قالب:الجزء الثانى من كتاب أحداث صنعت التاريخ 3
محتويات
- ١ الباب الرابع عشر : اللغم الذي دمَّر واضعيه ودمَّر الجميع
- ٢ الباب الخامس عشر : في السجـن الحـربي
- ٣ الفصل الرابع : دراســات
- ٤ الباب السادس عشر : بـيـن المعتـقلـين
- ٥ الباب السابع عشر : اعتقالات سنة 1965
- ٦ الباب الثامن عشر : بـعـد الإفـراج
- ٧ الباب التاسع عشر :الدعوة المستهدفة بأمـكر الأساليـب
- ٨ الباب العشرون : أضواء علي هذه الحقبة من الزمن
الباب الرابع عشر : اللغم الذي دمَّر واضعيه ودمَّر الجميع
الفصل الأول : اجتماع الهيئة التأسيسية
ما يعد باقيًا في خاطري التاريخ الذي انعقدت فيه الهيئة التأسيسية ،و لكنني أقرأ في الكتب التي تصدر في أيامنا هذه أن تاريخ هذا الاجتماع كان في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1954 . وعلي العموم فالذي أذكره أن اجتماعنا بجمال عبد الناصر كان قبل اجتماع الهيئة التأسيسية بيومين أو ثلاثة علي الأكثر . وكنت متفائلاً بعد خروجنا من بيت جمال لثقتي في أن يؤدي اجتماع الهيئة إلي معاونتنا في تحسين الموقف أو في التخفيف من حدته للأسباب الآتية :
أولاً : أن الوفد الذي مثل الإخوان في الاجتماع بجمال كان فوق الشبهات إذ يضم أعرق الإخوة في الدعوة ، وأعلاهم ثقافة ، وأشدهم غيرة ، وأقدرهم علي تقدير الموقف ، وهم موضع احترام الجميع .
ثانيًا : أن الذي سيرأس الجلسة ويدير النقاش فيها هو الدكتور خميس نائب المرشد وهو أحد أعضاء الوفد .
ثالثا : أنني اتفقت مع الدكتور خميس في ترتيب بنود جدول أعمال الجلسة أن يكون عرض مذكرتي أول هذه البنود ، وأن يتيح لي فرصة قراءة هذه المذكرة وشرحها – وكان هو واثقًا بأن قيامي شخصيًا بهذا الدور كافٍ أن يقنع إخوان الأقاليم وهم الكثرة الغالبة من أعضاء الهيئة ، وكان ثقة الدكتور خميس هذه مبنية علي ما كان يعرف من حب هؤلاء الإخوان لي ، وتقديرهم لآرائي ، لحسن ظنهم بي في عزوفي عن المناصب ، وإيثاري البعد عن مواطن الشهرة ، ولأنهم يعلمون أنني ملم من أسرار الدعوة بما لا يلم به أكثر قادتها .
هذا هو ما كان يبعث في نفسي التفاؤل بما قد يتمخض عنه هذا الاجتماع أما العقبات التي كانت مائلة أمامي ولابد من اقتحامها لإنجاح الاجتماع فهي :
أولاً : أن إخوان الأقاليم من أعضاء الهيئة التأسيسية يكادون أن يكونوا في عزلة عن حقائق ما يجري في القاهرة فهو خالو الأذهان عنها ، وكل ما يصل إلي أسماعهم هو نشرات تشحنهم شحنًا يعدهم لدخول معركة فاصلة .
ثانيًا : أن الظروف لم تنح لنا فرصة للمرور علي هؤلاء الإخوان في الأقاليم لشرح حقائق الموقف لهم حتى يحضروا الجلسة وهم ملمون بكل أطراف الموضوع . وكان هذا الإجراء ضروريًا لولا أن ما وصلنا إليه من نتائج لم نصل إليه إلا قبل يومين فقط من موعد انعقاد الهيئة المحدد من قبل .
ثالثًا : أن المرشد العام مستمر في إصدار النشرات والبيانات من مخبئة لتزيد النار اشتعالاً ومعلوماته ناقصة عن حقائق الموقف وما استجد بعد اختفائه من معلومات تدل علي أننا مكشوفون للطرف الأخر دون أن ندري .
رابعًا : أن الإخوة المسيطرين علي المركز العام والمتصلين بالمرشد في مخبئه لا يريدون أن يقتنعوا بوجهة نظرنا ، بل إنهم يرون في تحركنا تخاذلاً وانحرافًا ، وإن كانوا لا يبدون به ، ولكن تصرفاتهم إزاءنا كانت توحي بذلك . كما توحي بانعقاد عزمهم علي أن يخوض الإخوان المعركة علي أساس من معلوماتهم القاصرة ، ولا قبل لهم بسماع آراء أخرى ، ولا بالسماح بتوصيل هذه الآراء إلي المرشد العام ، اعتقادًا منهم بأن هذه الآراء تفت في عضد الإخوان ، وتعوق الخطة التي وضعوها لشحن الإخوان وإعدادهم لخوض المعركة . مفاجأة المفاجآت أو انفجار اللغم
كنا قد أبلغنا إخواننا المسئولين بالمركز العام بنص ما تم الاتفاق عليه من قرارات في اجتماعنا بجمال عبد الناصر فور انتهائنا من هذا الاجتماع . وكان أملنا أن يعاوننا إخواننا هؤلاء في النهوض بما يخصنا نحن الإخوان من هذه الشروط أو القرارات ، وأهم ما فيها إيقاف النشرات ، وهم وحدهم القادرون علي تنفيذ هذه الشروط ، لأنهم هم المتصلون بالأستاذ المرشد . ولكن الذي حدث كان عكس ما توقعناه ، ففي الليلة المقرر عقد جلسة الهيئة التأسيسية فيها وفي أثناء توارد وفود إخوان الأقاليم ، وقبل موعد الاجتماع بنحو ساعة فوجئنا بمنشور صادر عن المرشد العام يوزع علي هؤلاء الإخوان ، يحرضهم فيه علي مواجهة رجال الثورة ويرميهم بما يشبه الكفر . ومع أن هذا المنشور كاف أن يقوض كل ما بنيناه ، فإننا لم نيأس لأن آمالنا كانت معقودة علي جلسة الهيئة التأسيسية التي نشرح للأعضاء فيها الموقف شرحًا يبصرهم بما خفي عنهم من جوانبه ونواحيه ، ثم نكلهم بعد ذلك إلي عقولهم وضمائرهم .. وهم نعم الأكفاء . رأينا الأخ الأستاذ عبد القادر عوده يصعد هو الآخر إلي المنصة ، وينحي الأخ الدكتور خميس – رحمهما الله – في غير رفق ويقول له : أنا أحق منك بإدارة الجلسة . ولشدة المفاجأة ، وهول المباغتة ، وخشية أن يُؤَوَّل الموقف علي أن الإخوان يتنازعون المناصب ، تنحي الدكتور خميس .. وسكتنا – نحن الحاضرين – ونحن في ذهول من هذا التصرف المفاجئ وما فيه من تعد علي الحقوق وخروج علي النظام . وقلنا في أنفسنا : ربما كانت في نفس الأخ الأستاذ عبد القادر بقية من تأثر لما اتخذه الأستاذ المرشد إزاءه حين كان مفتونًا برجال الثورة .. فلعل تبوأه منصب رياسة هذه الجلسة يمحو من نفسه هذه البقية .
• خطة مدبرة :
ولمن ما لبثنا بعد برهة أن فهمنا أننا قد تورطنا بحسن الظن ، وعملنا أن المسألة لم تأت عفوًا ، ولا جاءت بدافع شخصي ، وإنما هي خطة مدبرة .. تكشف لنا أن إخواننا المسئولين في ذلك الوقت عن المركز العام لما يئسوا من أن أسحب مذكرتي أو أن أتراجع عن خطتي ، رتبوا خطة أخري لإحباط جهودي وجهود من معي .. وكما كان الأخ الأستاذ عبد القادر – رحمه الله – هو رسولهم إليّ في محاولتهم الأولي ، فقد اتخذوا منه هو نفسه الأداة المنفذة للخطة الجديدة . وهي خطة مضمون لها النجاح ، لاسيما وقد احتفظوا لها بالسرية التامة ، وأحاطوها بستار كثيف من الكتمان – كما أنهم كانوا واثقين من أننا مهما قلبنا الأمور ، واستعرضنا مختلف الاحتمالات – لأننا في استعراضنا للاحتمالات لم ولن نخرج بها عن حدود ما يمكن أن يحدث في المجتمع الإخواني القائم علي المثل العليا والخلق الرفيع – فلن يخطر ببالنا هذا الذي بيتوه . ولكن يبدو أن إخواننا هؤلاء في هذه المرة – وإني أعدها منهم سقطة – قد استباحوا القاعدة الميكافيلية التي تقول : إن الغاية تبرر الوسيلة .. فأمام ما اعتقدوا أنهم علي الحق ، وأن طريقهم هو الطريق الأمثل لمصلحة الدعوة ، وعلي أساس أن التيار لهم صار من القوة بحيث لا يستطيعون التصدي له بالأساليب المشروعة .. لجئوا إلي أسلوب وإن كان غير كريم إلا أنه يضمن لهم تحقيق ما يأملون .
• تفاصيل الخطة :
والذي أكد لنا أن هذا الذي فوجئنا به إنما هو خطة مدبرة ، وخطوات مدروسة ، وأسلوب تمخض عن بحث مستفيض ، هو أن الأستاذ عبد القادر حين استوي علي المنصة تناول من الدكتور خميس الورقة المكتوب فيها جدول الأعمال ، وكان أول بند فيها عرض مذكرتي وقيامي بشرح الموضوع من جميع جوانبه ، ويلي هذا البند بنود أخري عادية .. فإذا بالأستاذ عبد القادر يبدأ مخاطبة أعضاء الهيئة بقوله :
" يشتمل جدول الأعمال علي البنود الآتية : بند موضوع العلاقات بيننا وبين رجال الثورة ، وهناك لجنة وكل إليها أمر الاتصال بهم منذ قامت الثورة ويجب أن نسمع منها ما تم في هذا الصدد . فقام بعض أعضاء الهيئة القاهريين الذين يعلمون أهمية قراءة مذكرتي وقالوا : نسمع أعضاء اللجنة ، ولكن يجب أن نسمع مذكرة فلان أيضًا لأنها في غاية الأهمية . فقام آخرون قاهريون – وهم من الإخوة المسئولين عن المركز العام في ذلك الوقت – وقالوا : لا داعي لقراءة مذكرة فلان .. وكانت نبرات صوتهم بأن زمام المبادرة أضحي في أيديهم . ويبدو أن اتصالاً كان قد تم بين هؤلاء وبين إخوان الأقاليم ألقي في روعهم أن مذكرتي ومن يؤيدها ليست في مصلحة الدعوة .. وإذا لم يكن قد تم هذا الاتصال فيكفي لإثارة شعورهم ولإشعال حماسهم ضد كل ما فيه معني تقريب وجهات النظر ما تلقوه صادرًا عن الأستاذ المرشد ساعة حضروا لي المركز لحضور الاجتماع . وطال الخلاف بين أعضاء الهيئة ، واحتدم النقاش ، وتعالت الأصوات حول موضوع المذكرة .. وكان الفصل الأخير من المسرحية التي وضعت بدقة ، وأخرجت بإحكام أن قال الأستاذ عبد القادر واثقًا :
" حسمًا للخلاف نلجأ إلي الهيئة ونأخذ الأصوات هل تقرأ مذكرة فلان أم لا تقرأ " وأخذت الأصوات فكانت الأغلبية في جانبهم ، وهو ما كانوا واثقين منه ، وإلا لما لجئوا إلي هذا الأسلوب .
• تم إجهاض جهودنا :
وبذلك تم إجهاض جهودنا ، وبدأ اليأس يدب إلي نفوسنا ، وفكرنا في مغادرة الاجتماع ، ولكننا خشينا أن يؤخذ ذلك علي أنه نوع من التمزق في صفوف الإخوان . ومع أننا نحن وحدنا دون بقية إخوان الهيئة الذين كنا نعلم ما سوف يحيق بالإخوان من التنكيل بعد إهدار آخر سهم في جعبتنا لإنقاذ الموقف ، فإننا قررنا أن لا ننجو دونهم من أن نكون معهم حطامًا لنيران أوقدوها أو ساعدوا علي إيقادها ثم حالوا بيننا وبين محاولة إطفائها . وقد يسأل سائل ما الذي قبل في الاجتماع وما القرارات التي انتهي إليها ؟ ونجيب هذا السائل فنقول : إنك تستطيع أن تستنتج كل ذلك من اجتماع كانت مقدماته ما عرفت ..
• الأسلوب الحكيم :
لمات تم الفصل الأول من المسرحية ، وانتقلت إلي فصلها الثاني وعنوانه التهاتر بين الممثلين والمشاهدين – الذي لم يخرج عن كونه تراشقًا بالألفاظ ،وإن كانت الصحف ظهرت في صبيحة اليوم التالي تصوره علي أنه كان تماسكًا بالأيدي – اقترح عليّ بعض إخواننا أن أطلب الكلمة وأعراض فكرتنا ولكنني رفضت وكان رفضي يقوم علي الحجة التالية :
كان الجو في أعلي درجة من درجات التوتر .. وفي مثل هذا الجو لا ينبغي لصاحب رأي معارض أن يعرض رأيه ارتجالاً ، وإنما لابد من أن يكون العرض عن طريق مذكرة مكتوبة .. وهو ما قصدت إليه من كتابة المذكرة ، ومن أن أبدأ عرضي لرأيي بقراءتها عليهم ، لأن المذكرة حين كتبتها راعيت فيها تنظيم الأفكار وتسلسلها ، ومراعيًا فيها مخاطبة العواطف تارة ، ومخاطبة العقول تارة أخري ، كما راعيت أن تكون موجهة مني للمرشد العام وفي هذه طمأنة للسامعين . ويبدو أن هذه المعاني كانت بعض ما دفع إخواننا هؤلاء إلي الحيلولة دون سماع إخوان الهيئة هذه المذكرة مني ، فلا يكون أمام إخواننا المناصرين لفكرتنا في الإصلاح إلا الارتجال الذي – في هذا الجو – لا يكاد يبين .. وقد تنبهت لهذا فرفضت أن أتكلم في هذا الجو مرتجلاً .
• القـرار :
وخلاصة ما كان ، أن ظل الاجتماع ما ظل لا تسمع إلا تهاترًا ، هذا يطلب محاولة الإصلاح ، وآخرون يردون عليه بصوت أعلي يرفضون الإصلاح ثم كان القرار وهو : " تكليف اللجنة التي كان موكولاً إليها الاتصال برئيس الحكومة ، وإخطار الهيئة بنتائج هذا الاتصال في اجتماع الهيئة التأسيسية القادم " ولا أذكر التاريخ الذي حدد له .
• معني هذا القرار :
ومعني هذا القرار هو أنك تريد أن ترغم الجانب الذي أضحي بيده زمام المبادأة علي التحدث مع لجنة أعلن رفضه الاتصال بها من قبل ، متهمًا أعضاءها بتهم مختلة منها سوء النية ومنها عدم الأمانة في نقل الأحاديث .. تريد أن ترغمه علي استقبالها والتحدث معها وإلا فلا كلام معه . وأنا أعود هنا وأقرر أنني شخصيًا لا يخامرني شك في هؤلاء الإخوة أعضاء لجنة الاتصال في حسن نيتهم وفي أمانتهم في النقل ، ولكنني مع ذلك أري أن هناك بواعث نفسية لا يمكن إغفالها ، تتدخل في العلاقات بين الناس بعضهم مع بعض ، فتجعل إنسانًا مقبولاً عند شخص من الأشخاص ، ولا تجعله هو نفسه مقبولاً لدي شخص آخر .. وكل من الشخصين ينتحل أسبابًا يبرر مسلكه نحو هذا الإنسان .. وقد لا تمت هذه المبررات إلي الواقع بصلة . أما في الصلات الفردية . فقطع الفرد صلته بفرد آخر لا يقبله أمر سهل . فقد يجد الفرد عشرات من الأفراد آخرين يقبلون ويرحبون ، وفي هذا يقول الشاعر :
كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا
أما أصحاب الدعوات في علاقاتهم مع الحاكم – إذا ما أريد تحسين العلاقات أو التخفيف من التوتر أو تفادي أزمة – فعليهم أن يكونوا من المرونة بحيث لا يصرون في جميع الظروف ومختلف الأحوال علي أن يكون الاتصال مقصورًا علي أشخاص معينين ، مهما أظهر الحاكم ضيقه بهؤلاء الأشخاص – بل عليهم أن يبادروا من تلقاء أنفسهم باختيار آخرين وآخرين حتى يصادف وفد منهم قبولاً نفسيًا من الحاكم فيصل معه إلي حلول للمشاكل المستعصية . وأذكر في هذا المقام ما سبق لي قوله في الجزء الثاني من هذه المذكرات حين كنت أتحدث عن حسن البنا فقلت إنه كان من المرونة وسعة الأفق بحيث كان لديه لكل موقف الكثير من البدائل ، وحسبك أن تعلم أنه أمام محنة 1948 لم يكتف بتوسيط الأحباب والأصدقاء بينه وبين الحكومة بل لجأ في بعض الأحيان إلي الأعداء متغاضيًا عن سابق مواقفهم – وأعتقد أن المرشد العام حسن الهضيبي لو أن الظروف أتاحت له أن يلم بما جد من تطورات لما وافق علي سياسة الجمود التي مثلها قرار الهيئة ولو جد في سياسة البدائل ما يعين علي الخروج من المأزق .
• أخطر المشاكل سببها العقد النفسية :
وتبرئة لإخواننا هؤلاء من أعضاء لجنة الاتصال مما رماهم به جمال عبد الناصر من تهم أقول : إن بعض هؤلاء كان من الإخوان الذين شاءت الأقدار أن يتصلوا بجمال عبد الناصر ، ويتعرفوا عليه ، ويتعرف عليهم قبل الثورة .. وهم الذين شهدوه وهو في أضعف أحواله ، وهم الذين يشعرون أنهم أصحاب الفضل عليه ، ويشعر هو نفسه حين يلقاهم أنه يتكلم مع أشخاص يشعرون نحوه بهذا الشعور .. وجمال عبد الناصر لا يطيق – وقد ملك – أن يري إنسانًا تذكره رؤيته بسابق فضل له عليه ، لأن طبيعته تأتي أن يري إنسانًا أعظم منه ، ولعل هذا كان الدافع الحقيقي الذي دفعه إلي :
1 – إخراج القائمقام يوسف صديق من مجلس الثورة لأنهما أعلي منه رتبة عسكرية ، وللثاني فضل إنجاح الثورة بإلقائه القبض علي هيئة قيادة الجيش ليلة الثورة .
2 – إخراج اللواء محمد نجيب من مجلس الثورة ومن جميع المناصب واعتقاله لأنه أعلي منه رتبة وأكثر منه شعبية .
3 – إخراج جميع الضباط تقريبًا – الذين تعلو رتبتهم العسكرية رتبته – من الجيش وإلحاقهم بأعمال مدنية .
4 – وضع خطة لإخراج بقية زملائه في مجلس الثورة إذا ما بدا من أحدهم ما يشعر معه أن له كيانًا بجانبه .
.. ومن أصدق ما يعبر عن هذه الحالة النفسية في جمال عبد الناصر ما جاء في كتاب : " صفحات من التاريخ " للأخ الأستاذ صلاح شادي في صفحتي 196 ، 197 ، حيث يقول :
" عجيبة هذه النفس البشرية إذا أصابها الكبر ، ولم تعوزها الحاجة إلي الله ، وكنت أعلم أنه (يقصد جمال عبد الناصر) لا يحب مني أن أبدو أمام الناس معه علي المستوي الذي تنهض عليه علائقنا الحقيقية ، فالناس من حوله يقومون ولا يقعدون ، وترتعد فرائصهم ولا تسكن ، وتنحني جباههم ولا تنهض ، وتسره هذه الانحناءة لشخصه فيضفي علي صاحبها حينئذ رضاء . وعلي العكس كان يري في كل من يرفع رأسه عدوًا ولا يسأل بعد ذلك ماذا يقدم ، فكل ما يقدمه مرفوض لأن رأسه المرفوعة كانت تعني عنده عدم الولاء . وكنت أسمع شعاره الذي أطلقه " ارفع رأسك يا أخي " فأوقن أنه شعار بلا مضمون ، بل انفعالة معكوسة لحقيقة ما يضمر من كبر . ولم يفت عني أنني أستطيع وده بقليل من الإغضاء ومزيد من الإطراء .. ولكن لا أكون في هذه الحالة منسقا مع نفسي وكرامتي وفضائلي " .
.. وأرجع إلي السياق فأقول : لذا لم يكن غريبًا من جمال عبد الناصر أن يضيق ذرعًا بلقاء إخواننا هؤلاء باعتبارهم الممثلين الدائمين للإخوان في التفاهم معه . وهو طبعًا لا يستطيع أن يذكر السبب الحقيقي لضيقه بهم ، فيبرر ذلك باختلاق أسباب هو نفسه ينكر صحتها في قرارة نفسه .
كل هذه المعاني كنت أحب أن أشرحها للأستاذ المرشد العام الذي حيل بيني وبين الالتقاء به ، وهو وحده كان القادر علي استيعاب هذه المعاني لأنه رجل دقيق الفهم ، حسن التقدير ، يعرف كيف ينتفع بما يسمع .. لاسيما إذا كان يسمع من إنسان لم يجرب عليه انحرافاً مع هوى أو جريًا وراء منفعة شخصية .. ومن حق التاريخ عليّ أن أذكر هذا الرجل أنني ما أشرت عليه برأي إلا درسه معي دراسة انتهت بالأخذ به ، مع أنني إذ ذاك أكاد أكون في سن أبنائه ، فهو لم يكن رحمه الله بالرجل المستكبر ولا بالمستبد بل يتوخي دائمًا الرأي الأصوب عن طريق المناقشة والمشورة .
الفصل الثاني : في انتظـار الكارثـة
لم يكن إخواننا هؤلاء ولا إخوان الأقاليم يتوقعون ما كنا نتوقعه من أهوال ستنصب علي رءوسنا صبًا ، لأنهم حجبوا أنفسهم عن الحقائق ، ورضوا أن يعيشوا سابحين في الأوهام ، ولم يصدقوا ما أذرتهم من أن أسرارنا مكشوفة لهؤلاء الناس .. وأرادوا أن يفرضوا علي الواقع ما تخيلوه من أوهام . والتضحية بالنفس والمال لا تغلو علي الدعوة ، بل إنها أمنية ترنو إليها نفوسنا جميعًا – ولكن ليس معني هذا أن يطالب الإخوان بتقديم تضحيات دون مبرر ، فإذا كانت هناك مندوحة لإرجاء هذه التضحيات أو لتقليص حجمها فيجب أن نضن بكل قطرة دم بل وبالخدش مجرد الخدش يصيب أخا من الإخوان ، ما لم يكن الضن به عقوقاً للدعوة ، وتضييعًا لحقها ، وفي الحديث " ما خُير رسول الله صلي الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثمًا " . ولقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم حريصًا علي حقن دماء أصحابه ، فلم يقاتل بهم مكشوفين للعدو ، ولم يقدهم إلي زحف إلا بعد أن يتحسس لهم الطريق ، ويرسل السرايا لتعرف له قوة العدو ، ومواضع الضعف فيه ، وقد يبعث إليهم من يعطيهم معلومات مضللة عن جيش المسلمين .. فإذا اطمأن بعد كل ذلك باغت العدو بالزحف باذلاً من جيش المسلمين أدني حد من التضحية محققاً أعظم قدر من النصر .
وهكذا كان يفعل الإمام الشهيد .. وسبق أن أوضحت في أبواب سابقة إلي أي حد كان حرصه علي دماء الإخوان وعلي مالهم ووقتهم – وما أخال المرشد العام حسن الهضيبي إلا كان فاعلاً مثلما فعل الإمام – إلا أن اختفاءه حال دون تزويده بمعلومات لو أنه علمها لما اتخذ من الإجراءات ما اتخذ . غادرنا اجتماع الهيئة التأسيسية ونحن نقول : وداعًا أيتها الدار .. كنا نعرف ما نحن مقبلون عليه ، وما ينتظر الإخوان في كل مكان من ظلم وصف وتنكيل – ولكننا أو أقول في نفسي بالذات إنني كنت مرتاح الضمير لأنني بذلت آخر ما في وسعي لدفع النكبة عن إخوان لي في القاهرة والأقاليم ولكنهم رفضوا فكنت وإياهم كما قال الشاعر العربي :
أبتغي إصلاح سُعدي بجهدي وهي تسعى جهدها في فسادي
وقد أيقنت أن لن يكون هناك اجتماع بعد اليوم .. فقررت أن أترك عملي وأسافر إلي بلدتي رشيد أطلب إجازات حتى أستنفذها ثم أظل بها حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً . وسافرت إلي رشيد أنتظر ما تتمخض عنه جهود إخواننا الذين نجحوا في إجهاض مساعينا – فكان أول خطوة قاموا بها أنهم ذهبوا يطلبون مقابلة جمال عبد الناصر ، ولكنهم انصرفوا حين جاءهم رسول منه يقول لهم : إن الرئيس يرفض مقابلتكم .
• في رشيد :
كانت إقامتي في رشيد إقامة الثاكل المحزون .. كلما انتهت إجازة مرضية طلبت أخري في انتظار حلول الكارثة التي لا أعرف كنهها ولا أعرف مداها .. ولكني كنت ألمح مقدماتها في الحملة الصحفية المكثفة التي كنت اعتبرها أمضي سلاح يشهر في وجه الإخوان ، لاسيما ووسائل الإعلام كلها محتكرة للحكومة ومحرمة علي الإخوان .. وقد كان هدفي من جهودي كلها هو إتاحة فرصة للإخوان يفلتون فيها من براثن هذه الحملة الظالمة الشديدة التأثير ، في النفوس والعقول ، والتي تهيئ النفوس والعقول لتصورات خاطئة . والكلمة المقروءة والمسموعة أشد تأثيرًا في العقول ، كما أنها أشد فتكًا للنفوس ، من الجيوش الجرارة والبندقية والمدفع .. وإذا كان جمال عبد الناصر قد ضج واستغاث من نشرة صغيرة يصدرها الإخوان سرًا كل شهر .. فكيف بالإخوان وثلاث صحف تصدر كل يوم تسيل أنهارها بفيض زاخر من الأكاذيب والافتراءات ضدهم ومقالات بأقلام مشاهير الكتاب ، فضلاً عن الإذاعة المسخرة لنفس المهمة ، ثم مجلات وكتيبات تطبع مزينة بالصور وتوزع عن طريق الحكومة وعن طريق هيئة التحرير ، كل ما بين دفتيها سم ناقع .. حتى المساجد سخرت للنيل من الإخوان وسبهم وتشويه سمعتهم في خطب الجمعة . فإذا علمت أن هذه الحملة يواكبها حملة استفزازية أخري من الاعتقالات والتعذيب والتشريد والإهانة التي لا تقيم للإنسانية وزنًا .. في الوقت الذي انقطعت فيه الصلات بين شباب الإخوان وبين القيادة التي خطط لها أن تختفي في أحوج الأوقات إلي وجودها .. إذا وضعت كل هذه الظروف المستفزة كلها معًا .. وتصورت أعصاب شباب وصلت من التوتر إلي أقصي حالات التوتر مع الضرب القاسي المستمر عليها .. إذا فعلت ذلك تصورت مالا بد أن يؤدي إليه هذا الاستفزاز من أخطر النتائج .. وهو ما كنت أتوقعه وهو أيضًا ما كان جمال عبد الناصر يسعي إليه ويهدف له .
• شر متوقع :
خلاصة ما أريد أن أقول : إنني ذهبت للإقامة في رشيد وأنا أتوقع شرًا مستطيرًا ولكني لا أدري كيف يقع ولا كيف يكون . فالحملة الاستفزازية الجائحة التي دأبت علي شنها وسائل الإعلام علي الإخوان ليل نهار ودون انقطاع . يقابلها أن للإخوان رصيدًا ضخمًا من الأعمال والسمعة التي لا تطاول يعتز بها الشعب في مصر وفي خارج مصر . وكان اعتقادي أن جمال عبد الناصر بالرغم من تملكه خزائن مصر وجميع وسائل الإعلام ، كما أن طوع أمره وزارة الداخلية بما فيها من أساليب القهر والاستبداد ، فإنه لن يستطيع مهم استعمل من أساليب الإرهاب مع الإخوان فلن يصل بذلك إلي قهرهم القهر الذي يقضي به عليهم ، ولقد جرب ذلك معهم من قبل ففشل . ولكنني لا أنسي أنه هذه المرة في موقف أقوي مما كان عليه في المرة الأولي ، فقد استطاع هذه المرة أن يسيطر علي الصحافة بالذات سيطرة تامة ، باستيلائه علي جريدة " المصري " التي كانت الصحفي الوحيد المتحرر من أسر السلطة ، والتي كانت عاملاً لا يمكن إغفاله في تأييد المطالبين بالحرية .. كما أنه في هذه المرة سيكون أشد حذرًا منه في المرة السابقة ، فقد تعلم من فشله في المرة السابقة الكثير مما لابد أنه سيتجنبه هذه المرة ، فهو مثلاً تعلم أن إلصاق تهم مفتراة علي الإخوان لا يهز ثقة الشعب بهم ، كما تعلم أيضًا أن قرارات الحل التي تصدرها الحكومة لا قيمة لها ولا تنال من البناء الإخواني في قليل ولا كثير . لهذا كنت في حيرة من الأسلوب الذي سيتخذه جمال عبد الناصر هذه المرة بحيث يتجنب أخطاءه التي ارتكبها في المرة السابقة .. ولكن الذي كنت واثقًا منه أن الأسلوب أو نوع الشر المتوقع لابد أن تكون حملة الاستفزاز الجائحة التي شنها منذ حوالي الثلاثة أشهر مقدمة له .. وأنه لابد أن يستثمر هذه الحملة أسوأ استثمار . الأسلوب المبتكر أو حادث المنشية
مع كل ما ذهبت إليه تصوراتي كل مذهب ، ومع إطلاق مخيلتي للسبح في أجواز الخيال لاقتناص أفظع صورة فيه من صور الهول والفزع ، فإنني لم أصادف الصورة التي أعدها جمال عبد الناصر ولا حتى ما هو قريب منها .. ولا أدري حتى اليوم هل هذه الصورة التي انتهت إليها خطته هي نفسها التي كان يعد لها ثم التقي تخطيطه مع الواقع ، أم أنها كانت رمية من غير رام ؟ وقد يبدو هذا التساؤل غريبًا . ولكن القارئ إذا علم أن لكل مقدمة نتيجة لتبددت هذه الغرابة . لقد سبق لي أن ذكرت أن أهم هدف لي في حملتي الإصلاحية كان إزاحة أعصاب الإخوان من الحملة الإعلامية المستفزة التي يشنها جمال عبد الناصر عليهم ليل نهار – ذلك أنني أعلم أن لهذه الأعصاب حدًا من التحمل لا تستطيع أن تتعداه ، ولا تطيق أكثر منه – دأب البشر جميعًا مهما بلغوا من الإيمان والصبر – فإذا تعدي الاستفزاز هذه الحد ، فقد الإنسان السيطرة علي أعصابه .. ومن فقد أعصابه كان مهيئًا أن يكون ألعوبة في يد عواطفه ، وفي يد من يستغل عواطفه .
وقد كان خوفي أن تصل الإثارة بالإخوان إلي هذا الحد في الوقت الذي كانت فيه سيطرة القيادة غائبة عن الساحة .. وهذا هو الذي دفعني أن أقول لجمال عبد الناصر بالحرف الواحد عن إخوان النظام الخاص حين حمل عليهم " أنت أدري الناس بنفسيات هؤلاء الشبان وأنها لا تتحمل كل هذه الإثارة ، فأعطني فرصة لأهدئ من روعهم ، وأنا أستطيع ذلك بإذن الله " .. ولكنه فيما يبدو كان حريصًا علي أن لا يعطي هذه الفرصة لغرض في قرارة نفسه ، فهو يريد أن يصل بالإثارة إلي منتهاها .. ولا يخفي علي أحد أن محاولة تهدئة هؤلاء الإخوان في خلال هذا الجو الصاخب محاولة فاشلة ولا يقدم عليها عاقل .. وهذا الأسلوب لم يكن يجهله جمال عبد الناصر ومن حوله من المخططين ، ولذا فإنه أصر علي أن لا يتيح لنا الفرصة . وحين اضطر قيدها بشروط كان يعلم مسبقًا أننا سنعجز عن إنقاذها .
في مساء 26 أكتوبر 1954 وضح أن خطة جمال عبد الناصر قد وصلت إلي الهدف الذي كانت تسعي إليه وتوجه الأحداث نحوه .. ذلك أن إذاعة مصر وإذاعات العالم نقلت إلي الناس نبأ مفاجئًا بأن جمال عبد الناصر نجا من محاولة اغتياله ، وهو يخطب في دار هيئة التحرير بالإسكندرية ، وأنه قد تم القبض علي الجاني . كان هذا النبأ مفاجأة للناس جميعًا ، ولكنه كان بالنسبة لي لم يبلغ مستوي المفاجأة ، لأنني كنت أتوقع حدوث شيء .. وإن كان الذي أتوقعه شيئًا أقل من ذلك مثل تفجير قنابل أو نحوها .
• تحليل هذا الحادث :
وإذا كان ينبغي لمن يستعرض الأحداث أن لا يدع هذا الحادث دون تحليل ، فإنني أري الغناء كل الغناء فيما ورد من تحليل في مدخل هذا الجزء من الكتاب علي لسان الإخوة صلاح وصالح وفريد .. وإذا كان لي أن أضيف شيئًا إلي ذلك فإنني أقول :
1 – إذا كان الإخوان يريدون إتيان عمل كهذا ، أفلم يكن الأولي بالقيام به إخوان الإسكندرية ، والمثل يقول " أصحاب الدار أدري بمسالكها " والمفروض فيمن يرشح نفسه لمثل هذا العمل أن يرتب لنفسه خطة الهرب ، ولا يستطيع هذا إلا من له دراية كاملة بمعالم هذا البلد وأدق تفاصيل مسالكها .
2 – لا شك في أن جمال عبد الناصر ومن حوله من حرس حكومي يدخل فيه المباحث العامة والمباحث الجنائية والشرطة العسكرية والمخابرات العسكرية والمخابرات العامة وغيرهم – كانوا يتوقعون كل شيء من ناحية الإخوان لاسيما النظام الخاص كرد فعل لحملاتهم الاستفزازية ، وهم في نفس الوقت ملمون إلمامًا تامًا بجميع شعب الإخوان في القطر كله وبأفراد " النظام الخاص " علي وجه الخصوص ، بدليل أنهم بعد حادث المنشية مباشرة ألقوا القبض علي جميع أفراد هذا النظام فضلاً عن اعتقال غيرهم من الإخوان .. فلو أنهم أرادوا منع محمود عبد اللطيف – وهو معروف لهم بالذات ومعرف لجمال نفسه – من السفر إلي الإسكندرية في ذلك اليوم لفعلوا – فعدم منعهم إياه يشتم منه رائحة التواطؤ أو علي الأقل التغافل لحاجة في نفس يعقوب .. فقد كان يعلمها محمود وقد لا يعلمها وهو يعلمها من يرأسه في النظام الخاص .
