن لحكومة البريطاني اعتقادا منها بأن التجاوزات التي أتي بها النحاس في مجملها أتت بناء على نصائح الدولة الحليفة لذا فقد القي السفير بكل ثقله منعا لمحاكمة النحاس .

وعلى ما أعتقد فإن تدخل السفير البريطاني ليحول دون محاكمة النحاس لم يكن بهدف الإخلاص للوفد بقدر ما هو حماية للمصالح البريطانية على اعتبار ان بريطانيا تعد شريكا متضامنا مع النحاس في كل التجاوزات التي أحدثها لذا فقد تدخلت الحكومة البريطانية التي لم تجد صعوبة في إقناع الدكتور ماهر إلا أن المحاكمة قد شملت عددا من أقارب ومحاسيب لنحاس حيث حكمت محكمة القاهرة العسكرية على كل من أحمد الوكيل " شقيق حرم النحاس " بالحبس مع الشغل سنة وتغريمه خمسمائة جنيه وأمرت بوقف تنفيذ الحكم .

ويلاحظ على سياسة حكومة أحمد ماهر أنها أعطت قدرا كبيرا من اهتمامها المطاردة الوفد وتعقب إتباعه سواء بالفصل أو النقل وبقيت الأوضاع السياسية والاقتصادية كما هي سواء فيما يتعلق بالأحكام العرفية لتي ظلت مضروبة على البلاد وبقيت الرقابة الصحفية على الصحف والمطبوعات وذهبت هباء الصحيات المتكررة والتي كان يطلقها أعضاء هذه الوزارة حينما كانوا في المعارضة من وجوب إلغاء الأحكام العرفية وما يتبعها من إجراءات استثنائية إلا أن الحرية قد مورست من جانب واحد وهو الهجوم على الوفد ومحاولة النيل منه .

ولعل من أهم الموضوعات التي واجهتها حكومة الدكتور أحمد ماهر قضية دخول مصر الحرب حيث زلت منذ قيام الحرب العالمية الثانيةسبتمبر 1939 – دولة غير محاربة على الرغم من أنها قد قدمت للحلفاء سواء في شكل مساعدات اقتصادية أو في استغلال موقع مصر كخط مواجهة ضد الألمان في الجبهة الأفريقية ما يمكننا من القول بأن مصر قد قدمت من الإمكانيات مالا يقل عن الاشتراك الفعلي في الحرب .

وحرصت كل الحكومات المتعاقبة على سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب إلا أن رئيس الوزراء الدكتور أحمد ماهر اتجه تفكيره غلى إحياء هذه الفكرة من جديد واخذ يعدد المزايا التي ستحصل عليها مصر من جراء دخولها الحرب وعلى حد قوله : أن ما يصيب الدول من الحياة أو الموت إنما يقدر بمقدار نصيبها من الدفاع عن نفسها والتضحية في سبيل هذا الدفاع .

وتمشيا مع الدعوة التي أطلقها الدكتور أحم ماهر أضافت احدي الصحف التي تعب وجهة نظر بعض الأحزاب داخل الحكومة أن إعلان مصر الحزب لن يقدم شيئا سوي تأكيد الوضع القائم .

وأخذت نفس الصحيفة في تفنيد الإشاعات القائلة بأن مصر ستقدم المال والرجال بسبب ذلك ورأت أن مصر قد خرجت بثلاث فوائد من وراء دخولها الحرب فهي دعمت مركزها الدولي أنها لم تعد مقيدة بالميدان السياسي للعلاقات مع بريطانيا ثم أنها من ناحية ثالثة ستعطي مصر حقا شرعيا يمكنها من الاشتراك في مؤتمر السلام الذي ستدعي إليه كل الدول المحاربة .

وشاركت – السياسة – لسان حال الأحرار الدستوريين في نفس الحملة حيث رأت أن اشتراك مصر في مؤتمر السلام أمل يراود كل القوي الوطنية وعلى الرأي العام أن يتفهم حقيقة تلك الدعوة التي تنفق ومصالح مصر الحقيقية وقامت العديد من الصحف التي تناصر الحكومة بالدعوة إلى نفس الفكرة .

ويعتقد بعض المعاصرين أن الدكتور أحمد ماهر قد تلقي من الحكومة الأمريكية أن دول الحلفاء ( أمريكا انجلترا فرنسا الصين , روسيا ) وكان يعبر عن رؤسائها يؤمئذ بالخمسة الكبار ستعقد مؤتمرا بسان فرنسسكو في أبريل 1945 لإنشاء منظمة دولية جديدة تحل محل عصبة المم وأن الدول التي تشترك في هذه المنظمة يجب أن تعلن الحرب على خصوم الحلفاء قبل أول مارس 1945.

وعلى ما يبدو فإن الدكتور أحمد ماهر قد اتخذ من مؤتمر سان فرنسسكو ذريعة لاقحام مصر في بوتقة الصراع الدولي بالغم من أن الحرب قد أوشكت على الانتهاء وتقرر مصيرها لصالح الحلفاء ولم يكن أمام أحمد ما هو وحكومته إلا الاستجابة لطلب تقدم به السفير البريطاني في منتصف فبراير سنة 1945 بإعلان مصر دولة محاربة إذا رغبت في الاستمتاع بعضوية مؤتمر سان فرنسسكو ولقد أحدثت هذه السياسة ردود فعل متباينة لدى جميع المصريين على اختلاف اتجاهاتهم فبينما السعديون وعلى رأسهم الدكتور أحمد ماهرا كانوا يرون أن تتخذ الحكومة قرار دخول الحرب دون استشارة البرلمان فقد صمم مكرم عبيد وحزب الكتلة على أن يكون اتخاذ القرار من خلال البرلمان أمام الحزب الوطني والذي كان يمثله حافظ رمضان داخل الوزارة فقد اعتنق مبدأ لمعارضة وقدم استقالته احتجاجا على تلك السياسة لولا أن تدخل فاروق شخصيا وأقنعه بسحب استقالة.

أما الدكتور هيكل زعيم الأحرار الدستوريين فقد وافق على فكرة دخول مصر الحرب اعتقادا منه بان هذه الخطوة ستكن مصر من الدخول في الحلبة الدولية وخروجها من الدائرة الثنائية التي تحصر علاقاتها الدولية في حدود ما بينها وبين انجلترا .

أما الوفد فقد رفض هذا الموضوع وأخذ على الحكومة تهورها وعدم اهتمامها بمصالح مصر وطالب الوفد من خلال بيان وزرعه على كل الأحزاب والشخصيات العامة والهيئات السياسية والبرلمانية طالبا من كل مصري غيور على وطنه أن يحارب قضية دخول مصر الحرب بكل ما أوتي من قوة .

ومن المؤكد أن الوفد قد استغل دعوة الحكومة لدخول مصر الحرب واستثمرها لصالحه وعلى ما يبدو فإنه قد حقق قدرا كبيرا من النجاح نظرا لأن غالبية الشعب المصري كانت لا تؤيد هذه الفكرة وأن تعاطف بعض الجماهير مع قضية الحلفاء لم يكن إلا بالقدر الذي تفق والمصالح الحقيقية لتلك الجماهير ونظرا للثار التي لحقت بالمجتمع المصري من جراء التعاون المطلق مع قضية الحلفاء فإن فكرة السير في هذا الطريق أبعد من ذلك كانت لا تجد مع قضية الحلفاء السير في هذا الطريق أبعد من ذلك كانت لا تجد لها صدي لدي الغالبية العظمي من الشعب المصري .

ولقد أخطأ الدكتور ماهر عندما نفي عن الاستعمار البريطاني أغراضه الاقتصادية واخطأ حينما اعتبر دخول مصر الحرب هو العامل الوحيد الذي يؤهلها للحصول على استقلالها بعد الحرب وحين قرر أن عدم إعلان الحرب يعطي انجلترا الحق في أبقاء قواتها في الأراضي المصرية لحماية مصر وحماية مصالح بريطانيا فلقد ذهب الدكتور ماهر في ذلك إلى ما لم يكن في وسع انجلتا أن تعلنه صراحة لأن حق مصر في استقلال والجلاء حق طبيعي لا يتعلق بمصالح بريطانيا ويتضاعف خطأ الدكتور أحمد ماهر إذا أدركنا أن كان يعرف أن الرأي العام المصري لا يؤيد فكرة دخول مصر الحرب وإذا أدركنا أيضا أن قرار دخول مصر الحرب وخصوصا بعد أن حسمت الحرب لصالح الحلفاء كان لا يتفق والكرامة المصرية .. ووفقا لكل هذه الاعتبارات فإنني أعتقد أن سياسة الدكتور ماهر تجاه هذه القضية الشائكة تعد خطأ سياسيا كبيرا دفع أحمد ماهر حياته ثمنا لما أعتقد أنه في صالح مصر.

ومن خلال هذا الجو المشحون بالمحاذير ألقي رئيس الوزراء أحمد ماهر مساء السبت 24 فبراير سنة 1945 وفي جلسة سرية لمجلس النواب قرار دخول مصر الحرب ضد اليابان وألمانيا وأشار رئيس الحكومة إلى أن مصر سوف تحقق بإعلانها الحرب هدفها في أن تجعل صوتها مسموعا دفاعا عن حقوقها ومصالحها الوطنية وأشار إلى أن دولا أخري مثل العراق وإيران قد أعلنتا الحرب دون أن تقدم أى معونة مادية وأن السفير البريطاني قد أبلغه أن حكومته راضية تماما عن الدور الذي لعبته مصر في الحرب وأنها حرة في اعلان الحرب حتى تتمكن من الاشتراك في مؤتمر السلام .

وعلى الرغم من عدم إيماننا بالعنف كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية إلا أن الدكتور ماهر وحكومته يعدان مسئولان عما حدث بسبب الخروج على القواعد الدستورية والاندفاع في تيارات من الحكم لا تتفق ومصالح مصر الحقيقية في وقت كان الشعب المصري يعلق أملا كبيرا على انتهاء الحرب ويعتقد أن من حقه طبقا للمبادئ التي أعلنها " فرنكلين روزفلت " رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وسماها الحريات الأربع أن تتبوأ مصر مكانتها الدولية بعيدا عن فكرة دخول الحرب ولعل لديه من الأسباب والمبررات يمكنه من إقناع الدول الكبري بفكرته إلا أنه قد اختار الطريق الذي دفع ثمنه غاليا .

وفي ساعة متأخرة من الليلة التي قتل فيها أحمد ماهر تم تأليف وزارة محمود فهمي النقراشي ( 24 فبراير سنة 1945 ) وقد ألفها من أعضاء وزارة أحمد ماهر دون تغيير أو تبديل وتولي النقراشي الرئاسة والداخلية والخارجية وفي 26 فبراير سنة 1945 انعقد البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ وأقر المجلسان قيام حالة الحرب ضد ألمانيا واليابان وايطاليا .

ولقد أراد الوفد أن ينتهز فرصة إعلان الحرب ضد المحور وأن يقوم بمناورة سياسية تشبه مناورته التي قام بها في أول أبريل 1941 إذ قدم الوفد مذكرة للسفير البريطاني تتضمن نفس المطالب التي تقدم بها في أبريل سنة 1941 والتي كانت تدور حول المطالبة التام وقيام الوحدة بين مصر والسودان إلا أن الرأي العام قد فقد ثقته في الوفد ومناوراته وأخذت الجماهير تبحث عن زعامة جديدة وأخذ الوعي القومي يتسرب إلى صفوف المثقفين على أسس واضحة وازدات الروح القومية تطرفا واكتسبت شعورا بالعداء للأجانب وأخذ الطلبة والعمال يلتفون حول مبادئ وفلسفات جديدة اعتقادا منهم بأن القوي التقليدية قد اهترأت ولم تعد تعبر عن الروح الوطنية المعاصرة .

وفي 27 من مايو سنة 1945 استسلمت ألمانيا وفي أغسطس من تلك السنة استسلمت اليابان وبذلك انتهت الحرب العالمية الثانية بعد خمس سنوات وثمانية أشهر وستة أيام .

وبالرغم من أن العديد من الصحف حاولت أن تضلل الرأي العام المصري على اعتبار أن حادث الاغتيال ظاهرة عادية لا تستحق كل هذا الاهتمام وأنها تحدث في كل المجتمعات إلا أن هذا الحكم يفتقد إلى الموضوعية وعدم الإدراك الفعلي لطبيعة المرحلة التي كانت تمر بها البلاد فلقد أحدثت الحرب العالمية الثانية حالة من الحضور الذهني داخل المجتمع لمصري حيث اتسعت قاعدة العمال والطلاب والموظفين وأصحاب المهن الحرة وقد واكب هذا جموع المصريين المهتمين بالسياسة والمشتغلين بها ومن خلال التصور الحقيقي لواقع المجتمع المصري في تلك الفترة وعلى ضوء الرؤيا الموضوعية يمكننا القول أن سلوك الأحزاب المصرية وتسابقها الواضح في التملق للمحتل والمزايدات العديدة التي أحدثتها أحزاب المعارضة عقب 4 فبراير سنة 1942 كل هذه المواقف قد أحدثت صدمة أليمة داخل المجتمع المصري وخصوصا لدي الشباب وليس من قبيل المصادفة أن يكون الشباب في طليعة القوي التي تقدم على حوادث الاغتيال السياسي بدأ بقضية بطرس غالي سنة 1810 والتي اضطلع بها إبراهيم الورداني " 21 سنة" ومرورا بقضية أمين عثمان والتي اضطلع بها أيضا حسن توفيق " 20 سنة" وانتهاء بقضية الدكتور أحمد ماهر والتي نفذها محمود العيسوي " 22 سنة ".

لقد كان من المتوقع أن يتقدم الدكتور أحمد ماهر عقب رئاسته للحكومة بالمطالبة بتحديد شكل الوجود البريطانية في مصر والمطالبة بجلاء القوات البريطانية والاعتراف بحق مصر في السودان فلم يكن الموقف يتحمل مزيدا من المهاترات وبدلا من أن تتقدم الحكومة بكل المطالب راح رئيسها يشيد بالعلاقات المصرية لبريطانية حتى صرح لمندوب مجلة وكالة الأنباء الفرنسية أنه لا يمكن السير في اية سياسة مصرية معقولة إلا بالتفاهم مع الأمة البريطانية العظيمة التي تفاخر مصر بأنها حليفة لها ويبرر الدكتور أحمد ماهر المخالفات التي أحدثها الوجود البريطاني على الأرض المصرية قائلا : أن الأخطاء التي ارتكبت هنا وهناك لم يكن في الإمكان اجتنابها ويجب ألا تترك أى أثرا أو مرارة في النفوس .. وتعلق وكالة الأنباء الفرنسية على تصريحات الدكتور ماهر قائلة : لقد أفضي رئيس الوزراء بهذه التصريحات بينما كان المستر ايدن وزير الخارجية البريطانية في القاهرة وهذا مما يكسبها أهمية خاصة .

وكان طبيعيا أن تفقد الأحزاب المصرية أهميته حيث لم تعد تعبر عن واقع المجتمع المصري الجديد الذي صنعته أحداث الحرب مما أدي إلى نمو سريع للتنظيمات السياسية العقائدية – الإخوان – الشيوعيون – مصر الفتاة - ولعل أساليب هذه التنظيمات تختلف كثيرا عن أساليب الأحزاب التقليدية حيث اصطبغت الأساليب لجديدة بصبغة من لعنف كانت وراء الكثير من أسباب الاضطرابات خلال تلك لفترة .

وحرصا من حكومة النقراشي على تهدئة المشاعر الثائرة ونظرا لعدم وجود حجة موضوعية تسوقها للبقاء علي الأحكام العرفية فاضطرت لرفع الرقابة على الصحف وإلغاء الأحكام العرفية في أكتوبر سنة 1945 .

وبرفع الرقابة على الصحف وإلغاء الأحكام العرفية أخذت العديد من الصحف تتربص بالحكومة وتطلق على النقراشي التعليقات اللاذعة كما حدث عندما أسمته – رجل الوقت المناسب – تعليقا على تصريح له بأنه ينتظر الوقت المناسب للتقدم بمطالب مصر الوطنية وعندما أطلقت عليه " أبو خطوة " ردا على قوله بأنه قد اتخذ خطوة في سبيل تحقيق الأماني الوطنية .

وأمام الضغط الشديد الذي واجهته حكومة النقراشي سواء بسبب استقالة حافظ رمضان رئيس الحزب الوطني ووزير العدل من الوزارة في ديسمبر سنة 1945م احتجاجا على اتجاه الوزارة إلى المفاوضات قبل الجلاء بما يناقض مبدأ الحزب العتيد أو بسب مماطلة الحكومة البريطانية في الرد على المذكرة التي قدمتها الحكومة المصرية ( 20 ديسمبر سنة 1945) تطلب فتح باب المفاوضات .

وأمام العديد من الضغوط التي واجهتها الحكومة وعدم استطاعتها التقدم خطوة ترضي الرغبات الوطنية وانتشرت بين الناس عبارة " سياسة الصمت" لم يجد النقراشي قولا يردده إلا أنه ينتظر الوقت المناسب مما ضاعف من إحراج الحكومة وعجل باستقالة مكرم عبيد والكتلة الوفدية 14 فبراير سنة 1946 مما عجل بانهيار الائتلاف الوزاري عموما .

الفصل السابع : الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ظل حكومة 4 فبراير

السياسة الزراعية والتموينية

لقد شاءت الظروف أن تندلع الحرب العلمية الثانية ومصر مكبلة بمعاهدة 1936 تلك المعاهدة التي ألزمت مصر بإعلان الأحكام العرفية وهكذا منحت الفرصة لكي تطلق بريطانيا يدها ليس فقط في الشئون السياسية بل في الشئون الاقتصادية أيضا وإخضاع اقتصاد مصر لخدمة الجيوش المتحالفة وقد تمثل ذلك بصورة واضحة في السياسة الزراعية التي ألزمت بها الحكومات المصرية طوال فترة الحرب .

ولعل الحكومة البريطانية كانت مقدرة أهمية الاقتصاد الزراعي المصري وضرورة توجيهه لسد العجز الواضح في المواد الغذائية بسبب صعوبة النقل البحري .

ولا شك أن حالة الحرب وسيطرة الدول المحاربة على البحار قد جعلت مصر في عزلة اقتصادية عن العالم ولم تستطيع تصريف حاصلاتها وخصوصا القطن إلا إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وأصبح الانجليز يتحكمون في سعر القطن والحاصلات الزراعية الأخرى ففي عام 1940 اشتروا القطن المصري بسعر 20 ريالا للقنطار بينما كان يباع في الأسواق الأجنبية بخمسة وثلاثين ريالا .

وبالرغم من أهمية إخضاع السياسة الزراعية المصرية لخدمة أغراض بريطانيا زمن الحرب إلا أن وجهة النظر البريطانية اعتبرت أن تردي الحالة الزراعية في مصر يعد تأكيدا لدعايات المحور تلك التي تحاول إقناع المصريين بأن سبب شقائهم هم البريطانيون والذين ينتهزون فرصة الحرب ويتحكمون في أسعار القطن طبقا لمصالحهم الخاصة ويضيف السفير البريطاني في تقريره أنه لابد من دحض هذه المقولة العدائية والتي لن تتحقق إلا بشراء القطن المصري بأسعار أكثر ارتفاعا من الأسعار الحالية لأن المسألة ليست اقتصادية بحتة بل هي ضرورة سياسية ومن باب العدل أن نعترف بأن الحرب قد جلبت الشقاء على الشعب المصري ومن الخطر أن نترك المصريين تحت شعور الإحساس بالظلم وخصوصا وأن ما يردده رجل الشارع العادي يتفق بصورة كبيرة مع ما يردده الأعداء وبدلا من أن تسعي بريطانيا لكسب ود المصريين عن طريق حل المشاكل الاقتصادية لناجمة عن الحرب إلا أنها قد عملت على تأليف لجنة تسمي باللجنة البريطانية المصرية احتكرت كل محصول القطن خلال سنوات الحرب ومنعت التنافس على شرائه وباتت أى دولة تريد شراء أى كمية من القطن المصري لا تأتي إلى السوق المصرية بل تشتري ما تريده عن طريق هذه اللجنة وخسرت البلاد من جراء ذلك العديد من ملايين لجنيهات وثقة من بريطانيا في أن مصر لن تتمكن من إيجاد سوق عالمي لتصريف إنتاجها بسبب التكتلات الدولية الناجمة عن الحرب فقد تحكمت في سوق القطن المصري بلا أى منافسة وعجزت الحكومة المصرية عن إيجاد سوق بديل لهذا المحصول الذي يعد عمود الاقتصاد للشعب المصري .

ووفقا لحاجة بريطانيا إلى الحاصلات الزراعية أكثر من حاجتها إلى القطن فقد أخطرت الحكومة المصرية سنة 1941 أنها غير مستعدة لشراء أكثر من نصف المحصول الجيد وبنفس أسعار العام السابق ولما كانت الحكومة المصرية قد قررت رفع سعر القطن بمقدار ريالين للقنطار فإنها قد تحملت وحدها هذا الفرق عن المحصول كله كما كان عليها أن تشتري النصف الباقي من المحصول ولم تجد وسيلة لذلك سوي إصدار قرض قدره ثلاثة عشر مليونا من الجنيهات طرحته على دفعتين ومن الطريف أن الصحف البريطانية قد حاولت تبرير فرص هذا السعر المنخفض بحجة أن رفع أسعار القطن لا يفيد سوي حفنة من الباشوات مما أثار قلق هؤلاء الباشوات حيث انبرت صحيفة الوفد المصري قائلة ( لمصلحة من يريدون بذور الشقاق بين هذه الطبقات وإحداث مشكلة اجتماعية من أعقد المشكلات التي أقلقت بال أمم كثيرة ومصر بقيت ناجية منها إلى الآن بفضل الله ويبدو أن غالبية أعضاء مجلس الشيوخ – وهم من الباشوات – وقد ضايقهم هذا القول لدرجة أن أحدهم قد اتهم الانجليز صراحة بأذنهم لا يتأثرون إلا بمصلحتهم وأن سياسيتهم في شراء القطن لا تقوم فقط على تحقيق مصالحهم وإنما على سياسة " إفقار الشعوب الحكومة "

ويبدو ان حكومة الوفد ( 4 فبراير 1942) رأت أنه من الضروري أحداث تغيير في المساحة المنزرعة قطنا وضرورة التوسع في إنتاج الحبوب والغلال وصدر أمر عسكري في سبتمبر 1942 يقضي بتحديد مساحات القمح والشعير بما لا يقل عن 50% من الأراضي الواقعة في شمال الدلتا , 60 من بقية مناطق القطر وقد قرر مجلس الوزراء منع زراعة القطن في مديرتي القليوبية والمنوفية وبعض مناطق مديريات الشرقية والدقهلية والغربية وبعض المناطق في مديريتي أسيوط وجرجا شرق النيل وزيادة المساحة المنزرعة ذرة بنوعيها ( العويجة والشامية ) وكذلك زيادة المساحة المنزرعة أرزا وحددت الكمية المنزرعة قطنا عن الموسم الزراعي 1942 /1943 بحوالي 700,000 فدان بدلا من 1,750,000 عن الأعوام السابقة .