3 – لو كان الإخوان يريدون اغتيال جمال عبد الناصر ، فقد كانت أمامهم عشرات الفرص لتنفيذ ذلك دون مخاطرة تذكر – ولو فرضنا أن كل الفرص فاتتهم وأرادوا أن ينفذوها بعد ذلك لما وقع اختيارهم علي تنفيذها في حفل عام يضمن هذا العدد الضخم وهم يعلمون أن رجال المباحث مندسون وسط كل صف من صفوف الجالسين والواقفين ، ولما اختاروا أن يصوبوا إليه مسدسًا من أسفل إلي أعلي علي بعد لا يقل عن عشرين مترًا .. ولكان تصرفهم غير هذا التصرف الذي هو أشبه أن يكون عملاً استعراضيًا منه بأن يكون عملاً جادًا .
4 – إذا افترضنا جدلاً أن هذا العمل قام به أفراد من الإخوان ، فإن إتيانهم إياه بهذه الطريقة يدل علي أنه ليس من تدبير هيئة كهيئة الإخوان المسلمين فيها من المعقول ومن الخبرة مالا يتمخض عن مثل هذه الخط الصبيانية .. وبهذا كان ينبغي اعتباره عملاً فرديًا لا علاقة له بدعوة الإخوان المسلمين ، ولا بهذه الهيئة المترامية الأطراف ، وما كان ينبغي أن تؤخذ هذه الهيئة بجريرة فعل فردي ، بل يؤخذ هؤلاء الأفراد وحدهم بجريرة ما فعلوا .. ولكن يبدو أن الهدف كان مبيتًا لدي أصحاب السلطة .
الفصل الثالث : في أعقاب حادث المنشية
كان حادث المنشية ذروة الحملة الجائحة التي شنها جمال عبد الناصر علي الإخوان المسلمين ، وكانت من وجهة النظر المجردة ذروة انتصاره علي الإخوان الذين كانوا المنافسين الوحيدين له ، والفئة الأخيرة التي تقف عقبة أمام آماله وأطماعه التي لم يكن قد تكشف منها الشعب شيء بعده .. وافتتان الشعب به غشي علي أعين الناس في مصر وخارج مصر ، حتى إنهم حملوا ما تدفقت به أبواق الدعاية المصرية من تحريم الإخوان المسلمين علي محمل الصدق ، ولم يحاولوا أن يعرضوا علي عقولهم ظروف الحادث وما أحاط به من ملابسات .. وأنشئت المحكمة التي كانت محاكمتها للمتهمين بأكبر جريمة أقصر محاكمة في التاريخ وأشدها غموضًا ، ونفذت الأحكام فور صدورها مما يشعر بأنهم يتسترون علي أسرار يخشون أن تتسرب إلي الشعب لو أن هؤلاء المتهمين طال بقاؤهم أحياء .
• قضية من الواقع تعرض نفسها علي العقل :
وبدأت في نفس الوقت بل في نفس الساعة بل في نفس اللحظة حركة مجنونة للقبض علي الإخوان في كل مكان ، بطريقة توحي هي وحدها بأن حادث المنشية كان حادثًا مدبرًا ، رسمه واضعو خطته ، ووضعوا معه خطة القبض ، وأعدوا أسماء من يقبض عليهم ، وسلموا القوائم إلي المسئولين من الأمن ، حتى إذا جاءت ساعة الصفر ألقوا القبض علي الأشخاص الذين تضمنت أسماؤهم القوائم . وإلا فبأي تعليل يمكنك أن تعلل الآتي :
" تقابلت صدفة في السجن الحربي بعد بضعة أشهر من اعتقالي مع الأخ الأستاذ محمد سالم عضو الهيئة التأسيسية وهو من أهالي سوهاج وكان مفتش وزارة التربية والتعليم بها فقال لي : إن حادثة المنشية أذيعت علي الهواء في الساعة الثامنة مساءً .. ,في الساعة الثامنة والنصف وصل إلي بيتي مفتش المباحث العامة بسوهاج وفي يده كشف به اسمي واسمك واسم الأخ الأستاذ طاهر عبد المحسن – وثلاثتنا أعضاء بالهيئة التأسيسية – وقال لي مفتش المباحث إنه قد اعتقل الأستاذ طاهر عبد المحسن ، وجاء لاعتقال ، وقال إنه لا يعرف عنوان إقامة محمود عبد الحليم فأين هو مقيم ؟ فقلت له : إنني لا أعلم أنه جاء إلي سوهاج لأنه لو كان وصل إلي سوهاج لزارني أو علي الأقل لعلمت بوصوله " .
ولموضوع اعتقالي ظروف معينة سأعرض لها بعد ذلك إن شاء الله – ولكنني أوردت هذه المناقشة ليعلم القارئ أن كشوف الاعتقال كانت معدة من قبل ، ولكن تنفيذها كان مرهوناً بوقوع حادث المنشية أو قل موقوتاً بها أو مرجاً حتى تتم إجراءات وقوعه . وهنا يجب أن نوضح ما أشرنا إليه من قبل أن اعتقال الحكومة للإخوان في يناير 1954 بعد حل هيئتهم ، وما تكشف بعد ذلك من براءتهم مما نسب إليهم من تهم – ومن هنا كان لابد من ترتيبات محكمة لوقوع حادث المنشية بهذه الطريقة المسرحية المثيرة التي يراها الشعب كله بعينيه فقد كان الجميع في أنحاء البلاد في تلك الليلة أمام أجهزة الراديو مرهفين أذانهم لسماع خطبة الزعيم التي روجت وسائل الإعلام لها طيلة أيام قبلها .
حتـى تم اعتقـالـي
قدمت في فصل سابق أنني بعد ما تم في اجتماع الجمعية التأسيسية من إجهاض خطتنا لتفادي الصدام أو تأجيله ، قررت أن لا أتخلي عن إخواني وإن كنت أراهم قد تنكبوا طريق الصواب ، حيث أديت واجبي وأرضيت ضميري . وما كان لي بعد ذلك أن أتخلف عن الركب وإن كنت أعتقد أنه متجه إلي ملاقاة المصائب والأهوال ، وقديمًا قال عليّ كرم الله وجهه : " كدر الجماعة خير من صفو الفرد " وكنت وإياهم كما تمثل في هذا الموقف عليّ كرم الله وجهه مع أصحابه بقول أخي هوازن :
أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النضح إلا ضحي الغد
ما كان لي أن أتخلف عن الركب وألاقي ما يلاقي راضي النفس مستريح الضمير ، موقنًا علي كل حال بوعد الله الذي لا بتخلف حين قال : ( ) والإخوان مهما اخطئوا فإن أخطاءهم لا تمس صميم دعوتهم ، ولا تنال من صلابة مبادئهم ، ولا من عمق إيمانهم ، ولا من جلال إخلاصهم سالك والآخر شائك ، فإذا اختلفنا حول أيهما نسلك ، واتفق الأكثرون علي الطريق الشائك فلابد أن نسلكه جميعًا ونصل إلي الهدف أخيرًا ، ولكن بعد أن تتقطع أقدامنا وتتمزق ثيابنا وتدمي وجوهنا وجلودنا .. وهكذا سرنا مع الركب ونحن نعرف ما وراء هذا السير من أهوال .. هكذا كان سفري إلي موطني الأصلي رشيد .
• الصداقات في الريف :
الصداقات عمومًا عامل مؤثر في حياة الناس ، ولكن تأثيرها في الريف أبعد مدى منه في العواصم والمدن الكبيرة .. وحين رأيت بعد اجتماع الهيئة التأسيسية الأخير أن آوي إلي مسقط رأسي رشيد ، شعرت بالتأثير العميق للصداقات بين الناس من أهالي الريف .. وقد تجلي هذا التأثير العميق خلال فترة إقامتي في رشيد علي الوجه الآتي :
أولاً : مع احتجابي معظم الوقت في البيت فإنني في الفترات القليلة التي كنت أقضيها خارج البيت كنت أشعر بتعاطف كبير ممن ألقي من أهل بلدي – ولعل ذلك نابع من أنهم يعرفون عنا أننا أهل بيت عريق في التدين والتعليم الديني ، ومن الخطب والأحاديث التي كنت ألقيها عليهم في مقتبل أيامي في دعوة الإخوان المسلمين .
ثانيًا : أن الصداقات التي كانت تربط بين والدي وعمي وبين رجال الإدارة في مركز رشيد ، جعلت هؤلاء الناس يحاولون التستر علي وجودي في رشيد ويحاولون أن يدفعوا عني كل خطر يستطيعون دفعه .. وقد قاموا في هذا الصدد بمجهود كبير لا أنساه وأسأل الله أن يحسن جزاءهم عليه ، فكم كتبوا ردودًا علي المسئولين عند استفسارهم عني .
ثالثًا : صداقة عمي مع مفتش صحة المركز أتاحت لي فرصة إجازة مرضية امتدت نحو خمسة وأربعين يومًا .. ولولا ظروف طرأت سأذكرها إن شاء الله لامتدت أكثر من ذلك . ولولا هذه الإجازات لتغير الوضع بالنسبة لي .
رابعًا : علي أثر وقوع حادث المنشية جاءني أحد أقربائي موفدًا من رجال الإدارة بالمركز – الذين كانوا حريصين علي عدم الاتصال المباشر بي إيثارًا لمصلحتي ومصلحتهم – وقال لي : إن رجال الإدارة يطلبون منك أن تستنكر حادث المنشية وتعلن تبرؤك ممن دبروها .. وقال لي : اكتب هذا الاستنكار وسيصل إلي الصحف عن طريقهم دون أن تعرف الصحف المكان الذي جاءهم منه .
ولما كنت في جميع مواقفي منذ عرفت دعوة الإخوان أوثر التجاوب دائمًا مع العقل والمنطق دون العاطفة ، فقد وجدت ما طلب إليّ وإن كان يلذع قلبي ويتجافي مع عواطفي فإنه يتجاوب مع العقل ويتمشي مع المنطق .. فالحادثة وإن كان لها من الظروف ما يوحي بأنها مسرحية حكومية إلا أن الشعب في مصر وفي خارج مصر خالي الذهن من هذه الظروف ، ولا يعرف إلا أن الذي حدث هو اعتداء غاشم علي رجل لا يزالون يرون فيه تحقيق أمالهم .. فعدم استنكاري للحادث وتبرئي من مدبريه لا يغير من فهم الشعب للحادثة علي الصورة التي تصوروها وإنما سيحرجني ويحرج هؤلاء الرجال الذين يحاولون أن يدفعوا عني خطرًا هو في نظرهم عظيم ، ولكنني كنت أعلم أنه خطر أعظم مما يتصورون ، لأنني أعلم أنني أطوي أحناء ضلوعي علي أسرار كنت ابتهل إلي الله أن يعفيني من موقف اضطر فيه إلي إفشائها لا حرصًا مني علي نفسي وحسب بل حرصًا علي هذه الدعوة .. ولهذا استجبت لما طلبوا وكتبت الاستنكار ونشر في الصحف ، ولا أدري كيف وصل إلي الصحف .
• إشاعة هروب الأخ يوسف طلعت إلي رشيد : بصدد تأثير الصلات أراني مدينًا بدين كبير إلي زملاء لي كرامًا بمصلحة القطن التي كنت أعمل بها ولاسيما للأستاذ حسين الخضري مدير مراقبة القطن وإلي الأخ العزيز الأستاذ أحمد عبد اللطيف نجيب مدير المستخدمين بالمصلحة فقد عملا أولاً علي تعديل نقلي وإرجاعي من مصلحة الأموال المقررة بقنا إلي مصلحة القطن بجرجا وقد قاما بإبلاغي هذا النبأ عن غير الطريق الرسمي – عن طريق صديق – حتى لا تستدل وزارة الداخلية علي مكان وجودي . وقد تبين لي فيما بعد أن وزارة الداخلية حين أرسلت إلي رجالها في سوهاج .. حيث كان يجب أن أكون – لاعتقال ليلة حادثة المنشية وردوا عليها بأنني غير موجود – اتجهت وزارة الداخلية إلي مصلحة القطن تسألها عني وعن مقر إقامتي ، وأرسلت إليها أكثر من خطاب في هذا الشأن ، فكان الأخ الأستاذ أحمد عبد اللطيف باعتباره المسئول عن المستخدمين بالاتفاق مع الأستاذ حسين الخضري يرد عليهم في كل مرة بقوله : إن هذا الشخص ليس بالمصلحة بالاتفاق مع الأستاذ حسين الخضري يرد عليهم في كل مرة بقوله : إن هذا الشخص ليس بالمصلحة .. ومع أن هذا الإجراء خطير ومجازفة من هذين الرجلين الكريمين إلا أن الله الذي كان إرضاءه هدفهما قد سلَّم ، وقد ساعد علي ذلك طبيعة الروتين الحكومي الذي يخفي كثيرًا مما يراد إخفاؤه . وقد نجح هذا الأسلوب نجاحًا كبيرًا فيما يختص بي ، فقد ظللت مجهول المكان قرابة شهر ونصف شهر حتى حدثت الحادثة التالية :
كان مأمور مركز رشيد حين قدمت إليها الأستاذ الحبال وكان رجلاً فيما بلغني طيباً ، وإن كانت الخدمات التي قدمت إليّ في أيامه لم تأت عن طريقه مباشرة ، بل كانت تأتي عن طريق مرءوسيه من رجال الإدارة وهو قد لا يدري عن وجودي برشيد ، حتى طرأ علي الموقف طارئ لم يكن يخطر علي البال .. اضطرب معه حبل الصلات ، بل تقطعت تحت عنف شدته وسائل الصداقات ، واكفهر الجو فجأة حتى صار كالليل البهيم ، ذلك أن القبض علي الأخ يوسف طلعت باعتباره رئيس النظام الخاص كان هدفاً سياسيًا من أهداف حملة الإرهاب التي شنتها الحكومة علي الإخوان عقب حادث المنشية .. وقد قبضوا عليه فعلاً من الإسماعيلية – كما شاع – وأركبوه القطار المتجه إلي القاهرة مع حرسه . ثم قالوا إنه غافل الحرس وقفز من شباك القطار في أثناء سيره وهرب . ثم قالوا : إن بعض الأشخاص أبلغوا وزارة الداخلية أنهم رأوا شخصًا تنطبق عليه أوصافه في ناحية رشيد . وهنا قامت قيامة وزارة الداخلية علي رشيد .. وحينئذ تذكروا أن رشيد هي مسقط رأس محمود عبد الحليم ومقر أسرته . فطلبوا في هذه الحالة الهستيرية لم يكن بد من أن يبلغ رجال المباحث رغم أنفهم عن وجودي برشيد ولكنهم قالوا : إنه كان في رشيد وغادرها منذ فترة .
وكان من أثر ذلك أن اعتبروا هذا إهمالاً من مأمور المركز ونقلوه في الحال وطلبوا من محافظة البحيرة موظف كبير للقيام بمهام مركز رشيد في خلال تلك الفترة العصيبة ، فانتدب المحافظ لهذه المهمة مأمور ضبط المحافظة الذي قدم في الحال وتولي مهمته . ولقد كانت مصادفة طيبة أن اختير لهذه المهمة هذا الرجل بالذات ، فإن الأستاذ عبد العزيز منصور مأمور ضبط المحافظة كان قبل ذلك بسنوات طويلة معاون إدارة مركز رشيد وكان صديقاً حميمًا لوالدي وعمي وكانت بيننا وبينه صلة عائلية ، وهو يعرفني شخصيًا أيام كنت صغيرًا .. وما كادت تطأ قدمه رشيد حتى أرسل في طلب والدي وعمي وأسرّ إليها الحديث التالي :
قال : إن وزارة الداخلية في حالة هستيرية لما بلغها أن يوسف طلعت رؤى في ناحية رشيد ، وقالت الوزارة لمحافظ البحيرة إنها تعتقد أن يوسف طلعت اختار رشيد لأنها بلد محمود عبد الحليم ، ولابد أنه يعلم أن محمود عبد الحليم في رشيد ، ولهذا جاء إليه ليختفي عنده .. فإننا نطلب إليك انتداب موظف كبير ليذهب إلي رشيد ويلقي القبض علي محمود عبد الحليم في الحال .. ثم قال الأستاذ عبد العزيز : لما بلغني هذا الموضوع سارعت إلي ما طلبه إليّ المحافظ من القيام بهذه المهمة لإنقاذ ما أستطيع إنقاذه .. ثم قال : أنتم إخوتي ومحمود ابني . وأنا لا أستطيع أن أقبض عليه لسببين :
أولهما : عاطفتي نحوكم ونحوه .. وثانيًا : لأنه إذا قبض عليه في رشيد فستوجه إليه تهمة إيواء يوسف طلعت ويعتبر حينئذ شريكاً له . ثم قال : ولهذا فرجائي أن يسافر محمود اليوم إن أمكن أو صباح غد علي الأكثر إلي مقر عمله في جرجا ليعتقل من هناك – لأنني سأبلغ الداخلية أنه ليس موجودًا في رشيد وأنه بمقر عمله في جرجا ،وسأرتب مع المباحث تقريرًا بأنه غادر رشيد إلي مقر عمله قبل أن يشاع أن يوسف طلعت رؤى في رشيد . وجاء والدي وعمي ، وأبلغاني ما قاله الأستاذ عبد العزيز منصور ، فقمت في الحال وأعددت حقيبتي إلي جرجا وسافرت في الحال .
• في جرجا :
وصلت إلي جرجا . وكانت أول مرة أنزل فيها ذلك البلد الذي كان في يوم من الأيام عاصمة المحافظة وكان لي في جرجا ابن خالة من أبر وأكرم أقاربي ، هو الحاج سيد أحمد عثمان تاجر الحبوب . ولكنني كنت حريصًا علي أن لا أنزل في بيته . فنزلت في أحد الفنادق . وذهبت في المساء لزيارته فاستقبلني بما طبع عليه من كرم وحسن وفادة وأقسم لأنزلن عنده ، ولكنني أصررت علي الاعتذار وشرحت له الظروف وقلت له في صراحة : إنني قدمت إلي جرجا لأعتقل ، وأنا في انتظار ذلك بين لحظة وأخري ، ولا أحب أن يعرف أنني اعتقلت من بيتك فأسبب لك متاعب بدون داع ولا مبرر . وبعد بضعة أيام لا أذكر عددها الآن ولكنها لا تعدو الثلاثة حضر إلي المحلج حيث هو مقر وظيفتي مأمور المركز وطلب مقابلتي فقابلته فعرفني بشخصيته وقال لي إنه يأسف لأنه كلف بالقبض علي .. وكان الرجل يعتقد أنها مفاجأة لي .
ركبت السيارة مع مأمور المركز . وقد سألني عن محل إقامتي فأخبرته بالفندق الذي أقيم فيه فصعد معي إلي حجرتي ، ولم يكن لي متاع سوي حقيبتي ففتشها ثم ذهبت معه إلي مبني المركز حيث قدمني إلي نائب المأمور حيث بقيت معه في حجرة مكتبه وجلست علي " كنبة عربي " في هذا المكتب في انتظار وصول أول قطار يصل إلي القاهرة .. وقد أمضيت في مكتب نائب المأمور ساعتين قدم لي خلالهما بعض من تعرفت عليهم من العاملين بالمحلج فغمروني بعواطفهم التي لا أنساها حتى اليوم لأن المجاملة في موقف كالذي كنت فيه تعد شجاعة أصيلة وكرمًا بل ومجازفة .. وشعبنا – بالرغم مما رزح تحته من كلاكل الظلم والاستبداد – فإنه لا يزال كثيرون منه محتفظين بما طبعوا عليه من نبل ووفاء .. أما ابن خالتي الحاج سيد فأكل إلي الله وحده حسن جزائه علي ما قدم لي في هذه الفترة العصيبة فقد أرسل إليّ نجله الأستاذ محمد رحمه الله بطعام فاخر وفاكهة ، وظل بجانبي حتى تحرك القطار بل وقد حاول أن يرافقني إلي القاهرة لولا أن أقسمت عليه أن لا يفعل .
ويحق لي هنا أن أسجل موقفاً يدل علي أن نفوس الكثيرين من هذا الشعب الأصيل هي كالذهب الذي انهال عليه التراب والأقذار حتى طمست معالمه ، وخبا تحت ظلامها نوره .. بينما كنت جالسًا عند نائب المأمور أدخل عنده مجموعة من الناس تمثل فريقين بينهما خصومة ، وقد اعتاد هؤلاء الناس علي الكذب والاختلاق لنفي تهم موجهة إليهم .. وأخذ الرجل يستجوبهم بالحسنى ولكنهم لجوا في أساليبهم الملتوية مما جعله يلجأ هو الآخر إلي معاملتهم بأسلوب خشن استعمل فيه بعض الألفاظ النابية والسباب مع التهديد . لم يكن في كل ما حدث أمامي شيء يستوقف النظر لأنه التصرف المألوف في مثل هذه الحالات ولكن الذي استوقف نظري أنني رأيت نائب المأمور يلتفت إليّ قائلاً : " يا أستاذ لا تؤاخذني في هذه الألفاظ التي لا تليق أن أتفوه بها في وجودك ، وليست هي من طبيعتي ، ولكن معذرة ، فكثرة احتكاكنا بالأشرار علمتنا ألفاظاً كهذه .. وسأل الرجل الله أن يتوب عليه من هذا العمل الذي يؤدي به إلي التفوه بمثل هذه الألفاظ " .
كان لهذه الواقعة أثر عميق في نفسي لأن لها دلالتين :
الأولي : أن الدنيا لازالت بخير ، وأن في هذا الشعب معادن نفيسة تتمني أن ترفع عن نفسها ما تراكم عليها من أقذار .
الثانية : أن المجهود الذي بذله جمال عبد الناصر لتلويث سمعتنا – نحن الإخوان – سيضيع هباءً بإذن الله .. فنحن في ذلك الوقت كنا تحت نير حملة التلويث ، وكانت هذه الحملة قد وصلت إلي ذروتها ، ثم إنني مقبوض عليّ باعتباري من أئمة الفساد ورءوس الضلال كما كان مكتوبًا في الصحف ، ومع ذلك فالمكلف بالقبض عليّ ينظر إلي نظرة الإجلال والاحترام ، ويعتبرني ممثلاً للطهر والنقاء إلي الحد الذي جعله يعتذر إليّ من ألفاظ وجهها لغيري أمامي .
الباب الخامس عشر : في السجـن الحـربي
الفصل الأول : إلي السجن الحربي
لما جاء القطار الذاهب إلي القاهرة ، ودعني قريبي وعدد من العاملين بالمحلج حتى قام القطار ، وكنت في صحبة معاون بوليس جرجا . وكان إنسانًا لا يقل نبلاً عن زملائه ورؤسائه في المركز – وكان المعتاد في تلك الأيام – مظهرًا من مظاهر الإهانة والتنكيل – أن توضع القيود في يدي المعتقل حتى يسلم إلي السلطات في القاهرة ، ولكن هذا الرجل ورؤساءه رفضوا أن يعاملوني هذه المعاملة .. حتى وصل القطار بنا إلي محطة القاهرة فكان في انتظارنا سيارة من سيارات البوليس أوصلتنا إلي وزارة الداخلية ، حيث سلمني هذا الضابط الكريم إلي المسئولين فيها الذين سلموني بدورهم إلي إدارة المعتقل الذي كان هو السجن الحربي بالعباسية .
(1) الاستقـبال
والاستقبال في السجن الحربي كان مفاجأة ؛ لأنه كان شيئًا غير الذي سمعناه من جمال عبد الناصر وهو يتوعدنا وظنناه يومئذ أنه قد تخطي بوعيده هذا حدود اللائق والمعقول .. ولكن الذي استقبلنا به في السجن الحربي ، كان شيئًا جديدًا في تاريخ مصر .. وكان عارًا لطخ سمعة هذه البلاد تلطيخًَا لن يمحي علي مر الزمن ، لأنه كان إهدارًا للإنسانية والآدمية . عند دخول باب السجن الحربي يقابل المعتقل بعاصفة من الصفع بالأيدي والركل بالأقدام والضرب بالعصي في كل مكان من جسمه ، ثم تحلق رأسه حلقاً يكاد يزيل كل ما بها من شعر ، ثم يؤمر بحمل أمتعته والجري بها إلي زنزانته تحت عاصفة أخري من الصفع والركل حتى يدخل باب زنزانته وتغلق عليه – أما السباب والألفاظ البذيئة التي نغفلها لأنها لا تعد إهانة إذا قيست بما سواها من الإهانات .
(2) الزنـزانـة
أما الزنزانة فهي حجرة صغيرة تقل مساحتها عن ثلاثة أمتار في مترين . أرضيتها من الأسفلت . وبابها قطعة واحدة من الحديد ليس به إلا ثقب صغير في مساحة العين يمكن إغلاقه من الخارج . ومزلاج الباب من الخارج . وليس بهذه الحجرة نوافذ إلا طاقة صغيرة قرب سقفها مساحتها نحو 60 سم × 30 سم شبه مسدودة بأعواد من الحديد . بالزنزانة جردلان أحدهما للتبول والآخر للشرب ، ونظرًا لضيق الزنزانة بنزلائها من المعتقلين رفع جردل شرب الماء منها وأعطي لكل معتقل قلة من الفخار ، فقد وصل عدد المعتقلين في الزنزانة إلي ثمانية أفراد . ومصروف لكل معتقل بطانيتان سوداوان من بطانيات الجيش وعليه أن يدبر لنفسه وسادة يضعها في النوم تحت رأسه ، وكانت الوسادة عادة هي الحذاء المغطي بجزء من إحدى البطانيتين – وهذه الزنازين كانت مجردة من أي شيء ينام عليه ، فليس بها أسرة طبعًا ، ولا ألواح من الخشب ولا حتى " البرش " الذي اعتاد الناس أن يتندروا به رمزًا لمعني الإهانة ، هذا البرش لم يكن موجوداً بل كان النوم علي الأسفلت مباشرة فكنا ننام علي إحدى البطانيتين ونتغطى بالأخرى . وتظل الزنازين مغلقة طول اليوم والليلة ولا يفتح بابها إلا خمس مرات في الثالثة صباحًا أي بعد منتصف الليل قبل الفجر ، وفي الساعة السابعة صباحًا لتقديم الإفطار وفي الواحدة بعد الظهر لتقديم الغداء ، وفي الخامسة مساء لتقديم العشاء ، وتفتح وقت الضحى للخروج إلي الطابور اليومي .
وإذا تصورت ثمانية أشخاص نائمين في هذه الحجرة الصغيرة المغلقة والمحكمة الإغلاق ولا منفذ لها إلا الطاقة الصغيرة قرب سقفها فإنك لا شك تعتبرهم غارقين في عرقهم .. يأتي العسكري فيفتح باب الزنزانة في الساعة الثالثة صباحًا سواء في الصيف أو في الشتاء ، فإذا كان الوقت شتاء فإن الفرق بين الحرارة في داخل الزنزانة وفي خارجها كان أن يصيب أي إنسان بمرض يقضي عليه إذا تعرض فجأة لهذا الفرق مرة واحدة .. فما بالك إذا تعرض له كل يوم .. وإذا فتح الباب فالويل لمن أبطأ في الخروج إلي العراء حيث السقف هو السماء .. يجب أن يكون الجميع في خارج الزنزانة وفي يد كل منهم قلته وفي قدميه قبقابه أمام دورة المياه ، حيث لا يسمح للشخص أن يمكث داخل المرحاض أكثر من دقيقتين ثم يخرج .. والمسموح له بعد ذلك أن يغسل وجهه ويملأ قلته ثم يصعد إلي زنزانته ، ولكننا كنا نتوضأ وضوءًا سريعًا خاطفاً . وكان علينا أيضًا في هذه المرة من الفتح أن نصحب معنا جردل البول لصبه في دورة المياه فكنا نتناوب هذه المهمة – وكان مسموحًا لنا بالاستحمام في هذه الفترة قبل الفجر مرة كل أسبوعين تقريبًا ولكن بدش بارد تكاد تكون برودته في ليالي الشتاء إلي ما يقرب من التجمد ، علي ألا يستغرق الاستحمام أكثر من ثلاث دقائق . والعجيب في هذا أننا قضينا في هذا السجن ما قضينا تحت هذه الظروف القاتلة التي أشرت إلي القليل منها ، ومع ذلك لم يمت أحد منا بل ولم يمرض والحمد لله ، وكان منا الشيوخ والشباب .
• وصف السجن الحربي :
وينبغي قبل أن استرسل في شرح الأسلوب الذي كنا نتعامل به أن أصف السجن الحربي حتى يستطيع القارئ أن يتصوره .
هذا السجن مبني علي ربوة في منطقة العباسية . وهو معد لاستقبال المحكوم عليهم من جنود الجيش وضباطه في جرائم عسكرية خطيرة . وظل منذ إنشائه لا يدخله إلا العسكريون حتى جاء جمال عبد الناصر فجعله لأول مرة معتقلاً للمدنيين . والسجن مكون من عدة أبنية ، كل بناء منها مستقل عن غيره ، ويسمي كل بناء منها سجنًا ، ويميز كل سجن عن الآخر إما برقم وإما بصفة معينة . فهذا سجن (4) وهذا السجن الكبير ، وهذه الشفخانة أي المستشفي – وهناك سجون من دور واحد كالشفخانة وسجون أخري من عدة أدوار وكان الإخوان يشغلون سجن (4) والسجن الكبير . ويبقي بعض السجون وبعض أرض فضاء واسعة جدًا . كما أن داخل كل سجن فناء تتناسب سعته مع سعة السجن . وبجانب البوابة العمومية للسجن توجد المكاتب وهي عبارة عن عدة حجرات متلاصقة من دور واحد بها القائمون علي إدارة السجن وهم مجموعة من الضباط كان علي رأسهم في ذلك الوقت ضابط برتبة بكباشي (مقدم) اسمه حمزة البسيوني هو قائد السجن الحربي .
والسجن الكبير الذي كنت نزيله هو مبني علي أرض مربعة الشكل ومقام علي كل ضلع من أضلاعه المربع بناء من ثلاثة أدوار ، كل دور عبارة عن صف من الزنازين المتلاصقة أمامها ردهة بعرض متر تقريبًا تفتح عليها أبواب الزنازين ، وللردهة سور يطل علي فناء السجن . وبهذا السجن ثلاثمائة زنزانة وبالدور الأرضي توجد دورتان للمياه كما توجد عدة مكاتب – وسجن (4) الذي يشغله الإخوان أيضًا هو علي نسق السجن الكبير وصورة مصغرة منه . وأما فتح الساعة السابعة فهو لتقديم طعام الإفطار ، وقد نسيت ما كانوا يقدمونه لنا في الإفطار ولكن الذي أذكره أنهم كانوا يقدمون لنا الشاي في أقدام من الألمنيوم القذر ، وإني أذكر هذا الشاي دون غيره لأنني لم أكن أشربه لا لأنه في إناء قذر وإنما لأنني أقاطع الشاي من قبل أن أدخل السجن الحربي بسنين طويلة لأسباب ذكرتها في الجزء الأول من هذه المذكرات . وأما فتح الساعة الواحدة بعد الظهر فلتقديم طعام الغداء ، ويتكون عادة من رغيف وحلاوة طحينية وتكاد تكون الحلاوة الطحينية هي أحسن ما كان يقدم لنا من طعام – وفتح الساعة الخامسة مساءً كان لتقديم وجبة العشاء وهي عادة عدس أو خضار مطبوخ مع رغيف وأرز وقطعة من اللحم .
وعلي العموم فإن الطعام الذي كان يقدم لنا كان هو نفسه الذي كان يقدم للجنود مع ملاحظة أن الجنود هم الذين كانوا يتولون طهي الطعام وتقسيمه وتوزيعه فكانوا بطبيعة الحال يؤثرون أنفسهم علينا مستبيحين ذلك نحو قوم يرون في اضطهادهم زلفى إلي رؤسائهم وسادتهم .. وقد رأوا بأعينهم رؤسائهم وسادتهم يرغمون هؤلاء المعتقلين علي أكل الطعام ممزوجًا بالتراب ، ولا يجد هؤلاء المعتقلين خونة للوطن وسفاكو للدماء . وقد علمنا بعد أن ألقي بنا في غياهب السجن الحربي الذين يختارون للعمل بالسجن الحربي يختارون عادة من المشهود لهم بالغلظة والفظاظة والقسوة والجهل ، مع المقدرة علي كيل السباب وبذاءة اللسان . ويميزون علي زملائهم الذين لم يصلحوا للعمل بالسجن الحربي بعلاوة يمنحونها تسمي علاوة الإجرام . وطعام العشاء – والمفروض أنه الوجبة الرئيسية في اليوم لأنه طعام مطهو – لم يكن طهيه أكثر من إلقاء الخضار كما هو تقريبًا في ماء مغلي ولا تستطيع أن تميز أي نوع من الخضار هو ، لأنه لا طعم له .. ومع ذلك كنا نقبل عليه بشهية .
• نسمة وسط الضيق :
ولا يفوتني أن أذكر أننا عند دخولنا هذا السجن عندما استقبلونا بعواصف الإجرام ، كان هؤلاء الجنود حريصين علي سؤال كل منا علي بلده ، فلما ذكرت بلدي تقدم جندي منهم نحوي وأسر في أذني أنه " بلدياتي " أي من رشيد وأنه سيحاول الاتصال بي بطريقة غير مكشوفة .. وقد فعل ,, وكان هذا الجندي " محمود " تخفيفًا من الله عني في هذا الجحيم الملتهب .. وكثيرًا ما كان يحمل مني خطابات لأسرتي ومنها إليّ حتى نقل من السجن بعض بضعة أشهر – ولقد كان هذا الجندي معرضًا لأخطر العقوبات في مجازفته بحمل خطابات مني وإليّ . ومع ذلك فقد كان يجازف هذه المجازفة بغير مقابل .. وفي هذا دلالة واضحة علي أن أبناء هذه البلاد تنطوي جوانحهم علي مشاعر من النبل تختفي تحت ظواهر – قضت بها الظروف السيئة – تتنافي مع النبل والكرم والمروءة .
• فتح الضحى والأغنية المشئومة :
أخرت الكلام عن فتح الضحى وتكلمت عما قبله وعما بعده ، لأن فتح الضحى هذا كان له وضع خاص ، إذ كان هو الهوان الذي ما بعده من هوان ، فإن الكريم يصبر علي الجوع والعطش وعلي العرى وعلي النوم علي التراب ، ولكنه لا يصبر علي أن توجه إليه كلمات تطعن شرفه وتمتهن كرامته .. فما بالك إذا أرغم علي أن يوجه إلي نفسه بنفسه هذه الكلمات .. لقد كان فتح الضحى سحقاً لكرامتنا وتحطيمًا لنفوسنا .. لقد كان السجن أحب إلي نفوسنا من الخروج من ظلام الزنازين وقارس جوها إلي هذا الفناء المترامي الأطراف حيث الهواء النقي والشمس الساطعة والجو الدافئ المطلق الذي هو أعز أمنية يتمناها مسجون .
كنا في السجن الكبير نحوًا من ثلاثة آلاف . وربع هذا العدد كان في سجن (4) .. كانت تخرج في فتح الضحى هذه الآلاف وتصطف صفوفاً .. وتحت سياط الجلادين كان علي طائفة منا أن تنشد بأعلى صوت نشيدًا أو أغنية كانت تغنيها أم كلثوم بعد حادثة المنشية تمجيدًا لجمال عبد الناصر وتحقيرًا للإخوان المسلمين .. وعلي بقية هذه الآلاف المصطفة أن تردد فاصلة واحدة معينة بعد كل فاصلة تنشدها الطائفة الولي . وكل هذا بنغمة الأغنية ، ويظل هذا الإنشاد أكثر من ساعة وقد يصل إلي ساعتين – يتخلله تحول هذه الصفوف إلي طوابير جري سريع تحت وطأة السياط الملتهبة . وكان أشد ما يمزق قلبي أن يقع نظري في أثناء هذه الطوابير علي الأستاذ المرشد العام وهو يجري في الصف كما يجري أصغر شاب منا ، مع أن سنه في ذلك الوقت كان نيفاً وستين عامًا .. ودع عنك أمر السن ، وانظر إلي مكانة هذا الرجل الذي يجري وهو يلهث ويناديه الجلاد في أثناء الجري باسمه المجرد في استهزاء وسخرية . واستمر فتح الضحى علي هذا الأسلوب المهين المتهتك في فنون الإهانة حتى انتهت محاكمات ما سموه محكمة الشعب ونفذوا حكم الإعدام في الإخوة الأعزاء الشيخ محمد فرغلي والأستاذ عبد القادر عودة والأستاذ يوسف طلعت والأستاذ إبراهيم الطيب .
وفي هذا الصدد أنقل من كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح فقرة يتحدث فيها عن صفة حب الانتقام المتأصلة في نفس جمال عبد الناصر إلي حد شاذ جاء في صفحة 238 : " وقد حدث بعد ذلك حوادث كثيرة تثبت هذا الشذوذ لدي عبد الناصر ، فقد حدث في فترة شهر مارس 1954 أن اشترك اثنان من المحامين في المطالبة بالحريات ، وكان أولهما المغفور له عبد القادر عودة الذي انضم للمتظاهرين ترحيبًا بعودة نجيب بعد إبعاده وخطب في الجماهير ، والثاني هو أحمد حسين المحامي وكان قد أرسل برقية شديدة اللهجة إلي عبد الناصر يطالب بتحقيق الحريات . وأمر عبد الناصر باعتقالهما . وفي اليوم التالي للاعتقال طلبت عبد الناصر تليفونيًا فرد عليّ بقوله : أهلاً أحمد .. تعرف العساكر عملوا إيه بعبد القادر عودة وأحمد حسين في السجن ؟ .. فلما سألتنه عما فعلوا بهما قال : ضربوهما بالأحذية حتى كان صراخهما يسمعه جميع من في السجن . لقد كان جمال يروي لي القصة وصوته يحمل كل معاني الفرح والنشوة والسرور .
وفي مقابلة لي معه بعد ذلك عاد إلي ذكر المغفور له عبد القادر عودة فقال إنه لن يستريح حتى يسفك دمه " يسيح دمه " وفعلاً عقب حادث المنشية اعتقله عبد الناصر ضمن من اعتقل من الإخوان المسلمين ، قدمه للمحكمة العسكرية التي شكلها من أعضاء مجلس قيادته وسماها " محكمة الشعب " وأصدرت المحكمة حكمها بإعدامه .. ورغم تدخل جميع رؤساء الدول العربية لمنع تنفيذ أحكام الإعدام ، أصر عبد الناصر علي التنفيذ ونفذ حكم الإعدام " .
أما المرشد العام والأستاذ عبد العزيز عطيه فقد خفف عنهما حكم الإعدام إلي الأشغال الشاقة المؤبدة لتخطيهما سن المعاش – وسحب هؤلاء الإخوة وهم ومن حكم عليهم بأحكام مختلفة إلي السجون المدنية .. وحينئذ بذلوا في تغيير أسلوب فتح الضحى بأن جعلوه طابورًا يجمع نزلاء كل سجن في فنائه علي الجري السريع الممتزج بالإهانة اللفظية والمادية الجسدية .
• هل اجتاز عبد الناصر امتحان الأصالة أم سقط ؟
ولقد كنت أتحدث مع نفسي وأنا واقف في طابور الضحى قبل تنفيذ هذه الأحكام وأقول : إن جمال عبد الناصر قد ظفر بنا بعد المعركة التي دارت رحاها بيننا وبينه ، وها هو ذا قد أخذنا أسري تحت يده . فهل يلهم هذا الرجل ما يلهم الكرام فيسجل لنفسه مجدًا يخلده الزمن ؟
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
فلازالت الدنيا بأسرها منذ أربعة عشر قرنًا وستظل إلي الأبد تقرأ تمجيد محمد بن عبد الله حين دخل مكة منتصرًا وجئ بأعدائه الذين أخرجوه من مكة بعد أن حاولوا قتله .. جئ بهم إليه ليفعل بهم ما يشاء ، ولينتقم منهم انتقامًا يشفي صدورهم .. فقال لهم : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم .. فكان رده عليهم أن قال لهم : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " . كنت كل يوم أتحدث مع نفسي وأسائل نفسي هذا السؤال : هل يلهم هذا الرجل ما يلهم الكرام ؟ هذه فرصة ذهبية قلما تتاح للرجال ، وهي فرصة إذا أفلتت فلن تعود . إنه امتحان ينصهر في أتونة النفوس لتظهر علي حقيقتها .. فنفوس معدتها الذهب ، والذهب سيد المعادن فهو لا يخشي من معدن آخر أن يتفوق عليه فيسلبه السيادة ، فهو إذن في غير حاجة إلي إظهار تفوقه بسحقه للمعادن الأخرى ، بل إنه قد يدعوها ، ويوسع لها بجانبه .. فيكون في ذلك تجلَّ لمزاياه ، وتلألؤ لجماله ، وسطوع لرونقه ، وتوهج لبريقه يزيد الناس إعجابًا به وإقرارًا بسيادته . ونفوس معدتها الحديد فهو دائب الغيرة مما حوله من معادن ، يحاول أن يطفئ مل لمعان يبدو منها ، بل إنه يتمني لو تتاح له الفرصة ليوريها التراب ويهيل عليها من تلاله ما يحجبها عن العيون فلا يبقي أمام عيون الناس غيره .. وحينئذ يستطيع أن يدعي إنه ليس حديدًا وإنما هو الذهب .. وإذا فقدت العيون كل معدن نفيس ، لم يعد أمامها إلا أن تقنع بالحديد .
ولكن البلاد إذا اشمخرت وصـوّح نيتها رعي الهشيم
كل هذا كان حديث نفس مع إقرارها بالهزيمة . كانت تتوق إلي أن تري من انتصر عليها وعلي زملائها قد انتصر علي نفسه .. كانت تتوق بل كانت تتحاشى أن تتحول هزيمتها إلي هزيمة لهذا الشعب أمام نفس تعالت عن الخضوع للمثل العليا والمروءة ، وغلبت عليها خستها فأعمتها عن سلوك طريق الكرام الذين قدروا عفوا ، وإذا ملكوا أسجحوا .. وكان من وصية خلفاء الإسلام لقوادهم : " وألا تجهزوا علي جريح " لأن الإجهاز علي الجريح لا ينبئ إلا عن خسة نفس المجهز ولؤم طبعه ووضاعة أصله ؛ لأنه يعلم أن الجريح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، وهذه من صفات اللئام .. وقديمًا قال الشاعر المسلم :
ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وكثيرًا ما ينشب بينك وبين صديق لك من أسباب العداء ما يؤدي إلي القطيعة ، وإلي نيل كل منكما من أخيه ، ولكن حين يتدخل بينكما القضاء ، ويقضي لك علي أخيك فتظفر به ويصير في قبضتك وتشعر بأنه قد سقط في يدك .. حينئذ تنضح عليك أصالتك فتتعفف عن أن ترغم أنفه وهو ملقي بين يديك ، وبدلاً من أن تمد يدك إلي وجهه بصفعة ، تمد يدك إلي وجهه تمسح عنه التراب ، ثم تمد يدك مرة أخري تأخذ بيده لينتصب واقفاً ، وتجلسه بجانبك .. وتظفر الدموع من عيونكما تغسل قلبيكما من آثار ما دب بينكما من شقاق .. ويعتبر الذي كسب الجولة هو الذي فتح ذراعيه لعدوه القديم بعد أن انتصر عليه وأحاط به وملكته الظروف أمره .. ولكن هذا الموقف لا يقفه إلا الكرام الأصلاء وهم الأقلون ذوو القلوب الكبيرة ( ) .
كل هذه الأحاديث كانت تدور في خاطري وأقول لنفسي : لو أن بجانب هذا الرجل أناسًا مخلصين وذوى بصائر لما فاتهم أن يسدوا إليه النصيحة بأن يقتص هذه الفرصة السانحة التي إن فاتت فلن تعود ، وأن يمد يده وهو منتصر فيسجل لنفسه مجدًا خالدًا ، ويجنب البلاد أخطارًا لا يعلم مداها إلا الله . ولكن يوم أعلنوا أمامنا فخورين أحكام الإعدام بعد تنفيذها أيقنت ألا أحد حول هذا الرجل إلا جاهل أو منافق ، وأن الرجل ذاته رجل قصير النظر غلب كبره علي عقله ، والتهمت آماله دينه وخلقه .
سبكناه ونحسبه لجينـًا فأيدي الكبر عن خبث الحديد
الفصل الثاني : مـآثـم لا تـنـسي
1 – أول الآثام ابتداع أن يكون السجن مكانًا للاعتقال :
إن مجرد إيداع المعتقلين في سجن هو خروج عن العرف والقانون . فإذا كان هذا السجن سجنًا حربيًا مخصصًا لمن صدر ضده حكم في جريمة بالغة الخطورة من العسكريين فإنه اعتداء آخر علي القانون .. وكان معروفاً أن العسكري الذي كتب عليه أن يقضي مدة سجن في السجن الحربي هو إنسان كتب عليه الشقاء ؛ لأنه سيقضي مدة سجنه في جهنم العليا . ومحال أن ينسي معتقل دخل هذا السجن ما قوبل به لحظة دخوله مما أشرنا إليه من قبل – وقد يلقي باقي داخله بعد ذلك أشد مما لقي في هذه اللحظة ، ولكن الذي لقيه في هذه اللحظة لا ينسي مهما نسي ما بعدها ؛ لأن المفاجأة المذهلة ، والمفارقة المزلزلة جرحت في القلب جرحًا عميقاً غائرًا لا يندمل .
وقد يتبادر إلي الذهن أن هذا الاستقبال إن هو إلا نوع من التعذيب ، ولكن الواقع ليس كذلك ، فالتعذيب أمر شائع في كل عهود الظلام ، يطلب من الرجل الاعتراف بأمور معينة لمصلحة الحاكم ، ويكون الحاكم نفسه أو معاونوه هم الذين يتفاوضون مع هذا الرجل ، فإذا لم يعترف أمروا بضربه أو تعذيبه بمختلف ألوان التعذيب .. فيكون التعذيب حينئذ نتيجة لمقدمات مهدت النفس لما سوف ينتابها من عنت وإرهاق وإهانة ، ويشعر الذي يحيق به ذلك أنه إنما يحيق به لقاء ثمن هو استمساكه بالحق وصبره عليه .. ثم إن الذين فاوضوه وأمروا بتعذيبه هم أفراد من مستواه الاجتماعي ، أما الاستقبال فهو إهانة بغير مقدمات ، وصادرة من أدني المستويات إلي أعلي المستويات ، أدني المستويات سنًا وثقافة ومكانة في المجتمع إلي أعلاها في كل ذلك .. وقديمًا قالوا : " لو ذات سوار لطمتني ؟! " .
2 – طوابير الإهانة :
أشرت إلي هذه الطوابير التي كانت في أوائل أيامنا بالسجن الحربي ، وقد أعتبرها امتدادًا لإهانة الاستقبال . وأحب أن أزيد علي ما قلت أنني حتى بعد أن انتهت مدة اعتقالي وخرجت إلي الحياة كنت لا أطيق أن تطرق سمعي هذه الأغنية اللعينة لأم كلثوم .. إنها كانت تشعل في صدري نارًا ، لأنها كانت تذكرني بالإهانة التي لحقت بنا في الأيام السوداء التي أومأت إليها .
3 – طوابير الإرهاب :
لقد كانوا في كل يوم وقت الضحى يقتحمون لنا الزنازين ويأمرون بالنزول في أسرع جري إلي فناء السجن حيث نصطف طوابير ، ولفظاعة ما كان ينتابنا في هذه الطوابير من إرهاب وإجرام كنا نخرج من زنازيننا ولا نعرف هل نعود إليها أحياء أو لا نعود حيث نضرب بالرصاص وندفن في سفح الجبل . إنني لا أزال أذكر أننا بعد أن نستمر ساعة علي الأقل في جري مستمر تحت وابل من السياط التي لا تبالي علي أي جزء من أجسامنا تقع ، نؤمر بالوقوف في ثبات كثبات التماثيل ثم يوجه إلينا كلام فحواه أننا لم يعد لنا قيمة ، وأن الأوامر صدرت باستئصالنا من الوجود ، وأن علينا أن نزل في هذه الوقفة حتى تأتي إلي هذا القائد (وهو باشجاويش) الأوامر بما يفعله فينا , ونظل في هذه الوقفة ونحن نتوقع أن نضرب بالنار من خلفنا أو من أن يأتينا الموت من كل مكان .
لقد كنت في هذه الوقفة أتذكر وقفة يوم القيامة , لقد جعلتني هذه الوقفة أقدر فظاعة وقفة يوم القيامة حق التقدير ، وأقدر كيف أن الناس من شدة الموقف يتمنون أن يصرفوا ولو إلي جهنم ، وهنا كنا نتمنى أن ينهوا حياتنا مرة واحدة فينقذونا من هذا الانتظار الذي هو أشد ألف مرة من الموت ، لقد حببت إلينا الطوابير الإرهابية الموت ، بل إنه صار لنا أمنية من أعظم أمانينا . كنت في تلك الأثناء في سن تناهز الأربعين أو تظل عليها ، وكان أكثر من معنا في المعتقل في أسنان تقارب هذا السن ، ولكن كان معنا عدد لا يستهان به ممن هم في سن آبائنا ممن تخطوا الستين ، ومع ذلك فإن زبانية السجن الحربي لم يكونوا يعتمدون أن يسوقوهم بالسياط فيجروا كما تجري تمامًا .. ولا أدري كيف نجا هؤلاء من الموت ، فلقد كنت أتوقع في كل طابور أن يقعوا صرعي ولكن عناية الله كانت أعظم من كيد الظالمين .. ولا أنسي بهذه المناسبة أن أذكر أن شابًا من إخوان قنا كان إذ ذاك طالبًا أزهريًا بالقسم الثانوي ويحضرني من اسمه الآن لقبه " العناني " أجريت له عملية استئصال الزائدة الدودية وجئ به بعد ثلاثة أيام فلم يرحموه من هذه الطوابير اللعينة وكان يجري معنا تحت وابل من السياط وجرحه يدمي .. ولا أدري كيف نجا هذا الشاب من الموت .
4 – مهزلة المحاكمات :
إذا أردنا الحديث عن المحاكمات في السجن الحربي فلا يمكن فصل الكلام عنها عن التعذيب ؛ لأنهما كانا ملازمين تمام التلازم ، ولا ينفصلان أبدًا ، وإذا كان تصور الفصل بينهما جائزًا في خاطر الذين كانوا يعيشون خارج السجن الحربي ولم تلق بهم المقادير يومًا داخل أسواره ، فإن الذين عاشوا داخل هذه الأسوار وكانوا يرون ما يجري فيها ، ويسمعون ما ينبعث من حجرات التحقيق من صراخ واستغاثات تفتت الأكباد ، وتقطع نياط القلوب .. هؤلاء لا يعرفون المحاكمات إلا أنها الفصل الأخير من مسرحية التفنن في انتهاك آدمية الإنسان ، والتوحش الذي انحدر إليه العاملون بهذا السجن وسادتهم حتى أتوا من الوحشية ما تعاف أن تأتيه الكلاب والذئاب . وهؤلاء الذين كانوا يعيشون معًا في زنزانة واحدة مغلقة عليهم .. فيأتي ناعق اليوم ويفتح الباب في هدأة الليل فيهبوا من نومهم واقفين ، فينادي علي أحدهم فيتقدم إليه وهو صحيح معافى فيأخذه ويغلق الباب ويمضي به .. وفي غسق الفجر يفتح الباب مرة أخري فيهبون من نومهم واقفين مذعورين فإذا بصاحبهم الذي خرج ماشيًا علي قدميه أتي به محمولاً علي نقالة والدماء تنزف من كل مكان من جسمه وهو فاقد الوعي ، ولا يدري أين هو ولا من هم الذين حوله .
ولن أثير موضوع جيران هؤلاء الذين يعيشون في الزنزانة المجاورة ، والذين أخذ واحد منهم بنفس الأسلوب وفي نفس الوقت من الليل ، ثم جاء الفجر ولم يجيئوا به ،و طلع النهار وأقبل الليل التالي وتوالت الأيام ولم يجيئوا به .. ثم أعلنوا أنه هرب من السجن .. وهم يعلمون وكل مكن دخل السجن الحربي في أيامنا يعلم أن الهروب من السجن الحربي نوع من المحال بل هو المحال نفسه .. فلهؤلاء قضية أخري لن يحكم فيها إلا الزمن .
قصدت من هذا الذي ذكرت أن أوضح أن محاكمات السجن الحربي لم يكن التعذيب منفصلاً عنها بل كان جزءًا منها وهي جزء منه .. وأنا لازلت أعجب من قوة في بلادنا هذه إذا أرادوا أن يستشهدوا علي ما ارتكب الإنسان من ظلم ، وعلي تجريد الذين قدموا للمحاكمة من حق الدفاع عن أنفسهم ومن ضمانات العدالة ، استشهدوا بمحاكم التفتيش التي جرت في القرون الوسطى بأوروبا ، مع أن محاكم التفتيش هذه لم تعد في ميزان الظلم في حق الإنسان شيئًا يذكر بجانب محاكمات السجن الحربي عامي 1954 ، 1955 .. ولكنني مع ذلك ألتمس عذرًا لهؤلاء الذين لم يزالوا يستشهدون بمحاكم التفتيش " فمحاكم التفتيش مع ما كان فيها من مآثم فإنها كانت محاكمات علنية سجلها التاريخ بل سجل كل ما فيها كما سجل أحكامها . لقد أبقت محاكم التفتيش علي بعض ضمانات لم تبق عليها محاكم السجن الحربي .. أبقت محاكم التفتيش علي العلانية وعلي إعلان مكان المحاكمة وزمانها ، فكان الذي سيحاكم يعلن بمكان المحاكمة وزمانه كما كان يعلن ذلك لغيره من الناس .. أما محاكم السجن الحربي فإنها لم تبق علي شيء ، جعلت المحاكمة سرية ، فالمتهم لا يعلم أنه سيحاكم إلا قبل موعد المحاكمة بساعات ، كما جعلت مكان المحاكمة وزمنها سرًا لا يعرفه لا الذي سيحاكم ولا أهله ولا أي أحد داخل البلاد ولا خارجها . ثم إنها جعلت الدفاع محرمًا كما جعلت إصدار حكمها علي المتهم سرًا .. كأنما يحس هذا الحاكم وزبانيته الذين جعلهم قضاة أنهم لا يجرون محاكمة بل يدبرون مؤامرة ،ويأتون أمرًا إدا . وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم : " الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " .
ولكن الناس حتى يومنا هذا لازال أكثرهم يجهلون حقيقة ما كان يجري في هذا السجن بالرغم مما كتب في هذا الشأن من كتب ؛ لأن المسيطرين علي وسائل الإعلام في بلادنا لازالوا يعملون جاهدين علي ستر مآثم ذلك العهد وحجب حقيقته .. ولا أدري ما الذي يدفعهم إلي ذلك ، فإن كانوا من الضالعين في هذه المآثم فقد تابوا وإن كانوا برءاء من هذه المآثم فماذا يضيرهم من كشف النقاب عن الحقيقة .. ومهما يكن من أمر فإن الأيام كفيلة بإماطة اللثام عما يريد إخفاؤه .
ومهما يكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفي علي الناس تعلم
5 – التعذيب علي نغمات أم كلثوم :
ومن تغالي المشرفين علي هذا السجن في التهتك أنهم كانوا يبدأوا عمليات التعذيب الذي يسمونه التحقيق بعد عشاء كل يوم ، وكنا نعرف أنهم بدأوه حين كانت تنطلق ميكروفونات السجن بأعلى صوتها الذي كان يصم الآذان بأغاني أم كلثوم ، وتظل علي هذا الضجيج حتى الفجر . والناس الذين يمرون بجانب السجن الحربي أو الذين يسكنون قريبًا منه ، معذورون حين يسمعون هذه الأغاني تذاع أن يحسنوا الظن بإدارة السجن ويعتقدوا أنهم من الرحماء الذين يريدون أن يخففوا عن السجناء مرارة السجن فلجأوا إلي إذاعة هذه الأغاني ترفيهًا عنهم وشفقة بهم . وما علم هؤلاء أن هذا الذي يسمعون إن هو إلا تمويه ليستروا في ضجيجه صراخ من يسامون ألوان العذاب .. وهي حيلة شيطانية ماكرة ، وأسلوب فاجر مبتكر ، ونسيان تام لوجود إله يسمع ويري . ويجدر بي في هذا السياق أن أسجل ظاهرة عجيبة طيلة فترة التحقيقات ، تلك هي ما كان الله تعالي يلقيه عليّ من النوم الذي لا أستطيع مغالبته في كل ليلة بعد انطلاق المكبرات فلا أكاد أسمع منها نصف ساعة حتى أكون مستغرقا في نوم عميق لا أستيقظ منه إلا حين تفتح الزنازين علينا قبل الفجر .. وكلما تذكرت هذه الظاهرة تعجبت لرائع صنع الله وسابغ فضله عليّ .. فأنا الذي كنت لا أستطيع أن أنام إلا في هدوء وفي أمان ، أنام في مكان النوم في غابة الذئاب والنمور والضباع والثعابين مما حولي لا يحدث .. هذا فضل من الله عليّ لا أنساه .. ولولا هذا الفضل لا أقول لتحطمت أعصابي بل أقول لفقدت أعصابي ولفقدت نفسي .
6 – لجنة حقوق الإنسان :
في كل يوم كان يرسل إلي قاعة المحكمة – التي لا يعرف مكانها أحد حتى المتهمين – عدد يتراوح بين العشرة والعشرين ممن تم التحقيق معهم بالأسلوب الذي أشرنا إليه . وكانت المحكمة السرية تحكم عليهم جميعًا بأحكام تتراوح بين خمسة أعوام وخمسة وعشرين عامًا ، حتى إنه في يوم من الأيام تقابلت في دورة المياه – وكانت الفرصة الوحيد للمقابلة – مع الأخ الأستاذ محمود عبده ، وكان إذ ذاك ناظر مدرسة ثانوية ومن الإخوان الذي أبلوا بلاءً حسنًا في حرب فلسطين سنة 1948 – فقال لي : تصور يا فلان أن الأحكام التي أصدرتها هذه المحكمة ضد الإخوان بلغت حتى الآن كذا ألف عام ( ولا أذكر الآن عدد الآلاف الذي قاله ) – قال : إن هؤلاء الناس لا يعلمون أن العالم ينظر إلي هذه الأحكام باعتبارها مقياسًا لمدى استقرار الحكم فكلما زاد عددها نقصت ثقة الدول في الحكومة التي أصدرتها .
وبالرغم من الحجاب الحديدي الذي كان يعيش الإخوان في السجن الحربي من ورائه والرقابة الصارمة حتى علي أنفاسهم ، فإن الإخوان استطاعوا أن يتصلوا ممن يعيشون خلف الأسوار من الإخوان المستخفين .. وعن طريق هذا الاتصال استطاع إخوان السجن أن يعرفوا أن إخوانهم في الخارج أرسلوا إلي هيئة الأمم المتحدة وإلي لجنة حقوق الإنسان بها برقية يشرحون فيها عمليات التعذيب الذي يقع الإخوان فريسة لها في السجن الحربي ، والمحاكمات السرية التي تعقد لمحاكمتها ، فاستجابت لجنة حقوق الإنسان وقررت إرسال مندوب عنها إلي القاهرة . وقد طلب هذا المندوب من الحكومة المصرية أن يحدد له يوم يحضر فيه المحاكمة ، واضطرت الحكومة أن تحدد له اليوم .. وقد أمكن تبليغ اليوم المحدد إلي الإخوان في السجن الحربي .
• الخطوات المتبعة في المحاكمات :
وكانت الخطوات المتبعة في المحاكمات هي :
أولاً : يسحب المطلوب محاكمته من زنزانته سرًا بعد العشاء ويقاد إلي المكاتب .
ثانيًا : يكون المحققون قد كتبوا محضرًا كاملاً للتحقيق مع هذا الشخص قبل حضوره بما فيه من أسئلة وأجوبة كما يريدون .
ثالثًا : يقدم الأخ المطلوب إلي المحقق الذي يجلس بجانبه قائد السجن الحربي وضباط المخابرات وضابط علي الأقل من رجال جمال عبد الناصر الشخصيين – ويقرأ المحقق علي الأخ التهمة المطلوب اعترافه بها فينفيها الأخ لعدم معرفته بها ولا بالأشخاص الواردة أسماؤهم فيها .
رابعًا : يأمر الزبانية عساكر التعذيب بخلع ملابس الأخ عن جسمه فيفعلون .
خامسًا : يبدأ بضربه بالكرابيج علي جميع أجزاء جسمه وهو طبعًا يصرخ ويستغيث .
سادسًا : يؤمر بإيقاف الضرب ويطلب منه الاعتراف بالتهمة فيقول لهم كيف أعترف بشيء لم يحصل ولا علاقة لي به .
سابعًا : يؤمر بمعاودة تعذيبه فتستعمل طرق أخري من التعذيب غير الضرب ؛ لأن جسمه لم يعد فيه سنتيمتر واحد خال من آثار الكرابيج – فنستعمل وسائل أخري كالإحراق بأعقاب السجائر والكي بالنار في أماكن متباينة وحساسة من جسمه – أو يعلق منكسًا مع ضربه في هذا الوضع – أو يضرب مرة أخري حتى يلتهب جسمه كله وينزف من جميع أجزائه ثم يلقي وهو في هذا الالتهاب في زنزانة مجهزة تجهيزًا خاصًا ومملوءة بالماء المثلج بحيث يغمر الشخص حتى رقبته – أو يلجأ إلي أحط الوسائل بإحضار زوجته أو بناته وأخواته وتهديده بهتك أعراضهن أمامه أو وسائل أخري لا تقل انحطاطًا ووحشية عن هذه الوسائل .
وهكذا يجرب معه من هذه الوسائل حتى يضطر إلي التوقيع علي المحضر الذي عرضوه عليه من أول الأمر إنقاذًا لحياته وعرضه .
ثامنًا : تضمد جراحه النازفة ، ويلقي به في زنزانته .. حتى إذا توقف النزف واستطاع المشي علي قدميه ، اعتبروه صالحًا للتقديم إلي المحكمة .
تاسعًا : ينادي عليه وعلي زملائه الذين مروا بكل ما مر به . وتكون المناداة ليلاً ، فيقابلهم قائد السجن الحربي أو من ينيبه ممن هم علي شاكلته ، ويخبرهم بأنهم سيذهبون غدًا إلي المحكمة في الصباح ، ويحذرهم من أن يذكر أحد منهم شيئًا مما هو متهم به أو أن يشكو أي نوع من التعذيب وإلا عادوا إلي تعذيب أشد .
عاشرًا : يذهب بهذه المجموعة إلي المحكمة التي لا يعرفون مكانها ولا زمانها ولا أشخاصها ، فيجدون أنفسهم أمام حجرة داخل ثكنات الجيش ليس فيها أحد مطلقاً إلا ثلاثة ضباط ممن يسمون الضباط الأحرار ، فيشعر هؤلاء المتهمون أنهم – بوقوفهم أمام هؤلاء – لم يخرجوا عن حدود السجن الحربي ، وأن هؤلاء ليسوا إلا فصلاً من المسرحية المجرمة الهازلة – ويسأل رئيس المحكمة الهازلة كل واحد من المتهمين : أهذا توقيعك ؟ فيقول :نعم فيحكم عليه مما طلب إليه الحكم به . ثم يرجعون إلي زنازينهم بالسجن الحربي كما كانوا .
هذه خطوات المحاكمة – فلما علم الإخوان بالسجن الحربي باليوم الذي سيحضر فيه مندوب الأمم المتحدة جلسة المحاكمة أخبروا الإخوان الذين سيقدمون إلي المحاكمة في ذلك اليوم بهذا النبأ وطلبوا إليهم أن يكشفوا للمحكمة أمام الحاضرين فيها عن شيء من آثار التعذيب في أجسامهم . ودعي هؤلاء الإخوان فعلاً للذهاب إلي المحكمة حيث وجدوا – علي غير المعتاد – أشخاصًا حاضرين منهم مندوب الأمم المتحدة . ونودي علي أول المتهمين فسأله رئيس المحكمة كالمعتاد :
هل هذا توقيعك ؟
قال : نعم ولكنني لم أرتكب التهمة المكتوبة .
قال : فلم إذن وقعت عليها ؟
قال : سأريك لماذا وقعت عليها .. وخلع ملابسه التي كشفت عن ظهره فرأي جميع الحاضرين ظهره مشرحًا بطريقة مثيرة .. وقال لهم إن هذا الأثر هو أثر تعذيب مضي عليه الآن خمسة أشهر .
فتنبه " القاضي " إلي الترتيب الذي وضعه الإخوان في غفلة من " آلهتهم " الذين ظنوا أنه قد أحاطوا بكل شيء علمًا . فأوقف المحاكمة مدعيًا تأجيلها لتحقيق ما زعمه المتهمون من التعذيب . وأمر برجوع هؤلاء المتهمين إلي المعتقل .
• أنا القانون :
وفي مساء ذلك اليوم حين أرخي الليل سدوله ، فتحت الزنازين كلها فجأة وعلي غير المعتاد وبطريقة هستيرية . وصدر أمر في مكبر الصوت بخروج المعتقلين جميعًا من زنازينهم والوقوف أمامها في الطرقة من السور الحديدي الذي أمامها ، فخرجنا وهالنا ما رأينا .. رأينا حول السارية العالية التي تتوسط فناء السجن نارًا تتأجج وقد علا لهيبها حتى كان أعلي من سقف الدور الثالث في السجن ، وحولها عساكر السجن يمدونها بقطع ضخمة من جذوع الأشجار لتزداد تأججا – فأحسسنا بأن شرًا مستطيرًا يقترب منا وأننا علي وشك خطر داهم .. ورأينا بجانب السارية قائد السجن حمزة البسيوني بشاربه المتهدل الذي تصل ذؤابته إلي ما تحت ذقنه ، ويشعر رأسه المشعث ، وكرباجه تحت إبطه .. ورأينا أمام حمزة البسيوني طابورًا من المعتقلين – هم الذين كانوا يحاكمون صباح هذا اليوم .. ثم انطلق حمزة يقول بصوت المغضب الحانق المتغطرس :
اسمعوا .. إن كنتم تريدون القانون فأنا القانون .. انظروا إلي هؤلاء الكلاب (أشار إلي الطابور الذي أمامه) لقد ظنوا أنه يستطيعون أن يشكوني .. ولكن هيهات .. لقد رجعوا إليّ وها هم أولاء في قبضتي وتحت قدمي وسأسحقهم حتى لا يفكر أحد منكم أن يتجرأ ويفعل مثلما فعلوا .
• أنا أحيي وأميت :
ثم أخذ يتوعد بألفاظ وعبارات لم يفه بأخطر منها قارون ، ولكنها تشبه ما قاله النمرود لإبراهيم حين كان يحاجه إذ قال " أنا أحيي وأميت " .. والنمرود كان ملكًا لا معقب لحكمه كما زين له غروره ، ولكن هذا الحمزة البسيوني كان إذ ذاك " مقدمًا " يرأسه من الضباط العقداء فالعمداء فالألوية فالفرقاء فالمشير ، هذا في قطاع الجيش ، ثم هناك رياسات أخري في أبنية الدولة الأخرى .. فإذا وصل الغرور بمثل هذا الصعلوك إلي حد ادعاء ما استأثر الخالق جل وعلا به لنفسه من خصائص الإحياء والإماتة ، فإنه يكون بذلك قد جاوز غروره غرور النمرود . أما ادعاؤه أنه هو القانون ، فهذه قضية لم تكن موضع خلاف بيننا وبينه ، فإننا كنا نعلم علم اليقين أن لا قانون في البلاد منذ تمكن جمال عبد الناصر من السلطة . ومعني عدم وجود قانون في البلاد هو أن يدعي كل من بيده أي قدر من السلطة أنه هو القانون .. وإذا أردت توضيحًا لهذا المعني يصل بك إلي لبه ، فإن القانون في هذه الحالة يكون هو الأهواء .
وإذا كان النمرود ملكًا ادعي الخصائص الإلوهية ، فإن هذا الصعلوك ادعي خصائص الإلوهية في الوقت ال1ذي اتخذ له إلهًا من البشر هو جمال عبد الناصر .. ولقد كنا نعجب أشد العجب لهؤلاء الناس .. كيف يظنون بأنفسهم هذا الظن وهم يعلمون أنهم سوف يموتون ؟
• أربعمائة كرباج :
وبعد أن هدد توعد وأفاض في تأليه نفسه ناسيًا خالقه وبارئه ، قرر تأديب هؤلاء الإخوة الكرام . فدعا بأولهم فتقدم إليه ، فأمر بربطه في السارية . فربطوه ربطًا قاسيًا وكان ظهره عاريًا . ثم قرر بصوت جهوري هز السجن بمن فيه أنه صرف له أربعمائة كرباج ومعذرة في استعارتي هذا اللفظ " صرف " فإنه كان هو الاصطلاح المعمول به في السجن الحربي – كما أنه قرر – شفاءٌ لنفسه – أنه سيقوم هو بنفسه بضربه . واستل المغرور الكرباج من تحت إبطه ، واعتدل منتفخًا ، وأخذ يضرب الأخ بكل ما أوتي من عزم وقوة .. وقد سألت دموعنا من هول الضرب الذي لا يعرف الرحمة . ولكن كانت مفاجأة .
المفاجأة هي أن المغرور قبل أن يوفي علي المائة الأولي رأيناه قد انهار ، وكاد يسقط السوط من يده ، في حين أن الأخ الكريم لم يصدر منه ما يشعرنا ولا يشعر من حوله من الزبانية بالألم فلا صراخ ولا استغاثة ولا حتى مجرد تأوه . بل ثبات وصمت .. وكل الذي سمعناه في هذه اللحظة قول المغرور له : يا ابن الكلب (بمد الكاف للتعجب الشديد) كل ده وأنت لا تحس دا أنا فرهدت . وأعطي المغرور السوط لأمين – وأمين هذا هو الآدمي الذي وكلت إليه الآلهة المغرورة تدريب المعتقلين تدريب الإذلال والإهانة ولإشراف علي التنكيل بهم داخل السجن الكبير ، كما كانت مهمته تنفيذ ما تقرره هذه الآلهة من وسائل التعذيب لمن يحقق معهم في المكاتب . وهو شاب نحيل لا يجاوز الثلاثين ورتبته باشجاويش بأربعة أشرطة علي ذراعه . وأمين هذا شخصية وإن كانت ضئيلة القدر إلا أنها تستحق مع ذلك أن نتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله .. وتسلم أمين السوط واستأنف ما انهار دونه سيده ، ولكنه بدا عليه علائم الانهيار وهو في أواسط المائة الثانية .