وكان من المتوقع أن تبادر بريطانيا إلى شراء كميات القطن المصري والذي كان يصدر إلى بلاد الأعداء فتحمي أسعاره من الهبوط وتبرهن على تقديرها للمخالفة وما تؤديه مصر من خدمات – ولكن بريطانيا وبيوت المال فيها أثرت أن تنتهز الفرصة للكسب غير المشروع على حساب مصر وفرض سياسات معينة على البلاد ولم يقتصر النهاب البريطاني على محصول القطن بل تعداه لى المحاصيل الغذائية كالأرز والقمح والذرة حيث فقدت مصر أسواقها في الخارج وتحولت مصر من دولة مصدرة إلى دولة تقاسي عجزا رهيبا في جميع المواد الغذائية .

وفي الوقت الذي صارت فيه نهبا لبريطانيا وحلفائها وبالرغم من الانخفاض في أسعار القطن المصري انخفاضا ملحوظا فقد ارتفعت أسعار باقي المواد الغذائية وأهمها القمح ولذا بادر مجلس النواب بتشكيل لجنة " شئون القطن والمحاصيل الزراعية " وخرجت اللجنة بالعديد من التوصيات التي تعبر عن سوء الأحوال الاقتصادية عموما حيث اعتبرت اللجنة في احدي توصياتها " أن ربح الزراع يقدر بقيمة التبن فقط وعلى حد قول أحد الأعضاء تعليقا على هذه الحقيقة الخطيرة لقد كانت اللجنة مسرفة جدا في تقديرها لأن ارتفاع أسعار السماد وفرض الضريبة الجديدة على الأرض الزراعية يحرم الفلاح حتى من قيمة التبن "

ويمضي التقدير ليعكس وبصورة أكيدة تدهور الحياة الاقتصادية حيث كان ثمن ضريبة الأرز في الأعوام السابقة ثمانية جنيهات فأصبح ثلاثة عشر جنيها كذلك استيلاء الحكومة على البذرة بثمن قدره 85 قرشا وأخذت تبيعها بسعر 110 قروش فارتفع تبعا لذلك ثمن الكسب ثم أن وزارة المواصلات رفعت أجر النقل وتضع اللجنة يدها على خطورة الحالة بقولها أن رفع سعر أى محصول يتبعه حتما رفع سعر أى محصول يتبعه حتما رفع المحاصيل الأخرى وتبعا لذلك فإن موجة الغلاء ستستمر في الارتفاع الأمر الذي يحدث اضطرابا وتقلقلا في أجور العمال والموظفين والمستخدمين وأصحاب الإيراد المحدود ويخل بالميزانية العام ووفقا لتدهور الحياة الاقتصادية في مصر عموما وفي القرية المصرية على وجه الخصوص فلقد تردت حياة الفلاح المصري عموما وعامل اليومية على وجه الخصوص حيث انخفضت أسعار العمال الزراعيين إلى حد يصعب على العامل أن يوفر قوت يومه فما بالنا بضرورات الحياة من ملبس وخلافه .

ومما يلفت النظر في دراسة السياسية الزراعية في تلك الفترة بروز أسلوب جديد من الاستغلال يعد سببا في إلقاء عبء الأزمة على صغار الزراعيين وهو أسلوب المضاربة بالأراضي الزراعية حيث كان استئجار الأراضي الزراعية ثم إعادة تأجيرها أكثر ربحا بالنسبة لكبار ملاك الأراضي في مصر وارتفع عدد لمستأجرين إلى مليوني شخص وشهدت مداولات مجلس النواب والشيوخ العديد من الأسباب التي أدت تفاقم الأوضاع بهذا الشكل .

ويبدو أن حكومة 4 فبراير قد عجزت عن مواجهة تلك الحالة المتردية مما دعاها إلى إشراك الحكومة البريطانية في وضع حلول عملية لتلك الحالة حيث شكلت لجنة انجليزية مصرية بناء على اقتراح السفير البريطاني وكانت مهمة تلك اللجنة شراء القمح بسعر ثلاثة جنيهات للأردب ثم بيعه للجمهور بنصف هذا المبلغ عن طريق البطاقات التي أعدت لهذا الغرض إلا أن كل تلك الحلول لم تحقق الغرض منها نظرا لاعتماد جيوش الحلفاء في أوقات كثيرة على الحاصلات الزراعية المصرية وأيضا يسبب نقص السماد لعدم إمكانية الاستيراد بسبب ظروف الحرب وحدد العجز في كميات الحبوب عموما بمليونين وثلاثمائة أردب من القمح والذرة وعلى الرغم من تخفيض نسبة زراعة القطن في شمال الدلتا إلى 27 % وجنوب الدلتا والوجه القبلي بنسبة 23 % ولو أضيفت ماسحة 88 ألف فدان وهي الأرض التي تزرع بالحياض وممنوع زراعة القطن فيها فإذا أضيفت كل هذه المساحات إلى نسبة 60 % من الأرض الزراعية المعدة لزراعة القمح فإن نسبة الأراضي الزراعية المعدة لزراعة الحبوب تقدر بأكثر من 85% من قيمة الأرض الزراعية عموما .

وبصدد مواجهة النقص الواضح من المواد الغذائية فقد وافق مجلس لنواب على اعتماد مبلغ 12,884,51 جنيها من فائض ميزانية 19411942 لسد الخسارة في عمليات التسليف على القمح وتصديره والتموين لعام 1943 1, 318, 448 لسد الغاز في محصول الذرة .

وعلى ضوء مهام الحاكم العسكري العام فلقد صدر الأمر العسكري الآتي :

مادة 1 : يحظر حتى نهاية أغسطس 1942 إجراء أى بيع للقمح من موسم عام 1942 ويستثني من ذلك عقود البيع الصادرة للحكومة .

مادة 2: تلغي بحكم القانون عقود القمح المبرمة من 7 أبريل إلى صدور هذا الأمر والمنصبة على مقادير من القمح غير واجبة التسليم إلى الحكومة ويجب على المشترين أو غيرهم من الحائزين خلال شهر من تاريخ صدور هذا الأمر أن يسلموا إلى الحكومة مقادير موضوع التعاقد المشار إليها في الفقرة السابقة بثمن قدره 300 قرش للأردب من قيمة القمح الهندي , 285 قرش للأردب من القمح البلدي .

مادة 3 : يحظر نقل القمح خرج حدود المديرية الموجود فيها قبل الحصول على ترخيص بذلك من وزارة التموين .

مادة 4 : كل محالفة الأحكام هذا الأمر يعاقب مرتكبها بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر وبغرامة من 50 إلى 500 جنيه وفي جميع الحالات يضبط ويصادر القمح موضوع المخالفة .

مادة 5: يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ستة وبغرامة من 50 إلى 500 جنيه كل من اشترك كبائع أو وسيط.

مادة 6 : تصرف مكافأة مالية لكل شخص يقوم بضبط أو تسهيل ضبط ومصادرة ومقادير القمح موضوع الجرائم .

ويبدو من الأمر العسكري السابق أن الحاكم العسكري لعام ( رئيس الوزراء ) قد استخدم سلطانه إلى أبعد حد فلم تقتصر مهامه على أمر الاعتقال النفي والمصادرة للصحف بل تعداه ليشمل الأوضاع الاقتصادية التي تتعلق بشكل أو بآخر بقضية الحلفاء وعلى الرغم مما أصاب البلاد بسبب ارتباطها بالحلفاء إلا أن بريطانيا لم تقدم أية معونة أو حتى تدفع ثمن ما تشتريه مما أدي إلى ارتفاع رهيب في قيمة الحاصلات الزراعية وصل في السوق السوداء إلى عشر إضعاف السعر الحقيقي .

ولقد حدد حجم ما تصرفه الجيوش المتحالفة داخل الأراضي المصرية بمبلغ ستة وثلاثين مليونا من الجنيهات كل عام لا تدفع منها مليما واحدا والمسالة تمضي هكذا فانجلترا تريد أن تحول مثلا عشرة أو خمسة ملايين من الجنيهات إلى جنودها في مصر أنها تقول لبنك انجلترا ضع تحت تصرف البنك الأهلي المصري خمسة ملايين من الجنيهات لحساب الجيش البريطاني فيراسل الأهلي المصري خمسة ملانين من الجنيهات لحساب الجيش البريطاني فيرسل البنك إلى فرع الإصدار في القاهرة برقية يطلب فيها إصدار بنكوت مصري بخمسة ملايين جنيه مقابل شراء سندات على الخزانة البريطانية قصيرة الأجل لنفس القيمة بفائدة تقل عن 1 % ومدتها تقل عن ستة أشهر فالبنك الأهلي يشتري في لندن هذه السندات ويصدر بقيمتها في مصر أوراق بنكوت يسلمها إلى الضباط فهم والحالة هذه لا يدفعون مالا أو بضاعة ولكنهم يقدمون كمبيالات وفي مقابل الكمبيالات تعطيهم مصر عمله متداولة فيؤجر البيت الذي كان إيجاره خمسة أو عشرة جنيهات بخمسين أو مائة ويشترون المواد الغذائية بأثمان مرتفعة ثم يأتي المستهلك المصري فلا يجد شيئا بالسعر الذي حددته الحكومة ولذا فقد اقترح حلا لهذه المشاكل ما يأتي :

1- فصل الجنيه المصري في الجنيه الانجليزي.

2- أن تبحث انجلترا عن مصدر لمعيشة جنودها غير مصر

3- ترك الاستيراد حرا .

ووفق اعتقادي فإن حكومة الوفد قد عجزت طوال عام 1942 عن إيجاد حلول في عملية للخروج من أزمة المواد الغذائية ومع مطلع عام 1943 أصدر وزير التموين بيانا بشئون الحاصلات الزراعية قال فيه : " لقد مرت البلاد بظروف قاسية كانت البلاد فيها على شفا مجاعة وكانت القاهرة وباقي المديريات تترقب قوتها يوما بيوم بل كان الكثيرون يبيتون على الطوي في انتظار الرغيف المرتجي في الصباح المبكر .

وبصدد الحد من تفاقم أزمة الخبز فقد أصدرت حكومة الوفد تشريعا يحدد الرغيف القانوني " الذي ثمنه 6 مليمات ووزنه 75 جرام ويحتوي على 15 % دقيق مخلوط من القمح 15 % دقيق أرز ثم مالبث أن تغيرت النسب إلى 50% قمح , 25 من دقيق الذرة , 25 من دقيق الأرز وبذلك اختفي الرغيف الأبيض من الحياة اليومية للمستهلك المصري .

ولما كانت المشاكل الاقتصادية قد امتدت لتشمل كل المواد الغذائية تقريبا فقد أصدر الحاكم العسكري العام أمرا هذا نصه :

مادة 1: لا يجوز بعد ظهر الأحد وحتى صباح الأربعاء أن تذبح الحيوانات المعدة لحومها للأكل ولا يجوز ذبح الحيوانات في الأيام الأخرى من الأسبوع إلا بمقدار كمية من اللحم تساوي المتوسط اليومي لذبائح السلخانة أو المكان الذي يقوم مقامها في الأسبوع المقابل له من سنة 1940ناقصا 10%

مادة 2 : يتولي إثبات الجرائم التي تقع بالمخالفة للقرارات الصادرة بتنفيذ هذا الأمر رجال الضبطية القضائية .

مادة 3 : يعاقب كل من يخالف أحكام القرارات التي تصدر تنفيذا لهذا الأمر بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر وبغرامة من خمسة جنيهات إلى خمسين جنيها أو بأحد هاتين العقوبتين ويحكم بإغلاق المحل الذي وقعت فيه الذبيحة لمدة ثمانية أيام وفي حالة العودة يكون الإغلاق من خمسة عشر يوما إلى شهر ويبدو أن ما يتعلق بالإنتاج الزراعي قد مثل مشكلة استعصي على الحكومة حلها بما في ذلك السكر حيث استولت الحكومة على مقادير السكر المخزون لدي الشركة العامة لمصانع السكر وبناء على قرار الحاكم العسكري العام تلتزم لشركة العامة لمصانع السكر بتسليم كل ما تنتجه إلى الحكومة وتظل شروط الاتفاقات المبرمة بين الحكومة والشركة نافذة المفعول حتى الحكومة أن المشكلة قد انتهت بالفعل .

وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية في محاولة منها لتبديد حالة الشعور بالغضب والتي سيطرت على الشعب المصري فقد أصدرت بيانا نشرته معظم الصحف المصرية يحمل حملة شديدة على الدعايات التي يشنها الأعداء من أن وجود القوات المتحالفة هي سبب نقص الغذاء في مصر وشمل البيان ما يفيد من أنه لا علاقة بين الأزمة الغذائية المتردية في مصر والقوات المحاربة مؤكدا على أن الحكومة البريطانية قد قامت بتقديم العديد من المواد الغذائية إلى الحكومة المصرية .

وتبدو المغالطات واضحة في بيان الحكومة البريطانية وإذا تغاضينا عن حقيقة مؤكدة وهي أن مصر كانت تصدر فائضا من احتياجات الغذائية قبل الحرب يقدر بعدة ملايين من الجنيهات بخلاف القطن الذي يمثل صلب الاقتصاد المصري إذا تغاضينا عن كل ذلك وتركنا الأرقام لتنطق بمدلولها حيث بلغن الأرصدة الإسترلينية المستحقة الدفع على الحكومة البريطانية سنة 1945( بعد انتهار الحرب) أربعمائة وخمسين مليونا من الجنيهات وهذه الأرصدة كلها نظير مواد غذائية وقطنية ومرتبات حصلت عليها القوات البريطانية وكانت سببا من أسباب التضخم وهبوط القيمة الشرائية للنقد مما أدي إلى الغلاء الفاحش في الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة حيث بلغ هذا الارتفاع رقما قياسيا كبيرا إذ وصلت في أواخر الحرب إلى 350 في المائة عما كانت عليه قبل الحرب مع أنها لم تزد في انجلترا عن 135 في المائة وفي الولايات المتحدة عن 145 في المائة في حين أن مصر كانت تنتج حاجاتها من المواد الغذائية والبلاد التي تنتج هذه الحاجات كجنوب أفريقيا واستراليا لم تزد تكاليف المعيشة فيها عن 120 في المائة .

وعلى الرغم مما وصلت إليه الحالة الزراعية والتموينية عموما وذلك بسبب تجنيد كل إمكانيات مصر لخدمة الحليفة إلا أن السياسة الحزبية التي اتسم بها حكم الوفد بدأ من سنة 1942 وحتى سنة 1944 قد مكنت العديد من المضاربين وتجار السوق السوداء وسماسرة الحروب من السيطرة على قطاعات كبيرة من الاقتصاد المصري وذلك عن طريق أذونات الاستيراد التي كانت مصدرا ثراء لأقارب وأصهار النحاس باشا ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل امتد إلى البسطاء من الفلاحين حيث الوسطاء بالتحكم في محصول البطاطس وقيامهم بدور الوسيط لتموين الجيوش البريطانية من هذا المحصول الهام مما تسبب في هبوط سعره ولم يقتصر المر على محصول البطاطس بل تعداه إلى القمح حيث كان من اختصاص وزير التموين الموافقة على أية كمية سواء للأفراد أو للهيئات ويبدو أن حكومة الوفد قد جرت في سياستها التموينية على إصلاح ما أفسده حادث 4 فبراير 1942.

ولعل الاستجواب الذي تقدم به النائب أبو المجد محمد الناظر ( عن دائرة قنا ) قد كشف العديد من الجوانب الهامة حول هذا الموضوع حيث يضيف قائلا : " أن مديرية قنا تصرف مائة أردب من لقمح شهريا لأحمد عبود باشا بناحية أرمنت بدعوي تموين المستخدمين وتصرف المديرية أيضا ثلاثمائة أردب قمحا شهريا لمصنع السكر بأرمنت بدعوي تموين العمال .

وعلى ضوء المناقشات الحامية التي دارت في مجلس النواب أمكننا الوصول إلى عدة اعتبارات تؤكد السياسة الحزبية التي سارت عليها الحكومة ومن أهمها :

أولا : أن تفتيش عبود باشا قد قام بزراعة مساحات طائلة من القمح أنتجت 400 أردب وقد لجأ وكيل عبود باشا إلى حيلة : وهي أنه ادعي أن ما أنتجه التفتيش من القمح لا يتعدي الحاجة إلى التقاوي وبذلك فوت على الحكومة الحصول على حصتها التي تقدر 240 أردب ثم حصل التفتيش فيما بعد على حصته من التقاوي من بنك التسليف .

ثانيا : أن الحصة التي تصرف لدائرة عبود باشا ولمصنع السكر تقدر بربع تموين مركز الأقصر البالغ عدد سكانه 175 ألف.

ثالثا : أن العاملين بمصنع السكر ودائرة عبود باشا يحصلون على مستحقاتهم من القمح كغيرهم من المواطنين بواسطة البطاقات التي أعدت لهذا الغرض .

ولعل بعض الأعضاء المعارضون للحكومة داخل مجلس النواب قد طلبوا من وزير التموين وضع ضوابط موضوعية يتم على أساسها توزيع الحاصلات الغذائية إلا أن الغالبية الوفدية قد صادرت هذا الاقتراح بحجة أن مديريات مصر تختلف عن بعضها في أمور جوهرية وما يصلح في الوجه البحري قد لا يصلح في الوجه القبلي ويبدو بطلان حجة الحكومة البحري إلى المواد التموينية وأن الهدف من الاقتراح الذي تقدمت به المعارضة لا يمكن أن يعترض عليه إلا المغرضون والمستفيدون من النظام القائم.

وشهدت القرية المصرية فترات عصيبة بسبب قلة إنتاجية محصول القطن بسبب انخفاض سعره واستيلاء الحكومة على المحاصيل الزراعية مما أدي إلى ارتفاع سعرها فقد كان علي الفلاح الصغير أن يشتري ما يسد رمق أسرته من السوق السوداء والذي وصل سعر اردب القمح فيه على سبيل المثال عشرة جنيهات في حين أن الحكومة كانت تستولي عليه بثلاثة جنيهات فقط وقس على ذلك باقي المواد الغذائية الأخرى ومن الواضح أن الحكومة أحست بحرج شديد أمام تلك الحالة المتردية ولذا فقد تقدمت بمشروع تجميد الأقساط المتأخرة والمستحقة للبنك الزراعي المصري والبنك العقاري المصري وبك الأراضي المصري لغاية آخر ديسمبر 1942 .

ولعل الهدف من هذا القانون على ما يبدو كان بسبب ما تفشي في البلاد من معاملات الربا وعجز الفلاح عن السداد مما ضطره إلى الإقدام على بيع الأراضي الزراعية لصالح المرابين وأغلبهم من عملاء الإقطاعيين والباشوات مما سبب بضياع الملكيات الصغيرة .

وبصدد دراسة الملكيات الزراعية وتطورها تبدو عدة حقائق غاية في الخطورة من أهمها :

أولا : أن كبار الملاك ( أما الذين يملكون 50 فدانا فأكثر ) وعددهم 12018 يملكون 2508286 فدانا أما بقية السكان وعددهم ما يقرب من 15 مليون فلا يملكون شيئا .

ثانيا : أن مقدار الأراضي التي يملكها كبار الملاك كانت في زيادة مستمرة وهذه الزيادة لا يمكن أن تكون إلا على حساب صغار الملاك الذين يفقدون أملاكهم ووفق الإحصاءات الرسمية فلقد كان كبار الملاك يملكون في سنة 1939 – 2481250 فدانا , وفي سنة 1940 – 2496546 فدانا وفي سنة 1941 – 2508286 فدانا وفي نفس الوقت قل عددهم من 12248 في سنة 1939 إلى 12018 في سنة 1941.

ولو استمر الحال على تلك الطريقة فقد تصل النتيجة إلى أن يملك ألف مالك مثلا الأكثرية الساحقة لأراضي القطر .

ثالثا : لقد انخفض سعر الفدان من الأراضي الزراعية إلى قيمة النصف تقريبا على نظيره قبل سنة 1938 ولذا فقد شهدت الفترة من 1939 وحتى أوائل 1944 أكبر تحول في شكل الملكيات الزراعية وكانت جميع هذه التحولات تتم لصالح كبار الملاك الذين كانوا في الغالب لا يقطنون القرية وإنما كانوا يمارسون دورا اقتصاديا خطيرا عن طريق وكلائهم في القرية .

ونظرا لأن الظاهرة كانت صارخة بسبب ما يمكن أن يترتب عليها من هزات عنيفة حيث أن الحروب الكبرى يتبعها دائما ناشط زائد في السعي إلى عدالة التوزيع للثروات وعدالة الاستمتاع بالحياة ولم تكن ظهور الشيوعية عقب الحرب العالمية الأولى في دولة تبلغ مساحتها سدس مساحة العالم من قبيل المصادفة . لذا كان لزاما أن يعاد النظر في الفروق الطبقية الشاسعة داخل المجتمع المصري ومن هنا فقد تقدم النائب محمد خطاب عضو مجلس الشيوخ بمشروع قانون يحظر شراء الأراضي على الذين زيد أملاكهم على خمسين فدانا ويبدو أن هذه لم تكن المرة الأولي التي يتقدم فيها بعض النواب بطلب تحديد الملكية الزراعية حيث سبقتها دعوي عبد الرحمن عزام النواب بطلب تحديد الملكية الزراعية حيث سبقتها دعوي عبد الرحمن عزام سنة 1924 حينما تقدم للبرلمان طالبا تحديد الملكية بمائة فدان للشخص الواحد.

وعلى الرغم من أهمية هذا المشروع وما يترتب عليه من استقرار الحياة الاقتصادية إلا أن القانون في صورته النهائية قد خلا من المحتوي الاجتماعي لصالح السواد الأعظم من الشعب ويبدو هذا واضحا من خلال مواده :

مادة 1: كل شخص يملك خمسين فدانا أو أكثر من الأراضي الزراعية لا يجوز أن ينتقلا إلى ملكيته أرض زراعية جديدة وكل عقد يؤدي إلى ذلك يعد باطلا .

مادة 2: لا يسري حكم المادة السابقة على الأراضي الزراعية التي تؤول إلى الأفراد بطريقة الميراث .

مادة 3 : لا يجوز الوقف فيما لا يزيد على الخمسين فدانا للشخص الواحد إذا لم يكن وارثا فإذا كان وارثا فلا يجوز أن يزيد ما يوقف عليه عن حصته الشرعية أو خمسين فدانا أيهما أكثر.

مادة 4 : يستثني من أحكام هذا القانون أطيان الحكومة والأراضي غير المستصلحة والتي لا تدفع عنها ضريبة أطيان .

مادة 5 : على وزير المالية العدل تنفيذ هذا القانون كل منهما فيما يخصه .

وأعتقد أن هذا القانون لم يحقق أي نوع من التغيير في شكل الملكيات الزراعية حيث كان من السهل التحايل على هذا القانون وشراء الأراضي بأسماء الأبناء والأقارب وبمقارنة شكل الملكيات عقب صدور هذا القانون بنظائرها قبل صدوره يبدو أنه لم يحقق الغرض الذي أنشئ من أجله وهو الحد من ضياع الملكيات الصغيرة يؤدي بدوره إلى انتشار التعاون الزراعي الذي لم يقدر له في مصر أى نجاح في الفترة موضع البحث .

ووفق اعتقادي فإن المحافظة على لملكيات الصغيرة مرتبط أشد الارتباط باستقلال الحقيقي حيث أن استقلال الاقتصادي وتعميق الشعور بالانتماء وكرامة الأفراد التي يتكون من مجموعها كرامة الوطن كل هذه الأمور تعد جذور أكيدة للاستقلال السياسي وكلما ارتفع مستوي المعيشة للأفراد زادت بلا شك قوة الأمة وحيويتها .

الصناعة والتجارة وإخضاعهما لخدمة الحلفاء

لقد كانت الحرب العالمية فرصة للمزيد من النمو الصناعي حيث أخذت الصناعة المصرية تنتعش انتعاشا حقيقيا وخصوصا بعد اشتراك ايطاليا إلى جانب ألمانيا في الحرب فقد ترتب على هذا إغلاق البحر المتوسط أمام حركة التجارة ومن ثم اعتمدت كافة الصناعات على المواد المحلية سواء منها ما كان خاصا بمصانع الحلفاء أو ما كان خاصا بالنشاط الرأسمالي الوطني فخلال الحرب قد نمت الصناعة بمعدل 5,5% سنويا وزاد إنتاج صناعة النسيج بمعدل 14,5% في العام الواحد ووصل إنتاج الصناعة عموما من أربعة ملايين سنة 1939 إلى ثلاثة وعشرون مليونا سنة 1943.

وعلى ضوء النمو الصناعي الذي شهدته البلاد خلال الحرب العالمية الثانية فلقد ازداد انسحاب المصانع الصغيرة من حلبة المنافسة ونقص عدد المصانع الصغيرة التي تقل قيمة إنتاجها السنوي عن 500 جنيه من 94,9% إلى 37,7% بينما ارتفع عدد المصانع التي يزيد إنتاجها عن 1000 جنيه من 15 , 7 إلى 22,7 %

وعلى الرغم من هذا النمو الصناعي وما ترتب عليه من ارتفاع في متوسط دخل العامل إلا أن هذا الارتفاع لم يكن يمثل القيمة الفعلية لارتفاع الحاجيات المعيشية فلقد وصل متوسط دخل العامل شهريا 293 قرشا في حين أن إردب القمح قد وصل سعره في السوق إلى ما يقرب من عشر جنيهات .

ومن المعتقد أن حكومة 4 فبراير 1942 لم تدرك الدلالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تركتها أثار الحرب حيث زادت الهوة بين الأغنياء والفقراء ففيما بين عامي 19401944 ارتفع عد أصحاب الملايين في مصر من 50 إلى 400 وزادت الودائع في البنوك من 45 إلى 120 مليون من الجنيهات .

وعلى الرغم من زيادة أصحاب الملايين وارتفاع حجم الودائع في البنوك إلا أن هاتان الظرهاتان لم يواكبهما نموا ملحوظا في الاقتصاد الإنتاجي ففي عام 1942 أغلق ما يزيد على 110,000 نوع من أنواع النسيج بسبب عدم قدرة هذه المصانع الصغيرة على المنافسة وعجزت الحكومة عن إيجاد حل لهذه المشكلة ولما تقدم النائب محمد الفرنواني عضو مجلس النواب بسؤال إلى وزير التموين بخصوص الآثار التي نجمت عن الحرب فيما يتعلق بمصانع الغزل وما تحصل عليه القوات للبريطانية وهل هناك علاقة بين ما تحصل عليه القوات البريطانية والحالة المتردية لمصانع الغزل الصغيرة لجأ وزير التموين إلى الغموض في إجابته ملقيا بالمسئولية على الوزارات التي تعاقبت على الحكم منذ قيام الحرب وعلى حد قوله : فإن السياسات الخاطئة التي سارت عليها الحكومات السابقة هي التي أوصلت البلاد إلى هذه الحالة .

وبينما طرأ تحسن واضح على بعض الصناعات الأخرى مثل المواد الكيماوية وصناعة الماط فقد تعرضت صناعة الحرير الصناعي للتدهور لعدم وجود المواد الأولية وكادت تغلق المصانع لولا تدخل الحكومة وتقديم بعض المعونات لها .

أما باقي الصناعات التي كانت مرتبطة بحاجة الحلفاء فقد كانت في نمو وازدياد مستمر فلقد زاد إنتاج صناعة الجبن من 100,50 طن في العام في الفترة قبل الحرب إلى 1800 طن عام 1943 وزادت صناعة تجفيف الخضر والفاكهة من لا شئ تقريبا إلى 1700 طن في المتوسط وبلغ سنويا كما زاد إنتاج صناعة الأسمنت من 365 طن قبل الحرب إلى 420,000 طن بعد الحرب .

وعلى ضوء الاعتبارات العديدة التي اقتضتها ظروف الحرب فقد كان من الطبيعي أو يواكب هذا كله نموا ملحوظا في الصناعة حتى يمكن استيعاب حاجة السوق من الإنتاج والاستهلاك فأخذ عدد المصانع في الازدياد حتى بلغ عام 1944 – 129,220 مصنعا بلغ عدد المشتغلين فيهم 457,954 ويلاحظ تركز الإنتاج الصناعي في يد قلة من الرأسماليين المصريين بعد أن انعدمت المنافسة بينهم وبين أصحاب المصانع الصغيرة وتفسيرا لهذه الظاهرة التي تركت بعدا اجتماعيا خطيرا على المجتمع المصري خلال تلك الفترة فمن الممكن ردها إلى عدة أسباب :

أولا : ظهرت سياسة الاحتكار في أشكال متعددة ولفئة ارتبطت مصالحها ببعض لعناصر التي كانت قريبة من الحكومة وما كان انشقاق مكرم عبيد عن الوفد سنة 1942 إلا دليلا على وجود العديد من أشكال الاحتكار .

ثانيا : لقد اعتمد حزب الوفد بدأ من سنة 1942 على بعض العناصر الرأسمالية التي تمثل ثقلا هاما داخل المجتمع المصري وكان من الصعب على هذه العناصر أن تتجاهل مصالحها الاقتصادية بل على العكس فقد اتخذت من موقعها الجديد داخل الهيئة الحاكمة فرصة الحصول على العديد من التسهيلات سواء في شكل أذونات تصدير واستيراد أو إعانات كانت تخصها الحكومة لبعض الصناعات التي وشك الانهيار .

ثالثا: ارتباط عدد كبير من الرأسماليين بمصالح الاحتلال الذي سهل لهم في مناسبات عديدة الحصول على بعض الامتيازات التي عجز أصحاب المصانع الصغيرة من الحصول عليها وأمام اختفاء المنافسة الأجنبية وازدياد الطلب على إنتاج المحلي وحاجة جيوش الحلفاء إلى العديد من المواد الصناعية فقد انتعشت الصناعة عموما وانعكس ذلك على ميزانيات الشركات المنتجة ومقدار الأرباح التي تحصل عليها.

ووفقا لما اقره مجلس الشيوخ فإن وزارة التجارة والصناعة قد عنيت بكافة الأساليب التي من شأنها الأخذ بيد الصناعات المحلية وتنشيطها والعمل على إنشاء بنك صناعي تقتصر مهمته على دعم الصناعات المحلية وتشجيعها .

ومن الملاحظ أن الرأسماليين المصريين قد نشطوا نشاطا ملحوظا وغامروا في تمويل أنواع من الصناعات التي اقتضتها ظروف الحرب مثل صناعة الكيماويات وإنتاج الحرير الصناعي وصناعة المعلبات الغذائية وغير ذلك من الصناعات التي تخدم جيوش الاحتلال وبلغ عدد الشركات المساهمة التي أنشئت خصيصا لهذا الغرض 375 شركة مساهمة بلغ رأسمالها في مجموعة 78 مليون جنيه منها شركة مصرية الجنسية بلغ رأسمالها في مجمله 69 مليون جنيه .

ولا شك أن نجاح هؤلاء المغامرين لم يكن مرده إلى كفاية خارقة أو موهبة متميزة وإنما مرده إلى تأثير هذه النخبة في نظام الحكم والتمتع بالحماية الجمركية إذا ما هددت صناعاتهم من المنافسة الأجنبية ولذا فقد تميزت الرأسمالية المصرية بخصائص معينة أهمها أنها لم تتجه إلى لتخصص في مجالات اقتصادية معينة وإنما كان فريق كبير منها يجمع بين المجالات الثلاثة تارة صناعة مال رغبة في الكسب السريع الميسور وامتلاك حرية الحركة التي تمكنه من تحقيق أكبر عائد من الربح في أقل وقت ممكن .

وبعد هذا العرض يتبين أن الحرب العالمية الثانية قد أفادت الرأسمالية المصرية فائدة عظمي في تدعيم مركزها المالي وقوتها الاقتصادية وقد ظهر ذلك عند انتهاء الحرب حيث تراكمت رؤوس أموال ضخمة في أيدي هذه الطبقة جعلت منها قوة اقتصادية واجتماعية هامة وبرزت في محيط الرأسمالية الوطنية مجموعة كبيرة من أسماء الباشوات والبكوات الذين جمعوا بين الاقتصاد والسياسة ومن أبرز هؤلاء حافظ عفيفي باشا الذي كان عضوا في مجلس إدارة 33 شركة و عبد المقصود أحمد بك الذي كان عضوا في مجلس إدارة 29 شركة ثم أحمد فرغلي باشا الذي عضوا في مجلس إدارة 27 شركة و إسماعيل صدقي الذي كان عضوا في مجلس إدارة تسع شركات أما أحمد زيور باشا فقد كان عضوا في مجلس إدارة ست شركات .

ويلاحظ حافظ عفيفي باشا من خلال إحصاء رسمي بأن – أربعة ملايين شخص من سكان مصر يعيش الفرد منهم بإيراد يقل عن جنيه واحد في الشهر أى بنحو ثلاثة قروش في اليوم ويلاحظ أيضا أن الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على الطبقات الفقيرة تمثل 75% من الإيرادات العامة وأن مرتبات الموظفين ومعاشتهم تستنفذ 41 % من إجمالي مصروفات الدولة .

وتعرضت البلاد لحالة من النهب لصالح البريطانيين وبعض الرأسماليين المصريين وعلى سبيل المثال فإن السلطات البريطانية استغلت فرصة ربط الجنيه المصري بكتلة الاسترليني ولجأت إلى إصدار سندات على الخزانة البريطانية واستخدامها كغطاء مالي لما يصدر من أوراق فقد مصرية تتسلمها السلطات البريطانية لتشتري بها كل ما تريد من السوق المصري وتسدد بها أجور جنود الاحتلال والعاملين في المعسكرات وقد أدي ذلك بطبيعة الحال الي تزايد شديد في كمية الصادر من النقد الورقي .

وكذلك فإن مصلحة الجمارك أعفت السلطات البريطانية في مصر من ضرائب مستحقة على السلع المستوردة طيلة مدة الحرب بلغت قيمتها 61,772,790 جنيها مصريا أما مجموع الضرائب التي تنازلت الحكومة المصرية عن تحصيلها من البضائع المصدرة فبلغت قيمتها 10,188,229 وكان من الطبيعي أن يواكب كل هذا ارتفاعا ملحوظا في الأسعار ونقصا أكيد في الدخل القومي للبلاد بدا هذا واضحا في عدم مقدرة الحكومة على استيعاب الكم الهائل من المشاكل الاقتصادية الناتجة عن الحرب .

وعلى الرغم من أن معاهدة 1936 قد وضعت شكلا واضحا للعلاقات بين مصر وبريطانيا إلا أن الفترة من 1942 وحتى 1945 قد شهدت تجاوزا أكيدا لبنود المعاهدة وتحولت مصر إلى ضيعة بريطانية بدا هذا واضحا من تطويع الاقتصاد المصري بما يهدف إلى خدمة جيوش الحلفاء وفوضت الحكومة البريطانية اللورد كيلرن في عقد الاتفاقات وإبرام المعاهدات التجارية مع الحكومة المصرية وعلى ضوء الاتفاقات التجارية التي أقرها مجلس الوزراء المصري بجلسته المنعقدة في 23 فبراير 1942 فقد اقتصرت بنود المعاهدات على ما تورده الكومات المصرية لجيوش الحلفاء من مواد تموينية وصناعية دون التعرض لحاجة السوق المصرية للبضائع والمنتجات البريطانية .

ولذا فإننا نعتقد أن هذا النوع من الاتفاقات ثم يراع فيه مصالح مصر الاقتصادية لأنه كان يلزم الحكومة المصرية بإمداد جيوش الحلفاء بأوراق النقد المصرية التي يتعامل بها جيش الاحتلال في شراء حاجياته المعيشية من المواد التموينية المصرية المخصصة أصلا للشعب المصري ولم يراع الجانب المصري في هذا الاتفاق الأزمات التموينية لحادة التي أحدثت خللا ملحوظا في الاقتصاد المصري وزيادة في إخضاع الاقتصاد المصري لكي يخدم جيوش الخلفاء فقد اخترعت الحكومة البريطانية ما يسمي بمركز تموين الشرق الأوسط والذي كان يهدف في ظاهرة إلى تنشيط التجارة بين دول الشرق الأوسط أثناء الحرب إلا أنه كان يهدف في باطنه إلى إمداد جيوش الحلفاء بالمواد الغذائية والتموينية التي يصعب استيرادها من بريطانيا زمن الحرب ووفق هذه الحقيقة فإنني لا أتفق مع الرأي القائل : بأن هذا المكتب قد حقق نجاحا لا يستهان به في تنشيط التجارة بين دول الشرق الأوسط أثناء الحرب ويعتقد صاحب هذا الرأي أن الروابط التاريخية بين الدول العربية كانت مشلولة في زمن السلم وأن هذا المكتب قد أنشأ بعض الصناعات التي لم تكن موجودة وزاد الإنتاج المحلي واستغني عن السلع المستوردة وقام المكتب بالقضاء على الاحتكارات التخزين والمضاربة في المواد الغذائية .

وعلى ضوء الظروف الاقتصادية الناجمة عن الحرب فإن هذا المكتب قد أحدث نوعا من التوازن في العلاقات التجارية إلا أن هذا التوازن لم يكن لصالح المصريين بقدر ما كان يهدف إلى إمداد الجيوش البريطانية بالمواد التموينية التي تمثل الدافع الحقيقي من وراء إنشاء هذا المكتب ولعل هذه كانت بداية التي تمثل الدافع الحقيقي من وراء إنشاء هذا المكتب ولعل هذه كانت بداية استعمال اصطلاح كلمه الشرق الأوسط كاصطلاح سياسي عندما اعتبر الشرق الأوسط وحدة واحدة من حيث حاجاته ومن حيث تنمية إمكاناته اعتبر العديد الأوسط وحدة واحدة من حيث حاجاته ومن حيث تنمية إمكاناته وعقدت العديد من المؤتمرات التي تمخضت عن هذا المكتب وكانت في معظمها ذات طابع اقتصادي تجاري.

وإذا كان لهذا المكتب من فضل فإنه قد لفت نظر الدول العربية إلى أهمية التخطيط والتعاون في القضايا الاقتصادية بين الأقطار العربية وعلى ضوء المصالح البريطانية فإن أى تعاون أو تقارب بين الدول العربية أو أى تنسيق في سياسة بريطانيا مع الدول العربية سيعود حتما بالفائدة على قضية الحلفاء وعلى سلامة جويشهم المحاربة في المنطقة وبذلك تحصل بريطانيا على تأييد الدول العربية مجتمعة من خلال التنسيق الاقتصادي الذي كان يحمل بعدا سياسيا أكيدا . وإذا كانت بريطانيا قد تمنت من إخضاع الاقتصاد الزراعي والصناعي لخمة أهدافها لم تعدم الوسائل التي مكنتها من إخضاع الجانب التجاري أيضا ليس برسم سياسته فقط وإنما عن طريق السيطرة الفعلية حيث استحدث ما يسمي بالغرفة التجارية المصرية البريطانية لتنمية العلاقات بين الحليفتين "

وعملا بمفهوم القائمين على الغرفة التجارية المصرية البريطانية فقد شارك الأعضاء البريطانيون في وضع السياسات التموينية والتجارية للحكومة المصرية وعلى حد قول أحد مؤسسي هذه الغرفة " أن العلاقات التجارية بين مصر وبريطانيا وتنميتها كفيل يجعل علاقة البلدان وصداقتهما وطيدة وفي اجتماع الغرفة التجارية بلندن في 8/11/ 1942 أعلن حسن نشأت باشا أن الميزانية التجارية بين مصر وبريطانيا الآن في مصلحة مصر وذلك للقيود المفروضة على الصادرات البريطانية لظروف الحرب ولأن عددا كبيرا من القوات يقيم في مصر ومما جاء في التقرير الذي قدمه المجلس عن أعمال الغرفة : أن صادرات بريطانيا إلى مصر هبطت بمقدار 48% في عام 1938 .

وعموما فإن بريطانيا كانت تهدف من إقامة سواء مركز تموين الشرق الأوسط أو الغرفة التجارية المصرية البريطانية إلى إمداد القوات المحاربة في الشرق بالمواد التموينية والغذائية ومن هنا فقد تأثرت تجارة مصر الخارجية بسبب الصعوبات الشديدة سواء بسبب تعذر وسائل النقل البحري أو بسبب الالتزامات التي فرضتها المعاهدات المصرية البريطانية وكان من الضروري هبوط حجم التجارة الخارجية هبوطا محسوسا إذ بلغت قيمة الصادرات عام 1942 – 19,290,000 جنيها مصريا مقابل 000, 612, 22 جنيها مصريا في سنة 1941 أى عجز قدره 3,332,00 جنيه .

أما تجارة الواردات فقد نشطت في النصف الأول من 1942 ثم عادت إلى الهبوط على أثر الرقابة عليها في البلاد المصدرة وقلة وسائل النقل وقد بلغت جملة الواردات 55,12,000 جنيه في سنة 1942 مقابل 33,137,000 سنة 1941 أى بزيادة قدرها 000, 375, 22 وبذلك أصبح العجز الظاهر في الميدان التجاري 36,222,000 جنيها مصريا .

على أن هذا العجز في الميزان التجاري لا يمثل الحقيقة لاعتبارين هامين :

أولهما : أن ما اشترته الحكومة البريطانية من القطن منفردة أو باشتراكها مع الحكومة المصرية لم يتم تصديره بأكمله وأن كان ثمنه قد دفع فعلا للبائعين ولو أن هذا القطن صدر بالفعل لأضيف إلى قيمة الصادرات ولظهر الميزان التجاري على حقيقته ومن الصعب أن لم يكن من المتعذر حصر كميات هذا القطن بمختلف أنواعها ورتبها وتقدير ثمنها تقديرا حقيقا لما تتطلبه هذه العملية من دقة التفاصيل وتعدد الأرقام .

ثانيهما : أن بعض الأصناف المستوردة كانت مشاعا بين الاستهلاك المحلي واستهلاك قوات الحليفة المرابطة في مصر أى أن مجموع ثمنها موزع هذين المستوردين الرئيسيين فدفعت مصر ثمن نصيبها منها أما نصيب القوات المرابطة في مصر فدفع من أموال غير مصرية ودفع خارج مصر ..

وعلى ما يبدو فإن الحكومة المصرية لم تتمكن نظرا للاعتبارين السابقين من تحديد حجم الميزان التجاري بالمعني الصحيح اعتقادا منها بأن بقاء بعض المشاكل التجارية وعلى رأسها مشكلة القطن المصري تحول بين الحكومة وبين حقيقة الميزان التجاري .

والملاحظ أن عمليات الاستيراد قد واجهت العديد من الصعوبات مما اضطر الحكومة البريطانية إلى إبلاغ السلطات المصرية عدم الترخيص بتصدير وشحن البضائع إلى بلاد الشرق الأوسط ومن بينها مصر ما لم تصلها توصية من مندوبها في مركز تموين الشرق الأوسط الذي اجتمعت لديه المعلومات الخاصة بوسائل الشحن والمقادير التي يمكن تصديرها من المناطق المختلفة ونظرا للهزات الاقتصادية العديدة التي لحقت بالاقتصاد المصري طوالي فترة الحرب لذا فقد اتسم الميزان التجاري بالعجز الدائم والمتسمر والذي وصل في مجموعة إلى ما يقرب من مائة مليون جنيه مصري

وعلى ضوء كل ما سبق فإن مصر وأن لم تعلن الحرب على ايطاليا وألمانيا إلا في فبراير 1945 فإنها قد ساهمت بنصيب كبير في العمليات الحربية مما كان له الأثر البائع في انتصار بريطانيا وحلفائها على المحور حيث كان تموين جيوش الحلفاء من المواد الغذائية والصناعية وقد أخضعت مصر إنتاجها الزراعي والصناعي والتجاري لمقتضيات هذا التموين وليس خافيا أن تموين الجيوش من أهم أسباب ثباتها وقوتها وقد بذلت مصر في هذا السبيل تضحيات جسيمة إذ كان تموين الحلفاء دون مقابل بل كان بطريق التسليف الذي نشأت عنه مشكلة الأرصدة الإسترلينية والتي سبق الحديث عنها في موضع أخر من هذه الدراسة .

المتغيرات الاجتماعية في ظل الحرب

أن ما حدث مساء 4 فبراير 1942 من إرهاب الملك فاروق لم يكن الغاية من سياسة الحكومة البريطانية وإنما كان وسيلة لإخضاع مصر سياسيا واقتصاديا خدمة لقضية الحلفاء ومن هنا لا يمكن الفصل بين ما حدث في 4 فبراير وأوضاع مصر الاقتصادية وبالتالي لا يمكن الفصل بين تردي الأحوال الاقتصادية والحياة الاجتماعية على اعتبار أن الأوضاع الاجتماعية هي المقياس الفعلي لقوة الاقتصاد أو ضعفه في بلد ما ومن هنا فإن الأمرين الاقتصادي والاجتماعي ) نتاج فعلي للحياة السياسية .

وإذا كانت مصر قد أعلنت الأحكام العرفية منذ بداية الحرب وبدأ هذا واضحا في العديد من القرارات الاستثنائية فإن ما ترتب على هذا الإجراء السياسي من ردود فعل داخل المجتمع المصري يعد بعدا اجتماعيا واضحا حيث عاشت الجماهير في حالة أشبه بالمأساة وبدا هذا في العديد من أشكال القلق النفسي وانتشر الهمس بين أوساط المصريين البسطاء بأن أركان الحرب البريطانية قد اقترحت على الحكومة المصرية إرسال جيش من المتطوعين لخوض غمار الحرب على الجبهة الأوربية كما تردد في ريف مصر بأن الدواب والمواشي سوف تصادر وأن مديري المديريات المصريين سوف يستبدل بهم ضباط انجلترا وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية قد حاولت في العديد من المناسبات أن تكذب هذه الدعايات إلا أنها لم تستطع بأي حال أن تقلل من حجم الكراهية الشديد التي يكنها المصريون للاحتلال البريطاني.