ولقد رأيت بنفس آثار التعذيب في ظهر أحد\ ال1ذين كشفوا ظهورهم في المحكمة ، فقد استطاع الأخ أن يتسلل إلي زنزانتنا ، وكشف لنا عن ظهره فرأينا آثار الضرب في ظهره بعد خمسة أشهر من شفائه ، ومع ذلك فلازالت آثار السياط متلاصقة زرقاء . ومع أن مندوب لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة رأي بعينه آثار التعذيب الوحشي .. فماذا فعل ؟ إنه لم يفعل شيئًا .. وهذه اللجان ما هي إلا أسماء سماها رؤساء أمريكا والدول الكبرى ليضحكوا بها علي الناس ويوهموهم بوجود شيء هو في الحقيقة غير موجود . ومما يذكر أن جمال عبد الناصر اعتبر حضور مندوب الأمم المتحدة المحاكمات اعتداء علي كرامته وتدخلاً في شئونه الداخلية فلم يستطع منعه من الحضور ولكنه أراد أن يعاقب أمريكا فأعدم اثنين من اليهود .
7 – ضرب الأخ محمد مؤمن :
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فلنعرض هنا لأخ كريم كان إذ ذاك في مقتبل شبابه . وقد هاله ما يلقاه كرام الإخوان علي يد هذه الوحوش الآدمية التي تسمي العساكر .. رأي الأخ محمد مؤمن وهو من إخوان دمياط منظرًا حز في نفسه ، ولذع كبده .. وكثر تكرر هذا المنظر أمامه فهانت عليه الحياة ، وأسر في نفسه أن يمنع تكرار هذا المنظر أو يموت دونه . والمنظر المثير يتلخص في أن يأمر العساكر أن يصفع الإخوان بعضهم وجوه بعض وبطريقة قاسية وإلا أذاقهم هؤلاء العساكر ألوان العذاب . وطوي الأخ محمد جوانحه علي هذا العزم . وطرأ طارئ جديد زاد نار هذا العزم اشتعالاً ، ذلك أن إدارة السجن منعت الماء عن الإخوان ، واتخذت من الإجراءات التعسفية ما يكاد يصل إلي حد منعهم من قضاء حاجتهم في دورة المياه .
وفي خلال هذه المأساة استطاع أحد الإخوان وهو الأخ حسن عبد الفتاح من إخوان كرداسة وأحد زملاء الأخ محمد مؤمن في الزنزانة أن يحصل علي قليل من الماء ، وبينما هو في دورة المياه ضبطه أحد العساكر فأخذ منه الماء ،وأخرج زملائه في الزنزانة وأمرهم بصفعه علي وجهه . وتصادف أن كان الأخ محمد مؤمن هو أول الصف ، فامتنع عن تنفيذ الأمر .. فهجم عليه العسكري ليصفعه ويضربه كالمعتاد ، فقاومه الأخ محمد مقاومة شديدة انتهت بوقوع العسكري علي الأرض .. وكان في نية الأخ محمد أن يقتل العسكري دفاعًا عن كرامة الإنسانية أو حتى الآدمية ، ولكن الإخوان حالوا بينه وبين العسكري .. فما كان من العساكر الآخرين إلا أن اجتمعوا علي الأخ محمد لينتقموا منه ، فجاءوا به إلي السارية وأرادوا أن يربطوه إليها بحبل فرفض الأخ محمد وقال لهم إنني سأحتضن السارية دون حبل واضربوني كما تشاءون .
واحتضن الأخ محمد مؤمن السارية ،وجاء كل عسكري بكل ما يضرب به من كرابيج وقطع من الخشب وعصي ،وظلوا يضربونه حتى تعبوا جميعًا .. فألقوا ما بأيديهم متعجبين ذاهلين .. والذي أذهلهم وأدخل اليأس في نفوسهم هو أن الأخ محمد مع كل هذا الضرب القاتل لم يتأوه ولم ينبس ببنت شفة وهو أمر لا عهد لهم به .. بل إننا نحن الإخوان كنا في دهشة من هذا الصبر العجيب .. حتى إننا سألنا الأخ محمد بعد ذلك كيف استطاع أن يصبر علي هذا الضرب المميت دون أن يصرخ أو يتأوه ؟ فقال : إن الذي أقدم علي ما أقدم عليه وهو ينتظر الموت ، فإذا جاء ما هو دون الموت فإنه لا يكاد يحس له بألم . واعتقد هؤلاء العساكر – بسذاجتهم – أن الأخ محمد وليّ من أولياء الله ، ولهذا لم يحس بألم الضرب واعتقدوا أنهم إذا لم يعتذروا إليه ، ويطلبوا منه الصفح عنهم فسيصيبهم شر الأخوين الدكتور أحمد الملط والدكتور كامل سليم فضمدا له جروحه .
8 – قانون الحرمان :
سميت هذا البند بقانون الحرمان ؛ لأن القائمين علي إدارة السجن الحربي – بوحي من سادتهم – قرروا حرمان المعتقلين بهذا السجن من كل الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها المسجونون حتى المحكوم عليهم بالإعدام :
أولاً : نصيب الحيوان الناطق من المكانة للإقامة :
من المعروف أن الزنزانة في السجون المصرية لا يزيد عدد نزلائها علي ثلاثة أفراد . علمًا بأن نزلاء السجون هم عادة من المجرمين والعوام .. أما نزلاء السجن الحربي في خلال تلك الفترة فكانوا من أعلي طبقة في الشعب ثقافة وعلمًا ومكانة اجتماعية ومع ذلك فإن المسئولين استباحوا أن يحشروا في كل زنزانة عددًا وصل إلي ثمانية أفراد . وظل هؤلاء الثمانية في الزنزانة مغلقة عليهم أكثر من عام . نعم كان العدد في أول الأمر أقل من هذا ، ثم وصل إلي هذا الرقم ثم نقص ثم عاد نقص ثم عاد ثم استمر علي ذلك أكثر من عام . وتفسيرًا لذلك أقول : إن الأفواج كانت تأتي تباعًا فيكثر العدد ، ثم يطلب إلي المحاكمة بعض أفراد ويحاكمون ويحكم عليهم فينتقلون إلي السجون المدنية كسجن مصر وسجن طره وغيرهما فيقل العدد ، ثم تأتي أفواج أخري فيرتفع العدد مرة أخري . ثم يحاكم آخرون وينقلون إلي السجون المدنية فيقل العدد ثم .
• الدرك الأسفل : حين قال تعالي : (• • ) فهمنا أن في النار دروكًا كلها سافلة وأن هذا الدرك الذي فيه المنافقون هو أسفلها جميعًا .. وقياسًا علي ذلك نقول : إن أساليب جمال عبد الناصر التي عامل بها الإخوان كلها أساليب سافلة ولكن أسفل أسلوب اتبعه هو الأسلوب الذي يأتي بعد كلمة " ثم " التي انهينا بها الفقرة الماضية ، وهو ما تكمل به الفقرة السابقة فنقول :
ثم تأتي أفواج أكثرهم ليسوا من الإخوان ، وإنما هم قوم هزتهم المروءة حين رأوا أبناء المعتقلين يتضورون جوعًا وعريًا فمدوا إليهم يد المساعدة .. فاعتبرت الحكومة حكومة الثورة ذلك جريمة يعتقل صاحبها ويعذب ويحاكم ويحكم عليه عشر سنوات . وننقل في هذا الصدد فقرة من كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح في صفحة 238 يقول : " ولعل المثل الصارخ علي حب جمال عبد الناصر للانتقام وشذوذ مزاجه في التنكيل بخصومه ، وهو الإجراء الشاذ الذي اتبعه مع أسر المعتقلين من الإخوان المسلمين ، ذلك أنه حرم علي أي إنسان أن يمد يد المعونة إلي هذه الأسر . ولما كان الإخوان المسلمون من الطبقات الشعبية التي لا تملك رأس مال مدخر ، فقد حدث اعتقالهم وانقطاع المال عن أسرهم مصائب لا حصر لها . فأخذت الشفقة بعض المصريين الذين راحوا يتبرعون ببضع دراهم لهذه الآلاف من الأسر التي نكبت إما الإعدام أو سجن أو اعتقال عائليها ،ونكبت بانقطاع المال عنها . فلم يرق هذا التبرع لعبد الناصر فأمر بتصيد كل من تسول له نفسه مساعدة أية أسرة من أسر المعتقلين من الإخوان .
وفعلاً استطاع أعوانه من رجال المخابرات إلقاء القبض عليهم – وقد لا يصدق القارئ أن هؤلاء الناس قد قدموا لمحاكمات عسكرية سرية دون حضور محامين أو شهود أو ممثلي الصحافة وصدرت ضدهم جميعًا أحكام تتفاوت بين الأشغال الشاقة المؤبدة والسجن مع الشغل خمس سنوات – والأعجب من ذلك أن تصدر هذه المحاكم أحكامها بمصادرة المبالغ المضبوطة مع هؤلاء وينص الحكم علي أن المصادرة " لصالح الشعب " .
ثم نرجع بعد ذلك إلي السياق فنقول : فلما جاءت هذه الأفواج من الناس أهل المروءة ضاقت بهم الزنازين فأسرعوا في محاكمتهم ونقلهم إلي السجون المدنية . فاستقرت الزنازين بعدهم علي هذا العدد . ولقد كان وجود هذا العدد في الزنزانة الواحدة هو وحده تعذيبًا ومأساة . ففي الزنزانة ثمانية أفراد معهم بطاطينهم ومتاعهم وجردل الماء وجردل البول وثمانية قباقيب وثماني قلل ، ثم إنهم يتناولون الطعام ثلاث مرات في اليوم داخل الزنزانة .
• جيوش البق :
ولن أتعرض لأثار هذا الوضع الشاذ علي الصحة ولكني سأعرض علي القارئ شيئًا بلوته بنفسي : في خلال هذه الفترة ، وفي أواخر السنة التي استقر هذا الوضع عليها ، فتحت حقيبة ملابسي وكانت حقيبة كبيرة من الجلد وأخرجت الملابس منها ، وبدأت لأول مرة أنظر فيها فهالني ما رأيت . رأيت أسرابًا من البق تجري هنا وهناك في جوانبها ، فتعجبت لكثرتها وأخذت أتصيدها في قطعة من الورق حتى اصطدت منها عدة مئات ، ولكن بعضها كان سريع الجري بحيث يسبق أصابعي ورأيته يدخل تحت الكرتون الذي يبطن الحقيبة من الداخل . فتتبعت الأفراد التي اختفت تحت البطانة ، واضطررت إلي أن أفصل حروف البطانة التي كانت ملصقة بجدر الحقيبة ، فذهلت لما رأيت . رأيت البطانة شبه مفصولة عن الجلد وقد رصت رصًا تامًا بالبق – فاضطررت إلي نزع البطانة كلها حيث قتلت ما يزيد علي بضعة آلاف من البق غير الذي هرب دون أن أدركه ، واضطررت إلي أن ألقي بالبطانة بعيدًا . و ظلت الحقيبة بغير بطانة حتى أفرج عني .. ولازلت أحتفظ بهذه الحقيبة بهذه الحالة ذكرى لهذه الأوضاع الشائنة التي كنا نعيشها .
ولا يفوتني هنا أن أقول : إن وجود هذا الازدحام داخل الزنزانة كان وحده كافيا – إذا كان نزلاؤها من غير الإخوان المسلمين – أن يثير المتاعب بين هؤلاء النزلاء بعضهم وبعض ، وأن يخلق مشاكل لا نهاية لها ، بل قد يؤدي إلي جرائم .. لكن هذا الازدحام مع ما فيه من مضايقات تفوق كل تصور ، لم يثر في الإخوان إلا أسمي المعاني وأنبل العواطف . فلقد أنشأت هذه الزنازين تعارفًا بين إخوة لم يكونوا متعارفين من قبل ، وأوجدت تعاونًا علي البر والتقوى ، فكانت مجالاً لتلاوة القرآن الكريم وحفظه ، وكانت فرصة انتهزها الإخوان للاستزادة من العلم ، فالمتعلم علّم الأمي ، والحاصل علي الشهادة الجامعية أخذ بيد المبتدئ الذي استطاع بعد الإفراج عنه أن يحصل علي شهادات أعلي مما كان بيده – وكان بعض الوقت يقضي في مناقشات علمية وأدبية نافعة .
ثانيًا : حق المراسلة والزيارة :
وأعني بذلك حق المعتقل في الاتصال بأهله بأن يزوروه ويراسلوه – وهذا حق مقرر في جميع سجون الدنيا وفي سجون مصر . ولكن إدارة السجن الحربي بوحي من سادتهم حرموا المعتقلين من هذا الحق فمنعوا زيارة أهليهم لهم كما منعوا المراسلة فيما بينهم وبين أهليهم .. وفي هذا من التعنت والإرهاق النفسي ما فيه ، ولكن هذا الحرمان لم يتعب الإخوان كما يتعب غيرهم ؛ لأن كل واحد كان يشعر وهو بين إخوانه أنه بين أهله وذويه . كما أنهم بفضل ما يستمتعون به من ثقة في الله وإيمان به كانوا مطمئنين علي أهليهم ؛ لأنهم قد نزعوا من بينهم وتركوهم وديعة في يد الكريم الرحمن .
ثالثًا : منع الطرود :
وكان هذا النوع من الحرمان هو أقسي أنواع الحرمان .. وقد يحجب القارئ حين أعد منع الطرود أقسي أنواع الحرمان ويقول في نفسه : لابد أن المعتقلين كانوا مترفين ، إذ يعدون حرمانهم من الطرود بهذا القدر من القسوة .. ظنًا من القارئ أن الطرود إنما تطلب لما فيها من ألوان الطعام والحلوى .. وهذا الظن في محله إذ اعتاد الأهلون أن تكون الطرود التي يرسلونها لذويهم في السجون لونًا من ألوان الترفيه . ولكن الطرود التي منعوها في السجن الحربي لم تكن طرودًا من هذا النوع المألوف وإنما هي طرود تحتوي علي ما يطلبه المعتقل من أهله أو ما يرسلونه إليه من ضروريات الحياة ، فهي طرود لا تحتوي عادة إلا علي الملابس الداخلية والبيجامات والبلوفرات التي يستعان بها علي تحمل برد الشتاء .
• بيجامتي بها ستة وثلاثون رقعة :
ولم يكن أحد حتى ذلك العهد يتصور أو يخطر بباله أن يعتقل إنسان ليمكث في الاعتقال أكثر من بضعة أشهر . ولذا فإن أحدًا من المعتقلين لم يصحب معه يوم اعتقل أكثر من غيارين .. ولكن الموكول إليهم أمر التنكيل بعباد الله وقد رأوا كل معتقل يبادل بين هذين الغيارين يغسل هذا ويلبس الآخر .. زين لهم الشيطان أن يحولوا بين المعتقلين وبين أن تصلهم الملابس من أهليهم ، فلا يكون لهم إلا هذان الغياران .. وتطول المدة فيهلك الغياران ، فلا يجدون منهما بديلاً فيرقعونهما .. ثم يستعرضونهم بهذه الملابس المرقعة فتهنأ بذلك نفوسهم ، وتشفي من الغل صدورهم ، ويضحكون منهم ملء أشداقهم ، ويطلبون من سادتهم الحضور لمشاهدة هذا المنظر المضحك المبكي ، فنسخوا كفهم لهم من مال الدولة بالعطاء ، ويجزلون لهم الجزاء ، لقاء ما ابتكروا من أساليب الإهانة والسخرية والتنكيل .
وكان لهم ما أرادوا ، فجاء الوقت بعد أن طال الزمن ، حيث هلكت الملابس ، وأعطي من كان عنده فضل من الملابس إخوانه المحتاجين .. ولكن لم يثبت أمام طول الوقت وقذارة المكان ، وشدة الحر ، وكثرة الجري ، وغزارة العرق .. فتهلهلت الملابس . وكنت تري كرام الناس من الإخوة الفضلاء ذوى المكانة العالية في المجتمع المصري والعربي العلمي والأدبي والمادي تراهم يلبسون أسمالاً بالية ، تناثرت فيها الرقع من كل شكل وكل لون . ولازلت أحتفظ حتى الآن ببجامة كنت أرتديها وبها ست وثلاثون رقعة .. ومع ذلك كانت تعد من أسلم ما يلبسه الإخوان من البجامات .. ولا أنسي أن أشيد بمجهود إخواننا الخياطين في عملية الترقيع التي كانت إسعافاً لا غني عنه لكل أخ في هذا المعتقل . وهلكت كذلك البلوفرات الصوف وتهلهلت ، وهي مما لا يصلح معها الترقيع ، ولكنها كانت ترتق من كل ناحية حتى لم تعد صالحة للرتق ، ولما كان الإخوان حريصين علي أن ينتفعوا بكل شيء ؛ لأنهم يعلمون أن لن يعوض فلم يلقوا بهذه البلوفرات كما كان منتظرًا ، بل تخصص عدد منهم في فك خيوطها ونسجوا منها بأيديهم الماهرة طاقيات رائعة تضاهي أحسن ما يعرض من طرازاتها في السوق ، حتى إن بعض المشرفين علي إدارة المعتقل كلفوا هؤلاء الإخوة بصنع عدد منها لهم . ولازال عندي إلي اليوم طاقية من هذا الطراز صُنعت لي في خلال هذه الفترة .
• مسنا وأهلنا الضر :
ولقد تجسم لي معني التعبير القرآني الدقيق في قوله تعالي : ( ) فكنت كلما نظرت إلي خواني في هذه الملابس المهلهلة والرقع المتصلة رأيت هيأتي في هيأتهم ، ومنظري في منظرهم فيهتف في نفسي القول الكريم : ( ) . إن إخواننا في السجون يلبسون ملابس السجون وهي ملابس علي كل حال سليمة ليس بها خدش واحد ، تستر أجسامهم .. ولكن هنا .. كثيرًا ما كانت في أثناء الجري في الطوابير تتهتك بعض الرقع فيظهر من تحتها جسم بعض الإخوان فيكاد هؤلاء الإخوة يبكون ونكاد نحن الذين رأينا أجسامهم تنكشف تظفر دموعنا بل كثيرًا ما طفرت . كان الإخوة الذين تصدر عليهم أحكام من المحاكم السرية ، وينادي عليهم ليرحلوا إلي السجون المدنية ، كنا نهنئهم ،وكانوا يتقبلون هذا الترحيل بفرحة ويعدونه إفراجًا ؛ لأنهم سيذهبون إلي سجون تحكمها قوانين ، وكانوا يتركون لنا ملابسهم المهلهلة لعلها تعيننا في ترقيع ملابسنا بقطع منها .
رابعًا : منع الحلاقة وإزالة الشعر :
كان أمرًا مألوفاً أن تجرد إدارات السجون المسجونين من الأمواس والآلات الحادة ، خوفاً عليهم من أن يستعملوها في ذبح أنفسهم للتخلص من الحياة . فإذا عاملونا هذه المعاملة فلا تثريب عليهم . وقد فعلوا .. ولكن الدافع لهم لم يكن الخوف منها علي حياتنا ؛ لأنهم يعلمون أننا معتصمون بإيمان تتزلزل دونه الجبال .. أما الدافع الحقيقي لهم فهو نفس الدافع الذي يدفعهم إلي كل إجراء يتخذونه حيالنا ، وهو الإهانة والإيذاء والتنكيل بصور مختلفة يتبارون في ابتكارها تزلفاً إلي سادتهم ، وتقربًا إلي من يعتقدون أن بيده مفاتيح الخير فمن تقرب إليه ضمن الخير الذي لا ينفذ ولا يزول . إن إدارات السجون تفعل وتأمر في نفس الوقت الحلاقين التابعين لها بقص شعر المسجونين وحلق ذقونهم ، ولكن السادة المشرفين علي السجن الحربي سلبونا الأمواس وأمروا الحلاقين بحلق رءوسنا وترك لحانا لتستطيل وتتشعب وتتشعث كل تشعث حيث لا أمشاط ولا حتى ماء لتنظيفها .. واستطالت لحانا بطريقة غير مهذبة وغير نظيفة وصارت في مناظر منفرة .. وكان يلذ لهم بين يوم وآخر أن يستعرضونا في زنازيننا ليمتعوا أنظارهم بثمار غرس أيديهم من وسائل الإهانة . وأذكر بهذه المناسبة أننا في يوم من هذه الأيام نودي علينا بالوقوف " انتباه " في الزنازين ؛ لأن لجنة من كبار المسئولين سيمرون علينا , ووقفنا وفتحت الزنازين ومرت اللجنة ولما مروا بزنزانتنا تقدم كبيرهم يستعرضنا فردًا فردا ثم تقدم نحوي وقال : ألا تعرفني ؟ فقلت : لا ، قال : ألست محمود عبد الحليم ؟ قلت : بلي . قال : ألم تكن طالباً بالمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية ؟ قلت : بلي . قال : أنا حسن طلعت الذي كنت أجلس بجانبك في السنة الثالثة بالمدرسة .. فرحبت به ثم انصرف مع اللجنة لإتمام مروره علي بقية الزنازين .
وقد فهمت من هذه الواقعة أن تشويه هيئتنا باللحى القذرة المشعثة ليس الأمر به صادرًا من المشرفين المحليين ، بل هو صادر من السادة الكبار .. وإلا لكان مثل حسن طلعت أن يتصرف نحوي تصرفاً يخفف من هذا المنظر الشاذ ، ولو بالإذن لي بفرصة أغسل فيها هذه اللحية بالماء والصابون ، وقد كان هذا يحتاج إلي نحو عشر دقائق علي الأقل حتى أزيل ما تحمله هذه اللحية من قذارة ودهون وبقايا طعام . ولما وصلت اللحى إلي طول لا تكاد تطول بعده ، نودي علينا بالنزول إلي فناء السجن ثبات ثبات ، نجلس علي الأرض ، ثم ينادي علي كل فرد منا ليقف أمام كاميرا تلتقط له صورة بهذه اللحية .. وقد سمعت أحد ضباط المباحث المشرفين علي تصويرنا يقول : إن هذه الصور أخذناها لكم بلحاكم حتى إذا هرب واحد منكم وهام علي وجهه ، وأراد أن يغير من منظره بترك لحيته ، فسنعرفه من هذه الصورة التي نأخذها لكم الآن .. وقد قلت في نفسي حين سمعت ذلك : يا عجبًا .. إن هؤلاء الناس اعتقدوا أننا وضعنا في أيديهم ولا مفر لنا منهم إلا إليهم ألم يقرأوا قول الله تعالي : ( ) وليتهم قرأوا قول الشاعر :
تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضـي منها وما يتـوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع
خامسًا : جمع المصاحف :
فاتني أن أذكر أننا كنا محرومين من أول يوم في هذا السجن من الكتب .. ولم يبق مع المعتقلين بعد ذلك إلا مصاحفهم ، التي كانت خير مؤنس لهم ومعلم وهاد ، وخير ملجأ يلجأون إليه حين تدلهم الخطوب ، وما أكثرهم ما تدلهم داخل أسوار هذا السجن الرهيب .. وقد استطاع الإخوان أن يجنوا ثمرات طيبة من وجود المصاحف الكريمة معهم ، فقد تفقهوا وأحسنوا التلاوة وحفظوا ، ولقد من الله تعالي عليّ في هذه الفترة فحفظت القرآن كله . ويجدر بي في هذا الصدد أن مداومة الإخوان علي مصاحفهم تلاوة وحفظًا وتفقهًا مع طول المدة قد أوهن من تماسك أوراقها ، كما أدي إلي بلي أغلقتها ، فتفصصت المصاحف وكادت تتبدد أوراقها .. وفي نفس الوقت كانت حقائب بعض الإخوان المصنوعة من الكرتون أو الفبر قد أصابها بطول الأمد أيضًا مع الاستعمال اليومي ومع الاحتكاك بالأرض الأسفلت والحوائط الخشنة حيث هي الوعاء الوحيد لمتاعنا ، أصابها البلى كذلك – فقام إخواننا الذين مهنتهم التجليد والطباعة ، وأخذوا علي عاتقهم إصلاح المصاحف ، فكانوا يعيدون خياطة أوراقها ، ويصنعون لها من كرتون الحقائب البالية وفبرها أغلفة ، حتى إنها صارت أشد تماسكًا مما كنت عليه ، كما صارت أجمل شكلاً . ولازال عندي مصحفي الذي كان معي في تلك الأيام وأجري عليه هؤلاء الإخوة الكرام هذا الإصلاح شاهدًا علي تضامن الإخوان وبراعتهم .
أحس السادة المسئولون الذين يرفع إليهم المشرفون علي إدارة السجن كل ما يحدث بالسجن حتى الهمسات ، أحسوا بحقد حين علموا أن الإخوان يجدون في الكتاب الكريم سلوى من كل ما يلقون من عنت وظلم وإهانة فقرروا حرماننا من الأنيس الوحيد . وجاء ناعق اليوم ينادي في ساحة السجن : جاء أمر بسحب المصاحف من المعتقلين .. وعلي كل معتقل أن يسلم مصحفه لإدارة السجن – ومن يعثر معه بعد ذلك علي مصحف سيقدم للتحقيق .. وما أدراك ما التحقيق . وجمعت المصاحف .. وكان هذا الإجراء أشد إجراءات الحرمان التي اتبعت إيلامًا لنفوسنا .. وكان الواحد منا وهو يسلم مصحفه ويرجع كأنما وتر أهله وفقد كل أحبابه ورجع وحيدًا لا أنيس له ولا جليس ولا معين يعينه علي نوائب الزمن . ولم يبق للإخوان إلا ما يحفظون من هذا الكتاب . فصار كل يستعيد ما يحفظه ، ويحاول أن يتصل بأخ يكون أوثق حفظًا ليراجع عليه ما يحفظ .. وكان هذا متعذرًا لندرة الفرص التي يتلاقي فيها الإخوان .. وعلي العموم فقد كانت هذه الفترة هي أشد الفترات وأشقها علينا ، وقد كنا نحس خلالها بأننا أصبحنا يتامى نستحق الرثاء والمواساة .
سادسًا : منع العلاج :
كان بالسجن الحربي كسائر السجون طبيب معهود إليه بالإشراف علي علاج المرضي من نزلاء هذا السجن كما كان بالسجن الحربي بناء منعزل من دور واحد يسمي " الشفخانة " وهي كلمة تركية معناها بالعربية المستشفي . وبالرغم مما عليه هذه الشفخانة من تواضع في حجراتها ووسائل الراحة بها فإنها كانت تعد متعة وترفهًا حين تقاس بزنازين السجن الحربي . وكانت هذه الشفخانة في أكثر الوقت الذي قضيناه بالسجن الحربي شبه محرمة علي الإخوان مهما اشتد به المرض ؛ لأنها كانت معدة لذوي الخطوة لدي حكام البلاد ، فكان يقيم فيها أفراد من اليهود الذين كانوا يظهرون نحونا – حين يرون ما نسامه من ألوان العذاب – شعورًا من الإشفاق والله أعلم بالسرائر . كما أن العلاج كان محرمًا علي من يمرض من الإخوان ، ومحظور علي طبيب السجن أن يمد أي مريض منهم بدواء ، في الوقت الذي حظروا فيه ورود أدوية علي حساب المرضي من خارج السجن ؛ لأن الطرود ممنوعة .
وهذا أسلوب لا يقف عند حد الإذلال والتنكيل ، إنما يتعدي ذلك إلي تأديته بهذه الجموع الغفيرة من المعتقلين إلي الموت ، وحينئذ لا يقال إن المشرفين علي السجن قتلوهم بل يقال إنهم مرضوا فماتوا شأن كل إنسان . ولقد لمست يد الله تمتد إلينا حين انقطعت بنا جميع الوسائل ، فالمريض الذي أثخنه المرض ، ويعجز الطب في الحياة الحرة الطليقة عن علاجه ، تمتد إليه هذه اليد الكريمة القادرة وتمسح علي موضع الألم فيصبح معافى سليمًا . كأنما نشط من عقال دون طبيب ولا علاج ولا دواء ، اللهم إلا ما يلجأ إليه إخواننا الأطباء المعتقلون معنا من أسلوب الطمأنة والدعوة إلي الصبر والتهوين من شأن المرض ،وهو ما لا يملكون سواه . أما الإخوان ذوو الأمراض المزمنة من أمثالي ، حيث كانت نوبات الربو قبل دخولي المعتقل تنتابني طيلة الشتاء وعند انتقال الفصول ، ولا أفيق منها إلا بدواء منفث معين كان لا يبرح منزلي طيلة أيام السنة .. أما هؤلاء تولاهم السجن لم يمسسني ضر هذا المرض المزمن قط .
فإذا أضفت إلي أنواع الحرمان هذه التي ألمحت إليها الحرمان من الأمن والحرمان من الغذاء تصورت أن الهدف الذي كان يرمي إليه جمال عبد الناصر وأعوانه إنما هو القضاء علي هذه الجموع باعتبارها حملة الفكرة الإسلامية ، فإذا قضي عليهم قضي علي هذه الفكرة واستراحوا منها إلي الأبد . ولقد كانت هذه الخطة قمينة أن تؤدي إلي ما هدفوا إلي لولا أن التحدي كان موجهًا هذه المرة إلي الله صاحب الفكرة التي آمن بها هؤلاء الناس وعاهدوا علي الدفاع عنها .
الفصل الثالث : طغيـان الأقـزام
لم يقتصر الطغيان علي جمال عبد الناصر باعتباره قد احتل الموقع الذي قاتل صاحبه من قبل وإنما سرت روح الطغيان منه إلي كل من هم تحته تلبست بأصغر جندي من جنوده . وسنعرض في هذا الفصل لونًا من طغيان قزم من الأقزام بلغ به الطغيان أن نسي نفسه وظن أنه مارد اخترق بقدميه الأرض وتطح برأسه السماء .
• الحبس الانفرادي وبدائع صنع الله :
في أحد أيام هذه الفترة العصيبة نعق ناعق البوم بأن تفتح الزنازين ويصطف المعتقلون وقوفاً بداخلها ؛ لأن القائد – قائد السجن الحربي – سيمر ، وفتحت الزنازين وامتثلنا للأمر ، وأخذ حمزة البسيوني ومعه كلبه الذي قد يبلغ ارتفاعه قامة الرجل والذي يعتبره حمزة البسيوني أشرس وسائل التعذيب حين يطلقه علي معتقل لينهش لحمه ، وهو يكاد لضخامته أن يكون في قوة الأسد وبطشه . ومر الرجل . ولا أدري كما لم يكن أحد يدري لماذا كان يمر ، ولا نزال حتى هذه اللحظة لا ندري لم كان يمر .. ذلك أن مروره هذا قد أسفر عن شيء عجيب لا يفهم له معني ، ولا يدرك له مغزى ،ولا يقوم علي أية قاعدة .
أما الذي يخصني في هذا الشيء العجيب أنه حين مر علي زنزانتنا وهي في الدور الثالث من السجن ، وكنا في الزنزانة ثمانية أفراد .. فإنه نظر في وجوهنا ثم أشار إليّ فتقدمت إليه ، فأمر أحد الجنود الذين معه بمصاحبتي إلي فناء السجن حيث وجت ستة من الإخوان لا أذكر منهم إلا أخًا واحدًا هو الدكتور مصطفي عبد الله .. وكان الدكتور مصطفي عبد الله إذ ذاك إما أنه بالمعاش وإما أنه كان قد شارفه . وكان آخر منصب له قبلا الاعتقال مفتش صحة محافظة القليوبية . وكانت لي صلة قيمة بالدكتور مصطفي ترجع إلي الفترة ما بين عامي 1937 ، 1939 حيث كنت لا أزال طالبًا وكنت أقضي أكثر إجازة الصيف في ربوع محافظة البحيرة لنشر الدعوة ولجمع الأسلحة لمجاهدي فلسطين . وكان الدكتور مصطفي في ذلك الوقت مفتش صحة مركز كفر الدوار ، وكان من الإخوان العاملين بشعبة كفر الدوار وكان ممن لا يدخرون شيئًا دون دعوتهم ، ولذا فإن كان من أوائل من اختيروا أعضاء للهيئة التأسيسية عند تكوينها ، وظل الرجل علي ولائه وتفانيه للدعوة دون صخب ولا جعجعة ؛ لأنه كان يعتبر أن المسلم لكي يكون بارًا بإسلامه يجب أن يكون جنديًا في دعوة الإخوان المسلمين .. والرجل في ذاته تقي صالح ورع ممن قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لو لم يطع الله لم يعصه " .
وخصصت لنا سبع زنازين متجاورة في أحد أضلاع الدور الثاني من السجن أخليت من سكانها حيث وزعوا علي عدد آخر من الزنازين ، حشروا فيها حشرًا مع من تزخر بهم من سكانها الأصليين . وأذهل كل واحد منا – نحن السبعة – زنزانة وحدة أغلقت عليه . وليس بالزنزانة إلا بطانيتان رقيقتان وجردل الماء وجردل البول . لم توجه إلينا تهم ، ولم نؤخذ بذنب ولا جريرة . مع ذلك كان لابد لنا من الامتثال لأوامر من يعتبر نفسه إلهًا في هذا السجن . وقد فهمنا أنه قرر لنا سبعة أيام في هذا السجن الانفرادي .. وفي حالتنا هذه بلغ الفجور بهذا الرجل حدًا لا يعبر عنه إلا بأنه تحد مباشر لذات الله سبحانه وتعالي ، ذلك أنه لم يكتف بحبسنا حبسًا انفراديًا بغير جرم ولا مبرر، بل إنه اختار أضعفنا جسمًا ، وأكبرنا سنًا ،وأقربنا إلي الشيخوخة ، وأمر أن يوضع معه في الزنزانة كلبه المتوحش ، وكان هذا الأخ هو الدكتور مصطفي عبد الله .. وكان معني هذا الأمر الفاجر إلا يصبح الصباح علي الدكتور مصطفي عبد الله إلا وقد فتك به ، ومزق إربًا إربا .. وما كنا نملك له ولا لأنفسنا شيئًا .