وضاعف من حجم هذه الإكراهات تصرفات ضباط وجنود جيش الاحتلال التي تتناقض مع عادات وتقاليد الشعب المصري سواء وهم في الشوارع والطرقات وبعضهم في حالة سكر وتعددت حالات الاعتداء على الفتيات المصريات وفي كل الأحوال عجزت الحكومة المصرية عن محاكمة المتهمين بحجة إن المعاهدات بين مصر وبقية دول الحلفاء كافية لمحاكمتهم .

وتعددت حالات اعتداء الجنود الانجليز على بعض الفتيات المصريات وصلت بعض الأحيان إلى حد هتك العرض وفي كل الحالات كانت الحكومة المصرية لا تملك إلا أن ترفع الأمر إلى هيئة أركان حرب الجيش البريطاني مما يعد من وجهة نظرنا اعتداء صارخا على استقلال مصر وشرفها .

وتعددت حالات الاعتداء من بعض جنود الحلفاء على بعض المصريين واكتظت أقسام البوليس بالعديد من الشكاوي ووقفت السلطات المصرية عاجزة عن منع تكرار مثل هذه الاعتداءات ونظرا لتغلغل الوحدات العسكرية داخل القرى المدن المصرية وما يترتب على ذلك من وقوع العديد من المشاكل فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب بسؤال إلى رئيس الحكومة عن مدا إمكانية نقل تلك الوحدات بعيدا عن الأحياء السكنية ونظرا لعدم قدرة الحكومة على اتخاذ قرار في مثل تلك لحالات فقد تذرعت بظروف الحرب بسبب مسائل الأعداد والتموين وغير ذلك وعلى حد تعبير رئيس الوزراء:

أن الشعب المصري قد ضحي بالكثير وبمزيد من الصبر ستفي بريطانيا بكل مطالبنا وعلى ضوء تطور العلاقات المصرية البريطانية حتى نهاية الحرب فقد ثبت عكس هذا الاعتقاد وبدا واضحا أن معاهدة 1936 كنت ترضية لزعامات المصرية لم يترتب عليها اى نوع من الاستقلال بل استباحت بريطانيا لنفسها كل موارد الحياة المصرية مما ترتب عليه بالضرورة أحداث خلل في الاقتصاد المصري لأزمة الحياة المصري لازمة بالضرورة عدم تناسب تعبير وزير المالية في بيانع أمام مجلس النواب حيث قال : أن للحرب أثرا أشد وأخطر ولعل أخطر الشر فيه أنه يؤدي إلى تضخم خلقي حيث يسري التضخم من مرافق الناس إلى أخلاق الناس ومن قيم المال إلى قيم الرجال حيث تتضخم المطامع والشكايات ويندفع البعض مخاطرا مغامرا مقامرا ويبدو ذلك في التهرب والتهريب .

واستغلال ضعف الضعفاء وحاجة الفقراء وهكذا ينزلق الضعفاء سعيا وراء الربح الحرام لا يعنيهم في ذلك إلا أن تتضخم بطونهم ولو جرد الفقير من الطعام ولما كان هذا التضخم الخلقي مرتبطا بالتضخم النقدي ونتيجة حتمية له بالتفاعل بينهما شديد كل يفعل فعله في الآخر .

وقد يتصور البعض أن الحرب قد أحدثت تقدما في شتي المجالات الاقتصادية إلا أن ما ترتب على تلك الحرب من تناقضات اجتماعية وبلورة ( ما يسمي ) بالصراع الطبقي لأول مرة في تاريخ مصر يعد أمرا خطيرا وذلك لازدياد حدة الفوارق بين من يملكون ومن لا يملكون إلى جانب موجة الغلاء وارتفاع الأسعار وحدة التضخم ومن هنا فقد اهتزت المبادئ الأخلاقية .

ويعتقد البعض ان تردي الأوضاع الاجتماعية في القري المصرية كان بسبب المعتقدات الإسلامية التي أفلح كبار الملاك في نشرها باسم الدين وبواسطتها استطاع كبار الملاك إخضاع الفلاحين لنفوذهم الاقتصادي والاجتماعي إلا أننا لا يمكننا أن نقبل هذا الرأي بأن الغالبية العظمي من الفلاحين كاد أن يقتلها البؤس والفقر إلا أن مرد ذلك لم يكن بسبب المعتقدات الاستسلامية التي افلح كبار الملاك في نشرها باسم الدين ( كما يعتقد صاحب هذه الرواية ) وإنما كان بسبب السياسات الخاطئة للحكومة المصرية والتي أهملت في برامجها النهوض بحالة الفلاح المصري والارتفاع بمستواه الاجتماعي ويلاحظ أن كل الأحزاب المصرية قد افتقرت إلى البرنامج الاجتماعي الذي يستهدف رفع مستوي الفلاح المصري وكل الأحزاب المصرية تقريبا بما فيها حزب الوفد قد اهتمت بالبيانات الإنشائية بعيدا عن الواقع العملي ووضع الخطط والبرامج التي تستهدف الارتفاع بمستوي القرية المصرية ووفق الوثائق الرسمية فقد وصل متوسط الدخل القومي تسعة جنيهات للرفد سنويا .

وعلى الرغم من أن بعض الحكومات قد وضعت يدها على أساس المشكلة حيث أوضحت الحكومة في احدي تقاريرها أهمية التضامن الاجتماعي بين أبناء الوطن على اعتبار أنه لا يمكن أن يتحقق هذا الهدف إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية برفع مستوي الحياة العامة لطائفة كبيرة من أبناء هذا الوطن تئن تحت أثقال الفقر والمرض والجهل ولابد من تكاتف كل الجهود إلى علاج هذه الأدواء الثلاثة والعمل على خلق طبقة من صغار الملاك تحيا حياة إنسانية في المستوي الأدني الذي تراه البلدان المتمدنة أقل ما يجب أن يبلغه واحد من أبنائها إلا أنه لم تبذل أى مجهود عملية لتحقيق هذه الغاية مما يجعلنا نعتقد أن هذا الإعلان كان لمجرد المزايدة بهدف إرضاء تلك الطبقات المعدمة .

وتجددت تلك المحاولة مرة ثانية حيث تقدم أحد النواب بسؤال إلى الحكومة حول الأحوال الاجتماعية السيئة التي يحياها معظم الفلاحين المصريين وما هي جهود الحكومة في هذا الصدد وفي هذه المرة أيضا لم تقدم الحكومة على إجراءات عملية وغنما كل ما فعلته هو وعود طالما تتبدد بمجرد انتهاء الدورة البرلمانية ولم تقتصر سوء الأحوال عموما على الفلاح وإنما شملت أيضا الطبقة العاملة حيث ظهرت العديد من التحقيقات الصحفية عن سوء مستوي العامل وضرورة العمل على رفع مستواه وعلى الرغم من أن العديد من المؤسسات الصناعية قد حققت ربحا كبيرا خلال سنوات لحرب وصل في بعض الحالات إلى عشرة أمثال رأس المال المستثمر .

إلا أن دخل العامل المصري قد ارتبط بالارتفاع المستمر بالمواد التموينية الأساسية ومن خلال الجدول التالي مكن معرفة مستوي الحياة التي يحياها العامل المصري .


اسم الشركة إيراداتها في عام 1942 متوسط أجر العامل في اليوم

شركة السكر

ويلاحظ أننا إذا وضعنا في الاعتبار أجرة العمال الدائمين ومعظمهم يعولون أسر لا يقل عدد أفراد الواحد منها على ثلاثة كما أغفلنا طبقة العمال الذهورات – الذين صدر من أجلهم الأمر العسكري الذي حدد خمسة قروش كحد أدني لأجورهم وكانوا قبل ذلك يتقاضون أجرا يوميا يتراوح بين رشين وأربعة على ضوء كل ذلك يتبين مدي الغبن الذي يقع على عاتق الطبقة العاملة والتي تعتب عصب الحياة الاقتصادية .

وعند فحص طلاب الجامعة وهم من وسط يمثل طبقات الشعب العليا – لم يوجد من بينهم من يصلح للخدمة العسكرية سوي نسبة لا تزيد على السدس أما خمسة الأسداس الأخرى فهم غير صالحين جثمانيا للخدمة العسكرية وأما باقي طبقات الشعب فإن الأمراض كانت تفتك بهم – بنسب لا تتفق والحياة الآدمية فقد بلغ عدد المصابين بالرمد الحبيبي 14,500,000 أى بنسبة 90%من عدد السكان وعدد المصابين بالبلهارسيا 12,000,000 أى بنسبة 75% من السكان وعدد المصابين الديدان المعوية الأخرى 8,000,000 أى بنسبة 50% من السكان .

ومن خلال بحث أعده الدكتور عبد الواحد الوكيل وهو حجة في شئون الصحة العامة حيث قال : " إذا جمعنا أمراض لوجدنا جملتها أكثر من خمسين مليونا أى أنها تكفي لإصابة شعب من خمسين مليون نفس بحيث يصيب كل شخص منهم مرض واحد فإذا وزعناها على المصريين أصاب كل شخص في المتوسط ثلاثة أمراض في وقت واحد ".

وتناولت احدي الصحف العلاقة بين انخفاض أجور العمال وحالة التسول التي انتشرت في أنحاء القطر وأرجعت السبب في انتشار جماعة المتسولين الذين يلجأون إلى الاستجداء عن طريق الحياة اليومية وعدم الربط بين هذا الارتفاع والأجور مما أدي إلى ترك العمل وتفضيل حياة التسول .

ونظرا لسوء التغذية وظهور ما يشبه المجاعة في بعض مناطق القطر المصري فقد انتشرت العديد من الأمراض وخصوصا مرض الملاريا والذي بدأ بصورة واضحة في مناطق الجنوب وخصوصا في بلاد النوبة وبعض مناطق مديريتي قنا وجرجا بدأت في أكتوبر 1942 ولأن الحكومة كانت تعلم جيدا أن سوء التغذية قد لعب دورا كبيرا في حدوث المرض فقد أقرت الحكومة مبلغ 4300 جنيه لتوزيع الأغذية على فقراء المناطق الموبوءة بحيث نال كل فقير مريض كيلة من الذرة العويجة وأقة من زيت القطن ونصف أوقه سكر .

ويبدو أن الحكومة لم تكن في حالة تمكنها من القضاء على هذا المرض الذي بدأ ينتشر في معظم مناطق جنوب مصر ولا أدل على ذلك من أن المبالغ التي خصصت لهذا الغرض لم تكن كافية للحد من هذا الوباء اللعين فقد اعتمدت الحكومة مبلغ 15,000 جنيه لمقاومة البعوض , 300 جنيه , 223 مليما لوضع خطة واقية لمقاومة الملاريا .

وفي منتصف سن ة 1943 أصيب بهذا المرض أكثر السكان حتى لم ينج منه أحد في بعض المناطق وتعذر على وزارة الصحة تحديد عدد المرضي على وجه الدقة وارتفعت نسبة الوفيات ارتفاعا يتباين تبعا للحالة الاقتصادية والاجتماعية من مسكن وملبس وغذاء ووصلت نسبة الوفيات إلى 20% في بعض المناطق 10% في مناطق أخري .

وعلى الرغم من أن وزارة الصحة قد أصدرت بيانا أرجعت فيه سبب ظهور وباء الملاريا إلى سوء التغذية وانتشار البعوض إلا أن الأستاذ الرافعي قد أرجع سبب هذا الوباء إلى دخول بعوضة ( الجامبيا ) من الحرب ومواد الطائرات البريطانية حيث يؤكد أنه قد ثبت من الحقائق والبحوث العلمية أن تلك البعوضة لم توجد من قبل في أى مكان من البلاد المصرية أو شمال السودان قبل الحرب فلما اشتد القتال سنة 1942 كانت منطقة البحر الأبيض المتوسط غير مألوفة فكانت الطائرات البريطانية التي تقصد مواقع الجيش الثامن بشمال أفريقيا تسلك طريق غرب أفريقيا – الخرطوم – وادي حلفا – القاهرة ولم تعن السلطات البريطانية في السودان بتطهير الطائرات التي تقصد وادي حلفا فمصر ومن هنا تسربت بعوضة" الجامبيا " إلى النوبة ومنها انتشرت بواسطة القطارات ووسائل الاتصال إلى المديريات الجنوبية .

وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى ظهور الوباء إلا أن الحكومة المصرية لم تعط لهذا الوضع أهمية تتناسب وخطورة الموقف ويبدو هذا من المبالغ الضئيلة جدا والتي اعتمدت لهذا الغرض ومن هنا فقد استفحل الأمر وتفشي الوباء وتسبب في وفاة 20416 ولم تتمكن الحكومة من استئصال هذا الوباء إلا في فبراير 1945 على عهد وزارة أحمد ماهر .

أما مرض التيفوس فقد ارتفعت حالات الإصابة به أيضا ووفق بيان وزير الصحة : لقد زادت الإصابة بمرض التيفود هذا العام ( 1942 ) عن مثلها في الأعوام السابقة إذ المعروف أن إصابات هذا المرض تكثر في مثل هذه الأزمات وكان أشدها خطورة في مديريات الوجه البحري وبعض مناطق الوجه القبلي مما تسبب في وفاة خمسة أطباء وهم يؤدون واجبهم وعندما طلب بعض أعضاء مجلس النواب إحصائية بعدد الوفيات التي حدثت بسبب هذا المرض أبدي الوزير عدم إمكانية حصر حالات الوفاة في الوقت الحاضر إلا أن بعض الصحف قد نشرت حصرا مبدئيا بعدد الوفيات التي راحت ضحية هذا المرض والذي بلغ على د قولها 12,000 حالة خلال عام 1942 فقط .

ولعل أهم الآثار الاجتماعية وأخطرها والتي كانت نتاجا طبيعيا لاختلاط المصريين بالأجانب " الأزياء العامة " وخصوصا لدي السيدات والفتيات فلأول مرة في تاريخ مر تخرج الفتاة لمصرية وهي متبرجة ووصل الأمر إلى حد ظهور المرأة لمصرية شبه عارية على الشواطئ وفي الأندية العامة ولذا فقد تقدم النائب محمد قرني بك باقتراح يقضي بإلزام المرأة المصرية بارتداء الزي الذي يتناسب والسلوك الاجتماعي وعلى الرغم من اعتراض بعض النواب بحجة أن هذا الاقتراح غير جدير بالنظر لتعارضه مع الحرية الشخصية المكفولة في المادة الرابعة من الدستور علاوة على أنه لا يتمشي من الروح الاجتماعية الحديثة.

وبعرض هذا الاقتراح على مجلس النواب والشيوخ فقد حظي بالأغلبية ولذا فقد صدر القانون رقم 33 لسنة 1942 ويقضي في مادته الأولي بأن كل سيدة مصرية بلغت من العمر ست عشرة سنة يجب أن يكون لباسها الخارجي في الطرقات والأماكن العامة والشواطئ ساترا لأعضاء الجسم ما عدا الوجه والكفين بحيث تكون مرسلة إلى الكفين واصلة إلى الكعبين وألا تكون الملابس محددة لأعضاء الجسم .

وقضت المادة الثانية بأنه لا يجوز لسيدة مصرية بلغت العمر المنصوص عليه بالمادة الأولي أن تشاهد في الطرق أو الأماكن العامة وهي مخاصرة رجلا أو معه على أى حال منافية للآداب كما لا يجوز أن تخالط الرجال في الاستحمام أو تري على الشواطئ بلباس البحر .

المادة الثالثة: كل سيدة ارتكبت محظروا مما نص عليه في هذا القانون تعاقب بإنذارها أو ولي أمرها وإذا تكرر منها نفس الأمر يتم تحذيرها للمرة الثانية فإذا لم ترتدع يحكم عليها بغرامة قدرها عشرون جنيها أو الحبس مدة لا تتجاوز أسبوعا .

ووفق المذكرة الايضاحية التي تقدم بها النائب محمد قرني والخاصة بهذا القانون فقد بني الاقتراح على العديد من المبررات التي كانت سببا في استصدار قانون بهذا الشأن حيث اعتمد النائب مذكرته على بعض الحقائق التي ينكرها الإسلام وتتنافي مع طبيعة المرأة المصرية ومن أهمها :

1- ظهور المرأة المصرية وهي متبرجة متشبهة بالمرأة الأجنبية في مظهرها .

2- ظهور المرأة المصرية وهي برفقة جنود وضباط جيش الاحتلال وهي في حالة منافية للآداب العامة .

3- أن كل الشرائع الإلهية حتمت بالنص الصريح على النساء أن يدنين عليهم من جلابيبهن وألا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن... الخ.

ووجه هذا الاقتراح ببعض الانتقادات على اعتبار أن الحياة الاجتماعية قد قطعت شوطا بعيدا فيما يختص بالأزياء ومن العبث الرجوع بالأزياء بعد هذا التقدم إلى الوراء .

وكان تناول قضية الأزياء لبعض النواب لكي يتحدثوا عن الجرائم الأخلاقية التي ترتكب نهارا بلا رادع أو قانون حيث لا يعاقب القانون الفتاة البالغة ستة عشرة عاما إذا ارتكبت الجريمة مع شاب تزيد سنه عن الثمانية عشرة عاما .

وعلى الرغم ن صور هذا القانون إلا أن المرأة المصرية قد تأثرت كثيرا بسبب الحروب وما نتج عنها من سوء الأوضاع الاقتصادية ووفق دراسة أعدتها مجلة " كورونيت " حيث أرسلت أحد مراسليها إلى القاهرة ليكتب لها عن المرأة المصرية والحرب فكتب يقول : حقا لقد تأثرت حياة البعض من الحرب إلى أقصي حد .... ويا له من تأثر نشأ عنه انقلاب خطير في حياة بعض المصريات وعلى ضوء تلك الدراسة التي اجري بسببها العديد من بعض المصريات وعلى ضوء تلك الدراسة التي أجري بسببها العديد من اللقاءات الشخصية مع بعض النسوة اللائي اختزن مهنة البغاء اختار مراسل تلك الصحيفة بعض النماذج الآتية :

1- اللقاء الأول مع فتاة تعمل في كباريه " الأكسلسيور " في الإسكندرية وأسمها كيكي ويضيف مراسل المجلة أن كيكي هذه كان اسمها " عائشة" وكانت تعيش في قرية في أعماق الريف المصري وتحدثت معها طويلا وسألتها كيف حدث هذا الانقلاب في حياتها وكيف أصبح شكلها هكذا وكيف أصبحت تكلم الانجليزية وبسؤالها عن كل ذلك أجابت اسألوا الحرب لأنها هي السبب ؟

2- واختار مراسل المجلة امرأة أخري كانت تعمل خادمة في احدي البيوتات الراقية ووجدت نفسها بلا مقدمات تقع فريسة للإغراءات الشديدة من جنود وضباط الحلفاء ولم تستطع أن تقاوم الكافيار والشامبانيا .

3- أما النموذج الثالث فقد كان لفتاة يبدو عليها الجمال الشرقي وبالطبع لم تذكر اسمها الحقيقي حيث اختارت لنفسها اسما جديدا " شوشو" وتؤكد تلك الفتاة أنها تنتمي إلى احدي البيوتات الراقية وقد وقعت في حب أحد الضباط الانجليز الذين يعملون ضمن الوحدات المتمركزة في القاهرة وبعد أن مكنته من نفسها بعد أو وعدها بالزواج فقد تم نقله إلى الفرقة الأولي في الصحراء الغربية حيت لقي حتفه واختارت تلك الفتاة طريق البغاء سترا لفضيحتها وسط أهلها .

4- وعلى الرغم من اعتقادنا بأن هذا الأثر السيئ لم يشمل إلا عددا محدودا من الفتيات المصريات إلا أننا لا يمكن أن نغفل هذا الجانب لأهميته الخطيرة وارتباطه الأكيد بتردي الأحوال الاقتصادية وخصوصا في مدينة الإسكندرية التي تعرضت لقصف الألمان واستشهاد الآلاف من الرجال والنساء اختارت بعضهن حيا الليل بعد أن فقدت زوجها .


وعلى الجانب الآخر فقد أعطت الحرب المرأة المصرية بعضا من الحرية وبعضهن قد اشترك في الحياة العامة وتعرض البعض للاعتقال ويعد اعتقال السيدة / نبوية مرسي لأسباب سياسة انقلابا خطيرا في حياة المرأة المصرية وتعد محاكمتها أمام المحكمة العسكرية فرصة استغلتها المرأة لكي تطالب بمزيد من الحقوق العامة وفي مقدمة تلك الحقوق حق المرأة في إقامة حزب نسائي حيث صرحت الأستاذة مفيدة عبد الرحمن بأن فكرة إقامة حزب نسائي قد راودت الكثيرات من النساء المتعلمات وفي مقدمتهن السيدة نعمت راشد عطيات الشافعي زينب لبيب وبدأت ولي جلسات الهيئة التأسيسية للحزب في أول فبراير 1944 ودار الحديث عما يلزم الحزب من مطبوعات وقانون الحزب وغير ذلك من الإجراءات .

إلا أن تلك التجربة على ما يبدو لم تحظ بالنجاح حيث فضل بعضهم الاشتراك في الأحزاب التقليدية حتى لا يتهمن بالتعصب من جانب الرجال ووصل الأمر إلى أن بعض النسوة كفاطم اليوسف بدأت تحت الفتيات المصريات على الإضراب عن الزواج خصوصا العاملات منهن بحجة أن المرأة التي قد يضطرها عملها إلى التغيب عن منزلها معظم ساعات اليوم لتعود مرضاها كطبيبة أو لتعد قضاياها كمحامية أو لتشرف على مجلتها كصحفية لا يمكن أو توفق بين عملها ومنزلها ثم أضافت قائلة : أطالبكن يا حضرات الزميلات الناشئات الثائرات وأنصحكن بعدم الزواج إذا أردتن المجد والعمل تزوجن الثورة على أنانية الرجل وغروره.

ويلاحظ إن قضية المرأة قد شغلت حيزا كبيرا في ضمير المجتمع المصري في تلك الفترة وليس من قبيل المصادفة أن تظهر تلك الدعوات الغريبة والجديدة على المجتمع المصري وإنما كان للآثار التي تركتها الحرب الأكبر الأثر في تمرد المرأة المصرية وظهور الدعوات التي تعد خروجا صارخا على تقاليد وعادات المجتمع المصري ولم تتوقف مطالب المرأة عند هذا الحد بل تبنت احدي المجلات الدعوة إلى حق المرأة في دخول الأزهر وأجرت المجلة عدة لقاءات مع بعض الشخصيات العامة حول حق المرأة في دخول الأزهر وفيما يلي آراء طائفة من هؤلاء :

توفيق الحكيم : إذا قبلت المرأة أن تلبس عمامة وجبة وكاكولة وقفطانا فإنا لا مانع عندي من التحاقها بالأزهر وأري أن أنسب كلية لها هي كلية الشريعة حتى يمكن أن تتخرج محامية شرعية أو قاضية شرعية حيث تكون أجدر بفهم المرأة ومعرفة شئونها ويضيف توفيق الحكيم بأسلوب تهكمي ألا تري أن المرأة قد بالغت في مطالبها لدرج أن تطالب بدخول الأزهر .

أما الأستاذ زهير صبري فقد أيد حق المرأة في أن تدخل الأزهر باعتباره معهدا للعلم أما الدكتور زكي مبارك فقد قال أنني من أشد المؤيدين بفتح أبواب الأزهر أمام الجنس اللطيف .

أما فاطمة اليوسف فقد قالت : لقد عشت عمري مدافعة عن حقوق المرأة ولا شك أنني أؤيد دخولها الأزهر .

وخلاصة القول أن الحرب العالمية الثانية ( 19391945) قد تركت آثارها في كل نواحي الحياة العصرية سواء أكانت تلك الآثار بالإيجاب أو بالسلب حيث قد أحدثت ردود فعل عنيفة لأنها حدثت طفرة واحدة سواء في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية وما نورده من أمثلة هو من باب الاستدلال وليس من باب الحصر .

ويبدو أن حكومة الوفد قد قدرت خطورة الآثار الناتجة عن الحرب فيما يتعلق بانحراف الأخلاقيات ولذا فقد أصدر الحاكم العسكري أمرا بإلغاء البغاء إلا أنه قد استثني من هذا القرار عواصم المحافظات والمديريات .

ولذا فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب بسؤال إلى رئيس مجلس الوزراء والحاكم العسكري العام عن عدد بيوت الدعارة التي أغلقت في جميع أنحاء القطر وما إلي فعلته الحكومة لهؤلاء البغايا كي يصلن إلى سبيل الاستقامة ولكي تكون الأسرة المصرية محفوظة فلا يصل إليها شر .

ولقد أجابت الحكومة بأنه تم إغلاق 407 من بيوت العاهرات في جميع أنحاء البلاد تنفيذا للأمر لعسكري رقم 247 الصادر في 11 أبريل 1942 وقد أرسلت وزارة الشئون الاجتماعية إلى كل مديرية بكتاب تطلب موافاتها ببعض التفاصيل عما تعتزم المديرية اتخاذه من الإجراءات بالنسبة للبغايا اللائي ستغلق بيوتهن وقد اقترحت بعض المديريات تخصيص مكان لإيواء البغايا تحت إشراف البوليس وتزويدهن بالمال من مجلس المديرية أو المجلس البلدي حتى يتزوجن أو يجدن عملا شريفا ولقد اقترحت الحكومة بناء على رغبات مديري المديريات تأليف لجنة من وزارتي الداخلية والصحة النظر في الطرق التي تسهل للمديريات تنفيذ الأمر العسكري المذكور والتي تكفل النتيجة المنشودة من إلغاء البغاء وحماية لناس مما ينجم عنه من شرور .

ويلاحظ أن الحكومة قد حرصت على إصدار القرارات ذات الطابع الجماهيري حرصا منها على أن يسترد الوفد بعضا من الأرض التي فقدها عقب 4 فبراير وانطقا من هذا المفهوم فقد أصدر الحاكم العسكري العام قرارا بإلغاء المارهنات على سباق الخيل ويلاحظ أن حيثيات القرار لم ترجعه الحكومة إلى أسباب إسلامية وإنما إلى منافاته للأخلاق النتيجة المنشودة من إلغاء البغاء وحماية الناس مما ينجم عنه من شرور .

ولما كانت الحركة العمالية قد اهتزت ثقتها في الوفد بسبب العديد من الأحداث التي لا تتفق وشعبية الوفد حرصت الحكومة على كسب هذا القطاع الجماهيري الهام ولذا فقد أصدر النحاس باشا قرارا عم جميع قطاعات لدولة سواء أكانت قطاعات صناعية أو زراعية يقضي بجعل الحد الأدنى لأجر العامل في اليوم الواحد خمسة قروش .

ولما كانت الحكومات التي تعاقبت على الحكم بدأ من سنة 1936 قد رضيت على كسب ود العمال لأسباب سياسية وحزبية فقد حرصت حكومة الوفد بدأ من 1936 على إقامة نقابة للعمال ترعي مصالحهم إلا أن هذا المشروع قد تعثر إصداره بالرغم من تشكيل لجنة لوضع مذكرة تفصيلية بالمشروع وبدأ من حكومة محمود 1938 وحتى حكومة حسين سري قبيل حادث 4 فبراير فقد حرصت كل الحكومات على النظر والتفكير في مشروع تلك النقابة إلا أنه لم تكن هناك خطوات جاد للخروج بهذا المشروع إلى حيز الوجود حتى كانت حكومة 4 فبراير حيث صدرت العديد من التشريعات العمالية كان أبرزها قانون الاعتراف بالنقابات العمالية ثم أعقب ذلك قانون التأمين الإجباري ضد حوادث العمل وقانون عقد العمل الفردي وقانون مكافحة الجهل ومحو الأمية بين صفوف الشعب.

أما القانون الخاص بالاعتراف بالنقابات فقد نص في مادته الأولي علي تحديد كلمة" عمال " وهم الذين يقومون بتأدية عمل نظير أجر مادي سواء أكان هذا لعمل ماديا أو عقليا وسواء أكان صاحب العمل شخصا حقيقا أو معنويا أما في مادته فقد حدد الأشخاص الذين لا يندرجون تحت تلك النقابة وهم :

أ‌- موظفو لحكومة ومجالس المديريات والمجالس البلدية والمحلية والقروية وعمال الجيش والبوليس .

ب‌- عمال الزراعة .

ت‌- الوكلاء المفضون الذين يمثلون أصحاب العمال .

ث‌- الممرضون وعمال المستشفيات على أن هؤلاء الموظفين والمستخدمين والعمال أن ينشئوا لهم جمعيات ترعي مصالحهم المشتركة .

ج‌- وهكذا تم التمييز بين العمال الذين لهم حق تأليف النقابات وغيرهم بناء على رغبة الحكومة لأن بعض الأعضاء داخل مجلس النواب والشيوخ كانوا يطالبون بحرمان عمال البيوتات ( الخدم) من حق تأليف النقابات بحجة أنه ليس من المعقول أن تتدخل النقابة في العلاقة بين الخادم ومخدومه وقد يلجأ لخدم إلى إعلان الإضراب وهذا لا يتفق مع العلاقات العائلية والعادات الشرقية وأن السبب الذي يدعو عمال الصناعة والتجارة إلى تأليف مع مراعاة أن عمال المصانع والشركات أرفع في مستواهم الاجتماعي من الخدم والطهاة والسائقين وحرصا من الحكومة على ضمان حق الخدم ومن شاكلتهم أضافت الحكومة اقتراحا يقضي بالاعتراف لهم بحق الدخول في النقابة بشرط ألا تتدخل لنقابة في لعلاقة بين الخادم ومخدومه ولذا فإننا نعتقد أن النقابة ق فقدت أهميتها بالنسبة لتلك الطبقة كما أن الحكومة قد جردتهم من أهم حق من الحقوق القانونية وهو الإضراب " حيث لا يجوز لهم الإضراب وإذا قرروا الاضراب وجل حل نقاباتهم "

ح‌- ووفق مضابط مجلس النواب فقد تمسكت الحكومة بحق العمال الخصوصيون ( الخدم والسائقون وغيرهم ) في الاشتراك في النقابة على الرغم من أن الأغلبية البرلمانية كانت تميل إلى خروجهم من النقابة وهذه نقطة تسجل للوفد ولوزير الشئون الاجتماعية عبد الحميد عبد الحق الذي نجح بمهارة في إقناع الأعضاء بأن هذا التمييز يعد مخالفا للدستور ولذا فالحكومة لا يمكنها الفصل بين العمال بغض النظر عن نوعية العمل , ومما يؤخذ على هذا المشروع أنه جرد النقابة من حق ممارسة الناشط السياسي والديني على اعتبار أن مثل تلك النشاطات لا تدخل في الغرض الذي أنشئت من أجله النقابة كما أنها حرمت عمال الزراعة من الاشتراك في تلك النقابة على اعتبار أن من حقهم تكوين نقابة خاصة بهم وكان الأولي عدم التفرقة على اعتبار أن من حقهم تكوين نقابة خاصة بهم وكان الأولي عدم التفرقة بين العمال الصناعيون والزراعيون ومن هنا فقد فشل العمال الزراعيون في إقامة ترعي مصلحتهم وتحميهم من بطش أصحاب العمل وفي الوقت الذي قطعت فيه نقابات العمال شوطا كبيرا في رفع مستوي العمال وحماية الوقت الذي قطعت فيه نقابات العمال شوطا كبيرا في رفع مستوي العمال وحماية حقوقهم كان العمال الزراعيون يعيشون في ظروف اجتماعية لا تتفق بأى حال والحياة الآدمية ويعتقد بعض المؤرخين المعاصرين أن حرمان عمال الزراعة من حق تكوين النقابات هو خوف أعضاء مجلس النواب والشيوخ من أن عمال الزراعة وكذلك يسري الخوف من أن تكون النقابات سبيلا لتسرب المبادئ الشيوعية داخل الريف مما يؤدي إلى إثارة النزاع بين الملاك ومزارعيهم وهذا الرأي يحمل قدرا كبيرا من الحقيقة على الرغم من أن الأعضاء البرلمانيون ( وهو من كبار الملاك) لم يعلنوا هذا صراحة.

لقد كان قانون الاعتراف بالنقابات مخيبا الآمال العمال حيث خضعت النقابات لرقابة البوليس وفرض عليها إبلاغه عن الاجتماعات التي تزمع النقابة عقدها قبل موعدها بوقت كاف , كما نص القانون على أن من حق الحكومة حل النقابة إذا رأت السلطة أنها انحرفت عن الغرض الذي أقيمت من أجله ولهذا فإن نعتقد أن الدافع وراء اهتمام الحكومة بإقامة نقابة شرعية للعمال كان دافعا حزبيا في الدرجة الأولي .

واستكمالا لملامح التشريع العمالي فقد أصدرت الحكومة قانونا بتحديد ساعات العمل حيث نصت المادة السادسة من هذا القانون على أن مدة العمل الفعلية ثماني ساعات في اليوم او ثمانية وأربعون ساعة في الأسبوع ومدة العمل ليلا ست ساعات وأنصت المادة السابعة على أن العمل سبع ساعات في اليوم في الأعمال الخطرة بالصحة وخمس ساعات إذا كان العمل ليلا وقد حدد القانون الأعمال الخطرة أو المضربة بالصحة فيما يأتي :

أ‌- أعمال المناجم والمحالج .

ب‌- صناعة المواد الكيماوية والمواد القابلة للانفجار والغازية .

ت‌- صناعة المواد السامة أو المضرة بالصحة.

ث‌- شحن وتفريغ الحبوب والمواد الغذائية .

وعلى الرغم من القيود التي فرضت على النشاط النقابي إلا أنه قد خطأ خطوات هامة مع نهاية سنة 1945 حيث كان الاتحاد الدولي لنقابات العمال قد دعا اتحادات العمال أن يرسلوا مندوبيهم في المؤتمر المزمع إقامته في باريس وسافر من مصر وفدان يمثلان اللجنة التحضيرية لعمال القطر المصري ومؤتمر نقابا القطر المصري وأمن توحيد الوفديين في وفد واحد حيث نوقشت مشاكل الأجور والبطالة وطرد القوات الأجنبية من أدي النيل وأثر الاستعمار البريطاني على تأخر الصناعة وتفاقم المشكلة الزراعية وتقييد الحريات واستطاع الوفد المصري أن يحصل من المؤتمر على قرار يندد بالاستعمار في مصر .

ومع الاقتراب من نهاية الحرب بدت مشكلة عمالية ذات نتائج اجتماعية خطيرة فلقد نشأت السلطة العسكرية البريطانية أثناء الحرب العديد من المصانع التي تخدم أغراض الحرب ولما كانت على وشك الانتهاء منها فإن الوفاء من العمال الذين يعملون في هذه المصانع سوف يتعطلون عن العمل وسوف يترتب على ذلك العديد من الآثار الاجتماعية الخطيرة ولذا فقد اقترحت الحكومة المصرية شراء تلك المصانع وقبلت بريطانيا هذا الرأي مع تحفظ واحد وهو أن يكون للسلطات البريطانية حق نقل بعض المصانع التي يقتضي نقلها إلى الشرق الأقصى ( حيث كانت الحرب ما تزال مستمرة ) . وبصرف النظر عن المبلغ الذي قدرته الحكومة البريطانية ثمنا لتلك المصانع أما كان لبريطانيا أن تتنازل لمصر عن تلك المصانع بلا مقابل وهل كل التضحيات التي قدمتها مصر لبريطانيا خلال الحرب لا تعد ثنا باهظا لتلك المصانع الصغيرة .

ولعل أخطر الآثار الناجمة من الحرب تلك الحركات التبشيرية والتي أخذت تندس وسط صفوف المصريين وفي المتجمعات الجماهيرية وخصوصا وسط المرضي في المستشفيات ولقد أغفلت السلطات البريطانية أعينها عن تلك المهام الخطيرة في الوقت الذي كانت السلطات البريطانية ترصد كل حركة في المجتمع مما يجعلنا نعتقد بأن هذه الأنشطة كانت تدور في إطار السياسة البريطانية .

ولعل هذا النوع من النشاط قد بدأ بصورة أكثر وضوحا داخل المدارس الأجنبية حتى يفرض على الطلاب حضور النداوت التي تعقد لهذا الغرض ومطالبة الطلاب بأعداد بعض البحوث عن موضوعات ذات صبغة تبشيرية مثل سماحة المسيحية وغير ذلك من الموضوعات ومما يلفت النظر انتشار الجماعات التبشيرية وتعدد مسمياتها وكلها تحمل أسماء ذات طابع مهني مثل جماعة مساعدة الأيتام وجماعة أصدقاء المرضي وغير ذلك من المسميات ولقد نجحت تقارير على سفارات فرنسا وأمريكا وانجلترا وخصوصا في غير أوقات العمل الرسمية ما يزيدنا اعتقادا بأن هذا النوع من الناشط يعد جزءا من مهام سفراء دول الحلفاء في القاهرة وفي الوقت الذي كان الوفد يتتبع الخصوم السياسيين ويزج بهم في السجون بلا تحقيق أو مساءلة أغمضت الحكومة أعينها عن هذا النشاط الخبيث ومما يضاعف من مسئولية الحكومة أنها كانت على بينة من كل تلك التحركات مما اضطر أحد أعضاء مجلس النواب إلى التقدم بسؤال إلى وزير الداخلية حول ما تقوم به مستشفي هرمل بالتبشير بين المرضي من الفقراء المسلمين , ولعل أخطر ما في الأمر أن الحكومة لم تكذب هذا الخبر وإنما أ‘لن وزير الداخلية بأن الوزارة ستخطر إدارة المستشفي بضرورة أبطال هذا النوع من النشاط .

ويبدو أن طلبة الأزهر كانوا من أولي القوي التي قدرت خطورة الأمر ولذا فقد تقدم بعض الطلاب بعريضة إلى رئيس مجلس الوزراء يلفتون نظرة إلى خطورة الدعايات التي تقوم بها بعض الجماعات وخصوصا وسط المدارس والمستشفيات وطالبت العريضة بفرض لتعليم الديني في المدارس وخصوصا المدارس الأجنبية .

والملاحظ أن الحكومة لم تقدر خطورة الأمر حيث لم تتخذ أى نوع من الإجراءات ضد تلك الجماعات ومن الصعب الحصول على إحصائية تحدد حجم الانجازات التي قامت بها تلك الجماعات نظرا للطابع السري الذي كان مفروضا على هذا النوع من النشاط ولذا فمن الصعب الحكم على النتائج التي حققتها تلك الجماعات.

إلا أن ما نستطيع أن نجزم به هو مسئولية الحكومة المصرية وتغافلها عن خطورة الأمر وبلا أى مساءلة .

وعلى ضوء كل ما تقدم يمكننا أن نطرح تساؤلا: ما هي العلاقة بين كل ما تقدم وحادث 4 فبراير ونتائجه السياسة ؟

ولابد من تقرير حقيقة تاريخية : أن ما حدث في 4 فبراير 1942من إرهاب الملك فاروق وكل من تسول له نفسه الخروج من دائرة لنفوذ البريطاني لم يكن هدفا بريطانيا وإنما يعد وسيلة لإخضاع مصر سياسيا واقتصاديا وعسكريا لخدمة الدول المتحالفة .

وبلاشك فقد نجحت السياسة البريطانية في تحقيق أغراضها حيث خضع الاقتصاد المصري لصالح الدول الحليفة .

أما من الناحية السياسية فإن تطبيق الأحكام العرفية في مصر في الوقت الذي لم تتمن السلطات البريطانية من تطبيقه في بريطانيا ذاتها يعد نجاحا باهرا من وجهة النظر البريطانية وأيضا من الناحية العسكرية حيث قدمت الإمكانات المصرية الخدمة القوات المحاربة ومن هنا فقد عاشت مصر وكأنها دولة محاربة في الدرجة الأولي .

ولا يمكن الفصل بين كل ما تقدم والمتغيرات الاجتماعية وليس من قبيل المصادفة على سبيل المثال أن تقدم حكومة 4 فبراير على إصدار العديد من التشريعات ذات الصبغة الاجتماعية مثل قانون النقابات وتحديد ساعات العمل وغير ذلك من القوانين التي سبق لحديث عها ألا لكي تقلل من حجم الآثار التي تركها هذا الحادث وسط صفوف الشعب المصري ولذا فإنه لا يمكن الفصل بين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأن تلك المظاهر الثلاثة تعد نتاجا مؤكدا لحادث 4 فبراير 1942 ..

الفصل الثامن : العلاقة المصرية البريطانية على ضوء المتغيرات الجديدة

الأطماع البريطانية في مصر بعد فبراير 1942

إذا كانت معاهدة 1936 قد وضعت شكلا محددا للعلاقات المصرية البريطانية فإن قيام الحرب العالمية الثانية يعد – من وجهة النظر البريطانية - مبررا معقولا للخروج على تلك المعاهدة ووقوع العديد من التجاوزات التي أحدثتها بريطانيا بحجة " داعي الحرب " وبكل المقاييس فإن ما حدث في 4 فبراير يعد انتهاكا لنصوص المعاهدة وتدخلا في عمل يعد من أخص شئون السيادة المصرية التي قررتها المعاهدة .

وعلى ضوء كل ما حدث في 4 فبراير فقد تخطت العلاقات المصرية البريطانية مرحلة الرجوع غلى نصوص لمعاهدة والثوب إلى مرحلة جديدة تعد في الدبلوماسية المعاصرة : شكلا من أشكال التسلط السياسي والذي ترتب عليه بالضرورة انتهاكا اقتصاديا وعسكريا وأخلاقيا.

والغريب في الأمر أن حكومة 4 فبراير ظلت تسوق العديد من المبررات ليس دفاعا عن سياستها فقط وغنما للدفاع أيضا عن سياسة بريطانيا بحجة " تأمين الديمقراطية وتناست الحكومة أن الاحتلال البريطاني لمصر منذ 1882 يعد انتهاكا صارخا لمبدأ الديمقراطية وأى وعود سوف تقدمها بريطانيا تعد من باب السراب الذي لا وجود له وتمكنت السياسة البريطانية من أن تطبق على مقدرات الشعب المصري وتوجه لا اقتصاد المصري ليخدم أهداف الحرب مما دعا اقتصاديا بارزا كالدكتور عبد الجليل لعمري أن يقول في وصف الحالة لقد كان الاقتصاد المصري كبقرة ترعي في أرض مصر ولكن ضروعها كانت تحلب خارجها وهذا ما يضاعف من اعتقادي بأن ما حدث في 4 فبراير لم يكن هدفا بريطانيا وإنما كان وسيلة لإخضاع مصر سياسيا واقتصاديا وعسكريا بهدف خدمة الحلفاء .

ولعل السياسة البريطانية كانت تدرك جيدا ما أصاب الوفد من جراء 4 فبراير ولذا فقد حرصت على أن تعمق هذا المفهوم لدي الجماهير الوفدية الكاسحة وليس من قبيل المصادفة أن ينعم على السفير البريطاني بلقب" لورد" عقب 4 فبراير وأن يذهب النحاس باشا مهنئا حيث استعرض مع السفير قوات من الجيش البريطاني في ميدان الإسماعيلية .


ويبدو أن النحاس قد أراد أن يناور مناورة سياسية للفت نظر الرأي العام حيث تحدث شفهيا مع السفير البريطاني حول إشراك مصر في مفاوضات الصلح على الرغم من أن مصير الحرب لم يكن قد تقرر بعد إلا أن الحكومة البريطانية لم تجد ما يحول دون إشراك مصر في جميع المفاوضات التي تمس مصالحها بالإضافة إلى أن الحكومة البريطانية لن تتدخل أثناء هذه المفاوضات في مناقشة أى شئ يمس مصالح مصر المباشرة دون تبادل الرأي مع الحكومة المصرية .

ووفقا للمعني السابق فإن الحكومة البريطانية ستبذل كل معاونتها ليتحقق لمصر أن تمثل على قدم المساواة بين جميع مفاوضات الصلح التي تمس مصالح مصر مباشرة فالقيد ينصب على مصالح مصر المباشرة أى أنه فيما عدا مصالح مصر المباشرة لا تسعي بريطانيا حيث لا يكون هناك مبرر لكي يكون لمصر مكان في هذا المؤتمر وتفسيرا لهذا النص فإنه من المفترض ضمنيا أن يتعرض المؤتمر لمصالح مصر غير المباشرة من غير أن تكون مصر موجودة وأكبر مثل على هذا هو قضية السودان فوفقا للمبدأ السابق فإن السودان يعتبر قضية مصرية غير مباشرة ولذا ستكون بريطانيا طرفا عن مصر في تلك القضية وهو ما يتعارض تماما مع حق مصر السياسي في السودان .

أما القول بأن حكومة جلالة الملك لن تدخل في أثناء هذه المفاوضات في مناقشة أى شئ يمس مصالح مصر المباشرة دون تبادل الرأي مع الحكومة المصرية فإن هذا النص لا يتفق ومصالح مصر الوطنية لأن مصر أما أن تكون وصلت إلى أن تمثل في المؤتمر وهي بذلك موجودة باعتبارها عضوا فيه وهذا يمكنها من التحدث عن نفسها وإبداء آرائها والدفاع عن مصالحها وأما أن تكون فشلت المساعي لإشراك مصر في المؤتمر وهنا يكون النص غاية في الخطورة لأن معناه أن بريطانيا تستبيح لنفسها أن تتحدث عن مصر وأن تتفاوض عن مصالحها المباشرة ومصر تقبل ذلك وتكتفي بمجرد أخذ أيها خارج المؤتمر الأمر الذي دعا أحد أعضاء مجلس الشيوخ البارزين إلى القول : أن كان للحماية الخارجية معني , فحدثوني ما هو هذا المعني إذا لم يكن أن دولة تتحدث عن أخري وتقضي في صوالحها .