واختير لحراستنا حارس يبدو أن الذي اختاره ليس هو ذلك الفاجر ؛ لأنه كان الحارس الوحيد الذي كنا نلمس في تصرفاته معنا الأدب والرحمة وقد نسيت اسمه ولابد أن بعض من زاملونا في خلال تلك الفترة في هذا السجن من الإخوان يذكر اسمه . وقضينا الليلة الأولي ونحن أقرب ما يكون من الله حيث كان التجرد كاملاً .. ولم أكن في تلك الليلة مشغولاً بنفسي وإنما كنت مشغولاً بالدكتور مصطفي عبد الله ذلك الشيخ الضعيف الذي حكم عليه بأن يعيش مع الكلب الكاسر في زنزانة مغلقة وكنت أتذكر في تلك الليلة قول الشاعر :
من جاور الشر لم يأمن عواقبه كيف الحياة مع الحيّات في سفط
وكان قلبي يهلع كلما تذكرت في أثناء تلك الليلة كيف أتلقي في الصباح حين يفتح الحارس الزنزانة ليلقي إليّ بلقيمات الإفطار نبأ وفاة الدكتور مصطفي ممزقاً كل ممزق .. وأصبح الصباح ، وفتح الحارس باب زنزانتي ليقدم لب اللقيمات فابتدرته سائلاً عما إذا كان قد فتح زنزانة الدكتور مصطفي فأجابني بالإيجاب ، وفهمت منه أنه لازال علي قيد الحياة .. فتعجبت وقلت : لعل الكلب لازال شبعان ، ولكنه بعد انقضاء يوم وليلة لابد أنه سيجوع ، وإذا جاع كلب كهذا دون أن يقدم له طعام فلن يجد غذاءً له إلا لحم الإنسان المكلف بشئوننا . وأحب في هذه المناسبة أن أقرر حالة شعورية كانت مستحوذة علينا – نحن نزلاء هذا السجن في تلك الأيام – تلك هي أن استقبال الموت كان من الأمور المتوقعة في كل لحظة ، ثم إنه من الأمور العادية بل أكاد أكون أصْرَح فأقول إنه كان من الأمور المحببة ؛ لأننا وجدنا أنفسنا قد وضعنا في أيدي قوم متخلين عن الدين والخلق والإنسانية والحياء ، غير مقيدين بعرف ولا أدب ولا قانون . ولا فرق في ذلك بين أكبرهم رئيس الجمهورية وبين أصغرهم وهو جندي الحراسة في هذا السجن .. ولذا فقد كان كل منا يتوقع الموت في كل لحظة ، ولكنه يجهل الطريقة التي يزهقون بها روحه .
وقضينا الليلة الثانية في الحبس الانفرادي . وفي الصباح فتح باب الزنزانة وجاء الحارس ليلقي إليّ بلقيمات الإفطار ، وهممت أن أسأله عن الدكتور مصطفي ولكنه بادرني بقول : ألا تعرف ما حدث للدكتور مصطفي ؟
قال : لقد كنا جميعًا متوقعين أن يصرعه الكلب ، وينهش لحمه وعظمه . ولذا كان همي طول الليل أن أنظر إليه من ثقب الباب بين لحظة وأخري .
قلت : فماذا رأيت ؟
قال الحارس : لقد رأيت عجبًا .. لعلك لا تعلم أن الباشا (قائد السجن الحربي هكذا كان يلقبونه) كان قد أمر بألا نقدم طعامًا للكلب طول الأسبوع .. فلما أدخلت للدكتور طعام العشاء أمس ثم نظرت من ثقب الباب فرأيت الكلب جاثيًا أمام الباب ووجهه نحو الباب ، لا يتحرك كأنه يحرس الزنزانة من داخلها .. ورأيت الدكتور يقدم الطعام للكب والكلب لا يقربه ، والدكتور يكلم الكلب كأنه إنسان ، ويعزم عليه أن يأكل والكلب يرفض – ويأكل الدكتور ثم يقدم للكلب بقية الطعام فيأكله الكلب .. ويقدم له الماء فلا يمد فمه في الجردل ، وينتظر حتى يتوضأ الدكتور فيلحس الكلب الماء الذي وقع في أثناء الوضوء علي الأرض . ويقضي الدكتور الليل يصلي والكلب جاثم أمام الباب يحرسه .. والدكتور حين يغلبه النوم فيضع جنبه أنظر فأري الكلب في حالة تحفظ نحو الباب ، كالحارس الذي يخشي أن يقتحم عدو الباب علي صاحبه وهو نائم .. وكنت أري الدكتور في بعض الأوقات يكلم الكلب كأنه إنسان ، ويضع يده علي ظهره فينيخ الكلب ويبسط أقدامه بجانب الدكتور كأنه ولده الصغير .
• ملاحظة :
( ما ذكرته هنا علي لسان الحارس ليست هي ألفاظه التي حدثني بها ؛ لأنه رجل أمي ولكنني عبرت عنها بألفاظ عربية وعبارات عربية فصحى ) وما من شك في ن الذي أدهش هذا الحارس قمين أنم يدهش كل إنسان .. ولكن لا يلبث صاحب القرآن أن يجد فيه ما يرد هذا الأمر المثير للدهشة إلي قواعد قررها في قوله : ( ) وقوله : ( ) وقوله : ( • ) .
وجاء الحارس بعد انتهاء الليلة الثالثة ليقول لنا : إن الباشا (قائد السجن) سألني عما كان من شأن الدكتور مصطفي فأخبرته بما رأيت فاغتاظ ثم أمر بإنهاء الحبس الانفرادي لكم . وقد يعجب القارئ حين يعلم أن هذا الفاجر بعد أن رأي كيف رد الله كيده في نحره ، وكيف تحطمت وحشيته الدنيئة علي صخرة إيمان رجل ضعيف لا يملك إلا الإيمان .. كيف لا يفيق من غفلته ، ويفئ إلي رشده ، وينحني ساجدًا أمام عظمة الله وقدرته ، ويكفر بمن دونه من المخلوقين ؟ .
وقد تكون إجابة هذا السؤال التعجبي في قوله تعالي : ( ) وفي قوله تعالي : ( • • • • ) وفي قوله تعالي : ( • • • ) .
وإلي الذين فتنهم العلم المادي وبهر عيونهم بما حقق من تقدم ومخترعات وازدهار ، فوقفوا عند حدوده وظنوا أنها آخر الحدود ، وأن ليس وراءها شيء ، فإذا قيل لهم إن وراءها أشياء لا شيء واحد قالوا ، هي خرافات .. إليهم نسوق هذه الواقعة التي عشناها وعاشها معنا آلاف علي أنها ثقب في الجار المادي الذي حجب عنهم ما وراءه ، لعلهم ينظرون منه فيرون أنهم ليسوا علي شيء وأن عالمهم المادي بكل ما فيه ليس إلا ذرة من بحر علم الله ومحيط قدرته ، وأعيد هنا ما أردده دائمًا وما كان يكثر من ترديده إمامنا حسن البنا من تائبة ابن الفارض حيث يقول :
ولا شك ممن طيشته طروسـه بحيث استقلت عقلـه واستبـدت
فإن وراء العقل علمًا يجل عن مدارك غايـات العقول السليمـة
ثم أرجع إلي السياق فأقول : وكان خروجنا من السجن الانفرادي لي زنازيننا كما يفرح المسجون بالإفراج عند رجوعه إلي أهله . وقبل أن أصل في هذه الواقعة إلي نهاية الحديث عنها أحب أن ألفت النظر إلي القدرة الإلهية لا تتدخل في شئون البشر إلا بالقدر الضروري الذي لا غني عنه ، حتى تدع للسنن الكونية أن تأخذ مجراها في حياة الناس .. فهذا الكلب الذي وقف حارسًا للدكتور مصطفي هو نفسه الذي سلطه صاحبه علي بعض من حقق معهم من الإخوان فنهشهم .. فإذا سأل سائل لم هذا الاختلاف في سلوك الكلب بين الحالتين ؟ فنقول إن هذا الاختلاف في سلوك الكلب لم يكن لأن من حقق معهم كانوا أضعف إيمانًا من الدكتور مصطفي ولا أقل إخلاصًا ، وإنما السبب أن الذين كان يجري معهم التحقيق كانت لا تزال أمامهم فرصة ( ) فالاعتراف بما هو مطلوب أن يعترفوا به ينجيهم من فتك الكلب بهم .. أما الدكتور مصطفي فكان في وضع انقطعت فيه كل الأسباب فهو مجرد من كلا سلاح والكلب معه والباب مغلق من خارجه عليهما ، فكان تدخل القدرة الإلهية ضروريًا لا غني عنه .
ويشبه هذا الموقف إبراهيم عليه السلام حين قالوا : ( ) ويشبه موقف يوسف وامرأة العزيز وهو غلام مشتري بالمال ليس له حق التصرف حتى في نفسه وليس أمامه طريق للهروب من بيت يعتبر هو فيه من متاع البيت ، وقد استطاعت امرأة العزيز أن تنال تأييدًا من مؤتمر النسوة اللائي كن يلمنها فقالت : ( • ) حينئذ بعد أن سدت أمامه جميع السبل لجأ إلي السبيل الآخر حين قال : ( ) وهنا كان تدخل القدرة الإلهية ضروريًا لا غني عنه ( ) وينبغي التنبيه إلي أن المشكلة المستعصية التي كان يعانيها يوسف عليه السلام لم تكن أن يلقي به في السجن أو لا يلقي ، وإنما كانت المشكلة أنه وضع وسط فتنة لا يمكن مقاومتها ولا يمكنه الهرب منها ، فكان صرف كيدهن عنه بالسجن هو الحل الوحيد .
• التكدير والتنكيل بالكرام :
لست أدري علي أية قاعدة قانونية أو عرفية أو عقلية بني هؤلاء العسكريون تصرفهم المسمي " بالتكدير " .. ونظرتهم في ذلك أنه إذا أخطأ فرد ينتمي إلي جماعة أخذوا الجماعة بجريرة الفرد ، حتى بعد أن يستوفي جزاء جريرته . والسجن الكبير الذي كنا نزلاءه يضم نحو ثلاثمائة زنزانة ، والزنزانة وحدة مستقلة ومعزولة عولاً كاملاً عن بقية الزنازين بفضل الإغلاق المستمر ، والتعليمات الصارمة التي كانت تعتبر اتصال فرد من زنزانة بفرد من زنزانة أخري جريمة يعاقب عليها باعتبارها تآمرًا علي الدولة وإعدادًا لقلب نظام الحكم ، وتهديدًا خطيرًا للأمن العام .. مع أن هذا الفرد وزنزانته والسجن كله معزولا عزلا تامًا عن المجتمع المصري وحده بل عن العالم كله . هذا السجن بنزلاته المقاربين الثلاثة آلاف كانوا يعاقبون جميعًا إذا ما بدو من فرد واحد منهم ما يعتبره السادة المشرفون علي السجن خطأ – ولست بصدد مناقشة هذا التصرف الذي اعتبروه خطأ وجريمة هل هو حقاً جريمة أم أنه مجرد الحصول علي أدني حقوق الإنسان ، من محاولة دخول دورة المياه في حالة مغص شديد ، أو ملء قلة بالماء لإسعاف مريض أو ما شابه ذلك .. لست بصدد هذه المناقشة وسأفترض أن الذي بدر من الفرد جريمة ، فما ذنب ثلاثة آلاف لم يرتكبوا الجريمة ولم يشتركوا فيها ، ولم يعلموا بها ؟ لم يحشد هؤلاء الآلاف في صعيد واحد ، ويعاقبون عقابًا تهدر فيه كرامتهم ، وتؤذي أجسامهم ؟ . ألم يقل خالق الخلق ( ) كما أن القوانين علي اختلاف نزعاتها لم تخرج عن القاعدة التي قررها خالق الخلق ؛ لأنها هي العدالة وهي ما لا يقول العقل بغيره .
ولقد كانت حياتنا في هذا السجن سلسلة من حلقات التكدير ، لا نكاد نلخص من تكدير حتى يبدأ تكدير .. وناهيك بمجتمع من ثلاثة آلاف هل يمكن أن تمر أيام دون أن يرتكب فرد منهم جريمة ؟ باعتبار الجريمة عندهم من مخالفة أهواء صعاليك جهال موكول إليهم الإشراف علي أرقي مجتمع لا أقول في مصر بل في العالم كله . وإذا كنت قد تحدثت في سياق ما قدمت عن ألوان من التنكيل التي تناولوا بها المجتمع الإخواني ، فإني أخص بالذكر الآن لونًا معينًا من التنكيل بالكرام كبار السن والمقام الذين تواضع الناس علي احترامهم وتوقيرهم .
الأخ الحاج حامد الطحان ، رجل من كرام الناس ، مرموق في المجتمع ، بسط الله تعالي له في الرزق ، فبسط كفه في الإنفاق علي كل ذي حاجة وعلي الدعوة الإسلامية .. لا أقول لا يتخلف عن سد ثغرة بل إنه سباق إلي البذل فوقته وجهده وماله لله .. لا أنسي أنني زرته في بلدته " كفر بولين " مركز كوم حمادة في عام 1937 وكنت إذ ذاك لا أزال طالبًا في كلية الزراعة ، فسألته بسذاجة عن مقر شعبة الإخوان المسلمين في كفر بولين ، فأخذني إلي مبني مكون من ست عشرة غرفة وقال لي : هل يعجبك هذا المبني ليكون مقرًا للشعبة ؟ .. وقال لي : إننا جميعًا هنا رجالاً ونساءً وأطفالاً من الإخوان المسلمين ، وبيوتنا كلها دور للدعوة وكلنا ملك لها . وأذكر أنني في أواخر الثلاثينات بعد أن فتحنا شعبًا كثيرة في محافظة البحيرة اقترحت علي الأستاذ الإمام أن يزور شعب الإخوان في المحافظة . وكانت البحيرة في ذلك الوقت من أعسر بلاد القطر مواصلات ، فإذا بالحاج حامد يأتي بسيارته ويقضي بها أكثر من أسبوعين يسوقها بنفسه مع أن عنده أكثر من سائق ، لكنه كان حريصًا أولاً علي أن يغير وجهه في سبيل الله ، وثانيًا علي أن يكون بجانب الأستاذ الإمام ليفديه بنفسه عند الخطر ، وثالثًا لتتسع لراكب آخر من الإخوان يأخذ مكان السائق .
والحديث عن الحاج حامد وعن كرمه ونبله يطول ويتشعب . وخلاصة القول فيه أنه كان عثمان هذه الدعوة . لم يستطيعوا أن يلفقوا للرجل تهمة يأخذونه بها فاعتقلوه ، وجري عليه ما جري علي إخوانه من المعتقلين مما أشرنا إلي طرف منه من التنكيل العام والإهانات العامة – ولكنهم لم يكتفوا بذلك فأرادوا أن يخصوه بتنكيل يشفي غلهم ويرضي حقد قلوبهم ، فرأينا الرجل الفاجر (حمزة البسيوني) الذي طوق فضل الحاج حامد جيده وجيد أسرته يأمر به أن يحمل جردلاً ليفرغ به ماء بركة الماء التي فرجها لنا إلهنا جل شأنه – وهي باعتبارها عينًا لا تفرغ – ووكل به سفهاء السجن ليوالي العمل دون هوادة . ولو كان نزح هذه البركة أمرًا مطلوبًا إنجازه ، فإن مئات من الإخوان الشبان كانوا علي أتم استعداده لإنجازه .. ومع أن هذا النزح كما قلت من قبل لا داعي له لأن أخذ الإخوان حاجتهم من هذا الماء يجدده ، فإن كل شباب الإخوان في السجن كانوا علي استعداد أيضًا لنزحه بدلاً من أخيهم الكبير الحاج حامد .. ولكن الأمر صدر لا لإنجاز عمل وإنما لإهانة شخص معين وإذلاله وإرهاقه .
وبهذه المناسبة أذكر أن أخوين كريمين قد رضيا أن يقوما بعمل قد يأنف الكثيرون من مزاولته ، ذلك هو تنظيف دورات المياه .. وكان بالسجن الكبير هذا دورتان متقابلتان يفصلهما فناء السجن .. عهد بإحداهما إلي الأخ الكريم الشيخ منصور وهو جواهرجي من إخوان القاهرة وكانت ورشته في شارع الموسكي وعهد بالأخرى إلي الأخ الكريم حسني كوتش من كرام إخوان الإسكندرية . ولقد كان لهذين الأخوين – فضلاً عن مهمة التنظيف – أعمال جليلة في خدمة المجتمع الإخواني في هذا السجن فقد استطاعا بمهارة ولباقة يستغلا وجودهما خارج الزنازين أحسن استغلال بحكم اتصالهما بجنود السجن . فمن طريقهما كان الإخوان يعرف بعضهم أخبار بعض . وعن طريقهما أرسلت رسائل هامة إلي خارج السجن ، وعن طريقهما وردت رسائل هامة إلي الإخوان في السجن . وعن طريقهما خفف تنفيذ كثير من الأوامر الإجرامية . ويلحق بهذين الأخوين عدد آخر من الإخوان ممن يتقنون أعمال الرسم والزخرفة . كانوا يطلبون لإعداد أعمال فنية لحساب السيد القائد .. فكان خروجهم خارج الزنازين وخارج السجن الكبير يعود علي المجتمع الإخواني بمنافع مختلفة – كما أن إخواننا الطباخون الذين يشتركون مع العساكر الطباخين في إعداد الطعام هم الآخرون يقومون بدور كبير في تحسين الطعام وفي إتاحة الفرصة للاتصال بخارج السجن في بعض الأحيان – ولقد قام إخواننا الفنانون هؤلاء بإنجاز أعمال فنية رائعة استحل هذا الرجل الفاجر أن يستغل جهودهم فيها أسوأ استغلال ، وأن يزود بيته وبيت ألهته بها سجنًا دون مقابل .
• الواعـظ :
ومن أساليب التخبط والهزل التي تمخضت عنها عقولهم التافهة أنهم في خلال إقامتنا بهذا السجن أرسلوا إلينا واعظًا من وعاظ الأزهر ومن حسن الحظ أن هذا الواعظ واسمه الشيخ محمد عثمان كان رجلاً عاقلاً . فقد فهم الرجل أنه رشح لمخاطبة أعلي المستويات ، كما أنه فهم الظروف المحيطة بهذه المهمة ، فكان الرجل في حديثه في غاية الحذر . وبالرغم من شدة حذره ومحاولته تفادي مواطن الحرج ، فإن سفالة حرس السجن أوقعته في حرج كبير ، ولذا فإن أيامه لم تظل معنا ، مما يشعر بأنه استطاع أن يفلت من مهمة قد تنتهي به إلي أن يصبح هو الآخر نزيلاً معنا . فمهما كان الإنسان ثابت الجنان ، ملكًا لأزمة شعوره ، مسيطرًَا علي أعصابه .. فقد تجدُّ مواقف لا يستطيع أقوي الناس سيطرة علي نفسه إلا أن ينفجر غضبه بكلمات لا يجد من يعذره عليها من هؤلاء الأوغاد الذين يلتمسون للبرءاء العيب . ولا أنسي بهذه المناسبة موقفًا لهذا الرجل – وهو من أهل إسنا – عندما وجه الحديث إلي الأخ البكباشي معروف الحضري إجابة عن سؤال وجهه .. والبكباشي معروف الحضري ضابط له شهرة في مختلف الأوساط المصرية والعربية لمواقفه التي طيرتها وكالات الأنباء في حرب فلسطين عام 1948 – فاستعمل الرجل الكريم في الإجابة عن السؤال أسلوبًا يشعر باحترام الأخ معروف .. فما كان من الحراس السفهاء إلا أن اعترضوا علي هذا الأسلوب بطريقة مجرمة ، جعلت الرجل لا يعرف ماذا يقول وماذا يفعل وكيف يخرج من هذا المأزق .. وأذكر أن الرجل قد انقطع عنا بعد هذه الحادثة .
الفصل الرابع : دراســات
وسط هذا الجو الخانق الذي كان الإخوان يعانون وطأته في هذا السجن الذي انعدمت فيه القيم الإنسانية وديست فيه بالنعال الكرامة الأدبية ، ولم يعد لإنسان فيه عاصم يعصمه أو يحتكم إليه أو يحتمي فيه من عرف أو قانون ، وكان كل فرد فيهم مهددًا بفقد كرامته ورزقه بل وحياته في كل لحظة تنمر عليه .. وسط هذا الجو لم يفقد الإخوان ثقتهم بأنفسهم ، ولا إيمانهم بفكرتهم ، فكانوا لا يفتئون يتدارسون كل جديد يصل إليهم نبأه مما يتصل شئون أمتهم ، ناسين ما هم فيه من كروب وآلام ، وما يسامون من ظلم وعذاب . فكانت اللحظات النادرة التي تتيح للأخ منهم أن يلقي أخاه لا يستغلها في استعانة به علي تخفيف عبء عنه من أعباء الحياة القاسية التي يعيشها ، بل يستغلها في مناقشة أمر من الأمور وصل إليه نبأه ، هادفين من ذلك إلي أن يكون المجتمع الإخواني دائمًا إزاء كل جديد ، علي رأي سواء في ضوء الفكر الإسلامي . كسـر احتكـار السـلاح
جريًا علي أسلوب الطغمة الحاكمة في محاولة عزل المجتمع الإخواني عن الحياة ، كان محرمًا دخول الصحف إلي السجن ، كما كان محرمًا وجود الراديو .. إلا أننا فوجئنا في يوم من الأيام الزنازين ووجود جهاز للراديو بمكبر للصوت في فناء السجن ، وسمعنا الإذاعة المصرية لأول مرة منذ وصولنا إلي عتبة هذا السجن .. وقد توقعنا من هذا الإجراء المفاجئ أنهم يريدون أن يسمعونا خيرًا ذا بال . وكان ما توقعناه ، فسمعنا المذيع يلقي إلي المستمعين في أسلوب ينم عن الزهو والتفاخر أن الرئيس جمال عبد الناصر استطاع أن يكسر احتكار السلاح . وموضوع احتكار السلاح موضوع قديم . وكان دائمًا إحدى الدعائم الأساسية التي يقوم عليها صرح السياسة الغربية ، حيث كانت صلاتنا مقصورة علي الكتلة الغربية دون الكتلة الشرقية التي لم نكن نعترف رسميًا ، ولم نعترف بها إلا قبيل الثورة .. وكانت سياسة الدول الغربية ألا تبيعنا من السلاح إلا ما تشاء لا ما نريد حتى تضمن أن تكون في حدود معينة من القوة لا تتعداها لنظل دائمًا دائرين في فلكها .
وقبل إذاعة هذا النبأ علينا كان قد تسربت إلينا أنباء عقد مؤتمر باندونج . و قد نوقشت أنباء هذا المؤتمر علي أساس ما تصل إلينا من قصاصات من الصحف تحمل بعض أنبائه . ولم تكن صورة هذا المؤتمر واضحة في أذهاننا لأن الدول التي اشتركت فيه لم تكن تبلورت مواقف كثير منها بعد . ولكننا مع ذلك لم نحسن الظن به ؛ لأن الدول الشيوعية الكبرى كانت مشتركة فيه . وقد لاحظنا أن رئيس وزراء الصين شوايين لاي – وهو أحد دهاقين السياسة – كان محتفيًا بجمال عبد الناصر احتفاءً أحسسنا أن له مغزى ، وأن له هدفاً . وكانت الصين لا تزال بعد خليفة لروسيا ، وكانت يدها اليمني كما يقولون . ويبدو أننا كنا علي صواب في نظرتنا إلي هذا المؤتمر .. فقد تمخض هذا المؤتمر عن قرارات رائعة ، ولكنها جميعًا كانت حبرًا علي ورق مثل وثيقة حقوق الإنسان التي أصدرتها الأمم المتحدة – أما النتائج العملية المحسوسة التي أسفر عنها فكانت فتح أبواب مغلقة في وجه الشيوعية الدولية .
وجاءت خطوة كسر احتكار السلاح مفاجأة لنا وللعالم كله . وبدا بها جمال عبد الناصر بطلاً تاريخيًا حيث صار أول حاكم لمصر استطاع أن يخرج ببلده من النطاق المضروب عليها من الغرب ، إذ وصل السلاح الذي تريده مصر إليها من تشيكوسلوفاكيا أولاً ثم من روسيا بعد ذلك . ولا شك في أن هذه الخطوة أغضبت دوائر الغرب قاطبة باعتبارها إفلاتاً من قبضتها . ووقف الإخوان في السجن حائرين أمام هذه الخطوة يريدون أن يصلوا فيها إلي رأي وكثرت المناقشات حولها ، واختلفت الآراء .. ولاحظت أن أكثر الاختلاف كان ناشئًا من تحكيم العاطفة بدلاً من تحكيم العقل والمنطق . وجاءني فريق من الإخوان يسألونني الرأي في الموضوع فكانت إجابتي علي الصورة التالية :
أولاً : نحن الإخوان المسلمين كنا أول من دعا منذ عام 1937 إلي تسليح الجيش وتسليح الأمة بأحدث الأسلحة مُتَخَذَّين في ذلك إرادة الحكومة المصرية والقصر والانجليز ، مثيرين بذلك الدهشة والاستغراب في أوساط الأحزاب المصرية بما فيها حزب الوفد .. وقد نشرت جريدة " المصري " حديث المرشد العام حسن البنا في ذلك الموضوع علي أنه إحدى المفاجآت والأعاجيب . ( وقد أشرنا إلي ذلك في الجزء الأول من هذه المذكرات ) .
ثانيًا : كراهيتنا لجمال عبد الناصر أمر مقرر ومفروغ منه وأسباب ذلك كلها تتصل بالله ، ولكن هذه الكراهية من الثناء علي عمل نافع إذا صدر عنه . فكراهيتنا لشخصه لا تحملنا علي الغض من كل ما يصدر عنه من عمل ؛ لأن المسلم يجب أن يكون متخلفاً بخلق القرآن الذي يقول : ( • • ) .
ثالثاً : إذا نظرنا إلي العمل في ذاته وجدناه عملاً نافعًا ؛ لأنه إخراج للبلاد من الدائرة المفرغة التي تدور فيها منذ بدء الاحتلال البريطاني – وتقوية الجيش وتسليحه بأسلحة حديثة أمر مطلوب شرعًا وهو مطلبنا من قديم نحن الإخوان .
وهنا توجه إليّ هؤلاء الإخوة بسؤال آخر فقالوا : أما وهذه الخطوة خطوة نافعة فلماذا لم يقدم عليها أحد من حكام مصر السابقين وأقدم عليها جمال عبد الناصر ؟ فكانت إجابتي علي سؤالهم هذا كما يلي :
جمال عبد الناصر بالرغم من أننا يلونا منه النفاق والكذب والغدر والخديعة والتجرد من الشرف والأخلاق ، فلا نستطيع أن ننكر أن فيه لمحة من عبقرية ، وأن له طموحًا يفوق كل تصور . وهو يعلم أن الذي منع سابقيه من الإقدام علي هذه الخطوة ، هو خوفهم من الفشل دون إتمامها لأنه سيواجهون العالم الغربي كله .. والرجل إذا كان له مجد شعبي يحرص عليه ، يحسب ألف حساب لكل خطوة يقدم عليها ؛ لأن مخاطرته إذا لم يكتب لها النجاح فلن تودي به وحده ، بل ستودي به وبمن وراءه ومن هو مرتبط بهم ..أما إذا لم يكن له مجد شعبي فعلي أي شيء يخشي إذا هو فشل ؟ وتوضيح ذلك أن الذين حكموا مصر قبل جمال عبد الناصر أحد رجلين ، إما رجل ارتبط بالشعب وهو الوفد ، وإما رجل ارتبط بالملك وهم الأحزاب الأخرى – أما الوفد فإنه كان يمثل تراثاً شعبيًا ضخمًا تم بناؤه في شعرات السنين ، وتحت وطأة ظروف قاسية .. فإقدامه علي مثل هذه الخطوة مخاطرة ، إذا قدر لها الفشل تحطم هذا البناء وضاع هذا التراث العزيز – وأما الأحزاب الأخرى فما كان لها أن تقدم علي خطوة فيها إغضاب المستعمر الذي هو سند القصر الذي هم سدنته وخدمه .
لهذا رأي جمال عبد الناصر أمامه فرصة سانحة ، إذا أقدم عليها ففشل فلن يخسر شيئًا لأنه هو نفسه لم يكن شيئًا حتى يقال إنه فقد شيئًا ، كالمفلس إذا قامر يقامر وهو مطمئن لأنه إما أن يكسب فيغتني من العدم ، وإما أن يخسر فلا تضيره الخسارة . والمثل العربي يقول : أنا الغريق فما خوفي من البلل ؟! كان هذا هو ملخص رأيي الذي أدليت به إلي الإخوة الذين جاءوا يسألونني .. ويبدو أن هؤلاء الإخوة أذاعوا هذا الرأي في أنحاء المعتقل حتى وصل إلي أسماع جبهة إخواننا الكبار ، الذين ساءهم أن يصدر هذا الرأي عني ، فأرسلوا إليّ يطلبون الالتقاء بي ، وتم الالتقاء بهم ، وكان الأخ البكباشي معروف الحضري أشدهم غضبًا . ولم أكن من قبل علي صلة بالأخ معروف ، فكانت هذه أول مرة نلتقي فيها ونتعارف . وفهمت من إخواننا هؤلاء أنهم كانوا يريدون ألا يصدر عني ما فيه إطراء لعمل يأتيه رجل فعل بنا ما فعل مهما كان العمل في ذاته جليلاً – وقد رددت عليهم بأن هذا يتعارض مع الخلق الإسلامي الذي قرره القرآن الكريم . وقرره عمر بن الخطاب حين التقي بالرجل الذي قتل أخاه ضرارًا – وكان الرجل قد أسلم فقال له عمر : والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم ، فقال له الرجل : وهل يمنعك هذا أن تؤدي إليّ حقي ؟ قال عمر : لا . قال الرجل : فلا عليك إذن فإنما يبكي علي الحب النساء .
أما الأخ معروف فكان اعتراضه منصبًا علي ما وصفت به عبد الناصر في هذا التصرف من أنه عبقري . وقد غضب أشد الغضب من وصفي جمالاً بالعبقرية في هذا التصرف ، وقال : كيف تصف بالعبقرية رجلاً لا وفاء عنده ولا خلق ولا شرف .. ولم يستطع الأخ معروف أن يستسيغ أن يكون إنسان موصوفاً بالذكاء والتفوق الفكري والنضج العقلي وهو في نفس الوقت فاقد كل ما يتعلق بالنفس من صفات خلقية كالصدق والوفاء والمروءة والشرف .. ثم أخذ يدلل علي صواب رأيه وخطأ رأيي فقص عليّ القصة التالية :
قال : " بايعنا الأستاذ الإمام حسن البنا علي المصحف والمسدس باعتبارنا عسكريين في عام 1941 وكان معنا في المبايعة جمال عبد الناصر . وكانت تربطني بجمال صداقة شخصية وعائلية ، كما كانت تربطنا كلينا رابطة صداقة من نفس الدرجة بالأخ عبد المنعم عبد الرءوف الذي اختير مسئولاً عن تنظيم الإخوان في الجيش .. ثم علمنا أن جمال أنشأ تنظيمًا آخر خاصًا به لا يتقيد بمقاييس الإخوان .. وحاول استغلال صداقته لي في جذبي إلي تنظيمه فرفضت ، وحاول إغرائي بكل وسائل الإغراء ولكنه فشل .. فلجأ إلي أسلوب الإحراج بأن انتهز فرصة مناسبة من المناسبات فدعاني إلي حفلة في منزله فوجئت بأنها تضم أعضاء تنظيمه ، وقدمت المرطبات ، ثم وقف جمال ليتكلم فرحب بالذين لبوا الدعوة وشكرهم ثم خصني بالشكر وقال : وأبشركم بانضمام الأخ معروف الحضري إلي تنظيمنا .. ففهمت في الحال إنما أقيم وافتعلت له المناسبة وكان المقصود منها إحراجي ووضعي أمام أمر واقع .. ولكنني بالرغم من المفاجأة ومن الإحراج الذي أحكمت حلقاته حولي تمالكت أعصابي وشكرت جمالاً علي تقديره لي وشعوره نحوي ، وأبديت اعتذاري بأنني لا أستطيع أن أتخلي عن تنظيمي ، ولا أستطيع أن أعمل في تنظيمين معًا .. وكانت هذه آخر محاولة لجأ إليها لجذبي إلي تنظيمه .. ولكنني عرفت بعد ذلك أنها لم تكن آخر ما في جعبته من أساليب .
جاءني جمال بعد ذلك إلي منزلي ، وأفهمني أنه يريد أن يسر إليّ بحديث خاص دفعه حبه لي إلي الإفضاء به إليّ ، قال لي : يا معروف : هل بينك وبين عبد المنعم سوء تفاهم ؟ قلت : لا – فأبدي تعجبه وقال : إذن فلم هذا الكلام الذي يقوله عنك ؟ يبدو أنه يخشي علي منصبه في التنظيم من وجودك فيه . لقد كنا معًا بالأمس ، وجاءت سيرتك فقال : أنا لا أستخف دم هذا الشخص لأنه يعمل في هذا التنظيم لشخصه ، وسأحاول بتره من التنظيم . يقول معروف : ووقع مني كلام جمال موقع المفاجأة وكدت أشك فيه لولا أنني في أول لقاء لي مع عبد المنعم لاحظت أنه معرض عني ، وينظر إليّ شزرًا ، مما أكد لي صدق جمال فيما نقله إليّ . فما كان مني – وأنا بشر – إلا أن قابلت إعراضه بإعراض وتجاهله لي بتجاهلي له ، واستمر الخصام بيني وبين عبد المنعم لا أكلمه ولا يكلمني حتى قامت الثورة . وجمعني وإياه السجن الحربي حيث اعتقلنا جمال ، فأخذنا نستعيد الأحداث ونتعاتب .. وفي هذه اللحظة فقط فهمنا أن جمالاً استطاع أن يوقع بيننا بأن أسر إلي كل منا علي انفراد حديثًا مختلفاً يوغر صدر كل منا علي أخيه . وقد نجحت حيلته في شل حركتنا بعد أن يئس من اجتذابنا إلي تنظيمه " .
وهنا قال لي معروف : فهل مثل هذا الرجل الذي يستبيح الكذب ويوقع بين الناس ويسعي بينهم بالنميمة يقال إنه عبقري ؟ .
فقلت له : يا أخي معروف : العبقرية صفة تتصل بسرعة الخاطر ، وإحكام التدبير ، وبعد النظر ، وبراعة التخطيط للوصول إلي الأهداف التي يسعي صاحبها للوصول إليها ، ولا تتصل بالأخلاق والنبل والوفاء والمروءة والضمير .. فقد يكون الرجل عبقريًا وليس علي شيء من الخلق والضمير ، وقد يكون الرجل وفيًا صادقًا نبيلاً ولا نصيب له في العبقرية – وقد يجمع بعض الناس بين العبقرية والخلق هؤلاء هم الذين جمعوا أطراف الكمال الإنساني وهم القلة دائمًا . وأنا حين وصف جمال بالعبقرية وصفته وأنا أعلم أنه من الصنف الأول الذي ليس له نصيب من خلق ولا دين ولا شرف ولا ضمير – واسمح لي يا أخي معروف أن أقول لك إنك بما قصصته الآن علي ، قد أضفت برهانًا آخر علي عبقرية جمال كما أضفت برهانًا جديدًا علي سذاجتنا ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " المؤمن كيس فطن " وعمر بن الخطاب يصف نفسه فيقول " لست بالخب ولكن الخب لا يخدعني " .
هذه قضية عرضت لنا في أثناء وجودنا بهذا السجن أردت بإيرادها أن أثبت أن حيوية الإخوان لم تستطع كل أساليب القهر والكبت والإذلال أن تحتويها ولا أن تنال منها ولا أن تحد منها ، ثم إنني قصدت عرضها علي جمهور القراء ليناقشوها وهم متمتعون بالحرية كما ناقشناها ونحن تحت وطأة ظروف قاسية ربما كان لها بعض التأثير في حكمنا علي الأمور . وقد قرأت في هذه الأيام في كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح في صفحة 262 مما يمس هذا الموضوع حيث يقول : " إن صفقة الأسلحة في الحقيقة كانت بمثابة العصا السحرية التي مست قلوب الشعوب العربية فحولتها بسرعة فائقة إلي حب وتقدير بل تقديس لشخص جمال عبد الناصر – لقد كانت الأسلحة الروسية نقطة تحول حاسمة في سياسة عبد الناصر ، فقد أوضحت له معني لم يكن يعرفه من قبل ، ورسمت له الطريق نحو زعامة لم يصل إليها أي زعيم عربي من قبل – لقد أوضحت له معني وهو أن مشاعر العرب يمكن إثارتها وكسبها عن طريق مناهضة الغرب والوقوف في وجهه .