ومزيدا من إحراج الحكومة فقد أجمعت المعارضة على ان مطالب مصر واضحة لا غموض فيها ولا تحتاج إلى مؤتمرات لحلها وهي الجلاء عن مصر والسودان وبذلك نكون قد قطعنا خطوات كبيرة لتحقيق مصالح مصر .

وعلى الرغم من أن مصر كانت تتطلع إلى اليوم الذي تتحرر فيه من قيود التبعية البريطانية إلا أن حكومة الوفد قد سعت لاستقدام بعض الخبراء الانجليز في مجال الاقتصاد مما كان سببا في تفاقم حالة القلق لدي المصريين وخصوصا وأن مصر في تلك الفترة كان لديها المجلس الاقتصادي العلي وهو هيئة رسمية تضم مجموعة من الخبراء الممتازين في المسائل المالية والاقتصادية ولدي مصر أيضا اللجنة المالية بوزارة المالية واللجنة المالية في مجلس للنواب ومثلها في مجلس الشيوخ ولدي مصر أيضا طبقة عظيمة من جال المال وال‘مال الذين يتولون فعلا مشروعات ومؤسسات مالية واقتصادية فهذه الهيئات وكل تلك المؤسسات سواء كانت رسمية ام غير رسمية ألا يوجد فيها من يصلح بأن تسترشد به الحكومة .

وهذا ما يدعونا إلى القول بأن إدخال خبراء انجليز بحجة إصلاح الخلل في الاقتصاد المصري يعد سياسة بريطانية قصد بها تطويع الاقتصاد المصري وتوجيه بما يحقق المصالح البريطانية حيث تشير مذكرات رئيس البوليس السياسي إلى تعدد المطالب البريطانية وتنوعها في كل مرافق الحياة المصرية وكانت كل الطلبات تجمع في مكتب رئيس الحكومة حيث يصدر أوامره إلى كل الهيئات موضع الاهتمام البريطاني وفي كثير من الأحيان كانت تصدر الأوامر من النحاس باشا تليفونيا حتى لا يقع في حرج إذا ما بعث بالمذكرة البريطانية .

وعلى الرغم من التحالف القائم بين بريطانيا وأمريكا وحصول الأخيرة على قدر من الامتيازات التي تتمتع بها بريطانيا داخل الأراضي المصرية إلا أن السفير الأمريكي ( كيرك) قد طلب من ايدن وبطريقة ودية محاولة كسب ود الملك فاروق وترضية خاطرة بسبب ما لحقه من جراء 4 فبراير وأضاف السفير الأمريكي بأن المعاملة الخشنة التي اختص بها الدبلوماسيون البريطانيون الخديوي عباس حلمي لم تسفر إلا عن تحويله إلا كاره لكل ما هو بريطاني وعلى حد تعبير السفير الأمريكي : أن الصراع الدائر بين بريطانيا والملك فاروق يجعلنا نسير على الحبال بصورة خيالية لطيفة .

ولعل الحكومة البريطانية في محاولة منها للوقيعة بين الشعب المصري والملك فاروق فقد أشادت من خلال البيانات التي صدرت بصفة رسمية من الخارجية البريطانية بالروح المعنوية العالية ورباطة الجأش التي يبديها المصريون وخصوصا في الأوقات العصبية وفي الوقت نفسه فقد شككت في نوايا القصر عن اعتبار أنه يأخذ موقفا مناهضا للشعب المصري من خلال تأييده الواضح للمحور . وأخذت الصحافة البريطانية تشيد بأهمية الدور المصري حيث كتبت التايمز 20 أغسطس 1942" تقول : أن كثيرا من الناس لا يدركون مبلغ ما تدين به الجيوش البريطانية في مصر للحكومة المصرية فقد وضعت مواني البلاد ومطاراتها وطرقها وكل مرافقها تحت تصرف الجيوش المتحالفة وقال المستر تشرشل حين مر بالقاهرة في رحلته الأخيرة : أن مصر ولو أنها كانت لا تزال بلدا محايدا فليس من الحق مطلقا أن يقال أنها لم تقم بدور مهم ومشرف لا في دفاعها عن نفسها فحسب بل في الصراع العالمي الذي أخذ الآن يتقدم تقدما عظيما نحو نهايته.

وبالرغم من كل التصريحات التي أطلقها الساسة الانجليز والتي تشيد بموقف مصر وشجاعة حكومتها إلا أن بريطانيا لم تقدم بديلا مرضيا لحل القضية الوطنية التي بدتها أحداث الحرب ولم تفقد الحكومة المصرية الوسيلة التقليدية في الإشادة بمبدأ الديمقراطية التي تحارب من أجلها الدول المتحالفة ضد الفاشية والنازية .

ولعل ما تعرضت له مصر منذ سنة 1882 ما يقف دليلا على عدم صدق بريطانيا بصرف النظر مبدأ الديمقراطية أو الفاشية ومبالغة من الحكومة المصرية في صدق نواياها تجاه بريطانيا فقد زج بالعديد من المصريين في غياهب السجون وبلا أى محاكمة ولعل هذا في حد ذاته يعد تناقضا صريحا لفكرة الديمقراطية وعملا بمبدأ الديكتاتورية ولذا فإنني أعتقد أن كل التصريحات التي أطلقتها الدوائر البريطانية كانت من باب ترضية خاطر المصريين ويبدو فما أعلنه لمستر تشرشل ( رئيس وزراء بريطانيا ) ما يؤكد وجهة نظرنا حيث أعلن : أننا مسئولون طيلة الحرب عن المحافظة على العلاقات الطيبة مع الدولة المصرية التي وقيناها شر اعتداء القوات الايطالية والألمانية .

وهذا التصريح يتناقض بشكل واضح مع ما سبق أن أعلنه تشرتشل مرارا وهو يثني على موقف مصر أيام العلمين ذلك الموقف الرائع الذي لولاه لتغير مصير الحرب وتبدو تلك المنالطات في بيان تشرشل لأن لتلك الحرب التي كانت تخوضها انجلترا في الصحراء الغربية لم تكن من أجل مصر بدليل بيانات الشكر التي بعث بها عدد كبير من الساسة الانجليز والتي تشيد برباطة جأش المصريين فليس من المعقول أن يتولي رجل الدفاع في بيتك ثم يشكرك لأنك أمنت له مؤخرته ولو أنه كان يدافع عنك لما رضي بأقل من وقوفك إلى جانبه ؟ ولكن كان يدافع عن نفسه وهو في بيتك وكان من واجبه أن يشكرك لأنك ساعدته وأمنته فانجلترا لم تكن تدافع عن مصر وإنما كانت تدافع عن إمبراطوريتها ومصر ستحق الشكر لأنها جعلت هذا الدفاع ممكنا بتركها أرضها وكافة مواصلاتها وتقديمها قوت يومها إلى قوات الحلفاء ولم يكن هذا ممكنا إلا إذا كانت هناك حكومة مصرية تتخذها بريطانيا وسيلة لتحقيق كل أغراضها ولذا فإن ما حدث في 4 فبراير ليس أمرا عاديا وإنما كان استراتيجية بريطانية واضحة المعالم والأهداف .

ويعلق الدكتور أحمد ماهر على البيان السابق للمستر تشرشل قائلا :

أنني لا أجد مسوغا لأن يمتن على مصر لوقايتها من اعتداء المحور لأن المعاهدة المصرية البريطانية تحتم أن تشترك معنا بريطانيا في صد الهجوم الذي يشن علينا أما في هذه الحالة التي لم نكن طرفا فيها فلم تكن مصر إلا ميدان حرب بين بريطانيا والمحور .

وقد علق أحد زعماء الأحزاب السياسية المعارضة بقوله : أن تصريح المستر تشرشل مسألة معروفة في السياسة البريطانية التي كثيرا ما تلجأ إلى هذه الوسيلة لأغراض سياسية ترمي إليها .

ولعل الغرض من إعلان تشرشل أن يقلل من الآثار السياسية التي تطمح إليها مصر مقابل وقوفها بجانب الحلفاء .

وعلى ضوء كل ما تقدم يمكننا القول : لقد كان التدخل البريطاني السافر في 4 فبراير 1942 فرصة لكي تحقق بريطانيا كل أغراضها بما يؤدي إلى استقرار الأوضاع المصرية بهدف تطويع الاقتصاد المصري لخدمة الحلفاء .

وقد نجح لامبسون في تحقيق كل الأغراض أعظم نجاح كما أن ما حدث في 4 فبراير أتاح للنحاس الفرصة لكي يحد من سطوة القصر وهيبته وهذا مما ضاعف من حدة الصراع القائم بين القوتين ولا يتورع النحاس من أن يقدم نقدا مريرا للملك مطلبا إياه بتغيير موقفه تجاه الحلفاء . وأضاف النحاس أنه مصمم ما دام رئيسا للوزراء على أن تكون مصر قاعدة آمنة مستقرة حتى يتمكن الحلفاء ن تحقيق النصر مما أثار هذا الحماس سخرية الملك فاروق الذي أعلن أن بريطانيا لن تقف دائما إلى جانب النحاس فلقد خذلته سنة 1937 وبما أن حديث فاروق كان يحمل قدرا كبيرا من الحقيقة فلقد أجاب النحاس بأنه لا يعبأ بما يفعله البريطانيون سواء أيدوه أم خذلوه وأنه يلتزم فقط بالمعاهدة وأن مهمته بسيطة للغاية وهي الحفاظ على الديمقراطية وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية للغاية .

ويبدو أن الانتصارات التي أحرزها الحلفاء وعلى كل جبهات الحرب كانت سببا كافيا لكي يبدي الملك قدرا من التعاطف مع قضية الحلفاء ولعل أحمد حسنين رئيس الديوان قد لعب دورا هاما في إقناع الملك بوجهة النظر تلك حتي يبدو أمام بريطانيا كأنه بديل معقول عن الوفد .

ولعل القصر قد قطع شوطا كبيرا في إقناع بريطانيا بالعدول عن سياستها التي تهدف إلى مناصرة الوفد إلى أقصي حد ممكن وبالرغم من أن الوفد قد استنزف كل إمكانياته منذ 4 فبراير إلا أن الحكومة البريطانية اعتقادا منها بأن الوفد قد جيئ به لأداء مهمة محددة فلابد من استثمار فترة حكمه إلى أقصي حد ممكن .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن بريطانيا قد نجحت إلى حد كبير في استثمار حكومة 4 فبراير سواء في الأوضاع السياسية أو الاقتصادية ويشير نفس المصدر لى أن شعورا وطنيا قويا يسود البلاد وقد يجد له متنفسا بشكل أو آخر قبل مرور وقت طويل على اعتبار أن الحكومة الحالية التي تسود البلاد .

ولعل حكومة 4 فبراير قد أدركت ألاعيب السياسة البريطانية وخصوصا بعد انتصارات العلمين ونزول القوات الأمريكية في شمال أفريقيا حيث ساد الاعتقاد بأن حظ الحرب قد ابتعد عن مصر إلى غير رجعة مما دفع النحاس إلى أن يصرح بمكالب مصر القومية مؤكدا على ضرورة الاستقلال وبذل أعظم اهتمام لحماية المصالح الوطنية إلا أنه قد اعترف بأن انجلترا لم تقصر في أى وقت من الأوقات مهما كان عصبيا في مراعاة أقصي احترام لاستقلال مصر وحمايتها .

والملاحظ على تصريح النحاس أنه أراد أن يقطع على المعارضة ما تدعيه لنفسها من الزعامة الوطنية ولعله كان يهدف إلى أن يذكر بريطانيا بأن الوفد ما يزل في القوة السياسية القادرة عن التأثير في المجتمع المصري.

وفي الوقت نفسه فإن إعلانه عن استقلال لم يسكن واضحا بل اتسم بالمزايدة حيث اعترف بأن بريطانيا قد احترمت استقلال مصر وبذلك أعظم اهتمام لحمايتها ولو كان النحاس صادق النية لتقدم رسميا بطلب الجلاء ولذا فإننا نعتقد أن ما أعلنه النحاس لم يكن إلا منن باب تهدئة المشاعر الملتهبة وقطع الطريق على أحزاب المعارضة والتي نجحت في استثمار حادث 4 فبراير أعظم نجاح.

وعلى ما يبدو فإن الحكومة البريطانية قد أخذت من الحرب العالمية الثانية فرصة لمزيد من السيطرة على مصر وبدا واضحا أهمية الدور الذي لعبته مصر من خلال لصراع العالمي سواء سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا فلم يكن من المعقول أن تقبل بريطانيا الخروج من مصر طواعية ولعل احدي الصحف البريطانية أدركت هذا المعني قائلة : أن المهمة الشاقة التي تواجه بريطانيا حاليا هي صيانة المصالح الجوهرية التي أخذتها أمانة في عنقها لحساب الإمبراطورية البريطانية غير أن الأحوال قد تبدلت تبدلا تاما ولذا فإن العودة إلى النظام الذي كان قائما قبل الحرب هوة أضمن الطرق .وبالرغم من تعدد العوامل الموضوعية التي أوصلت مصر إلى هذه الدرجة من التردى إلا أن حادث 4 فبراير وما ترتب عليه من أحداث يعد الأساسي الذي تفجرت منه قضية الصراع والذي حمل بعدا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وقد يبدو أن موقف الوفد يعد غريبا بعض الشئ حيث اتسم موقفه بالسلبية إلا أن هذا الموقف لا يصعب تفسيره وإنما هو يتطابق إلى حد كبير مع الظروف الموضوعية التي أتت بالوفد في 4 فبراير 1942 ويتطابق أيضا مع تركيب الوفد الاجتماعي وتكوينه السياسي فبعد أن كان الوفد قائما على أساس الطبقة الوسطي بدأ كبار الملاك وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة يحكمون قبضتهم على سياسة الوفد وبلا شك فإن أول ما تهتم به تلك الطبقة هو حماية مصالحها بصرف النظر عن القضية القومية ولذا فقد اتسمت سياسة الوفد طوال وجوده في الحكم عقب 4 فبراير بنوع من المهادنة أما طبقة العمال والفلاحين والطبقة الوسطي فلم يكن في استطاعة تلك الطبقات أن توجه سياسة الوفد العامة ولعل السبب في هذا هو ما أصاب تلك الطبقات من انقسامات وما ترتب على ذلك من اختلافات بسبب تباين وجهات النظر حول ما حدث في 4 فبراير وما ترتب على ذلك من انقسام الوفد وخروج مكرم عبيد .

وليس في موقف الوفد كل هذه المتناقشات غرابة فهو لم يكن حزبا عقائديا صلبا كما ينبغي أن تكون الأحزاب بل تنتابه من الانتهازية الطاحنة بين أعضائه المتناقضين مع أنفسهم والتي أفقدته مع ظروف الحكم في 4 فبراير رصيدا كبيرا من التأييد الشعبي وجعلته متخلفا عن جماهير الشعب المصري لعجزه عن فهم المضمون الاجتماعي للثورة .

ومن العوامل الموضوعية التي ضاعفت من شعبية الوفد في البداية أنه تأسس في ظل الصراع الدائر ضد الاحتلال مما أكسبه قدرا هائلا من الشعبية إلا أن معاهدة 1936 وما ترتب عليها من سياسة المهادنة ومحاولة الوصول إلى الحكم بكل الوسائل بما في ذلك الاستعانة بالمحتل لتحقيق هذا الغرض من أهم العوامل التي أدت إلى انصراف الجماهير عن تلك المؤسسة السياسية الوطنية .

وما أن أقيل الوفد في 8 أكتوبر 1944 حتى عاد إلى موقفه التقليدي وهو معارضة السياسة الانجليزية مما أفقده القدرة على التأثير في المجتمع ولا تتورع إحدي الصحف الوفدية فتزعم أن " الآن " هو وقت المطالبة بتحقيق الأماني الوطنية وتضيف نفس الصحيفة إذا كانت بريطانيا قد شغلت في الماضي بمسائل السلم كمسائل بولونيا ويوغسلافيا وغيرهما يجعلنا نعتقد أن في إمكانها أن تجد الوقت الكافي للنظر في مطالبنا وفي أمانينا القومية . والسؤال الذي يفرض نفسه هل لم تكن بريطانيا تهتم بمسائل مثل بولونيا ويوغسلافيا وغيرهما من فبراير 1942 وحتى إقالة الوفد في أكتوبر 1944 ولذا فإننا نعجب لمواقف الوفد حينما يكون خارج الحكم وترك هذه الغفيرة في أكفان النسيان حينما يكون داخل الحكم .

وتبدو تلك الملاحظة ليس على الوفد فقط وإنما على غيره من الأحزاب التي تتولي الحكم حيث تتسابق إلى التسبيح بحمد الاحتلال والتقرب إليه أما التي خارج نطاق الحكم فدورها التقليدي هو المزايدة وشن الحملات ضد الاحتلال ولعل في حديث الدكتور أحمد ماهر ما يقوم دليلا على هذا الاعتقاد فلقد نشرت كل الصحف بيانا خطيرا لرئيس الحكومة حول العلاقات المصرية البريطانية قال فيه : أنني أصرح بأنه إذا ما ترك الأمر لنا فإننا لن نختار حليفا أو صديقا إلا انجلترا أقر ذلك لأن مصالحنا الحقيقة تتفق تماما مع ما تتطلبه انجلترا من مصر وهو حماية قناة السويس وطريقها إلى الشرق وهذا هو كل ما تريده مصر ولذلك لا أجد غضاضة في أن أقول أن سياستنا قائمة على التمسك بصداقة انجلترا والاعتماد عليها .

ومن المؤكد أن هذا التحول الغريب في سياسة الدكتور ماهر يعد تناقضا واضحا في بديهات السياسة عدها بعض أعضاء مجلس النواب تراجعا واضحا في سياسة الدكتور ماهر لأن مصر قد بذلك كل ما في استطاعتها وعلى بريطانيا أن تثبت حسن نواياها وأن رئيس الحكومة أحمد ماهر طالما اعترض على مسلك انجلترا مصر فما هو المقابل الذي اضطر رئيس الحكومة إلى العدول عن رأيه السابق .

وجريا على سياسة المزايدة فقد تقدم الوفد بمذكرة للسفير البريطاني يوليه 1945 على غرار المذكرة التي قدمها الوفد ( 1940) وهي تتناول المسائل القائمة بين انجلترا ومصر وأهمها مستقبل السودان وطلب لإجلاء العسكري عن مصر .

ولعل انتهاء الحرب العالمية الثانية قد ضاعف من ثقل التبعة الملقاة على كاهل الحكومة المصرية وخصوصا بعد أن ابتعدت المخاطر عن مصر والتي كانت تعتبرها بريطانيا ذريعة تحول دون الحديث عن أى مطالب وطنية ووفقا لأهمية تلك القضية فقد تقدم أعضاء مجلس النواب المصري إلى رئيس الوزراء يخصص موقف الحكومة إزاء تعديل معاهدة 1936 وعن الخطوات التي اتخذتها في هذا السبيل .

ويعد تصريح محمود فهمي النقراشي في هذا الصدد أول تصريح من مسئول رسمي يلخص مطالب مصر القومية حيث أعلن أن لم يعد هناك أى سبب يحول دون جلاء القوات الأجنبية عن مصر وأن وحدة وادي النيل بمصره وسودانيه تتفق وصميم رغبات أبناء الوادي جميعا .

وبالرغم من أهمية هذا التصريح إلا أنه لم تواكبه أية خطوة عملية لتحقيق هذا الغرض مما حدا ببعض أعضاء مجلس النواب إلى اتهام الحكومة صراحة بالتقصير لأنها لم تفاتح بريطانيا في أمر تعديل المعاهدة وتساءل أحد النواب هل قام الجانب البريطاني بتنفيذ ما قيدته به المعاهدة من قيود ضئيلة إلى جانب المكسب الضخم الذي حصل عليه ؟ لم نر إلى الآن رئيسا واحدا من رؤساء الحكومات جابه الرأي العام بأمر تتدخل لانجليز في شئوننا الداخلية وإذا أردتم أمثلة على هذا التدخل فلعل أبرزها جميعا هو ذلك الحادث الذي روع البلاد يوم أن ذهبت الدبابات الانجليزية إلى أعز مكان عند المصريين كي تقدم إنذار غاشما .

ولعل طرح قضية لعلاقات المصرية البريطانية للمناقشة أمام البرلمان المصري قد فجرت قدرا كبيرا من الغضب داخل نفوس الأعضاء ويبدو أنها كانت فرصة للنيل من معاهدة 1936 على اعتبار أن المتحمسين لها قد اعتقدوا أنها ستحول دون تدخل بريطانيا في الشئون المصرية .

وإلا أن الواقع العملي قد أكد عكس هذا المفهوم حيث تدخلت السلطات البريطانية في سن العديد من التشريعات التي تتعلق بالجيش والاقتصاد وتعيين الوزراء أو إقالتهم ولعل أهم التشريعات التي تدخلت فيها السياسة البريطانية أن السفير البريطاني قد حال دون صدور قانون محاكمة الوزراء وهو الذي حال أيضا دون صدور قانون التجنيد الإجباري وهو الذي لم يوافق على قانون إجبار الشركات على استعمال اللغة العربية.

وتبدو الأمور أكثر غرابة إذا ما علمنا أن مصر قد انضمت إلى اتفاقية التعمير وبمقتضاها تساهم مصر بـ1 % من دخلها القومي للمساهمة في إعادة تعمير الدول التي دمرها الحرب .

وبالرغم من التضحيات التي قدمها الشعب المصري طوال سنوات الحرب إلا أن السياسة البريطانية الماكرة أخذت تسوف وتماطل وعلى الفور برزت المسألة الوطنية على سطح الحياة السياسية في مصر ولم يمض وقت طويل حتى أدركت الجماهير المصرية أن حكومة النقراشي تسوف وانتشرت بين الناس عبارة " سياسة الصمت" التي تتبعها الحكومة ولما تحرك النقراشي لم يجد قولا يردده إلا أنه ينتظر " الوقت المناسب " فأطلقت عليه الجماهير والصحف " رجل الوقت المناسب " وزادت لهجة المطالبة وانتشر السخط وبدأت المظاهرات الشعبية تملأ الشوارع وترددت هتافات عدائية ضد لاحتلال والحكومة مما ضاعف من إحراج الحكومة ودفعها إلى التحرك ضمن حدود غير مجدية حيث أرسلت إلى الحكومة البريطانية مذكرة في 20 ديسمبر 1945 ذكرت فيها أن انتصار الحلفاء في الحرب يجعل الكثير من أحكام معاهدة 1936 لا مبرر لها ثم ذكرت أن وجود القوات الأجنبية في مصر يجرح الكرامة الوطنية ولا يستطيع الشعب المصري إلا أن يفسره بأنه دليل محسوس على الريبة وأن الحكومة البريطانية ذاتها لا تجد مبررا لها ثم طالبت المذكرة في نهايتها بتحديد موعد قريب لكي يذهب وفد مصري إلى لندن للمفاوضة في إعادة النظر في معاهدة .