وقد رأيت أن أنقل رأي الأستاذ أبو الفتح في هذا الموضوع ، لأن الأستاذ أحمد أبو الفتح وإن كان ليس من الإخوان المسلمين فإنه من الكتاب المنصفين ، وقد ناله من ظلم جمال عبد الناصر وغدره مثلما نالنا .
علي أن هذه القضية لم تكن القضية الوحيدة التي دار حولها نقاش في خلال وجودنا في السجن ، وإنما كانت هناك قضية ، ولكنني اخترت هذه القضية لأنها كانت أهم القضايا ، وكانت مناقشتها علي أوسع نطاق . كما أنني لم أكن وحدي الذي يستطلع رأيه بل كان هناك غيري من الإخوة تستطلع آراؤهم . وقد أكون أنا أضيقهم نطاقاً في إسماع رأيه ، فقد كان غيري حريصًا علي إسماع رأيه فكان ينتقل من زنزانة إلي أخري مع ما في ذلك من مجازفة . أما أنا فكنت معتصمًا بزنزانتي لا أغادرها إلي غيرها ولا أبدي رأيي إلا لمن ينتقل إليّ .. لأنني كنت أعتقد أن وقتنا في هذا السجن متجردين التجرد التام لا ينبغي أن يستغل أي جزء منه في غير العكوف علي كتاب الله . وقد وفقني الله عز وجل كما أشرت من قبل فحفظت القرآن كله والحمد لله قبل ومن بعد .
• الثمانية عشر شهرًا :
قضي الإخوان في هذا السجن ثمانية عشر شهرًا تحت وطأة لا تحتمل من الضنك والضيق والإرهاق لا يكاد الواحد منهم يستطيع حتى التنفس ، فكل همسة معدودة عليه ، وكل لفتة محاسب عليها ، بل إنه يكال له العذاب علي ما لم تحن يداه ، ولم يفه به فمه بل ولم يخطر علي باله . وقد أثبت الإخوان في خلال هذه الفترة جدارتهم باعتبارهم المجتمع الفاضل الذي تحدث عنه الفلاسفة وتخيله المثاليون ، فقد اعتصموا بجميع الفضائل في الوقت الذي كان الاعتصام فيه بفضيلة واحدة يكلف صاحبها حياته . ففضيلة الصدق كلفت الكثيرين من الإخوان حياتهم نفسها . ومنهم من كلفته من الصبر علي الأذى ما كان الموت أهون منه . ولقد كانت لهم رخصة في مثل قوله تعالي : ( ) ولكنهم اختاروا العزيمة خوفاً من أن يوقعوا إنقاذ إخوانهم مما يريد الطغاة أن يلصقوا بهم من تهم .
وفضيلة الوفاء لدعوتهم التي عاهدوا الله عليها ، هان عليها في سبيلها مفارقة الأهل والزوجة والأبناء وهجر التجارة وانقطاع موارد الرزق ، فلقد كان أكثر من نصف نزلاء هذا السجن من ذوي المهن الحرة من صناع وزراع وتجار .. وهؤلاء انقطعت مواردهم من أول يوم اعتقلوا فيه . ولم تقف حقارة الطغاة عند هذا الحد بل إنهم اعتقلوا من هزتهم الأريحية من كرام الناس – الذين ليسوا من الإخوان – فمدوا يد المعونة إلي أسر هؤلاء المعتقلين الذين انقطعت مواردهم . واعتبر الطغاة هذه المعونة جريمة يعاقب عليها القانون وأوقفوهم أمام المحاكم المستخفية التي حكمت عليهم بعشر سنوات . وقد حقق الإخوان بذلك قول الله تعالي : ( ) وقوله تعالي : ( • • ) .
ولقد التقيت بعد خروجنا من هذا السجن بأخ كان معنا وكان عنده منحل كبير يدر عليه ربحًا عظيمًا ، وسألته عن منحله فقال لي : إنني خرجت فلم أج للمنحل أثرًا ، لا النحل ولا العسل ولا الخلايا حتى الأرض التي كانت خضراء حوله وجدتها جرداء . وفضيلة التعاون والإيثار جعلت الشاب يحمل العبء عن الشيخ ، والقادر علي الشيء يمد به غير القادر سواء كان هذا الشيء مالاً أو علمًا أو فناً أو فضل قوة ، ولا يري القادر لنفسه فضلاً علي أخيه بل يشعر بسعادة أنه يحقق معاني الإسلام التي آمن بها ودعا الناس إليها .
• الأشهر الستة الأخيرة :
استفرغ الطغاة كل ما في طاقتهم من وسائل الظلم والقهر والإرهاب .. وأخيرًا تنبهوا فوجدوا أن سمعتهم وصلت إلي الحضيض سواء في داخل البلاد وخارجها .. فأخذوا في تعديل أسلوب تعاملهم فأمروا بما يسمونه " تحسين المعاملة " . وكان مظهر تحسين المعاملة فتح الزنازين وترك الحرية للمعتقلين للتنقل فيما بينها ، والسماح بالمراسلات وإرسال الطرود والزيارات والسماح بالعلاج – كما بدأوا في تنظيم عملية الإفراج ، حيث قسموا المعتقلين أقسامًا وأفواجًا يفرج عنهم تباعًا علي أن يتم الإفراج عن آخر فوج في شهر يونيه 1956 . والظاهرة العجيبة التي أسجلها هي أن أبرز ما كان من شأن المعتقلين في خلال هذه الفترة ظهور الأمراض بينهم ، وهذا مصداق للمعادلة المعروفة التي يمثلها القول الشائع : " إن الله يعطي البرد علي قدر الغطاء " ، وكنت أنا شخصيًا أحد الذين مرضوا في هذه الفترة وعولجوا .
• استغلال الحرية داخل السجن :
وقد رأينا أن نستغل هذه الفترة بما فيها من حرية التنقل داخل السجن في عمل نافع . فقسم الإخوان أنفسهم جماعات ، تضم كل جماعة المشتغلين بمهنة واحدة ، فهذه جماعة الأطباء ، وهذه جماعة الصيادلة ، وهذه جماعة التجار ، وهذه جماعة العاملين في صناعة الطباعة ، وهذه جماعة العاملين في الزراعة وهكذا .. وعلي كل جماعة أن تنظم لنفسها اجتماعات دورية تناقش فيها شئون مهنتها من الوجهة العلمية والوجهة العملية . ولقد كان لهذه الدراسات المهنية نتائج طيبة في إيجاد فرصة للتعارف الشخصي فيما بين الإخوان المعتقلين بمهنة واحدة ، وفي تزويد كل ذي مهنة بما ليس عنده من شئونها ووسائلها مما عند الآخرين . وأستطيع أن أجزم بأن الإخوان المهنيين قد أفادوا إفادة كبيرة من هذه الندوات . وقد كنت المسئول عن ندوة الزراعيين وكان عددنا نحو العشرين ، وكان منا الزراعيون ذوو المؤهلات الزراعية ، وزراعيون غير ذوي مؤهلات زراعية ولكنهم يباشرون العمل الزراعي . وقد تقدم كل منا بالمشروع الذي باشره بنفسه وما كلفه القيام به ، وما أنتجه وما اعترضه من عقبات وكيف تغلب عليها ، وكيف كان يسَّوق إنتاجه ، وكل ذلك من واقع التجربة .
فخرجنا بمحصول لا بأس به من المشاريع المدروسة في زراعة المحاصيل وزراعة الخضر والفاكهة والأشجار ، وفي تربية النحل وتربية دودة القز وفي الألبان وفي إصلاح الأراضي وفي تربية الماشية وفي الدواجن , خرجنا من هذه الندوة بمعلومات علمية وعملية وخلاصات تجارب قلما تجتمع لدارس . وكان من نتيجة هذه الندوة أن خرج عدد من هؤلاء الإخوان فأسسوا أعمالاً علي أساس من هذه المشاريع فرادي ومتشاركين ونجحت أعمالهم نجاحًا كبيرًا . ولما قارب المعتقل علي الانتهاء اجتمع إخوان الهيئة التأسيسية الذين بالمعتقل وناقشوا قضية كان لابد من مناقشتها ، تلك هي أنهم حين يخرجون إلي الحياة سيجدون مجتمعًا ذا صبغة معينة ، وسيجدون حكومة هي وليدة الصراع الذي كان بينهم وبين الثورة .. فما موقفهم منها ومن هذا المجتمع ؟ هل يقفون منها موقف المقاومة أم موقفاً سلبيًا أو يتجاوبون معها ؟ . وقد تمخض نقاشهم عن قرار مؤداه : أننا مهما كان رأينا في الحكومة فإن الشعب الذي تحكمه هو شعبنا ، ومسئوليتنا عن مصالحه لا تقل عن مسئوليتها ، فعلينا أن نتعاون معها فيما يعود علي هذا الشعب بالخير ، منحين جانبًا ما بيننا وبينها من خلاف سياسي ، وبذلك تكون في كل أحوالنا متجاوبين فيما عدا الاتجاه السياسي . وتوالت الإفراجات .. وكلما غادرتنا دفعة أفرج عنها تخلخل المجتمع الذي عشنا فيه سنتين وأحسسنا بلوعة الفراق .. حتى أهَلَّ علينا شهر يونيه 1956 ولم يبق بالمعتقل إلا مائتان وخمسون من الإخوان وكنا الدفعة الأخيرة التي خلا السجن بعدها من المعتقلين .. وانتقلنا من السجن الحربي إلي سجن القلعة حيث مكثنا أسبوعين تم بعدها الإفراج عنا .
• بعد الإفـراج :
لم تعد القاهرة في نظري بعد الذي حدث مكانًا تهوى إليه نفسي ، بل صادرت من أبغض البلاد إليّ بقدر ما كانت أحبها إلي نفسي وصدق الشاعر الذي يقول :
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
ورأيت أن أقطع آخر خيط من صلة لي بها حيث كانت لي حقيبة تركتها قبل أن أعتقل عند الأخ الكريم الدكتور جمال الدين عامر رحمه الله فسافرت إلي القاهرة وأخذتها . وكان المقر الرسمي لوظيفتي هو مدينة جرجا ، ولكنني رأيت ألا أذهب إلي البلد الذي اعتقلت منه ، وعزمت علي أن أسلم نفسي إلي الرياسة العليا للقطن بالإسكندرية حيث علي رأسها الزميل العزيز والصديق الوفي والأخ الحبيب الأستاذ حسين الخضري رحمه الله .
وصلت إلي الإسكندرية وسلمت نفسي للرياسة فتلقتني بالعناق كما تلقاني بقية الزملاء . وكانت قد أنشئت بكلية الزراعة بالإسكندرية قبل عام من خروجي من المعتقل دراسات عليا في القطن فرأيت أن أتزود بها وتقرر نقلي إلي الإسكندرية التي رأيت أن أجعلها لي مستقرًا بعد الرحلة الطويلة التي جبت خلالها القطر من أقصاه إلي أقصاه . وفوجئت حين تسلمت عملي بأن زملائي جميعًا السابقين لي واللاحقين بي قد رقوا إلي الدرجة الرابعة دفعة واحدة سواي ، وأسرَّ إليّ الأخ العزيز الأستاذ أحمد عبد اللطيف رحمه الله مدير المستخدمين بأن أعضاء لجنة شئون الموظفين جبنوا جميعًا عن الموافقة علي ترقيتي مع أن أسمي مثبت في الكشف المقدم لهم وسط الدفعة ظنًا منهم أن في هذا إغضابًا لرئيس الدولة فأثروا إرضاءه بهضم حقي .. ولكنني عن طريق الأخ الأستاذ أحمد عبد اللطيف والتهديد برفع الأمر إلي القضاء استرددت حقي .
ومعذرة في ذكر أمر يعد من أشد خصوصياتي ولكنني أردت أن أعرض للقارئ صورة من جو الإرهاب والرعب الذي كان الشعب في مصر يعيشه ويعانيه .
الباب السادس عشر : بـيـن المعتـقلـين
الفصل الأول : مسئولية الأسير أمام العواطف الثائرة
خرجنا من المعتقل في 26 يونيه 1956 . وكان المقصود من إخراجنا أن تكون مظاهرة سياسية تبدو بها حكومة مصر أمام العالم في صورة حكومة ديمقراطية ، بدليل أنها أفرجت عن عدة آلاف من المعتقلين ، ولم تبق في داخل السجون إلا من صدرت ضدهم أحكاما من محاكم . وقد اعتمدت الحكومة علي جهل من يعيشون خارج مصر بل وأكثر من بداخلها بحقيقة هذه المحاكم وبحقيقة الإفراج الذي تتباهي به هذه الحكومة .. أما المحاكم فقد عرضنا لها بإشارات في فصل سابق تكشف عن شيء من حقيقتها البشعة .. وأما الإفراج فإنه لون من الخداع لأن هؤلاء المفرج عنهم خرجوا من سجن إلي سجن ، ومن معتقل إلي معتقل ، ومن قيد إلي قيد ، و لكن القيد الجديد يجمع إلي القيد قيدًا آخر هو الحرج . ففي المعتقل الرسمي كنا متخففين من المسئولية ، وكان الذي نسأمه من العذاب محجوباً عن أعين الناس ، أما المعتقل الجديد الذي انتقلنا إليه ويسمونه إفراجًا فإن المسئولية التي كنا متخففين منها عادت إلينا بثقلها ، كما قيدت حركتنا بقيود ثقال ، وأصبحنا ملاحقين في كل لحظة وفي كل مكان .
ثم أنشأت الحكومة نظامًا مستحدثًا في صورة قانون ، سرعان ما أقره مجلس الأمة سموه " قانون العزل السياسي " . هذا القانون يحرم من أفرج عنهم المعتقلين من الحقوق السياسية ، فلا يكون من حقه أن يرشح نفسه للانتخابات ولا أن يدلي بصوته لانتخاب غيره ، ولا أن ينتسب إلي الحزب السياسي الوحيد وهو الاتحاد الاشتراكي .. ثم جعلوا عضوية الاتحاد الاشتراكي شرطًا لتولي أي شخص منصبًا قياديًا في العمل الحكومي مهما بلغ هذا الشخص من الكفاءة والأمانة والإخلاص وحسن الأداء والمقدرة الإدارية . ومع ما في قانون العزل السياسي هذا من الغبن والإجحاف ، فقد كنت سعيدًا به لأنه حرمني من الانتساب إلي الاتحاد الاشتراكي الذي لو فتحوا بابه لما ولجته ، ولو أغموني علي الدخول فيه لحاولت الفرار منه ، وأرجو ألا يفوتني في فصل قادم أن أتعرض لهذا الموضوع بشرح مسهب إن شاء الله . وإجمالاً أستطيع أن أقول إن هذه الفترة التي بدأت بخروجنا من السجن الحربي كانت من أحرج الفترات التي مررنا بها ؛ لأن أشد المواقف إحراجًا للرجل أن يعيش في مجتمع يعتقد أنه حر كغيره من الأفراد وهو في حقيقة أمره مقيد ولا يستطيع أن يقول إنه مقيد .. وكثيرًا ما ثارت النفس وتمنيت أن لو كان الاعتقال أعفاها من ذلك الحرج .
• مسئولية الأسير :
لعل في هذه المقدمة من إشارات من بعيد إلي بعض معاناتنا بعد الإفراج ما يعين القارئ علي تقييم الوضع الذي وضعنا فيه ، والذي سلبنا فيه حرية التحرك حتى في شئوننا الخاصة ، والتحرك الذي تتطلبه هذه الشئون . ولكن مجموعة من الإخوة الكرام كانوا في خلال هذه الفترة في حيرة من أمرهم ، فهم يرون حكومة لا ترعي للإسلام حرمة ولا كرامة ، ولا تبالي باقتراف أضعاف سيئات العهد الملكي من الإباحية والتهتك تقتحم بها علي الناس بيوتهم عن طريق وسائل الإعلام ، وتشيع الفاحشة في المجتمع بتشجيعها المتفحشين ومطاردتها أصحاب الفضائل والمتدينين .. ويرون الحال لا يزداد كل يوم إلا سوءًا .. ولا يرون مع ذلك أحدًا يقف في وجهها أو يرفع صوتًا بمعارضتها . وكان أكثر هؤلاء الإخوة من الشباب الغض الذي كان في أوائل الخمسينات لا يزال نبتًا ثم ترعرع واستوي في أواخر الخمسينات وفتح عينيه علي الصورة التي أومأت إليها ، فهاله ما رأي ، وذهب يتلمس الطريق .. كما أن قليلاً منهم كانوا من الإخوة الأكبر سنًا والذين حجبتهم ظروف أقرب إلي الصدفة عن أعين الظالمين فنجوا من ظلمهم .. وسار هؤلاء في ثورة نفسية يبحثون عن قيادة ترشدهم إلي الطريق الأقوم لإصلاح هذا الفساد فلا يجدون ؛ لأن القيادات تعيش وراء القضبان حتى من كان منهم في مظهره خارج القضبان كان مضروبًا عليه حصارًا من كل جانب . أما الذين كانوا لا يزالون وراء القضبان فقد التمس هؤلاء الإخوة لهم العذر ، وأما الذين كان مضروبًا عليهم الحصار – وهو حصار في الخفاء – فلم يلتمس لهم هؤلاء الإخوة العذر وحملوهم المسئولية كاملة وطالبوهم بقيادتهم إلي ميدان العمل .
جاءني نفر من هؤلاء الإخوة ، وبثوني ما في صدورهم من حرج ، وما في نفوسهم من ضيق ،وطالبوني بعمل إيجابي ، فقلت لهم : إن الذي بين حنايا ضلوعكم من ألم ولوعة وحزن هو بعض ما عندي . لأنكم غاضبون وليس في أيديكم قيود ولا في أرجلكم أصفاد ، بدليل أنكم جئتموني وتتحركون كما تشاءون . أما أنا وأمثالي فنحس ما تحسون ، ولكن الأغلال جعلت في أيدينا وأرجلنا ، وإذا كنتم لا ترون السور المضروب من حولنا فإننا نراه محيطًا بنا ، والسجانون يلاحقوننا في كل مكان وفي كل وقت . وكانوا في السجن الحربي بملبسهم العسكري ظاهرين ولكنهم هنا بالملابس العادية غير معروفين .. إننا أسرى معركة ، والأسير غير مطالب بما يطالب به الجندي الحر ، وقد أعفاه الله وأعفته القوانين لأن أمره لم يعد بيده بل صار بيد آسريه .
فقالوا : إذن نقعد ونستكين ويستمر الظالمون في ظلمهم ولا يجد الشعب المسكين من ينقذه ؟! قلت : إنني لم أنهكم عن العمل ، ولم آمركم بالاستكانة .. فالمسلم مطالب بالعمل في كل الظروف ولكن في حدود استطاعته . وأدني درجات العمل أن يعكف المسلم علي القرآن عكوفاً يربط قلبه به ويأخذ نفسه وذويه بأحكامه وآدابه ، وأن ينشر مبادئ هذا الكتاب الكريم وهي ما سماه الناس مبادئ الإخوان المسلمين عن طريق القدوة ، وهي أقرب طريق إلي قلوب الناس .. وهذا هو القدر المطالب به أسري المعارك من أمثالنا . وليس في هذا القدر من العمل ما يمت إلي الاستكانة بسبب ، فالقلب العاكف علي القرآن لا تبرحه الحياة ولا تجتمع الحيوية والاستكانة في قلب فإحداهما تطرد الأخرى . والتاريخ يحدثنا – وهو صادق – والتاريخ ليس إلا سنة الله في خلقه .. يحدثنا أن الدنيا دول ( •• ) فدولة تدوم إلي الأبد أمر محال .. تبدأ الدولة بدءًا صالحًا ثم يدب الغرور في نفوس حكامها فيظلمون فتزول دولتهم ( •) .
والذي يكاد يدخل اليأس إلي نفوسكم أنكم تظنون أن هزيمة الظالمين لابد أن تكون بأيديهم وإلا فلا أمل في الإنقاذ . وهذا الظن يبين خطؤه حين ترجعون إلي صفحات التاريخ ، وليكن تاريخ أمتنا ، فسترون بني أمية قد انتزعوا السلطة من بني هاشم ، ودانت لهم الدنيا من أدناها إلي أدناها ، وظل يهتف لهم بالدعاء علي منابر الدولة الإسلامية مائة عام ، فتكوا في خلالها بكل من رفع رأسه من بني هاشم ، فقتلوا الحسين بن عليّ ، كما أعملوا القتل في أنصاره ، وقضوا علي عبد الله بن الزبير ومن كان معه .. ولم يعد في جزيرة العرب ولا في خارجها من لا يدين لهم بالولاء .. فظنوا أنهم قد استأصلوا شأفة منافسيهم وقضوا عليهم إلي الأبد .. وطلبت لهم الحياة ، واستقرت الدولة ، وباتوا آمنين .. ولكن بعد مائة عام قام من بني هاشم – الذين استؤصلوا – من انتزاع السلطة منهم ، وتشتت شملهم ، وأسس الدولة العباسية التي تتبعت الأمرين تتبعًا اعتقدوا معه أنهم لم يبقوا لهم في الدنيا علي أثر .
وتوطد الأمر لبني العباس ، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يخضعوا الأيام لإرادتهم ، فما لبث الأمويون – الذين أيدوا في ظنهم – أن أنشئوا دولة في الأندلس تضارع دولة العباسيين وظلوا يحكمونها سبعة قرون . وإذا كانت السنة ذات الثلاثمائة والستين يومًا في حياتنا زمنًا ذا بال ، فإن عشرات السنين في حياة الأمم وفي حركات التاريخ لا تعد زمنًا يذكر .. وأصحاب الدعوات الذين يريدون أن يلووا عنق الزمان ، لا يلبثون أن تدككهم الأيام بأقدامها الثقال .. أما الذين يفهمون التاريخ فإنهم يخطون بخطي وئيدة ثابتة ، ولا يدعون يومًا يمر دون أن يملؤه بعمل يناسبه ، لا يحاولون أن يبثوا عليه وثبًا .. يفعلون ذلك وهم واثقون من أن الغد غدهم ، وأن اليوم الذين يأملون أن يأتي سوف يأتي ، ولكنه قد يكون من أيام حياتهم وقد يكون من حياة جيل يأتي بعدهم وسنة الله لا تتخلف . إنني واثق كل الثقة أن دعوتنا التي حبكت لها المؤامرات ودبرت لها المكايد ، وحوصرت من كل مكان ، وعمل الحاقدون الظالمون علي إطفاء جذوتها واستئصال شأفتها ، ستنتصر آخر الأمر ، وستعود لها الكلمة العليا والصوت الأعلى والصدى المستجاب .. ولكن كيف يتم ذلك ومتى يتم ؟ هذا هو مالا أعلم ، وهذا هو ما استأثر به علم الغيب .
نعم إن الظروف التي نعيشها الآن لا توحي بذلك ، ولا تسلمنا إلا إلي اليأس .. ولكن الله تعالي شأنه وجلت قدرته صاحب هذه الدعوة أخبرنا أنه : ( ) فهو الذي يخلق فيما يخلق مالا نعلم ، ومالا يدور في خلدنا ، ومالا يدخل في حساباتنا ولا في حسابات أعدائنا من الظروف والأحوال .. وهذا النوع من الظروف التي تعجز الحسابات البشرية عن الإحاطة به هو الذي يفاجأ به الطغاة ، وتدول من هوله الدول . ومجرد إيماننا بالله وبدعوتنا يطرد كل خاطرة من خواطر اليأس من نفوسنا ، ويملؤها بالثقة المطلقة بحيث يكون في استغلال الظروف ، فإنه عاجز عن أن يخلق الظروف ؛ لأنه هو نفسه ليس إلا بعض هذه الظروف التي تفرد الخلاق العليم بخلقها . وإذا كنا نقول ذلك ونؤمن به ونثق في تحقيقه ، فلسنا نقوله كما يقوله الموتى القاعدون ، الذي آثروا متع الحياة وتمنوا علي الله الأماني ، وإنما نقوله الآن بعد أن قدمنا لدعوتنا كل ما في وسعنا ، فمنا من قضي نحبه ومنا من ينتظر .. ولكن الكرة كانت هذه المرة علينا لا لنا فوقعنا في أسر العدو .. وليس أمامنا الآن إلا أحد الأمرين ، إما أن نقدم أعناقنا لمقاصلهم دون مقابل ، وإما أن ننتظر وعد الله تعالي وما سوف يخلق من ظروف واثقين في وعده آملين في نصره ( ) .
وتحضرني الآن صورة المسلمين في المدينة وقد بوغتوا بمالا قبل لهم به من قدوم جميع قبائل الجزيرة العربية حيث ضربوا حصارًا خانقاً حول المدينة في تحالف سوي بينهم وبين يهود المدينة ، وما عاد هناك ما يمنعهم من أن يمسكوا المسلمين بالأيدي دون أن يجد واحد منهم لنفسه مهربًا .. ورأي المسلمون الموقف علي هذه الصورة فماذا فعلوا .. إنهم فعلوا ما في طاقتهم وتركوا ما فوق طاقتهم للقدرة الإلهية . كل الذي فعلوه أنهم حفروا الخندق حول المدينة ولجئوا إلي حيلة فصمت عري التحالف المعقود بين العرب واليهود .. ولم يكن في استطاعتهم أن يفعلوا أكثر من ذلك .. ولكن هل كان الذي استطاعوا أن يفعلوه كافيًا لرد هذا البحر المتلاطم من قبائل العرب .. لا . ولا هذه يقولها كل من له عقل ، فالتكافؤ مفقود في كل مقومات الحرب ولكن الذي ( ) لا يطالب المدافعين عن دعوته بأكثر من أن يراهم قد بذلوا ما في استطاعتهم وعليه هو أن يتولي الأمر .. فماذا خلق مما لا يعلمون ؟ خلق ريحًا نسفت المهاجمين نسفًا وأنزل جنودًا لا تراها أعين البشر – وهذا الموقف من المواقف البالغة الدقة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بالنص القرآني نفسه ( • .... • • .... • ) .
كانت هذه صورة من صورة النقاش الذي دار بيني وبين بعض الإخوة الشباب المتعجلين الذين هالهم وأفزعهم ما يسأم الشعب من هوان ، وما تنتهك له من حرمات ، باسم الشعب وباسم الحرية وباسم الكرامة ، والشعب في حال من الذهول . وإذا كانت حججي قد أقنعت عقول هذا الشباب لم تتجاوب مع عواطفهم الثائرة التي لم يستطيعوا لسيلها الدفاق دفعًا ، فذهب كثير منه ليعمل عملاً يرضي هذه العواطف ، ولكنهم كانوا كالفأر الذي يبيت خطة الهرب ولم يدر أن جدران المصيدة تحيط به من كل جانب ، فالبلد لم تكن إلا سجنًا كبيرًا سجانه هم حاكم البلد ، وقد وزع زبانيته علي الأبواب والأسوار .. فلم يشعر هؤلاء الإخوة بعد قليل إلا وهم في قبضته ليفعل بهم الأفاعيل .
الفصل الثاني : فصائل الإخوان .. إلي أين
• فصائل الإخوان :
عزلنا الحديث عن السجن الحربي ومصائبه ومآسيه عن متابعة الحديث عن الآثار المدمرة لمؤامرات جمال عبد الناصر في صفوف الإخوان وما انتهت به من انقسام الإخوان إلي فصائل يمكن إجمالها في ثلاث فصائل ، فصيلة انتمت إلي عبد الناصر وعلي رأسها قيادة النظام الخاص والمفصولون من أعضاء الهيئة التأسيسية ، وفصيلة رأت آخر الأمر في عزل المرشد العام إنقاذًا للدعوة ، وفصيلة رأت في تماسك الدعوة بمرشدها هذا الإنقاذ . أما ثالثة الفصائل فتضم سواد الإخوان المسلمين وإن كانت قيادتها قد انقسمت في أول الأمر قسمين اختلف وجهة نظر كل منهما عن الأخرى ، فقسم وكنت منه اكتشف مالم يكتشفه القسم الآخر من إطلاع جمال علي أدق أسرارنا فرغب في تعديل خطتنا لتتواءم مع الوضع الذي اكتشف ، والقسم الآخر رفض إجراء تعديل . وقد صاحب عملية هذا الرفض بعض تجاوزات .. وساد رأي هذا القسم الآخر ، فكان أن تخلي أصحاب فكرة التعديل عن فكرتهم وساروا في الركب عملاً بقول عليّ كرم الله وجهه : " كدر الجماعة خير من صفو الفرد " .
وهذه الفصيلة هي التي اعتبرها عبد الناصر الألداء ورسم خطة لإبادتهم وعرضنا في فصول سابقة لنماذج من هذه الخطة . وأما الفصيلة الثانية التي رأت في عزل المرشد العام إنقاذًا للدعوة ، ففي اعتقادي أنها قد تلحق بالفصيلة الثالثة لسببين : أولهما أن أعضاءها هم من خيرة الإخوان ولم يؤثر عنهم من قبل انحراف عن الدعوة ولا ارتياب في القيادة . والسبب الآخر أن إعلانهم بهذا الرأي كان وليد ظروف قاسية ألمت بالدعوة أشرنا من قبل إلي طرف منها ، وصار كل غيور علي الدعوة يتلمس أي وسيلة للخروج بها من المأزق القائل الذي وضعت فيه .. وحين يكفهر الجو ، ويسود الظلام ، تتعذر الرؤية الصحيحة لاسيما والقائد غير موجود فكانت هذه الرؤية التي لا أشك في صدورها عن حسن نية ، وإن كان الطرف الآخر قد استغلها لصالحه . وأما الفصيلة الأولي فقد طال الحديث عنها في هذه المذكرات لأنها هي أصل البلاء وسر الداء ، ولكن الذي يعنينا في هذا التلخيص للموقف أن نلم بمواقفها إزاء التطورات التي حدثت ونستطيع أن نجمل هذه المواقف فيما يلي :
1 – كان لهم موقف عدائي عند اختيار المرشد العام ، ثم تراجعوا عن هذا الموقف وساروا مع الركب .
2 – بعد قيام الثورة بدأ الخلاف بينها وبين الإخوان اتخذوا مرة أخري موقفًا عدائيًا من دعوتهم وظاهروا عبد الناصر علي إخوانهم .
3 – لما حل عبد الناصر الإخوان واعتقلهم في يناير سنة 1954 وفشلت خطته وخرج الإخوان من المعتقل منتصرين وصاروا سادة الموقف وصار عبد الناصر في أضعف حالاته ، جاءوا مرة أخرى إلي دعوتهم تائبين .
4 – لما غدر عبد الناصر بما أعلنه مجلس الثورة من قرارات في 25 مارس 1954 ودبر المظاهرات المأجورة وتبادل المواقف مع الإخوان ثمرة هذا الغدر فصار هو في الموقف الأقوى والإخوان في الموقف الأضعف اتخذ إخواننا هؤلاء موقف السكون والانتظار .
5 – لما أعلن عبد الناصر الأسس التي قامت عليها اتفاقية الجلاء التي عقدها وحده مع انجلترا دون الرجوع إلي الشعب وجاءت مخيبة للآمال ، فقام الإخوان بنقدها ، وكان عبد الناصر يريد أن يجعل منها تراثًا شعبيًا لنفسه .. وكان تساهله في شروطها المجحفة بحقوق الأمة ثمنًا لقبول الانجليز التفاوض معه مما يكسب حكومته دائمًا في عقد معاهداتهم مع مصر ألا يتفاوضوا ولا يوقعوا علي اتفاق إلا مع من يمثلون الأمة حتى تكون لاتفاقياتهم قوة وثبات .
وقد اعتبر جمال عبد الناصر كما قدمنا نقد اتفاقية بمثابة إعلان الحرب عليه فعزم علي إبادتهم ، ووضع كل إمكانات الدولة في خدمة خطط هذه الإبادة .. وبدأت الحرب غير المتكافئة وأشرنا في الفصول السابقة إلي أقل القليل مما ارتكب فيها من مظالم وما اقترف فيها من إجرام وما اندفعوا فيه من فجور .. فماذا كان موقف إخواننا هؤلاء ؟ . هذا ما كنت اجهله ولكنني قرأت في مذكرات للأخ الكريم الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي يعدها للطبع نبأ أستمحيه عذرًا في نقله للقراء لعله يلقي شعاعًا من الضوء نستبين معه إجابة لهذا السؤال :
يقول الأستاذ عبد الحفيظ في مذكراته : " سألت الأستاذ أحمد عادل كمال – وكان من قيادة النظام الخاص التي فصلها مكتب الإرشاد – سألته : لماذا اعتقلت مع أنك كنت أحد المفصولين ؟ فرد قائلاً : إنه هو أيضًا كان في حيرة من الأمر .. لماذا .. ؟ إلي أن عرف أخيرًا السر في ذلك .. يقول الأخ أحمد عادل كمال إنه كان في زيارة لأقارب له ليقوم بواجب العزاء ، والتقي عندهم بضيف يقوم بنفس الواجب . وعندما قام بعض أقاربه بتقديمه لهذا الضيف فوجئت أنه يقول لهم : إنني أعرفه – وعرض عليّ أن يكشف لي عن موضوع ربما يكون خافيًا عليّ دون أن يعرفني بشخصيته . وعندما سألته عن الموضوع أجابني : هل تعرف السر في اعتقالك بعد أن فصلت مع آخرين من الإخوان ؟ فقلت : إنني في حيرة من هذا الأمر بالفعل . فقال : هل تذكر يوم اجتماع الهيئة التأسيسية الأخيرة ؟ وحضرت إلي دار المركز العام .. وفي الميدان قابلك أحد الإخوة من النظام الخاص ، وعرفت منه أن هناك مجموعة من النظام في بيت القلعة – وهم مسلحون – وفي النية مهاجمة أعضاء الهيئة التأسيسية في حالة صدور قرارات منها لا تؤيد الجماعات المعارضة للمرشد العام الأستاذ الهضيبي والقيادة الشرعية للجماعة .. وبعد أن استمعت للأخ الذي تحدث معك سارعت متوجهًا إلي المنزل المجتمع فيه بعض إخوة النظام المسلحين طلبت منهم إنهاء اجتماعهم وفض هذا التجمع المسلح ، وقلت لهم : كفاية ما نحن فيه . وفي الحال بلغ جمال عبد الناصر ما قمت به فقرر يومها أن تكون في قائمة المعتقلين ، بل في قائمة من ينالهم التعذيب في السجون والمعتقلات وكان ذلك بالفعل " .
ويقول الأستاذ عبد الحفيظ : ويظهر أن عبد الناصر قد وضع تحت تصرف هؤلاء المنشقين كثيرًا من إمكانات الحكومة وأجهزة مخابراتها وإشاعاتها ورسائلها بل صحافتها التي كانت في ذلك الوقت أكبر أداة في يد مجلس الثورة لتسميم الأفكار وتضليل الرأي العام .
الباب السابع عشر : اعتقالات سنة 1965
الفصل الأول : في سجن أبي زعبل
ولعل التوقيت الذي اختير لهذه الحملة قد بني علي أساس حسابي بسيط ، فالإخوان الذين اعتقلوا عام 1954 أنشئ لهم قانون يجردهم من حقوقهم السياسية ، ويجعل لأجهزة الأمن حق مراقبتهم وتقييد حريتهم ، ورصد كل ما يصدر عنهم ، ومحاسبتهم علي ذلك بوسائل لا تخضع لسلطة القضاء – وخلاصة القول : يجعلهم ألعوبة في أيدي هذه الأجهزة . ولما كان هذا القانون أو القرار الجمهوري صادرًا علي أساس استثنائي فإنه كان لابد من تحديد فترة لسريانه . وقد حددت هذه الفترة بعشر سنوات ابتداءً من عام 1956 .. ومعني هذا أن القانون تنتهي فترة سريانه في عام 1965 . فخوفاً من إفلات الإخوان من قبضتهم رأوا أن ينشئوا ملحمة جديدة يضمنون عن طريقها تجديد هذه الفترة تجديدًا إلي أجل غير مسمي ، بحيث يظل الإخوان في قبضتهم ، وتحت رحمتهم حتى تفنيهم الأيام ، وتعفي علي آثارهم ، وتطمس معالم تاريخهم . وقد رأوا أن يجعلوا هذه الفترة عشر سنوات ، علي أساس أن هذه الفترة كافية أن تعدم آية هيئة مهما عظم شأنها إذا ما وجهت الدولة كل إمكاناتها للقضاء عليها .
• أسلوب جديد :
كان الأسلوب الذي اتبعه جمال عبد الناصر مع الإخوان في سنة 1954 أسلوبًا إجراميًا ، ولكنه كان بدائيًا أو كما يعبرون عنه بالعامية " أسلوب فلاحي " . فهو باعتباره ضابطًا يعرف أن السجن الحربي هو أشد السجون معاملة ، ويعرف أن القائمين علي إدارته أفراد من الجيش ، وطبيعة عملهم السرية ، فارتكاب جرائم التعذيب في ظل هذا السرية يحقق المطلوب .. ثم إنه سبق أن أجري في الجيش حركة تطهير ضمن معها أن الباقين فيه علي ولاء تام له ، لاسيما بعد أن أخرج منه كل ذي مبدأ أو شخصية . ثم إن أسلوب التعذيب يتلخص في عدة طرق مألوفة من الحبس في الزنازين والحبس الانفرادي والإجاعة والضرب بالكرباج والحرق بأعقاب السجاير والنفخ والتعليق والإلقاء بعد الجلد في ماء مثلج ، ثم التعذيب الجماعي بالطوابير المرهقة ومنع الملابس وما إلي ذلك مما أشرنا إليها آنفاً .
أما في حملة 1965 فقد تغير الأسلوب حيث كان التقارب المصري السوفيتي ، الذي أخذ في التطور السريع حتى صار تحالفاً ثم صار تلاحمًا .. وإذا كان الغرب قد سبق السوفييت في تكنولوجيا الحضارة الحديثة ، فإن السوفييت قد سبقوا الغرب في نوع من التكنولوجيا التي لم يفكر فيها الغرب حتى الآن ، وهي تكنولوجيا إهدار الكرامة الإنسانية والتعذيب ، التي قامت عليها الفكرة الشيوعية سواء في داخل روسيا أو خارجها من عمليات الإفناء والتدمير الجماعي والفردي بأساليب متطورة وحديثة . وقد أفاد جمال عبد الناصر من التقدم التكنولوجي للروس في هذه الناحية أعظم إفادة – فقد استورد من روسيا أجهزة للتعذيب تعمل بالكهرباء واللاسلكي والخلايا الضوئية والالكترونية ، ومنها أجهزة التعذيب البدني ، وأخري للتعذيب النفسي وتحطيم الأعصاب . وأجهزة تحطيم الأعصاب منها ما يسلط علي شخص واحد منها وما يسلط علي جماعة .
• وصف سجن " أبو زعبل " :
هو سجن بني حديثًا بجانب سجن " أبو زعبل " القديم . وقد بناه جمال عبد الناصر علي طراز السجون الحديثة ، فهو يشبه السجن الحربي في كونه ذا أربعة أضلاع تحصر بينها فناءً واسعًا لا سقف له . إلا أنه يختلف عن السجن الحربي في كون فنائه ببلاط أسمنتي مضلع . وهو وإن كان مكونًا من ثلاثة طوابق كالسجن الحربي إلا أن الطابقين الثاني والثالث مكونان من عنابر واسعة يزيد طول العنبر منها علي عشرة أمتار وعرضه نحو ستة أمتار ، والعنابر مبلطة وذات نوافذ واسعة وإن كانت مرتفعة ، ولكل عنبر باب ليس من الحديد المصمت كأبواب زنازين السجن الحربي بل مصنوعة من عيدان من الحديد بين العود والآخر نحو عشرة سنتيمترات .. والسقوف عالية ، والتهوية صحية ، وملحق بكل عنبر دورة مياه علي طراز حديث . فهذا السجن من طراز آخر غير السجون المصرية قديمها وحديثها ، بحيث يصلح أن يكون منتجعًا للسياح الذي يفدون إلي بلادنا جماعات يرتبط بعضها ببعض ، فكل وسائل الراحة متوفرة فيه . وقد أنشئ في منطقة رائعة الجو ، بعيدة عن المدن وضجيجها ، وهو مطلق الهواء من جميع نواحيه الأربع لا تحجب عنه الشمس والهواء حواجب من أبنية أو غيرها . فإذا زود كل عنبر بعشرة أسرة ودولابين للملابس وبعض الأدوات اللازمة للمعيشة فإن المقيمين به من السياح يشعرون بالمتعة والسعادة ، لاسيما وتصميم المبني يسمح بوصول الموسيقي الهادئة إلي جميع الحجرات إذا ما أذيعت من الدور الأرضي فكأنها مذاعة من داخل الحجرة .. كما أن المقيمين في هذه الحجرات إذا ما أطلوا من الطرقات الممتدة أمام الأضلاع الأربعة فإنهم يستطيعون أن يشاهدوا عروض التسلية التي تعرض في الفناء .
• لماذا استغل عبد الناصر هذا السجن معتقلاً للإخوان ؟
من الوصف الموجز الذي قدمته لهذا السجن يتبين للقارئ أن مثل هذا السجن ما كان ينبغي لحاقد مثل جمال عبد الناصر أن يستعمله معتقلاً لأعدائه .. فلم استعمله ؟ وكيف استعمله ؟ وقد تفهم الإجابة علي هذه الأسئلة مما يلي :
1 – هذا السجن بعيد عن العمران ، ويمكن اعتباره منعزلاً عن البلاد . فالذي يجري بين جدرانه لا يسمع به أحد ولا يدري به أحد . وهذا يحقق هدفاً أساسيًا في العملية .
2 – استعمال هذا السجن فيه إرضاء لمشاعر العاملين بوزارة الداخلية الذين يريدون أن يثبتوا ولاءهم للحاكم ، ليغترفوا من الخزانة التي فتحت من قبل علي مصراعيها للذين أثبتوا ولاءهم من العاملين بالجيش في سنة 1954 – والحكم في ذلك الوقت قد أيقن أنه لا يقوم علي سند من الشعب بعد فشل هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي ، ولم يعد له سند إلا من الجيش الذي صنعه علي يده وإلا من رجال الشرطة الذين كان عليهم أن يستميلهم بالوسائل التي ترضيهم .. ومعروف طبعًا أن السجن الحربي تابع للجيش وأن السجون الأخرى تابعة لوزارة الداخلية .
3 – يبدو أنه بعد أن ساءت العلاقات بين جمال عبد الناصر وأمريكا ، وأصبح الروس حلفاءه الوحيدين ، تبادل معهم البعثات فأوفد إليهم واستوفد منهم ، وكانت أكثر البعثات الموفدة من مصر بعثات من رجال القوات المسلحة ومن رجال وزارة الداخلية ، كما أن بعثاتهم إلي مصر كانت من نفس النوع .. وقد بلغنا أن بعثات رجال وزارة الداخلية اطلعوا هناك علي أجهزة إلكترونية للتعذيب أذهلت هؤلاء الرجال ، وأظهرتهم علي مدى تقدم تكنولوجيا التعذيب في هذه البلاد وعلي مدى تخلفنا في هذا المضمار ، فقرروا اللحاق بهم مهما كلفنا ذلك من جهد ومال .. واشتريت الأجهزة وقدمت إلينا كما قدم معها وفود من الأخصائيين في التعذيب .. وقد وقع اختيارهم علي سجن " أبو زعبل " لتركيب هذه الأجهزة فيه لميزات رأوها فيه قد تتضح للقارئ في سطور تالية .
4 – إذا صرفنا النظر عن كل ذلك فإن استعمال هذا السجن كان أمرًا لا مفر منه ؛ لأن الخطة التي وضعت هذه المرة كانت تقضي باعتقال عدد كبير جدًا من الإخوان قد يفوق أضعاف من اعتقل في المرة السابقة .
5 – مكاتب هذا السجن مكاتب فسيحة جميلة صحية مزودة بوسائل الراحة والترفيه مما يربح المحققين المطلوب منهم هذه المرة أن ينشئوا من القضايا ما يكفي للقضاء التام علي البقية الباقية من هذه الدعوة .. وكان في جمال هذه المكاتب ما يغري المحققين بطول البقاء فيها بخلاف مكاتب السجن الحربي التي كانت تشبه الزنازين أو تقاربها .
6 – الدور الأرضي – باعتبار هذا المبني سجنًا – مجهز بعدد لا بأس به من الزنازين كان المفروض أنها معدة لينقل إليها من سكان العنابر من المسجونين من تمرد منهم علي لوائح السجن ونظمه والذين انحرفوا يستحق التأديب العنيف بأن يحبسوا في زنزانة من هذه الزنازين لمدة محددة .
وقد وجد علماء تكنولوجيا التعذيب من السوفيت وتلاميذهم المصريين في هذه الزنازين وفي بعض الصالات والمنشآت في الدور الأرضي مكانًا مناسبًا لتثبيت بعض آلات التعذيب أو لوضعها بدلاً من آلات الموسيقي التي أنشئت هذه الأماكن من أجلها .. وعن طريق استغلال هذه الأماكن استطاعوا أن يصدروا من آلات وضعوها بها أصواتًا تبعث الرعب في نفوس سكان هذا السجن جميعًا ، تبعث ليلاً وتخترق سمع كل فرد فيه بطريقة معينة تخلع القلوب ، وتصور للسامع أن قوة ضخمة من الهمجيين من جلادي السجن منطلقة نحوه بالكرابيج والبنادق لإبادة ساكني السجن دون رحمة ولا تمييز .. ولا يملك معتقل مؤمن بالله وأعزل من كل سلاح في هذه الحالة إلا أن يبتهل إلي الله أن يقبض روحه التي قد تفيض بعد لحظات علي الإيمان .
ولم ينتبه إلي أن هذه الأصوات مجرد خداع من آلة إلا بعد عشرات المرات في عشرات الليالي وكنا نعتقد أنها تجريدة حقيقية ، وأنها تجتاح كل ليلة عددًا من إخواننًا ، وأننا – نحن نزلاء الدور الثالث – لابد أن يأتي دورنا إن عاجلاً وإن جلاً .. ومع علمنا بعد ذلك بأنها آلة فإنها كانت بأصواتها المنكرة تبعث فينا الكآبة والخوف والانقباض .
7 – يبدو أنه كان من أهداف استعمال هذه الآلة أيضًا أن تغطي بصوتها علي ما يصدر فعلاً من تأوهات الإخوة الذين يعذبون بآلات أخري .. فكان سماعنا صوتها في كل ليلة نذيرًا ببدء عمليات التعذيب التي تستمر طول الليل حتى الفجر .. وقد تناول التعذيب في هذا السجن عددًا كبيرًا جدًا يفوق عدد الذين عذبوا في عام 1954 .
8 – لم يقتصر الاعتقال هذه المرة علي الإخوان المسلمين بل تناول معهم الذين يعملون في الحقل الإسلامي وكل من ينتسب إلي الدين الإسلامي بصلة ، فالجمعيات الإسلامية حتى تلك التي لم يكن أسلوبها يمس الحكام من قريب ولا من بعيد كالجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة وجمعية التبليغ الإسلامي ، كل هؤلاء اعتقلوا وكلهم عذبوا وكلهم نكل بهم وكلهم ووجهوا بتهمة التدين . ولقد سمعنا في بطون الليالي أنات زعماء هذه الجمعيات وهم يتقلبون علي جمر آلات التعذيب الإلكترونية ، وكلما استغاثوا قائلين يارب ، قال لهم الجلادون : أين هذا الرب ؟ لو كان موجودًا لجاء لينقذكم من أيدينا .. ثم يوضحون علي آلات تصدر ما يشبه الصواعق الكهربائية فتسمع صراخًا شديدًا متصلاً ثم يخفت مرة واحدة .
9 – أما العنابر الفسيحة التي أشرت إليها فقد استغلت أسوأ استغلال ، ومسخت كل المسخ حتى فقدت كل مزاياها وصارت لونًا من ألوان العذاب ، ذلك أن العنبر الذي كان مفروضًا أن يسكنه عشرة أشخاص حشر فيه مائة صارت بعد ذلك مائة وعشرين يصرف لكل منهم بطانية واحدة يفترش نصفها علي البلاط ويتغطي بالنصف الآخر ، ولا يكاد يجد الفرد منا مكانًا يضع فيه جنبه ومع ذلك فلا يستطيع أن يغير وضعه طول الليل .
أما الأبواب شبه المفتوحة التي نعمت بها هذه العنابر فقد تمنينا من أول ليلة نمناها أن لو كانت سدًا مصمتًا لا ينفذ منه حتى الهواء ؛ لأنها استغلت أسوأ استغلال في توصيل أصوات الإرهاب وصرخات المعذبين التي كانوا يريدوننا أن نسمعها وأن تخترق أذننا حتى لا نحظى بفرصة تغفو فيها عيوننا طول الليل .. كما أنهم كانوا حريصين علي تسليط الأضواء الباهرة علينا . طول الليل .
10- كنا نعامل في السجن الحربي معاملة جنود الجيش في الطعام فكان لنا مثل تعيين (نصيب من الطعام) الجنود تمامًا . أما في هذا السجن فكان طعامنا طعام المساجين .. وفرق شاسع بين الطعامين سواء في النوع أو في التجهيز أو في الكمية ، حتى الخبز .. ولم يكن مسموحًا لنا بشراء طعام آخر أو الحصول عليه بآية وسيلة أخري . وأذكر أن الخبز الذي كان يصرف لنا لم يكن إلا قطعاً من العجين أدخلت النار ثم أخرجت في الحال لدرجة أن بعض الإخوان كانوا يصنعون منه قطع الشطرنج ويتركونها أمام الهواء حتى تتماسك وتجمد .
11- كان هذا السجن يدار بجهاز من رجال الشرطة . وكنا نعتقد أن عملاً تديره الشرطة لابد أن يكون في ظل القانون والنظام ، فرجال الشرطة يدرسون القانون ومهمتهم المحافظة علي القانون .. ولكن تجربتنا في هذا السجن أثبتت لنا أن التربية التي يتلقاها الفرد في منزله هي وحدها التي تميزه في كل موقع يكون فيه في المجتمع . فلقد رأينا ضباطًا شبابًا في هذا السجن كانوا كالملائكة وزملاء لهم كانوا شياطين ، وكلاهما يتلقي أوامر واحدة ، ولكن منهم من يزعزعه إيمانه ، ويحجزه حياؤه عن أن يكون أداة بطش وتنكيل ، في حين تري زميله يلذ له أن يكون كذلك ، ولا يجد لديه من إيمان ولا حياء ولا تربية تكفه عن ذلك أو تحجزه عنه .. وكنا إزاء النوعين في حيرة ، ماذا يبغي هذا المتجبر السفيه من وراء هذا التجبر والسفه والبذاءة ؟ وليست هذه المفارقات بين الضباط فحسب بل إنها كانت موجودة بين الجنود أيضًَا .. والواقع هو أن الموظف أيًا كانت وظيفته مدنية أو عسكرية ، وأيًا كان موقعه في سجن أو في مدرسة ، يستطيع أن يكون كما يشاء أن يكون ، فهؤلاء الذين نراهم في المدارس معاول إفساد للخلق ، هم أنفسهم الذين نراهم في السجون أدوات البطش بالأبرياء .. قلوب خاوية ، ونفوس دنسة حاقدة .. وادعاء هؤلاء أنهم كانوا مكرهين أو مسلوبي الإرادة ادعاء باطل ومحض افتراء ( •• • • • •• ) .
أسلوب جديد مستورد
كما استورد السادة الحكام من حليفتهم روسيا آلات التعذيب ، استوردوا منها أسلوبًا جديدًا إذا لم يعد من أساليب التعذيب فنه من أساليب الإرهاب التي لم يكن لنا بها عهد .. فلقد عاشرنا هؤلاء الحكام سنوات 1954 ، 1955 وردحًا من 1956 استعرضوا خلالها كل ما في حوزتهم من أساليب الإرهاب وطرق التعذيب ، ولكن هذا الأسلوب لم يكن من بينها . ونستطيع أن نجزم بأنه لم يدر بخلدهم ولم يخطر ببالهم ، ولو خطر لاستعرضوه أمامنا ولاستعملوه معنا فهم لم يتورعوا عن شيء عرفوه أو سمعوا عنه – وكما أننا جزمنا بعدم خطوره علي بالهم فإننا نقرر أنه لم يخطر ببالنا نحن أيضًا مع أننا كنا نتوقع منهم أسوأ ما يخطر علي بال .
بدئ بالحملة الجديدة في شهر يوليو 1965 حين اعتقلت السلطات عددًا محدودًا من الإخوان من بلاد متفرقة . وقد عرفنا فيما بعد أنهم كانوا يرسلون إلي السجن الحربي في القاهرة . ولم تكن الصحف تشير إلي هذه الاعتقالات ولا عن المكان الذي يوجدون فيه – ثم قامت حملات بمهاجمة منازل عدد آخر من الإخوان في بلاد متفرقة وتفتيشها تفتيشًا دقيقًا بعد منتصف الليل ، وكان منها بيتي الذي أقيم فيه بالإسكندرية ، وقد سألت الضابط الذي كان علي رأس القوة إن كان هناك أمر بالاعتقال – وكنت أعرف هذا الضابط – فقال لي : إن أمرًا بالاعتقال لم يصدر ، ولكن التفتيش إجراء لابد منه .. وأخذت القوة كمية ضخمة من المجلات والرسائل والصور والكتب .
وفي أواخر أغسطس وأوائل سبتمبر بدأت حملة مركزة من الدعاية الصحفية المنظمة ضد الإخوان المسلمين ، ناسبين إليهم تهمًا لا تكاد تختلف في كثير ولا قليل عن تلك التي نسبوها إليهم في 1954 ، ولا عن تلك التي نسبت إليهم في 1948 ، 1949 ، وهي تهم تحتفظ بها وزارة الداخلية في أرشيفها ، وتخرجها عند الطلب وتوزع نسخًا منها علي الصحف والإذاعة التي عليها أن تخصص أكثر صفحاتها ، ومعظم وقتها لتكون أبواقاً لهذه الوزارة . وشعبنا المصري شعب أمي مغلوب علي أمره ، دأب علي تقبل ما يصل إلي سمعه دون تمحيص ، كما أن القارئين منهم أميون دينيًا وسياسيًا يصدقون ما يقرأون ناسين أو متناسين أن الذي يسمعون أو يقرأون إنما هو صادر من طرف واحد ، وأن الطرف الآخر مُحُِول بينه وبين الكلام . والعنصر الجديد الذي أدخلوه هذه المرة من عناصر الاتهام كتاب أصدره الأخ الشهيد الأستاذ سيد قطب " معالم في الطريق " ضمنه آراءه وأفكاره فيما يعتقده من المعاني الإسلامية العليا والمقاييس التي تقاس بها المجتمعات المختلفة . ومع أن الكتاب هو مجرد أفكار وآراء فإنهم اعتبروا هذه الآراء جريمة ، وهو ما لم يحدث في أي مجتمع متمدين .
ومع الحملة الصحفية والهجوم الإذاعي بدأت الاعتقالات الجماعية في جميع بلاد القطر بتخطيط منظم وأسلوب موحد . ففي الساعة الثالثة صباحًا بعد منتصف الليل يطرق الباب طارق عنيف ، يستيقظ علي طرقته أهل البيت مذعورين ، فيرون وراء الطارق قوة مدججة بالسلاح كأنما جاءوا يفتحون عكا كما يقولون – وتقتحم القوة البيت وتعبث فيه فسادًا يبعثرون محتوياته .. ثم يصحبون معهم رب البيت إلي حيث لا يدري – ثم يلقي بمعتقلي كل مركز أو قسم في حجرة من حجر مركز الشرطة أو قسم الشرطة . وتزدحم الحجرة حتى لا يجد الفرد مكانًا يجلس فيه فضلاً عن أن ينام فيه . وتطول الإقامة في هذا المكان حتى تصل إلي أسبوع .. ثم تصدر الأوامر بجمع معتقلي كل محافظة في مقر مديرية الأمن حيث يعبئون في سيارات نقل مغلقة تنقلهم جميعًا إلي مكان مجهول في حراسة مشددة من جنود الشرطة .
• المفاجـأة :
بعد انتقال رتل السيارات المغلقة تمام الإغلاق علي من فيها من المعتقلين بحيث لا يرون شيئًا من الطريق الذي تنطلق فيه .. وبعد أكثر من ساعة توقفت السيارات وفتحت أبوابها ، وأمر المعتقلون بالهبوط منها ، وهبطوا ومع كل منهم قليل من المتاع يحمله ، ثم أدخلوا مبني قديم مهدم حيث أوقفوا الطوابير ، وتقدم شخص مجهول ومعه مجموعة مما يشبه المناديل الكبيرة ، وبدأ بالمعتقل الذي يقف في أول الصف فعصب عينيه بمنديل من هذه المناديل ، ثم أخذ في عصب عيني الذي يليه والذي يليه وهكذا حتى عصب عيون الجميع . ووقفنا بعد ذلك في هذا المكان تحت شمس محرقة حاملين أمتعتنا معصوبي العيون ، وطال الوقوف .. ولم نكن ندري أنهم يأخذون عددًا من المعصوبين يقودونهم إلي حيث لا يعرفون ثم يجدون أنفسهم أمام شخص يسألهم عن أسمائهم وألقابهم ومهنهم وعناوينهم وسنهم . ثم يأمر بهم فيقادون إلي مكان آخر حيث ترفع عن أعينهم العصابات فيرون في هذا المكان زملاء لهم من الإخوان سبقوهم إليه بعد أن عوملوا نفس المعاملة . وتبين بعد ذلك أن هذا المكان هو سجن" أبو زعبل " الذي تحدثنا عنه آنفًا .
كانت المفاجأة هي هذا الأسلوب الجديد المستورد من عصب العيون ، والذي لم يقتصر استعماله علي دخول المعتقلين السجن ، بل كان كل انتقال لفرد أو مجموعة من المعتقلين من مكان لآخر داخل السجن أو خارجه لا يتم إلا بعد عصب العيون .. وكان كل تحقيق يجري مع معتقل لا يتم إلا بعد أن تعصب عيناه ، فلا يعرف أين يحقق معه ولا من الذي يحقق معه ولا من الذين يوجدون في المكان الذي يجري فيه التحقيق ، كما أنه لا يعرف ماذا يحدث له بعد لحظة أو ماذا ينزل به أو ينزل عليه . كانت عملية عصب العيون هذه كارثة وحدها تهون أمامها كل كوارث التنكيل والتعذيب ؛ لأنها كانت تفقد المعصوب كل عناصر الأمن من أول لحظة يؤخذ فيها من عنبره ، فهو يتوقع الموت في كل لحظة ، ويتوقع أن يلقي به من عل ليصل إلي الأرض محطمًا ، ويتوقع أن تضرب عنقه ، ويتوقع أن تصيبه رصاصة تأتيه من أية ناحية ، ويتوقع أن تنهال عليه الكرابيج ولا يدري من أية ناحية تأتيه ، ولا إلي أي موضع من بدنه توجه . ثم هو لا يعرف من الذي يحقق معه . وإذا واجهوه بشخص لا يعرف إن كان هذا الشخص هو صاحب الاسم الذي أطلقوه عليه أم هو شخص آخر قصد به التضليل .
• ما الذي دفعهم إلي هذا الأسلوب ؟
ولجوؤهم هذه المرة إلي هذا الأسلوب يثير التساؤل . هل دفعهم إلي محاولتهم حجب شخصية المحققين والجلادين عن المعتقلين ؟ إن الذين يحرصون علي عدم الكشف عن شخصياتهم للمعتقلين لابد أن يكونوا غير واثقين في مركز الحكومة التي يعملون لحسابها ، فهم يؤدون المهمات الموكولة إليهم علي وجل ، ويحتفظون لأنفسهم بخط رجعة يلجئون إليه حين تتغير الظروف وتتبدل الأحوال . ولكن يرد علي هذا بأن جمال عبد الناصر لم يكن في يوم من الأيام يشعر بالقوة والثبات والتمكن كما كان في تلك الفترة . كما أن جميع من كانوا يعملون معه كانوا يشعرون بأضعاف هذا الشعور من الثقة والتمكن . بل إنهم وصلوا في هذه الثقة إلي الحد الذي جعلهم في أثناء إجرائهم التحقيقات يفوهون بألفاظ تشعر بعدم إيمانهم بوجود إله , غير خاطر ببالهم أن هذا الحكم معرض أن تتزلزل أركانه لأنه – في نظرهم – قد استكمل كل أسباب البقاء ، فهو حكم قوي مسيطر ، استطاع أن يسيطر علي الناس حتى في بيوتهم ، وعلي الألسنة في أفواه أصحابها ، وعلي الكلمة التي تقال أو تكتب ، ثم استطاع أن يسيطر علي أرزاق الناس ، فلا عمل لعامل إلا في مصانعه أو أرضه أو دواوينه .. فكل ذلك صار ملكًا خالصًا له . ثم إن أحدًا لا يستطيع أن يدخل البلاد أو يخرج منها إلا بإذنه ، فمفاتيح أبوابها صارت كلها تحت يده .. وبعد كل هذا هو مستند إلي دولة كبرى تسنده بجيوشها وأساطيلها وطيرانها .. فكيف ينال هذا الحكم ؟ ومن الذي يقوي علي النيل منه أو حتى علي التصويب نحوه ؟ .
هكذا كانت نظرتهم إلي الأمور .. وكانت هي أيضًا النظرة التي ينظرها سائر الناس .. ولم يكن يشذ في نظرته إلي الأمور في ذلك الوقت عن ذلك إلا قلة من المؤمنين الذين يؤمنون بقول الله عز وجل : ( •• ) وبقوله : ( ) وهي النظرة التي شرحت في صفحات سابقة بعض نواحيها . فكيف إذن يكون الخوف هو دافع هؤلاء العملاء إلي اللجوء إلي هذا الأسلوب الجديد أسلوب عصب العينين ؟ .. لابد أن يكون الدافع أشياء أخري .. إنه أسلوب الحليف الذي نتتلمذ علي يديه في مبتكراته التكنولوجية التي يعتبرها أسرارًا لا يفضي بها إلا للحليف المقرب الذي يريد أن يبني حكمه بنفس الأساليب التي بنت بها الدولة الأم دعائم حكمها ، ولازالت تثبت هذه الدعائم وتحميها بنفس الأساليب .
إن هذا الأسلوب في ظاهره هو أسلوب عصب العينين . ولكنه في حقيقته هو أسلوب محق الشخصية ؛ لأنه الأسلوب الذي يجعل المتهم ألعوبة في يد المحققين الذين يريدون أن يحصلوا منه علي اعترافات بما يشاءون ، مهما أدت اعترافاته هذه إلي الإعدام ؛ لأن مواجهة الموت أخف وطأة من توقعه لا تدري من أي ناحية يأتيك ولا في أي لحظة تأتي . وكانوا لا يتورعون عن استعمال هذا الأسلوب ليلاً أو نهارًا ، حتى أصبح من الأمور العادية أن يأتي مبعوث من قبل مجهولين ينادي علي أحد الإخوان فيتقدم إليه فيخرج المبعوث من جيبه عصابة يعصب بها عينيه قبل أن يغادر باب العنبر ، ثم يقوده معصوبًا إلي هؤلاء المجهولين . وقد يرجع بعد ساعة ، وقد يرجع بعد يوم ، وقد يرجع بعد أيام .. وقد لا يرجع .
الفصل الثاني : أحداث وملاحظات وخواطر في هذا السجن
كان اعتقالنا في عام 1954 أكرًا طبيعيًا متوقعًَا ؛ حيث كان معركة بين طرفين – مهما قيل فيها فإنها معركة – وقد انجلت عن انتصار طرف وانهزام الطرف الآخر ، فكان من حق المنتصر أن يأسر المهزومين .. ولهذا فإنني في خلال اعتقال 1954 لم أكن أشعر بمرارة الاعتقال في ذاته ، وإنما كنت أشعر بمرارة الهزيمة . وكنت طيلة مدة الاعتقال أفكر في أخطائنا في المعركة ومن أين أتت الهزيمة ، ولا أفكر في الطرف الآخر واعتدائه علينا ؛ لأننا كنا حتى آخر لحظة ندين متكافئين ، وكنا كفرسي رهان . أما اعتقال 1965 طرازًا آخر ولونًا جديدًا لم تسبقه معركة فتكسب منتصرًا حقاً علي مهزوم ، بل كان اعتداءً علي أسير ، وإجهاز علي جريح ؛ لقد وصفت في صفحات سابقة كيف كان الفرد منا يعيش محاصرًا في بيته محاصرًا في عمله محاصرًا في طريقه ، محصيًا عليه كل لفظ ينطق به ، معدودًا عليه أنفاسه .. فإذا أتي بعد ذلك آسرك مشهرًا نحوك سلاحه وأنت أعزل ، لا بل وأنت في قبضته ، فإن ذلك لا يكون منه اعتداء فحسب بل يكون خسة ونذالة .
إنني في 1954 وفي أثناء اعتقالنا لم أكن أوافق من كان حولي من الإخوان حين كانوا يعدون مجرد اعتقال جمال عبد الناصر إيانا اعتداءً ؛ للمعني الذي أشرت إليه الآن ، وقد كان هذا يغضب بعض الإخوان .. أما في 1965 فقد أحسست في جمال عبد الناصر الخسة التي يحسها كل إنسان في حارس مدجج بالسلاح يريد أن يتفاخر بقوته ، ويزهي بسلاحه ، فلم ير سبيلاً إلي ذلك إلا أن يغمد سلاحه في ظهر أسير أعزل مريض مقيد اليدين والرجلين . ولذا فقد استقبلت هذا الاعتقال بشعور مخالف تمامًا للشعور الذي استقبلت به اعتقال 1954 .. استقبلته بغضب عارم ، وثورة نفسية مضطرمة ، وحزن شديد لازمني طيلة مدة اعتقالي ، ولم يفارقني بعدها ساعة من نهار .. حتى قضي الله أمرًا كان مفعولاً . وقد يحسن بي أن أثبت هنا بعض ما مر بنا في فترة إقامتي بهذا السجن مما لا يزال عالقاً بالخاطر ، ومما يجلي للقارئ صورة لهذه الفترة :
1 – في هذا السجن رأيت إخوانًا لم أمن رأيتهم من زمن بعيد . كما رأيت إخواناً ما كان يخطر ببالي أن يعتقلوا في يوم من الأيام ، فعجبت أشد العجب . وأكد لي ذلك المعني الذي أحسسته نحو جمال عبد الناصر من النذالة والخسة ؛ إذ لم تكن الاعتقالات عادة تتناول إلا قادة الإخوان في القاهرة والإسكندرية وبعض العواصم ، أما هذه المرة فقد امتدت إلي المراكز والقرى ، وإلي إخوان يعدون من أطراف الإخوان .
• إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدي :
2 – كان قد مر علي قرار حل الإخوان حتى ذلك الوقت اثنا عشرة سنة انقطعت خلالها الصلة بين هذا الشعب وبين دعوة الإخوان المسلمين تمام الانقطاع . وسلط خلالها تيار جارف مستمر من الأكاذيب والأراجيف والافتراءات علي الإخوان لاقتلاع الدعوة من جذورها ، وإحلال شعارات جديدة في نفوس النشء تقدس شخصية القائد لهم ، وتغرس أفكاره ، وتفرش طريق المستقبل بالورود والرياحين لمن يتبني هذه الأفكار ، كما تفرش هذا الطريق بالشوك لمن يحاول اعتناق أفكار أخري .
في خلال هذه الأثنتي عشرة سنة نشأ جيل جديد ، فتح عينيه فلم يجد أمامه إلا القيم المقلوبة ، والأفكار المسمومة والشعارات الزائفة التي عرضها عليه جمال عبد الناصر وزبانيته الذين احتكروا وسائل الإعلام والتعليم وحجبوا ما عداهم .. وما كان لجيل كهذا إلا أن ينشأ كما شاء له هؤلاء أن ينشأ ، فمن أين له أن يعلم الحقيقة وأصحابها مكممة أفواههم ، ومعزلون عزلاً كاملاً عن المجتمع ؟! وكانت المفاجأة أن رأينا معنا في هذا السجن صبية في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة لا يعدون ذلك . وهذه المفاجأة لم تكن مفاجأة لنا وحدنا بل كانت مفاجأة أيضًا لعبد الناصر الذي وجد هذه الدعوة قد نبتت من جديد بعد أن أحرق كل أشجارها ،واقتلع كل جذورها .. فكيف نبتت ، ومتى وضعت بذورها ، ومن الذي تعهدها ؟ كل هذه الأسئلة سألها عبد الناصر لنفسه ووجهها لمن حوله ، وسألناها نحن لأنفسنا ولمن معنا ، ولكن سرعان ما عرفنا الجواب حين تذكرنا أنها دعوة الله الذي قرر من قبل خلق السموات والأرض قرارًا لا رجعة فيه ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) .. وأروع الروعة حين تعلم أن هؤلاء الإخوة النابتين كانوا أصبر علي البلاء من كثير ممن يكبرونهم سنًا .
• التلاعب بمشاعر المعتقلين :
3 – لما كان عدد المعتقلين من الإخوان الذين ضمتهم المعتقلات هذه المرة كبيرًا يكاد يفوق الحصر ، وكان أكثرهم ممن لم يجربوا الاعتقال من قبل ، فقد شاعت بينهم شائعة أن الحكومة ستفرج عنهم بعد أسبوع ، وكان اعتمادهم في ذلك علي ما تنشره الصحف – التي كانت تظهر في يد بعض الضباط ، كل يوم مما يفهم منه ذلك ، ولم يتصور إخواننا هؤلاء أن هذه خديعة تلجأ إليها الحكومة لتخدير الرأي العام وإقناعه بأنها لا تبغي من الاعتقال إلا مجرد التحفظ حتى تجري تحقيقاتها الأمنية العادلة .. وقد تعلق هؤلاء الإخوة بهذه الشائعة واعتبروها حقيقة لا مرية فيها .. فلما انقضي الأسبوع الأول دون تحقيق الأمل ، وجدوا في الصحف ما أقنعهم بأن الإفراج تأجل إلي أسبوع آخر وهكذا .. وقد حاولت عبثًا أن أصرف بعضهم عن التعلق بمثل هذه الأساليب الخادعة .. ومع ذلك فقد أظلمهم إذا قلت : إنهم في هذا التعلق لم يكونوا علي شيء من الواقعية ، فالإنسان الذي يحس في نفسه البراءة لم يجرب الخداع من قبل جدير أن يصدق من يقول له : سيفرج عنك .. ولما كان جميع المعتقلين هذه المرة – سواء منهم من سبق اعتقاله ومن لم يسبق – قد أخذوا بغير جريرة ، وكلهم يحسون في أنفسهم البراءة ، فقد سرت شائعة الإفراج إليهم جميعًا ولا شاغل يشغلهم إلا الحديث عن الإفراج وتوقعه في صباح كل يوم وظهره ومسائه .