وتلكأ الرد البريطاني أكثر من شهر ثم جاء في 2 يناير 1946 ليقول : أن المبادئ الأساسية التي قامت عليها المعاهدة البريطانية المصرية سلبية في جوهرها وأن سياسة حكومة جلالة الملك أن تدعم البريطانية والإمبراطورية في أثناء الحرب .. وأضاف الرد البريطاني أن الحكومة البريطانية لديها الاستعداد لإعادة النظر مع الحكومة المصرية في إحكام المعاهدة على ضوء تجاربها المشتركة .

وعلى أثر إذاعة مذكرة الحكومة البريطانية تبين للرأي العام مبلغ سوء نية الانجليز نحو مصر وإصرارهم على إبقاء معاهدة 1936 كأساس للعلاقات بين لبلدين وكأن انتهاء الحرب العالمية الثانية والتضحيات الباهظة التي قدمها الشعب المصري وإعلان ميثاق الأطلنطي والحريات الأربع والمبادئ الحديثة التي قررها ميثاق الأمم المتحدة كل أولئك لم يغير من سياسة الانجليز الاستعمارية حيال مصر وهنا تدخل الحركة الوطنية المصرية دورا جديدا وهاما يتفق وأهمية تلك المرحلة الراهنة .

سياسة بريطانيا العربية

ولقد كان من بين الدوافع التي حدت ببريطانيا إلى ارتكاب حادث 4 فبراير 1942 هو رغبتها في فرض حكومة مصرية تتمتع بثقتها وخصوصا عندما تدهور موقف بريطانيا العسكري في ميادين أوربا والشرق الأوسط ونظرا لأهمية موقع مصر الاستراتيجي باعتبارها من أهم قواعد بريطانيا العسكري في الشرق الأوسط وفي الوقت الذي كانت بريطانيا تفكر في إعداد خطتها لما بعد الحرب ولما كان أساس هذه الخطة يدور حول إحكام سيطرتها على الشرق الأوسط الذي صار مركز الثقل في السياسة العالمية كان من الضروري لبريطانيا أن تطمئن إلى إخلاص الحكومة القائمة في مصر حتى يمكن أن تتعاون معها في تنفيذ هذه الخطة .

ونشرت احدي الصحف البريطانية فصلا تحت عنوان " إعادة بناء الشرق الأوسط " أشارت فيها إلى أن حماية المصالح الجوهرية في الشرق الأوسط ضرورة بريطانية تحتمها حاجة الإمبراطورية والأمل الوحيد في نجاح تلك الفكرة هو إنشاء هيئة سياسية مستقرة الدعائم في الشرق الأوسط تكون مهمتها لتعاون على صيانة المصالح البريطانية وليست هناك وسيلة مختصرة توصلنا إلى إعادة بناء الشرق الأوسط إلا إذ عولجت أسباب القلق وعدم الاستقرار .

ولعل هذا التصور الذي أشارت إليه الصحيفة البريطانية قد سبق لعديد من الدراسات البريطانية وأخذت السياسة لبريطانية تعمل على تنفيذ خطتها مدفوعة في ذلك أولا وقبل كل شئ إلى تحقيق مصالحها الخاصة وليس من قبيل المصادفة عودة النحاس باشا إلى الحكم في 4 فبراير وقيام نوري السعيد في الحكم بالعراق في أكتوبر 1941 عقب تمكن بريطانيا من إخماد ثورة رشيد علي الكيلاني ولا عجب أ يكون النحاس نوري السعيد الداعيين الرئيسيين للوحدة العربية فقد حصل كل منهما على منصبه نتيجة التدخل البريطاني وكان كلاهما طموحا في أن يرفع من مركزه بالحصول على شهرة عن طريق اتخاذ سياسة في مجال أوسع وعلى ذلك كان من المناسب أن يعتنق كلا منهما فكرة الوحدة العربية التي يرجع الإلهام بها إلى بريطانيا . ولما كانت بريطانيا قد اختارت مصر لتكون محور هذه السياسة لذا كان من الضروري وجود حكومة مصرية مخالفة لبريطانيا ولعل رغبة بريطانيا في تحقيق هذه السياسة قد تطابقت إلى حد كبير مع ما صلح الوفد والذي كان يسعي إلى تحقيق انجاز عربي يعوض بعضا من شعبيته التي افتقدها عقب 4 فبراير 1942 وقد شهدت فترة ما بين الحربين تفتحا في الوعي العربي ونضجا سياسيا كبيرا أدي إلى قيام عدة ثورات تنادي في مختلف البلاد العربية بالاستقلال وتعلن سخطها على الاستعمار ومحاولات تقسيم الأمة العربية وخاصة عقب معاهدة لوزان 1923 والتي قررت توزيع الممتلكات العثمانية العربية بين مناطق نفوذ فرنسية وأخري بريطانيا وتعد قضية فلسطين محور العديد من اللقاءات والثورات التي أتاحت الفرصة لتجسيد وحدة مصير الأمة العربية وتبادل الرأي في المصلح المشتركة وأهمية العمل العربي الموحد وزاد الشعور بالروح القومية عند اندلاع الحرب العالمية الثانية ( سبتمبر 1939) مما دفع البعض لى التفكير في إقامة نوع من الاتحاد بين الشعوب العربية في الوقت الذي كان العالم العربي يشهد دعايات دول المحور بتأييد الأماني العربية في التحرر من النفوذ الأجنبي وتصريحات الحلفاء المضادة التي تبشر العرب بتحقيق آمالهم في قيام وحدة أوثق بين شعوبهم .

ولعل كل هذه الأحداث قد دفعت بريطانيا إلى أن تصدر في 29 مايو سنة 1941 على لسان وزير خارجيتها انطوني ايدن تصريحا تعلن فيه تأييدها لأماني بعض المفكرين العرب في قيام وحدة بين شعوبهم وأنها لذلك ستؤيد تأييدا كاملا أى مشروع ينال إجماع العرب في هذا الشأن وعلى أثر هذا التصريح نشطت الصحف المصرية والبريطانية إلى نشر العديد من المقالات والآراء الداعية لإقامة اتحاد فيدرالي عربي شبيه بنظام الولايات المتحدة الأمريكية .

ويبدو أن بريطانيا كانت تهدف من وراء هذا التصريح إلى عدة أمور من أهمها :

أولا: القضاء على ما بقي لتركيا من نفوذ من منطقة لشرق الأوسط.

ثانيا : أن تتزعم بريطانيا حركة الوحدة العربية من خلال القاهرة أو بغداد وكانت تطمع في أن يتزعم نوري السعيد الوحدة العربية .

ثالثا : امتصاص غضب الأمة العربية عن طريق بعض الوعود التي تتفق إلى حد كبير مع أماني العرب ويلاحظ أن اهتمام بريطانيا بفكرة الجامعة العربية قد سبقتها عدة دعوات من بعض المفكرين لعرب وكان الهدف من وراء مثل ذلك الدعوات إيجاد جبهة متحدة ومترابطة ضد خطر الصهيونية في فلسطين وعندما وجدت بريطانيا أن مصالحها تتطابق مع تلك الدعوة فإنها لم تفعل سوي أن جعلت سياستها تتفق مع الرغبة العربية فلقد كان الشغل الأول لبريطانيا في تلك الفترة هو أن تسترد تعاطف العرب في وقت كانت توشك كل الدول العربية على أن تسترد تعاطف العرب في وقت كانت توشك كل الدول العربية على أن تنفض يدها من سيرها في فلك بريطانيا حين كانت ثورة العراق قد أخمدت وكانت القوات الألمانية على أبواب مصر تهددها وتنشر الرعب والقلق في نفوس الكثيرين وكانت الدعاية الألمانية في أوج عظمتها ومن هنا كانت السياسة البريطانية تبحث عن فكرة جديدة لتجمع بها شمل العرب ولعلها قد وجدت في فكرة الجامعة العربية ما تيفق ومصالحها الاستراتيجية .

وليس هناك ما يؤكد بأن فكرة الجامعة العربية قد حققت أطماع بريطانيا بل ثمة دلائل تشير عكس ذلك الأمر الذي دعا أول أمين للجامعة العربية ( عبد الرحيم عزام ) إلى الاعتراف بأن فكرة الجامعة العربية قد خرجت من لندن حيث كان البريطانيون يريدونها أداة تعمل في خدمة مصالحهم الاستعمارية إلا أننا قد نجحنا برغم كل الدسائس والمؤامرات في أن تصبح الجامعة العربية أداة تعمل في خدمة العرب .

وعلى الرغم من التصريح الذي أدلي به انطوني ايدان ( مايو 1941 ) وما واكبه من ردود فعل لدي الساسة والمفكرين العرب إلا أن الفكرة لم تخرج إلى حيز التنفيذ إلا في 24 فبراير 1943 أى بعد عام كامل من المجئ بحكومة 4 فبراير وبعد أن تأكدت بريطانيا من أن نوري السعيد لا يحظي بقدر من الشعبية وسط العالم العربي وأن النحاس قد تمكن من السيطرة على الموقف وخصوصا بعد أن بدت قضية الصراع الدولي وكأنها مسألة وقت فقط وانفتح باب الأمل أمام الحلفاء .

وفي 24 من فبراير 1943 أكد " انطوني ايدن" أمام مجلس العموم البريطاني مرة أخري أن دولته تنظر بعين العطف إلى أى حركة تعزز الروابط الاقتصادية والثقافية بل والسياسية بين العرب وان الخطوة الأولي لتحقيق أى مشروع في هذا الشأن يجب أن تصدر عن العرب أنفسهم .

وإذا كان تأييدا بريطانيا وهي الدولة الاستعمارية لقيام اتحاد بين الدول العربية يبدو غريبا فلا شك أنها قامت بهذه الخطوة إدراكا منها للتطور التاريخي الحتمي للأمة العربية وفي محاولة منها لإرضاء العرب وكسب ودهم من ناحية وعلى أمل السيطرة على مثل هذا الاتحاد أو توجيه مستقلا من ناحية أخري .

ولم يمض أكثر من شهر على تصريح " ايدن" حتى تقدم أحد أعضاء مجلس الشيوخ المصري بسؤال إلى رئيس بخصوص اتحاد الأمة العربية وتقديم وزير العدل " محمد صبري أبو علم " بالنيابة عن رئيس الوزراء ليدلي بتصريح أشار فه أنه منذ أن أعلن المستر ايدن تصريحه قامت الحكومة المصرية بالتفكير في الموضوع طويلا ورأت أن الطريقة المثلي التي يمكن أن تصل إلى غاية مرضية هي أن تتناول الحكومات العربية هذا الموضوع وأن تخطو خطوات رسمية في هذا السبيل لاستطلاع آراء الحكومات العربية ثم الدعوة لعقد مؤتمر في القاهرة تدعي إليه الزعامات العربية لإكمال بحث الموضوع .

ولما كانت الحكومة البريطانية حريصة على أن يكون لها السبق في تلك المبادرة فقد أبلغت سفيرها في القاهرة " اللورد كيلرن" تطلب إليه أن يتحدث مع النحاس باش وأن يحثه على بذل جهد أكبر في هذا الموضوع : وكذلك أرسلت برقيات مماثلة إلى ممثلي بريطانيا في كل العواصم العربية .

وعلى ضوء كل ما تقدم فإن بريطانيا قد اختارت مصر لتكون محور هذه السياسية على اعتبار أو وجود مصرية صديقة لبريطانيا سوف يترتب عليه نتائج هامة بالنسبة للمصالح البريطانية ولعل عقد المعاهد المصرية 1936 كان أساسا لمحاولة العمل المشترك بين الحكومتين المصرية والبريطانية في حل القضايا للعربية المختلفة وخصوصا بعد المجئ بالوفد في 4 فبراير 1942 لأن بريطانيا كانت تعلم أن سياستها العربي إذا رسمت بالاتفاق والتفاهم مع حكومة صديقه فسوف تحظي رضاء وقبولا أكثر ليس في مصر وحدها وإنما في كل الأقطار العربية لاسيما إذا كانت هذه الحكومة تتمتع بثقة الدول العربية كلها وهي أوفرها نصيبا في مضمار التقدم والثروة .

وبالرغم من أن فكرة الجامعة العربية قد خرجت من لندن وبشهادة النحاس باشا نفسه إلا أنه وجد أخيرا من ينفي هذه الحقيقة اعتقادا منه بأن بريطانيا لم يكن من مصلحتها جمع كلمة العرب في صعيد واحد ولأن الجامعة العربية ستكون قوة متحدة في مواجهة الأطماع البريطانية في المنطقة وهذا ما يتناقض بالضرورة مع مصالح بريطانيا .

وعلى الرغم من أهمية هذا الرأي إلا أن التفسير العلمي وفق تطور الأحداث السياسية يحتم علينا عدم لأخذ بظواهر الأمور وانطلاقا من هذه المقولة المتواضعة فإنني لا أميل إلى الرأي السابق لأن بريطانيا إذا كانت تقدر خطورة جمع العرب في هيئة واحدة فإن الأخطر من ذلك هي حالة الاستياء العام والتي كانت منتشرة في كل الأقطار العربية وخصوصا في مصر والعراق وتصورت الحكومة البريطانية أن مجرد التلويح بمثل هذه الفكرة سيقلل من حجم الكراهية الشديدة ضد بريطانيا والتي تعم أقطار الوطن العربي ولما كانت للحكومة البريطانية تعلم جديا أن الهيمنة العسكرية التي فرضتها على معظم أقطار الوطن العربي لم تتناسب والمرحلة الجديدة فكان من الضروري التفكير في وضع سياسة جديدة تتفق وما أحدثته الحرب من أفكار وآمال جديدة وبدلا من أن تشتت جديدة تتفق وما أحدثته الحرب من أفكار وآمال جديدة وبدلا من أن تشتت بريطانيا جهودها مع العديد من الحكومات العربية فإن الوضع الجديد سيمكنها من تحقيق أهدافها لكن بشكل جديد وبأسلوب جديد بأسلوب مغاير إلى حد كبير للأساليب البريطانية السابقة وإذا كانت جامعة الدول العربية قد نفضت يدها من التبعية البريطانية بعد ذلك في محاولة لخلق شخصية مستقلة تتفق مع مصالح كل الأقطار العربية فإن هذا لا ينفي أن بريطانيا كانت صاحبة الفكرة الأولي منذ البداية .

ووفقا للمصالح البريطانية والتي كانت تمثل المعيار الأول في السياسة البريطانية فإن هناك العديد من الاعتبارات التي دفعت السياسة البريطانية إلى المضي في هذا الاتجاه ففي عام 1942 بدأ أول نوع من التحالف بين الحركة الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية ودعمت شركات النفط الأمريكية ودعمت شركات النفط الأمريكية مراكزها في السعودية كما كانت بريطانيا تقدر خطورة الوجود السوفيتي وخصوصا في إيران ولم يعد الموقف في الشرق الأوسط يتشكل وفقا للصراع بين المعسكر الفاشي وأعدائه وإنما وفقا لتضارب المصالح بين الثلاثة الكبار أمريكا بريطانيا الاتحاد السوفيتي وفي ظل الموقف الجديد قام البريطانيون بمحاولات لإنشاء كتلة عربية موجهة ضد الاتحاد السوفيتي من الناحيتين السياسية والعسكرية وضد الولايات المتحدة من الناحية الاقتصادية .

ولعل هذا المعني لم يكن خافيا على السياسة الأمريكية حيث أشار السفير الأمريكي في احدي برقياته إلى حكومته من أن المخابرات البريطانية تتابع كل أعمالنا في محاولة منها للوقوف على أدق المعلومات التي تتعلق بالعلاقات الأمريكية العربية .

وليس من قبيل المصادفة أن تتدخل بريطانيا بكل ثقلها لإنهاء الوجود الفرنسي في كل من سوريا ولبنان وإنما لكي يتم لها السيطرة السياسية والاقتصادية على هذين القطرين وفقا للسياسة البريطانية الجديدة في إطار الجامعة العربية ولعل في وجود مصطفى النحاس ونوري السعيد والأمير عبد الله مما يساعد بريطانيا على تحقيق أغراضها الاستراتيجية.

ويبدو أن بريطانيا قد تأكدت من أهمية التضامن العربي بعد نجاح فكرة مركز الشرق الأوسط في السنوات الأولي من الحرب حيث كان لبريطانيا السيطرة الكاملة على هذا المركز وتمكنت من تطويع اقتصاد العالم العربي لخدمة الحلفاء .

لكل هذه الاعتبارات السابقة كان يصعب على الحكومة البريطانية أن تحقق أهدافها لو لم يكن على رأس الحكومة المصرية شخصية مثل مصطفى النحاس والذي يستند إلى قاعدة جماهيرية تمثل غالبية الشعب المصري ولما كانت مصر بمثابة العمود الفقري في خطط بريطانيا السياسية والعسكرية والاقتصادية في هذه الفترة فكان من الضروري قيام حكومة وطنية في مصر تستطيع أن تعتمد عليها بريطانيا وتحظي بمساعدتها ومن أجل ذلك أجبر السفير البريطاني الملك فاروق في 4 فبراير 1942 كي يأتي بحكومة الوفد إلى دست الحكم كما أشرنا فقد كان مركز بريطانيا في ميدان الشرق الأوسط يواجه عواصف سياسية وعسكرية في وقت عمت الأزمة الاقتصادية الخانقة بلدان الشرق الأوسط وساهمت في إحراج مركز بريطانيا وإذا أضيفت هذه الأزمة الثقيلة إلى الأعباء السياسية والعسكرية اتضح لنا عمق الهوة التي انحدر إليها مركز بريطانيا ومبلغ حاجتها إلى حليف ومعين يخفف عنها أعباءها المتباينة بهدف تنسيق سياستها في الشرق الأوسط بحيث تتعامل مع دول المنطقة من مركز واحد وأن لم يستطيع هذا الحليف أن يحارب إلى جانبها فلا أقل من أن تأمن جانبه .

ويبدو أن الملك عبد العزيز آل سعود كان من المعارضين لفكرة الجامعة العربية منذ البداية حيث كان يعتقد أن اقترح مستر ايدن بإنشاء هذه الجامعة يثير الشك في نوايا الانجليز .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن لحكومة البريطانية قد بذلت قدرا كبيرا لإقناع العاهل السعودي بالعدول عن رأيه وخصوصا أن الإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن قد التزم بالخط السياسي الذي يبديه العاهل السعودي .

وأعتقد أن محاولات النحاس باشا لإقناع الملك عبد العزيز أل سعود بفكرة الجامعة العربية كانت في إطار المحاولات البريطانية المبذولة حتى تأتي الفكرة وكانها مبادرة عربية خالصة .

واستنادا على ثقة بريطانيا في النحاس باشا فقد كثف من ناشطة لتبديد المخاوف التي أبداها العاهل السعودي عن طريق إقناع الملوك والرؤساء العرب بهذه الفكرة وكان من الطبيعي أن يثير هذا النشاط مخاوف الفرنسيين الذين كانوا على علم بمحاولات بريطانيا إنشاء حلف عربي الغاية منه في رأي فرنسا سلخ سوريا ولبنان عن نطاق الإدارة الفرنسية .

ووفقا لسياسة النحاس باشا تجاه الجامعة العربية فإننا نعتقد أنه كان من الأولي على الحكومة المصرية أن تطلب من بريطانيا تحديد موقفها من لاحتلال العسكرية لمصر وضرورة وجود ضمانات كافية تلزم بريطانيا بالخروج من الأراضي المصرية عقب انتهاء الحرب مقابل التعاون معها في سياستها العربية فلو أن النحاس قد عمل على توحيد الصفوف في مصر لاستطاع بغير شك أن يخدم البلاد أعظم خدمة ولخدمت مصر القضايا العربية في سائر الأقطار بأكثر مما أفادتها الجامعة العربية غير أن النحاس قد وقف موقفا سلبيا من بريطانيا فيما يتعلق بالمطالب المصرية فضلا عن أنه ذهب في مساعدتها خلال الحرب إلى أبعد مدي كما أنه ذهب في سياسته الحزبية إلى درجة أدت إلى زيادة الانقسام والفرقة بين القوي الوطنية المصرية مما فوت فرصة قيام جبهة مصرية متحدة ولعل النحاس ظل يحمل لبريطانيا مما فوت فرصة قيام جبهة مصرية متحدة ولعل النحاس ظل يحمل لبريطانيا دينا كبيرا في عنقه طوقته به السياسة البريطانية منذ فبراير 1942, وفي الوقت الذي كان يبذل من المساعي لحصول كل من سوريا ولبنان على استقلالها كانت مصر تعاني أشد القوانين العسكرية وأقسامها مما يجعلنا نعتقد بأن محاولات النحاس لحصول سوريا ولبنان على استقلالها لم يكن بهدف خدمة القضية العربية بقدر ما كان للسياسة البريطانية الماكرة لأن سلخ سوريا ولبنان عن الإدارة الفرنسية ودخولهما في حلف عربي ما يتيح لبريطانيا تحقيق غرضين :

أولهما : خروج فرنسا من الشرق الأوسط نهائيا وهو أمل طالما رواد السياسة البريطانية .

ثانيهما : أن دخول سوريا ولبنان في حلف مع بقية الأقطار العربية يربطهما بعجلة السياسة البريطانية .

وفي يوليه 1943 اتخذت مصر المبادرة العملية ببدء المباحثات الأولي وجاء إلى القاهرة كل من نوري السعيد رئيس وزراء العراق وتوفيق أبو الهدي رئيس وزراء الأردن والشيخ يوسف ياسين ممثل المملكة السعودية وسعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا ورياض الصلح رئيس وزراء لبنان والسيد حسين الكبس مفوض اليمن واستمرت المباحثات حتى فبراير 1944 وكانت مباحثات مضنية بسبب الخلافات العديدة وتباين وجهات انظر بين الدول العربية وكانت العراق .

كل من سوريا ولبنان وشرق الأردن في دولة واحدة , وأن تشكل هذه الدولة الجديدة مع العراق اتحادا فيدراليا قد اصطدم بمعارضة علنية من جانب كل من مصر والسعودية على اعتبار أن أى مشروع لا يحظي بموافقة مصر ولا يخلع عليها الزعامة العربية فسوف يحكم عليه بالفشل .

ولذا فقد فشل مل من مشروع سوريا الكبرى الذي خطط له الملك عبد الله أثناء الحرب ومشروع الهلال الخصيب الذي خطط له نوري السعيد وكان كلا المشروعين يهدمان إلى توحيد آسيا العربية باستثناء شبه الجزيرة العربية بالإضافة إلى استبعادها لمصر ومحاولتها عزلها عن التيارات السياسية في المشرق العربي وبعد العديد من المفاوضات ( التي تخرج عن موضوع دراستنا ) تمكنت اللجنة التحضيرية من توقيع ما عرف ببروتوكول الإسكندرية أكتوبر 1944.

وهكذا تشكلت الجامعة العربية والتي عملت بريطانيا على إخراجها إلى حيز الوجود والتي كانت من صنع السياسة البريطانية .

ويبدو ان مشروع جامعة الدول العربية كان يختلف تماما عن تلك الفكرة التي جاء بها نوري السعيد والتي لم تكن تتطابق إلى حد كبير مع المصالح البريطانية لأن مشروع الجامعة العربية والذي وافقت عليه بريطانيا قد ضم مصر بطريقة مباشرة بعكس مشروع نوري السعيد والذي تركها خارج المشروع وترك لها حرية الدخول من عدمه ولعل هذا لا يتفق مع الخطة البريطانية الرامية إلى جعل مصر محور هذه الفكرة بثقلها السياسي والاقتصادي والبشري والجغرافي والتاريخي الخ .

وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن كلا من المشروعين كان نوعا من الصراع بين مصر والعراق على زعامة الأمة العربية . بالإضافة إلى أن المشروع الذي وافقت عليه بريطانيا بل وابتكرته ( الجامعة العربية ) بضم أكبر عدد ممكن من دول هذه المنطقة وهكذا نجحت بريطانيا في تحقيق سياستها العربية كما نجحت في تحقيق الأهداف التي رمت إليها من وراء أحداث 4 فبراير 1942 على اعتبار أن المجئ بحكومة وفدية يعد ضرورة بريطانية بهدف تفسير بنود معاهدة 1936 بما يتفق مع المصالح البريطانية.

وعلى ضوء كل ما تقدم تبدو الظروف والملابسات التي دفعت الحكومة البريطانية كي تضرب بمعاهدة 1936 عرض الحائط وأن تتدخل تدخلا سافرا في السياسة الداخلية المصرية وعلى أعتقد فإن بريطانيا لم تغامر بسمعتها في 4 فبراير جزافا أو لمجرد إرضاء الوفد لأن قيام حكومة وفدية أو غيرها لا يعني بريطانيا في شئ بقدر عانايتها بمآربها وأهدافها طبقا للإستراتيجية التي اختطتها لنفسها ليس في مصر فقط وإنما في منطقة الشرق الأوسط كلها ولذا فإننا نعتقد عودة الوفد في 4 فبراير كان جزءا من خطة بريطانية مرسومة محددة المعالم واضحة الأهداف .

الخاتمة

يصعب على الباحث في مجال الدراسات الإنسانية عموما أن يحدد النتائج التي توصل إليها بشكل قاطع وقد يكون ذلك راجعا إلى أن قضية الدراسات الإنسانية عموما والدراسات التاريخية على وجه الخصوص تعني تقويم سلوك الإنسان ورصد حركته ايجابيا وسلبا ولما كانت عملية التقويم هذه لا تحكمها قوانين طبيعية وإنما تخضع في مجملها إلى اجتهادات شخصية اعتمادا على الوسائل المتاحة من وثائق ودراسات وغير ذلك ومهما حاول الباحث أن يجتهد إلا أن الحقيقة دائما تظل نسبية ولذا فإن القيمة الحقيقية لا تبدو من خلال النتائج فقط و وإنما من خلال الوسيلة التي استخدمها الباحث وطريقة استخدامها .

ولما كان حادث 4 فبراير 1942 يقع في إطار العلاقات المصرية البريطانية تلك العلاقة التي تستند على معاهدة 1936م والتي بمقتضاها حصلت مصر على قدر من حريتها واستقلالها إلا أن بريطانيا لم تكن خالصة النية ولعلها قد أرادت أن تهدئ من روع المصريين في وقت بدأت فيه العلاقات الدولية تنذر بمخاطر حرب توشك أن تقع .

واعتمادا على المقولة القائلة بأن معاهدة 1936م هي معاهدة الشرف والاستقلال إلا أن العلاقات المصرية البريطانية عقب توقيع تلك المعاهدة لم يطرأ عليها قدر يذكر من التغيير فلقد حرصت بريطانيا على أن تتدخل في شئون السياسة المصرية كما كان يحدث قبل توقيع العاهدة إلا أن تدخلها أصبح مستترا إلى حد كبير ولم يحدث منذ توقيع المعاهدة وحتى 4 فبراير 1942م أن كانت الإدارة المصرية حرة طليقة من التبعية البريطانية حتى في أخص القضايا التي أقرتها المعاهدة .

وإذا كان من أولي المسائل التي اقرها الدستور هو حق الملك في اختيار رؤساء حكومته إلا أن الحكومة البريطانية لم تسلم مطلقا بهذا الحق وإنما حرصت على أن يؤخذ رأيها عند اختيار كل حكومة جديدة ولعل هذه كانت بداية المصادمات بين الملك فاروق والانجليز .

وعموما فلقد بقي الوجود البريطاني قائما في كل شئون السياسة المصرية ولم يسمح للإدارة المصرية أن تمارس حقها إلا بالقدر الذي لا يتعارض مع النفوذ البريطاني والغريب في الأمر أن الحكومات المصرية كانت تدرك هذه الحقيقة إلا أن أحدا لم يجرؤ على التصريح بها علانية .

ويبدو أن قيام الحرب العالمية الثانية كان حدا فاصلا بين التدخل البريطاني المستتر والتدخل العلني وأستطيع أن أقول أنه منذ قيام الحرب والانتصارات الكاسحة التي حققها الجيش الألماني في أوربا فقد تضاعف الوجود البريطاني في شئون السياسة المصرية بقدر أكبر مما كان عليه الحال قبل توقيع معاهدة 1936م.

وإذا كان موقف مصر من قضية الصراع الدولي كان غير واضح إلا أن معاهدة 1936م كانت تضع مصر موضع الحليف لبريطانيا على الرغم من أن مصر لم تعلن الحرب رسميا ضد الألمان وشهدت أروقة البرلمان المصري مناقشات فقهية جادة دخول مصر الحرب أو عدم دخولها .

والحقيقة أن الملك فاروق كان صاحب سياسة تجنب مصر ويلات الحرب وعلى الرغم من أنه لم يعلن هذا صراحة إلا أنه اتخذ من حكومة علي ماهر وسيلة للتمسك بهذه السياسة ولقد كانت بريطانيا تدرك هذه الحقيقة ولذا فقد تضاعف العداء بينها وبين الملك فاروق .

ويبد أن الحكومة البريطانية قد أدركت أن إعلان مصر الحرب لن يكون له تأثير كبير من حيث المساهمة في العمليات العسكرية وأن بقاء مصر دولة غير محاربة يمكنها من حرية الحركة ويجنبها غارات المحور ويجعلها قاعدة مركزية لتموين جيوش الحلفاء ولذا فقد حرصت بريطانيا على أن تبقي مصر بعيدا عن حلبة الصراع الدولي .

وإذا كان بعض الزعماء المصريين أمثال أحمد ماهر قد حرصوا على دخول مصر الحرب إيمانا بقضية الديمقراطية ووقوفا بجانب الحليفة وقت شهدتها إلا أن هذه الرغبة كانت مرتبطة إلى حد كبير بسير المعارك الحربية فمثلا كان فشل ألمانيا في غزو بريطانيا وانتصارات ويفل في الصحراء الغربية ونجاح حملة الحبشة سببا قويا في تخفيف حدة التوتر السياسي خلال شتاء 19401941 م وجاء انتصار الألمان في البلقان في ربيع 1941 م ليعيد التوازن للموقف حيث تأرجح مرة أخري باحتلال بريطانيا لأراضي سوريا والعراق .

وإذا كان الموقف قد انتهي إلى اعتناق مبدأ " تجنب مصر ويلات الحرب ط إلا أن أجهزة المخابرات البريطانية قد توصلت إلى أن فاروق وعلي ماهر على اتصالات سرية يهتلر ولعل هذه المعلومات كانت سببا كافيا لكي تتجاوز بريطانيا حدود معاهدة 1936م وفي الوقت نفسه فقد سجلت العديد من تقارير استطلاع الرأي بأن الشعب المصري يتعاطف مع الألمان نكاية في الانجليز في الوقت الذي حققت فيه القوات الألمانية انتصارات ساحقة على الجبهتين الأوربية والأفريقية.

وعلى ضوء كل الاعتبارات السابقة يمكننا أن نخلص إلى بعض النتائج التي قد ارتبطت إلى حد كبير ببعضها البعض :-

أولا : لقد بدأت بريطانيا تعيد النظر في علاقتاها بالقصر بعد أن توصل السفير البريطاني إلى فكرة التقليل من حجم القصر عن طريق خروج علي ماهر من رئاسة الحكومة وعلى الرغم من أن " لامبسون " قد طلب من فاروق صراحة أبعاد علي ماهر من رئاسة الحكومة إلا أن الملك أخذ يراوغ ويماطل وخاصة بعد تدهور الموقف العسكري في أوربا وعقب انهيار فرنسا الأمر الذي شجع في مصر الميول التي كانت تتعاطف مع المحور شعبية كانت أم سمية لا على اعتبار أن المحور صادق النية فيما يتعلق باحترام سلامة واستقلال مصر ولكن على اعتبار أنه لن يكون احتلال أسوأ من الاحتلال البريطاني الذي عانت منه مصر ما يزيد على نصف قرن ولعل هذا الميل كان يحمل في طياته دوافع التشفي نحو حليف أكرهت مصر على محالفته ضد رغبة شعبها كما أنه كان يتضمن في الوقت نفسه معني الإعجاب بالعسكرية الألمانية التي لا تقهر من جانب بعض قطاعات الرأي العام المصري وقادته بل وحتى الملك فاروق ذاته وإذا كان الملك فاروق قد بعث إلى ملك انجلترا يشكو من التعسف والتشديد الذي يمارسه " لامبسون " في مصر إلا أن رسالة فاروق إلى ملك انجلترا لم تكن لتحدث أثرا على اعتبار أن الحكومة البريطانية هي المسئولة عن القرار الذي أخذته وأبلغته بدورها إلى لامبسون في القاهرة والذي يعني " إذا لم يستجب فاروق لمطالبنا ويبعد علي ماهر عن رئاسة الحكومة فإن فاروق يجب أن يتنازل عن العرش على أن لا يترك طليقا وإنما يوضع تحت الرقابة المشددة حتى لا يلجأ إلى ايطاليا ليطالب بعضه ".

ومن الواضح أن حرص بريطانيا على خروج علي ماهر لم يكن بسبب إحجامه عن إعلان الحرب إذ أن الانجليز قد انتهوا إلى الموافقة على اتخاذ مصر موقف الدولة غير المحاربة .

ولعل السبب في إخراج علي ماهر هو انعدام الثقة بينه وبين الانجليز بسب تشيعه للمحور وأنه كان يظاهر الملك في الاستخفاف بقوات الحلفاء والإشادة بانتصارات الألمان .

ثانيا : أن ما حدث في 4 فبراير 1942 ولم يكن سياسة بريطانية خالصة ووفقا للوثائق البريطانية التي أشارت إلى أن أطرافا مصرية مثل حسين سري وأمين عثمان قد شهد القضية منذ بدايتها بل أن حسين سري هو الذي أشار على السفير البريطاني " يتخويف " فاروق .

أما فيما يتعلق بمسئولية الوفد فلم يكن غريبا ولا مستجهنا أن يكون للحكومة البريطانية أي في اختيار رؤساء الحكومات المصرية على الرغم من أن معاهدة 1936 م لم تنشر إلى هذا صراحة أو ضمنا وكان من الطبيعي جدا أن تلجأ احدي القوي إلى دار السفارة البريطانية في محاولة لإسناد الحكم إليها .

وقد تمكنت من تحقيق تلك القضية وكانت مسئولية الوفد من هذه الناحية واضحة تماما أما الغريب في الأمر فهو شكل هذا التدخل والطريقة التي استخدمتها بريطانيا وأعتقد أنني قد تمكنت من كشف الجوانب الدقيقة حول عملية لإحصاء سواء ما يتعلق منها بحصار القصر وإجبار فاروق على التنازل وفي حالة رفض فاروق فإن على القوات البريطانية أن تتعامل مع الموقف على ضوء الخطة التي وضعها المجلس العسكري الأعلى والتي تعني دك المطارات المصرية العسكرية وتدمير كل الطرق المؤدية إلى القاهرة ث القبض على فاروق ونقله إلى احدي سفن الأسطول البريطاني حتى يتقرر مصيره من قبل الحكومة البريطانية والجديد في الأمر أيضا أن بريطانيا فكرت في إلغاء النظام الملكي في مصر وبعثت إلى سفيرها في القاهرة لكي يستطيع الأمر فيما إذا كان من الممكن قيام نظام جمهوري شريطة أن يحظي بموافقة الرأي العام المصري .

ثالثا : أن الطريقة التي عاد بها الوفد في 4 فبراير كانت سببا كافيا لكي تمارس بريطانيا سياسيتها في مصر بالطريقة التي تراها حيث تحول حزب النضال الوطني إلى أداة تمارس بريطانيا من خلالها كل ما تري أنه يدعم موقفها الوطني إلى أداة تمارس بريطانيا من خلالها كل ما تري أنه يدعم موقفها في الحرب ولعل من أخطر الأمور محاولة بريطانيا تدمير آبار البترول المصرية وشبكة الطرق والمواصلات وإغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط في محاولة لإعاقة تقدم القوات الألمانية التي بدت على مشارف الإسكندرية وعلى الرغم من أن النحاس قد رفض كل هذه المطالب إلا أن رفضه لم يكن كافيا لإعاقة بريطانيا عما اعتزمت أن تقدم عليه .

وإذا كانت مصر لم تعلن الحرب رسميا ضد قوات المحور إلا ان السياسة التي اتبعتها حكومة الوفد كانت كافية من الناحية العملية حيث تم تطويع مصر سياسيا اقتصاديا خدمة لجبهة الحلفاء وعاش الشعب المصري أسوأ فترات حياته وإذا كان الانجليز قد تجاوزوا كل حد معقول مساء 4 فبراير إلا أن ما أقدمت عليه حكومة الوفد يعد من أخطر التجاوزات التي مارستها حكومة وطنية بدأ بقضية الاعتقالات وانتهاء المحسوبيات .

رابعا : أن أحزاب بأقلية قد لعبت دورا خطيرا سواء بالنظر للمقدمات التي ساهمت في صنع 4 فبراير أو النتائج و إنتهاء بالمحسوبيات .

خامسا : أن أحزاب بالأقلية قد لعبت دورا خطيرا سواء بالنظر للمقدمات التي ساهمت في صنع 4 فبراير أو النتائج التي ترتبت عليه .

ولقد كانت إقالة الوفد ( ديسمبر 1937) وإسناد الحكم إلى أحزاب لا تتمتع بقدر كاف من الشعبية سببا كافيا لتبديد فكرة الديمقراطية وبدأ بحكومة محمد محمود ( يناير 1938) وانتهاء بحكومة حسين سري (1942) فقد عاشت مصر خلال هذه الفترة في ظل حكومات لا تتمتع بقدر من الشعبية مما خلق جوا من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي وشهدت القاهرة وبعض العواصم الأخرى العديد من المظاهرات اتي انطلقت وهي تردد هتافات عدائية ضد بريطانيا وعجزت الحكومة المصرية ( وزارة حسين سري ) على السيطرة على الموقف تماما مما دفع حسين سري إلى أن يطلب من السفير البريطاني العمل على عودة الوفد باعتباره القوة الوحيدة القادرة على إعادة الاستقرار إلى الحياة المصرية.

وفي محاولة من أحزاب الأقلية لاستثمار حادث 4 فبراير بهدف التقليل من هيبة الوفد وتبديد شعبيته فقد بذلت محاولات مضيئة لتعريف الرأي العام المصري بما حدث مساء 4 فبراير على الرغم من أن زعماء الأقلية الذين اجتمعوا مع الملك فاروق يومي 3 , 4 فبراير يتحملون قدرا كبير قدرا كبيرا من المسئولية بسبب نصائحهم التي افتقدت في مجملها إلى أى وازع وطني .

ويبدو من المقابلات التي جرت بين الملك والنحاس وغيره من الزعماء السياسيين وبين لامبسون وأمين عثمان أن الخلاف كان ينحصر على توعية الوزارة الجديدة وكيفية تشكيلها هل تكون قومية أو ائتلافية حزبية ومحايدة .. وأعتقد أن كل هذه لخلافات لا ترقي إلى حجم الأزمة التي انتهت إليها لأن القضية كانت نوعا من الصراع على السلطة بين قوتين متعارضين الأولي تمثل حزب الأغلبية يسانده الانجليز والثانية تقوم على أحزاب الأقلية يساندها القصر .

خامسا : في جميع الأزمات التي مرت بمصر كانت الحكومة البريطانية تقدر أهمية الجيش المصري فعندما طالبت بإعلان مصر الحرب على ألمانيا قالت أنها تقدر الأهمية البالغة للقوات المسلحة المصرية وعندما طلبت من فاروق عزل علي ماهر حرصت على أن تجئ الوزارة الجديدة حائزة لولاء الجيش وعند الاستعداد لمحاصرة قصر عابدين مساء 4 فبراير وضعت خطة عسكرية لمواجهة أى رد فعل قد يحدث من الجيش المصري واحتفظت المخابرات العسكرية البريطانية بأسرار العملية إلى ساعة الصفر واتخذت جميع الاحتياطات لكيلا يقع تصادم بين الجيش المصري والقوات البريطانية وإذا كان الجيش بالمصري قد فوجئ بأحداث4 فبراير إلا أن ردود الفعل التي وأكبت تلك الأحداث قد تركت قدرا كبيرا من الغضب على اعتبار أن الاعتداء على ملك مصر يعد اعتداء على كرامة مصر وشرفها .

ولذا فقد شهدت تلك الفترة المولد الحقيقي لحركة الضباط الأحرار .

سادسا : لقد كان فاروق يقدر حجم الصدمة التي أصابته في 4 فبراير وكان يدرك جيدا حجم المسئولية التي يتحملها النحاس , لذا فقد ضاعف القصر من نشاطه بهدف النيل من الوفد وزعامته ولعل من أولي المحاولات التي نجح فيها القصر إلى حد كبير تلك المحاولة التي تهدف إلى تفويض الوفد من الداخل .. وبذلت محاولات على درجة كبيرة من الذكاء انتهت بانشقاق مكرم عبيد .. ولعل فاروق لم يكتف بتلك المحاولة وإنما عمل على إنشاء تنظيم سري بهدف اغتيال كل من ساهم في أحدث 4 فبراير ولقد نجح التنظيم في اغتيال أمين عثمان إلا أنه قد فشل ثلاث مرات في محاولة اغتيال النحاس باشا .

ولم يتوان فاروق في بذل كل المحاولات بهدف إقالة حكومة الوفد ويوم أن تمكن من تحقيق تلك الأمنية فإنه قد استسلم تماما لبريطانيا ولذا فإنني أعتقد أن ما حدث في 4 فبراير بعد نقطة تحول خطيرة في سلوك الملك الشاب وخصوصا في علاقاته مع بريطانيا .

سابعا : لعل من أخطر النتائج التي تتب على حادث 4 فبراير هو ظهور العديد من الاتجاهات السياسية والتي اتخذت من العنف وسيلة لتحقيق أغرضها وخصوصا بعد أن اهترأت الأحزاب التقليدية واختارت طريق الاستسلام والمهادنة وما حدث في 4 فبراير كان محك اختيار عملي أفقد الجماهير قدرا من ثقتها ليس في حزب الوفد فقط وإنما في غيره من الأحزاب ولذا فقد شهدت تلك الفترة أكبر موجة من العنف السياسي .

ثامنا : أن ما حدث في 4 فبراير لم يكن هدفا بريطانيا خالصا وإنما كان وسيلة لتطويع مصر سياسيا واقتصاديا وعسكريا بهدف خدمة القوات المتحالفة وإذا كانت أحداث 4 فبراير تعتبر أحداثا سياسية خالصة إلا أن مصر قد شهدت أزمة اقتصادية حادة حيث عملت الحكومة المصرية على أن توتر التموين اللازم للجيوش الموجودة بأرضها , واستطاعت ذلك على حساب ارتفاع الأسعار ومعاناة الشعب حيث لجأت الحكومة إلى خلط القمح بينما كان الخبز الأبيض يقدم للجيوش الأجنبية واستدعي ذلك تعديل النظام الاقتصادي المصري وتغيير الدورة الزراعية وتحقيق المطالب البريطانية على ما عداها من الطلبات وقد واكب سوء الأوضاع الاقتصادية تدهور واضح في الحياة الاجتماعية بأشكالها المختلفة بدأ بقضية لمرأة وانتهاء بتردي الأحوال الصحية .

وهكذا تحملت مصر كثيرا من التضحيات بسبب الحرب ولم يكن موقفها هذا يرجع فقط إلى نصوص معاهدة 1936 أو إلى الشعور بمناصرة الديمقراطية ضد الفاشية والنازية ولكن كان يدفعها لهذا الموقف شعور آخر وهو أن تنال شيئا من تقدير بريطانيا يكون من نتائجه إعادة النظر في العلاقات بين الدولتين بصورة تخفف كثيرا من غلواء وقيود المعاهدة 1936.

تاسعا : لقد كانت أحداث 4 فبراير 1942 نقطة تحول خطيرة في شكل العلاقات المصرية البريطانية فلم تعد معاهدة 1936 تمثل إطارا مرضيا لبريطانيا لأن قضية الصراع الدولي قد فرضت على أى معاهدة أو تفاق وأصبحت مصر في ظل حكومة 4 فبراير ضيعة بريطانيا تمارس بريطانيا من خلالها كل ما تري أنه يدعم قضية الحرب وفي الوقت نفسه فإن الحكومة المصرية اعتقادا منها بأن بريطانيا ستقدر تضحياتها فإنها كانت تطمح غلى قدر أكبر ممن الاستقلال يتناسب وخطورة تلك التضحيات ويبدو أن الوفد قد حصل على وعد شخصي بالنظر في تلك القضية عقب انتهاء الحرب وفي محاولة من جانب بريطانيا لتبديد هذا الوعد فقد أعطت الضوء الأخضر للملك فاروق لكي يقيل الحكومة الوفدية ( أكتوبر 1944) .

ويبدو أن الحكومة البريطانية قد حرصت على إقالة الوفد قبل أن يسترد قدرا يتناسب وحجم التضحيات الباهظة التي قدمها ثمنا لعودته إلى الحكم في 4 فبراير فعلي الرغم من انتهازية الوفد إلا أنه كان مصدر قلق أمام السياسة البريطانية فترة أبعاده عن الحكم أما وقد تحقق الغرض من عودته وحسمت قضية الحرب فلا مانع من إرضاء فاروق وإجابته إلى مطلبه الذي حرص على تحقيقه وفي الوقت ذاته فقد تمكنت بريطانيا من تبديد شعبية هذا الحزب الذي كان دوما مصدرا للقلق والاضطرابات وهكذا استنزف الوفد بلا مقابل .. واستنزفت مصر أيضا بلا مقابل ونجحت بريطانيا في ترويض فاروق حتى استسلم أخيرا وأصبح انجليزيا أكثر من الانجليز .

القاهرة في 4/8/ 1983م.