• رؤيـا :
4 – ولقد بلبلت كثرة الحديث عن الإفراج أفكاري ، حتى صار هذا الموضوع عبثًا علي نفسي ، ولجأت إلي الله عز وجل أن يرفعه عني ، ونمت بعد اللجوء ، فرأيت فيما يري النائم أن والدي رحمه الله – وكان إذ ذاك علي قيد الحياة – قد أرسل إليّ خطابًا . ففتحت الخطاب فوجدت فيه قصاصة من الورق نحو ثلاثة سنتيمترات وطولها نحو اثني عشر سنتيمترًا وقد كتب لي فيها هذه العبارة بخطه الذي أعرفه :
ديسمبر
" الإفراج 27 سنة 1965 "
نوفمبر
فلما قرأت ذلك سري عني ، واستيقظت من النوم فوجدتنا قبيل الفجر . وتذكرت نص ما كان مكتوبًا فوجدتني أذكر كل ما فيه إلا شيئًا واحدًا وجدتني لا أذكره ، ذلك أن العبارة جاء بها اسم الشهر مشطوبًا ومكتوبًا فوقه اسم الشهر الآخر فأيهما المشطوب وأيهما المكتوب فوقه ، هذا ما وجدتني مرتابًا فيه هل هو " 27 ديسمبر " أم " 27 نوفمبر ؟ " . كنا إذ ذاك في أوائل العشرة الأخيرة من سبتمبر ، ووجدت أنني إذا أخبرت إخواننا الذين معنا في العنبر والذين يبيتون علي اعتقاد أن الإفراج في الصباح .. ويصبحون علي اعتقاد أن الإفراج في المساء .. إذا أنا أخبرتهم بالرؤيا التي رأيتها فإنها ستكون صدمة عنيفة لهم ، فعزمت علي كتمانها عنهم رأفة بهم وإشفاقاً عليهم .
• أعظم منن الله عليّ :
5 – قدمت من قبل أن السنوات العشر التي مضت منذ الإفراج عنا في عام 1956 قد أنستني ما كان قد أكرمني الله به من حفظ القرآن كله خلال إقامتي بالسجن الحربي – فلما جاء هذا الاعتقال عزمت علي أن أسترد أثمن ما فقد مني وهو الكتاب الكريم ، فعكفت علي حفظه من جديد . وقد تضاعف نشاطي في الحفظ بعد أن رأيت في الرؤيا أن إقامتي في الاعتقال قد حددت إما بثلاثة أشهر وإما بأربعة .. وقد ساعدني علي الحفظ وجود أخوين كريمين معي في العنبر هما الأخ مصطفي عناني من إخوة فوة – الأوفياء – والأخ الشيخ محمد (نسيت لقبه) من إخوان قلين ومن الحفاظ الجيدين ، فكنت كلما حفظت قدرًا سمعه مني الأخ مصطفي ثم قرأته مع الأخ الشيخ محمد قراءة متناوبة مجودة ، وأقرأ كل يوم الجديد علي الأخ مصطفي ثم أقرأ الجديد والقديم مع الأخ الشيخ محمد – ولم أزل كذلك حتى حفظت أو استعدت حفظ العشرين جزءًا الأولي حفظًا مثبتًا والحمد لله . ثم افترقنا وأنا عازم أن أجعل هذه العشرين جزءًا وردي لا أنقطع عنه يومًا حتى ألقي الله آملاً أن يعينني علي ذلك .
وقد يكون مستغربًا أن أقول : إنه بالرغم مما كنا نقاسيه في هذا السجن من عنت وإرهاب لا ينقطع ليلاً ولا نهارًا ، فإنني يوم فوجئت بانتهاء أيامي بهذا السجن وجدتني متألمًا متمنيًا أن لو طالت أيامي به حتى أتم استعادة حفظ القرآن كله .. وإذا كان هذا الشعور يقع من القارئ موقع الاستغراب ، فربما زال هذا الاستغراب حتى يعلم أنني ما أتقلب فيه من فضل الله في هذه الحياة ، فإنني أشعر أن أعظم نعمة لله عليّ هي نعمة توفيقه إياي لحفظ ما حفظت من كتابه ، ولازلت أسأله وألح في السؤال أن يحفظ عليّ هذه النعمة حتى ألقاه بها غير مفرط ولا مبدل . ونصيحة أقدمها إلي من يريدون أن يحتفظوا بما وفقهم الله إليه من حفظ القرآن كله أو بعضه هي أن وسيلة ذلك أن يرتبوا لأنفسهم وردًا يوميًا دون انقطاع مما يحفظون يقرأونه علي أنفسهم . وهذه هي الوسيلة الوحيدة ، وإلا تعرضوا لمثل ما تعرضت له فيما بين معتقلي 1954 ، 1965 وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث يقول : " تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها " .
6 – وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن هذا الحديث الذي سقناه عن التجرد يذكرنا بأخ كريم كان معنا في العنبر وكان أكبرنا سنًا ، وأعظمنًا بلاءً ، وأجملنا صبرًا .. كان الرجل إذ ذاك قد جاوز العقد السابع من عمره ، وكان مع ذلك أكثرنا نشاطًا ، وأوسعنا أملاً ، وأنشطنا في العبادة .. ذلك هو الأخ الكريم الدكتور أحمد القاضي . ومع أن الطعام الذي كان يقدم إلينا لا يقيم أودًا ، فإن هذا الرجل ظل طول مدة اعتقاله في هذا السجن صائمًا لا يفطر ، حتى إن بعض زملائنا من الشبان في العنبر أخذوا يقتدون به ويصومون معه ، ولكنهم لم يستطيعوا المواصلة في حين أنه لم ينقطع . أما أنا فقد وجدت الصيام مع هذا الطعام التافه سيحول بيني وبين إتمام مقصدي الأسمى من التوفر علي حفظ الكتاب الكريم ، فلم اشترك مع إخواننا هؤلاء إلا قليلاً ولكنني عزمت علي أن آخذ نفسي بشيء من هذه العبادة بعد الإفراج عني ، وكان هذا الشيء أن أصوم يومًا واحدًا في الأسبوع لا أزيد عليه ولا أنقص عنه اهتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم : " خير الأعمال أدومها وإن قل " . وقد وفق الله عز وجل إلي تحقيق هذه العزيمة ، وأسأله أن يعنني علي المواظبة حتى ألقاه .
• المباحث والمخابرات :
7 – أشرت في صفحات قريبة إلي أنني قبل أن اعتقل هذه المرة بفترة قصيرة ، حضر إلي منزلي ضابط المباحث المرحوم الأستاذ عبد العزيز الصوابي وفتش المنزل وأخذ كميات كبيرة من الصحف والمجلات والكتب . وقد سألته في تلك الليلة عما إذا كان هذا التفتيش مقدمة لاعتقالي حتى أستعد وأحضر حقيبتي فنفي ذلك ، وقال لي : إنني قمت بهذا التفتيش حتى لا أجعل للمخابرات حجة علينا ، فلا يصح أن تقوم المخابرات باعتقال زوج أختك الأستاذ مصطفي كمال من منزلكم برشيد ثم لا يفتش منزلك بالإسكندرية . فقلت له : إنني كنت معتقدًا أن الأستاذ مصطفي اعتقل بواسطة رجال المباحث العامة في دمنهور فقال : لا .. إن المخابرات العامة أرسلت عددًا من رجالها من القاهرة إلي رشيد لاعتقال الأستاذ مصطفي دون أن نعلم أو نتدخل .. كل دورنا أنهم سألونا عن مقر الأستاذ مصطفي فأجبناهم بأنه في منزل أنسبائه في رشيد .
كانت هذه المناقشة التي دارت بيني وبين المرحوم الأستاذ عبد العزيز الصوابي أول شيء لفت نظري إلي أن المخابرات هذه المرة ضلعًا في الاعتقالات . وتعجبت من قوله : إنهم لم يكونوا يعلمون شيئًا عن اعتقال الأستاذ مصطفي . ثم جاء اعتقالي شخصيًا بعد ذلك – وقد نفي الأستاذ الصوابي حدوثه – مفسرًا لما جاء بحديثه .
ولما نقلنا إلي سجن " أبو زعبل " وأقمن به فترة من الزمن ، جاء إلي عنبرنا موظف مدني يبدو أنه كان مرموقاًَ ، لأنه كان يمشي خلفه جندي من جنود السجن ؛ مما يشعر بأنه ذو حيثية ومكانة ، ثم تقدم الجندي إلي باب العنبر وسأل عن اسم أحد المعتقلين فأجابه الأخ فإذا بهذا الموظف يتقدم نحوه ويصافحه ويعانقه ثم رأيت عددًا من " بلديات " هذا الأخ من زملائنا بالعنبر يتقدمون ويصافحون الموظف ، ثم طلبوا إليّ أن أصافحه وأجروا التعارف بيني وبينه / فتبين لي أنه من أسرة كريمة من أسر هذا البلد وأنه موظف بمخابرات رياسة الجمهورية .. وقد تحدث إلي مواطنيه حديثًا طويلاً ، ولكنني كنت حريصًا علي أن أتحقق مما فهمته من مناقشتي للأستاذ الصوابي . ولم يكتمني هذا الشاب ما عرف أنني أنوق إلي معرفته ، فقصَّ عليّ القصة التي مؤداها أن المخابرات اتهمت المباحث العامة بالكسل والتراخي في أداء مهمتها ، وكادت بالتغافل عما يدبر من مؤامرات ضد الدولة .. واقتنعت الجهات العليا بصحة هذا الاتهام بالرغم من دفاع المباحث عن نفسها .. ونقلت قيادة الكشف عن المؤامرات من يد المباحث العامة إلي يد المخابرات العامة ، ثم نقلت إلي فرع أساسي من فروعها هو مخابرات رياسة الجمهورية .
ثم قال : إن دور المباحث العامة هذه المرة هو الدور التنفيذي الذي ترسمه لها مخابرات رياسة الجمهورية ؛ لأن هذه المخابرات هي التي كان لها الفضل في كشف المؤامرات التي كانت تدبر ضد الدولة ، وهي التي أمرت باعتقال كل من اعتقل هذه المرة . وقال : إنني موفد من قبل مخابرات رياسة الجمهورية لإعداد العدة لعقد اجتماعات لجميع المعتقلين بهذا السجن ، تقدم إليهم فيها أسئلة مكتوبة ويطلب إليهم الإجابة عليها كتابة . وكان فعلاً ما قال هذا الشاب .. فبعد حديثه هذا ببضعة أيام عقدت هذه الاجتماعات وقدمت الأسئلة وأجبنا عليها . والأسئلة تدور حول صلة المعتقل بالإخوان المسلمين ، وأسباب اعتقاله ، وتاريخ الاعتقال ، وتاريخه في الإخوان المسلمين ، والأماكن التي يغشاها بعد الإفراج عنه ، ونحو ذلك . وكان واضحًا مما يجري في هذا السجن أن الجهة المسيطرة عليه جهة أعلي مركزًا وأقوي نفوذًا من المباحث العامة ، ومن أدلة ذلك أنه في أثناء وجودنا في هذا السجن جئ بشخصيات لم يكونوا ممن يدخلون في أفق المباحث العامة ، وعذبوا وشرحت أجسامهم بالسياط وسمعنا صراخهم كصراخ النساء ، ومنهم صلاح الدسوقي الذي كان أحد عتاولة الثورة المتصدرين في سنة 1954 لتعذيب الإخوان بالنفخ والكي ، والذي كان منذ استقرت الثورة محافظًا القاهرة ، منحوه هذا المنصب نكاية في زميله الأخ الضابط صلاح شادي .
• قضية سنفا :
8 – كتبت تحت هذا العنوان لأن العنبر الملاصق لعنبرنا كان يطلق عليه " عنبر سنفا " وكان لسنفا هذه ضجة في عام 1965 . وقد تابع الرأي العام اتساع نطاق الاعتقالات علي ذمة هذه القضية باعتبارها قضية خطيرة لقلب نظام الحكم بالقوة . ويكفي لنصور مدى اتساع الاعتقالات لحساب هذه القضية أن العنبر الملاصق لعنبرنا وعدد نزلائه أكثر من مائة كلهم اعتقلوا علي ذمة هذه القضية ، ومع ذلك فهناك عدد آخر أودعوا السجن الحربي .
أما نحن – نزلاء سجن " أبو زعبل " – فقد كان لكل عنبر شأن يغنيه عن الالتفات إلي من يجاوره .. ولكن وجود أبواب العنابر بالوصف الذي وصفته هو الذي لفت نظرنا إلي هذا العنبر المجاور لنا بالذات .. لأنه لم يكن يمضي يوم تقريبًا حتى تقوم إدارة السجن بتكدير هذا العنبر. وإحدى صور هذا التكدير التي لابد منها عادة هي إخراج نزلاء هذا العنبر في طابور جري بالخطوة السريعة في الطرقة الممتدة أمام عنابر الدور الثالث الذي نسكنه ، وملاحقتهم بلذعات من سوط أو ضربات بعصا .. وقد كنا نعتقد أن تخصيص هذا العنبر بالذات لهذا التكدير المستمر يرجع إلي أن نزلاءه متهمون علي ذمة القضية المسماة بقضية سنفا .
وقد لفت نظري والطابور يجري أمام بابنا أن لمحت زوج شقيقتي الأستاذ مصطفي كمال بينهم .. وكان قد اعتقل قبلنا بفترة حيث اعتقل في أواخر يوليو 1965 .. ومع أنني رأيته والعنبر ملاصق لعنبرنا فإنني لم أستطع أن اتصل به طيلة الفترة التي قضيتها في هذا السجن ؛ لما كان في ذلك من مخاطرة فضلاً عن الاستحالة . ولكنني كنت في حيرة ما الذي جاء به في هذا العنبر ؟ وما علاقته بقضية سنفا ؟ وسنفا هذه قرية من قرى محافظة الدقهلية ، بعيدة كل البعد عن القاهرة التي هي موطنه وعن رشيد التي هي موطن زوجته .. ولم استطع أن أصل إلي حل لهذا اللغز حتى التقينا بعد أن أنقشع ظلام الإرهاب الحكومي فسألته . وقبل أن أنقل للقراء حل هذا اللغز أذكرهم بما كان قد دار بيني وبين المرحوم الأستاذ عبد العزيز الصوابي ضابط المباحث العامة حين حضر لتفتيش منزلي بالإسكندرية ، وأخبرني أنه يفعل ذلك لأن زوج شقيقتي اعتقل من منزلنا في رشيد . فلما سألته عن سبب اعتقاله أخبرني بأنه لا يعرف عن هذا الموضوع شيئًا ؛ لأن الذين اعتقلوه أرسلتهم المخابرات العامة من القاهرة إلي رشيد لاعتقاله . ثم أرجع بعد ذلك إلي ما كنت بصدده من استفساري من الأستاذ مصطفي كمال في سبب اعتقاله حيث أجابني بقوله :
كنت بمنزلكم برشيد في إجازتي الصيفية استمع إلي خطاب جمال عبد الناصر بالراديو في ذكري 26 يوليو 1965 ، وكان يتوعد في خطابه أعداء الشعب ، ولم أكن أتصور وقتها أنه يقصد الإخوان .. ولم يمر يومان حتى حضر إلينا زبانيته إلي رشيد ليلقوا القبض عليّ دون أن أعرف لذلك سببًا .. وفورًا رحلت إلي مديرية دمنهور حيث قضيت الليل .. وفي أول قطار صباحًا رُحلت إلي القاهرة وإلي إدارة المباحث العامة . وبقيت مع حارسي علي باب اللواء حسن طلعت حوالي ثلاث ساعات كان يخرج من مكتبه كل فترة ليتفرس في وجهي ثم يدخل مغيظًا دون أي سؤال .. وبعد ذلك أحضر حارس آخر شخصين لا أعرفهما ، وحوالي الظهر رحلنا ثلاثتنا إلي السجن الحربي واستقبلنا بما هو معروف عن هذا المكان البغيض .
وقد نال أكبرنا سنًا أشد الإهانة في الاستقبال من الصول صفوت الروبي وبأمر من اللواء حمزة البسيوني ، وكان ذنب هذا الرجل أنه لم يكن يعرف نظام وأدب الدخول .. ثم ساقونا نحن الثلاثة إلي سجن رقم 4 حيث أودع كل واحد منا في زنزانة – سجنًا انفراديًا – وبقينا هكذا حوالي 25 يومًا .. وكانت الزنزانة المجاورة لزنزانتي معدة لاستقبال الذين يحقق معهم بوجبات من الضرب بالكرابيج ما بين 200 ، 300 كرباج ثم يلقي بالمتهم جثة تنزف دمًا من جميع أجزائها وتئن أنينًا موجعًا .. وكل يوم كان يمر أتوقع دوري قد قرب . ولم أستطع في هذا الجو أن أتبين شخصية أحد من نزلاء سجن 4 . وبعد 25 يومًا أخرجونا من الزنازين وساقونا إلي مبني السجن الكبير حيث حبسنا حبسًا انفراديًا لمدة أسبوع ، ثم نودي عليّ ضمن مجموعة من الأفراد حيث ساقونا مجتمعين إلي مخزن كبير في مدخل السجن الكبير وجدت به عددًا كبيرًا من الأشخاص تبينت منهم بعض الإخوة أصحاب موظفي شركات والتوكيلات التجارية للنقل ، والأخ سعد كمال والأخ محمد الجريسي ، أما الأشخاص الآخرون فكانوا كثيرين وعرفت أنهم من قرية سنفا بجوار ميت غمر دقهلية . وقد أخبرني هؤلاء الأشخاص أنهم عذبوا عذابًا شديدًا خلال الأيام الماضية ، وأنهم كانوا يسألونهم عن أشياء لا علم لهم بها ولا يعرفون عنها شيئًا . وبالتحدث معهم وجدت أنهم مجموعة من الشباب ؛ منهم فلاحون أميون ، ومنهم مدرسون ، ومنهم طلبة في الجامعة كانوا يقضون إجازاتهم في قريتهم كما كنت أنا الآخر أقضي إجازتي في رشيد .. وقد فوجئت بأن رأيت في وسطهم الرجل الكبير الذي دخل معي السجن الحربي في يومه الأول وعرفت أنه ناظر مدرسة ، وكان قد حضر من القرية إلي القاهرة لزيارة ولده الطالب بكلية العلوم . ولما جاء الزبانية في ذلك اليوم للقبض علي ولده فلم يكن موجودًا في ذلك الوقت فأخذوا الوالد ولقي ما لقي من عذاب وإهانة .
وبعد حوالي أسبوع في هذا المخزن جاءوا ليقولوا لنا : ليس ضدكم تهم وقد صدر أمر الإفراج عنكم ؛ فاعتقدنا أنه إفراج حقاً . وأركبونا ومعنا الحرس وأنزلونا في مبني وزارة الداخلية .. وبعد عدة إجراءات ركبنا ثانية وإذا بنا نري أنفسنا في سجن " أبو زعبل " . وحشرنا حشرًا داخل إحدى الحجرات التي لا تتسع لأكثر من 30 شخصًا حيث بلغ عددنا أكثر من مائة .. ولأن معظم الموجودين بالحجرة من قرية سنفا ، ولأنهم ليسوا من الإخوان المسلمين ولم تكن تجمعهم فكرة ولا مبدأ ، وكل الذي يجمعهم أنهم أبناء قرية واحدة ، فقد كانوا كثيري العراك بعضهم مع بعض وترتفع أصواتهم مما آثار ضباط السجن ، فكانوا يخرجوننا يوميًا ليذيقوننا من ألوان الإيذاء والإهانة . ولم أكن قد عرفت لماذا اعتقلت ، وما هي قضية سنفا بالذات .. حتى جمعتني الظروف أخيرًا بأحد الذين كان قد وجه إليهم الاتهام وهو الأخ يحيي القللي وكان موظفاً في شركة التوكيلات التجارية للنقل .. وعرفت سر اعتقال موظفي هذه الشركة ، فقد عرفت منه أنه كان ينقل بضاعة بسيارة من سيارات الشركة لأحد الأشخاص – ولا أذكر اسمه الآن – وكان لهذا الشخص معاملات مع بعض أشخاص في قرية سنفا . وتخيلت أجهزة المخابرات أن هذه الصلة مقصود منها العمل علي قلب نظام الحكم بالقوة ، لاسيما وأن البضاعة التي كنا ننقلها لعب أطفال وتحتوي علي ما يلعب به الأطفال من بمب وصواريخ ونحوها .
يقول الأستاذ مصطفي كمال : ودارت القضية حول نشاط يحيي القللي مع بعض من تعامل معهم في قرية سنفا من التجار ومن حولهم . وكان من نصيبي أن اعتقل لا لشيء إلا لأنني كنت متهمًا مع يحيي في القضية التي لفقت ضدنا في عام 1954 . كما اعتقلوا جميع من كان يعمل في شركة التوكيلات من أول مديرها إلي أصغر سائق فيها وتباع . ثم يقول : كان الذين قاموا باعتقال المجموعات الأولي في عام 1965 هم رجال المخابرات ، وكانوا يتفاخرون علي رجال المباحث العامة بأنهم أصحاب السبق في كشف الكثير من القضايا والمؤامرات – في زعمهم – ضد نظام الحكم ؟؟ ومع ذلك لم تسفر جهودهم عن شيء رغم ما لقي الناس في السجن الحربي والمعتقلات من ظلم وعذاب وآلام .
• قضية كرداسـة :
9 – ويمكن أن يكون هذا العنوان " مذبحة كرداسة " كما يمكن أن يكون " مهزلة كرداسة " ، أما العنوان الأخير فإنما يقصد به وصف للعهد ، وقد وحدثت هذه المهزلة وصهري الأستاذ مصطفي في السجن الحربي ، وقد راعه ما رأي حين جاءوا إلي السجن بأهل كرداسة وفعلوا بهم الأفاعيل .. وقد قص عليّ الأستاذ مصطفي ما رآه بعينيه ثم ما سمعه منهم ، وقد وجدته مطابقًا لما قرأته في كتاب " الموتى يتكلمون " فرأيت أن أنقله تمامًا للفائدة :
كان من بين الأسماء التي ذكرها علي عشماوي (أحد المتهمين في قضية قادة التنظيم سنة 1965) اسم " السيد نزيلي " علي أنه مسئول عن مجموعة الإخوان في إمبابة .. ويقيم في كرداسة .. وتوجهت مع غروب الشمس يوم 21 أغسطس مجموعة من زبانية المباحث الجنائية العسكرية بملابسهم المدنية إلي القرية الهادئة في إمبابة .. كان عددهم ثمانية .. وسألوا عن منزل السيد نزيلي .. وتوجهوا إلي المنزل .. واقتحموه عنوة .. ولم يكن السيد نزيلي موجودًا .. كانت عروسه فقط هي التي بالمنزل مع شقيقه عبد الحميد .. وسألوا عن السيد ، ولما علموا بعدم وجوده تفرقوا في غرف المنزل يفتشون وينهبون .. وكانت هذه عادتهم بجانب البحث عن أي أدلة ، يبحثون عن المال والمصوغات .. يقدمون الأدلة إن وجدت وأغلبها الكتب الدينية إلي رؤسائهم ، ويخفون في جيوبهم المال والمصوغات .
واعتقد عبد الحميد أن الثمانية عصابة من اللصوص .. خرج إلي الشرفة يستغيث ، وتجمع أهالي القرية .. وأراد الثمانية اصطحاب عبد الحميد وعروس شقيقه إلي السجن الحربي ليضطر السيد نزيلي إلي تسليم نفسه .. واعتقد الأهالي أن الثمانية يخطفون ابن قريتهم وعروس شقيقه .. وتصدي كل أهالي القرية الثمانية .. ونشبت معركة رهيبة انتهت بهروب سبعة من الثمانية أما الثامن فقد سقط قتيلاً . وبعد ساعة .. تحرك موكب من المصفحات إلي القرية الساكنة وأكثر من ألفي جندي من جنود الجيش في حملة تأديبية للقرية وأهلها الذين تجرأوا علي " ضرب الحكومة " ، وكانت أوامر الحملة صادرة من شمس بدران (الذي استطاع الهرب حاليًا إلي انجلترا لينعم بالملايين التي سرقها من مال الشعب وتمكن من تهريبها) وتحولت القرية إلي ساحة معركة .. واستمر دوي الرصاص طول الليل .. والصرخات .. صرخات الرجال والنساء والأطفال تنطلق إلي السماء تحمل الأنين والشكوى إلي الخالق العظيم .
وتم تفتيش كل منازل القرية .. ونهب كل قرش في كل بيت ، ثم تم جمع الرجال وربطهم بالحبال كقطيع ماشية ، واقتادوهم إلي اللوريات لتنقلهم إلي السجن الحربي .. وفي لوريات أخري تم تجميع الزوجات والأمهات واقتدن أيضًا إلي السجن الحربي . وفي فناء السجن .. جمعوا الرجال .. ووقف الفريق محمد فوزي يستعرض " السبايا " وكأنه قائد جيش يستعرض أسري جيش الأعداء .. وكان الرجال وقوفاً .. وصرخ فيهم مايسترو التعذيب صفوت الروبي أن يركعوا أمام القائد ويسجدوا .. وانهالت الكرابيج علي ظهورهم .. ثم صدرت الأوامر أن تمتطي كل امرأة من كرداسة ظهر زوجها أو أبيها أو جارها .. وأن يحبو الرجال – والنساء فوق ظهورهم – في الفناء .. بينما اصطف عدد آخر من أهالي كرداسة علي هيئة دائرة وصدرت إليهم الأوامر أن يصفع كل منهم جاره ، ويبصق في وجهه . ولاحظ السجانون أن بعض الصفعات ضعيفة .. فكانوا يلهبون أصحابها بالكرابيج .
وكانت تلك صورة ما تعرض له أهالي كرداسة الذين اقتيدوا إلي السجن الحربي ليبقوا بداخله تسعة وعشرين يومًا يكررون فيها المشاهد السابقة .. أما نفس القرية فقد احتلتها قوات من المباحث الجنائية العسكرية وأصدرت أوامرها أن يلزم الكل منزله لا يغادره أبدًا .. وأغلقت المساجد وأمرت بتعطيل الصلاة .. وتصادف أن مات أحد شيوخ القرية وهو محمد عبد العزيز حيدر .. ورفض رجال المباحث الجنائية العسكرية دفنه .. وبقي في فراشه ثلاثة أيام حتى تعفنت جثته .. وعندما صادرت الأوامر بأن يتم دفنه خرج نعش الرجل يحمله أربعة رجال فقط ولا يتبعه أحد إلي المقابر .
• إفراجـات :
10 – في خلال فترة إقامتنا في " أبو زعبل " نودي مرتين ، كل مرة علي عدد من الإخوان نحو الخمسين أو الستين من الإخوان الكرام الذين ذكرت أنهم لم يكونوا في يوم من الأيام هدفاً للاعتقال .. وسلموا أماناتهم وهنأناهم بالإفراج . وفي منتصف أكتوبر نودي علي عدد كبير من الإخوان يبلغ بضع مئات ، أكثرهم من الإخوان ذوي النشاط وفيهم مجموعة كبيرة من إخوان الإسكندرية وكنتم منهم ، كما كان منهم الإخوة الأساتذة نجيب عبد العزيز ومحمود السعدني ومحمد فهمي القراقصي وغيرهم من خيرة إخوان الإسكندرية والقاهرة وبعض الأقاليم .. وأمرنا بتحضير حقائبنا ، وسلمتنا إدارة السجن أماناتنا ، وقدمت لنا التهنئة للإفراج كما فعلوا مع المجموعات السابقة . وجلسنا في فناء السجن ننتظر حضور السيارات التي تقلنا . وجلس الإخوان من حولي يتحدثون ولمحات السرور علي وجوههم وفي ثنايا حديثهم للإفراج الذي جاء مبكرًا .
وجلست أنا شارد الذهن ، أحدث نفسي حديثًا لا أجرؤ أن أبوح به ؛ لأنه يعكر صفو إخواننا المسرورين بالإفراج . وحديثي لنفسي دار علي نحو قريب من هذه المعاني : هل صحيح أن هذا إفراج ؟ إن هذا يتعارض مع سياسة الحكومة نحونا .. إذا كانوا يريدون الإفراج عنا بعد نحو شهر فلم إذن كان الاعتقال ؟ وهل هناك ضغط علي الحكومة ؟ ممن يكون الضغط وكل حلفاء الحكومة أعداء لنا يتربصون بنا الدوائر ؟ وإذا كانوا يريدون بالإفراج الدعاية لكسب الرأي العام فقد حصلوا علي هذا الكسب بالإفراج عن الذين ليس لهم معهم تاريخ .. أما هذه الدفعة فأكثرها ممن كان لهم دور معهم .. إنني عقلاً لا أتصور أن يكون هذا إفراجًا . ثم إن هناك الرؤيا ، والرؤيا كما يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " الرؤيا الصالحة جزء من سنة وأربعين جزءًا من النبوة " .. هذه الرؤيا حددت تاريخ الإفراج باليوم والشهر والسنة ، والشك الوحيد في تفاصيلها محصور في اسم الشهر الذي يقع فيه الإفراج فهو إما نوفمبر وإما ديسمبر ونحن الآن في أكتوبر .. وإذن فلم يكون هذا إفراجًا بحال .. إذن فماذا يكون ؟ هذا ما أقف أمامه حائرًا .
ومضت الساعة تلو الساعة ونحن في انتظار السيارات .. حتى جاءت فتهللت وجه إخواننا ، ولكنني كنت حائرًا لا يرتسم علي وجهي شعور إلا شعور الريبة والشك والحيرة ، وشعور آخر هو شعور الحرج من المكاشفة بما يدور في داخل نفسي . وركبنا السيارات .. وكانت بضع سيارات ، وكان معنا عدد لا بأس به من الطلبة والشباب الذين لا يستطيعون في كل موقف إلا أن يظهروا شعورهم . ولما كانوا يشعرون بالسرور ، فقد أظهروا ذلك في عدة أساليب من المرح المباح . وبقدر ما كانت هذه الأساليب تثير البهجة في نفوس زملائنا من الإخوان الكبار وتشيع المتعة في جميع السامعين ، كانت تثير الألم في نفسي لإشفاقي علي هؤلاء الإخوة الكرام حين لا يتحقق لهم ما ينتظرون ، وحين يفاجئون بما لم يكونوا يحتسبون .
وسارت السيارات ، وواصلت السير ، وقطعت بنا وقتاً طويلاً ، ومسافات شاسعة ، والإخوان مستغرقين في لهو برئ .. حتى تنبه بعضهم فجأة فنظر في ساعته ، فوجد أن الوقت الذي مضي كان ينبغي أن يوصلنا إلي طريق كذا وإلي بلدة كذا ، ولكن معالم الطريق الذي نحن فيه تختلف عن ذلك كل الاختلاف فما هذا الالتواء في السير ، وإلي أين نحن سائرون ؟ . وهنا بدأت عقارب الشك تدب في نفوس الإخوان .. وخفتت أصوات الشباب المبتهج وأخذ الجميع يتهامسون ، وبدأت أدعو الله أن يربط علي قلوب إخواني حتى يتحملوا هذه الصدمة .
• ابتكار شيطاني جديد :
ويبدو أن السادة الجدد الذين ألقي إليهم بقيادة الحملة الجديدة علي الإخوان من رجال مخابرات رياسة الجمهورية – تهتكًا منهم في فنون الإيذاء والتنكيل - أرادوا أن يبهروا سيدهم الكبير بابتكارات يعجز الشيطان عن مثلها .. وكان من ابتكاراتهم التلاعب بالنفس الإنسانية ، وإيصال الإيذاء إلي صميم هذه النفس مباشرة بدلاً من توقيع الأذى علي البدن ، فلا يصل هذا الأذى إلي النفس وإنما يصل إليها مجرد شعور بالألم ، فإذا طاب البدن – وسرعان ما يطيب . برئت النفوس من شعورها بالألم واستوت علي ما كانت عليه .. أما إذا وقع الأذى علي النفس توقيعًا مباشرًا تمرض .. وإذا مرضت النفس فقلما تبرأ ، وقلما ترجع إلي ما كانت عليه .. ومن هنا كان الفرد من الإخوان الكرام يعذب بمختلف ألوان التعذيب بإيذائه في بدنه بكل وسائل الإيذاء حتى يتقطع لحمه ويتناثر هنا وهناك ويعلق مقلوباً .. فيتحمل كل هذا ولا يعترف بما يريدون .. فإذا يئسوا من الوصول معه إلي ما يريدون لجأوا إلي التعذيب النفسي ، بأن يحضروا زوجته ويهددونه بهتك عرضها ، فتري هذا الذي تحمل من التعذيب البدني ما تنوء به الجبال لم يقر علي تحمل مجرد التهديد بهذا اللون من التعذيب النفسي ، فيذعن في الحال ويوقع ما يشاءون من اعترفات تؤدي به إلي الإعدام .
ومن هذا الباب قولهم : " إن أعظم مصيبة تصيب الإنسان هي الفقد بعد العطاء ، فالفقير مهما طال به الفقر حتى لو قضي حياته فقيرًا ، فإن نشوءه في الفقر وتقلبه في رغامه ، وإلفه معاشرته لا يكاد يشعره بمرارة .. أما إذا افتقر الموسر فإنه يحس لهذا الضيف الذي حل بساحته بمرارة قد تقضي عليه .. وكذلك المسجون مهما طالت أيامه في السجن فإنه لا يكاد يحس بمرارة سجن ألفه أنه ممس فيه ومصبح .. أما إذا منّي بالحرية ، وأوهم بالإفراج ، وطلب إليه أن يعد نفسه للذهاب إلي بيته ، وانهال عليه المهنئون حتى قدم إليه التهاني هيئة إدارة السجن .. فإذا تبين له فجأة أن كل هذا لم يكن إلا خدعة ، فإن ذلك يجرح نفسه جرحًا عميقاً يعز علي البرء ، ويستعصي علي الشفاء ، ويولد في نفسه حسرة تستقر في سويداء قلبه ، وتكسو نظرته إلي الأمور لوناً أسودًا قائمًا . وحين يستولي عليه اليأس فيري الدنيا كلها سوادًا ، يسلمه هذا الشعور إلي التخلص من الحياة بأسلوب أو بآخر .
هذا ما أراده السادة الجدد وما هدفوا إليه من أسلوبهم هذا المستحدث .. ولكنهم نسوا أنهم يتعاملون مع مؤمنين وصفهم ربهم بقوله : ( • ) . ظل الإخوان في سياراتهم في حيرة من أمرهم وهم لا يكادون يصدقون أن الوعود التي وعدوها كانت برقاً خُلَّباً وخداعًا ماكرًا إلا بعد أن رأوا السيارات تدخل بهم في بناء متهالك قديم ، وطلب منهم أن ينزلوا من السيارات ومعهم متاعهم . ففعلوا وهم لا يعرفون أين نزلوا وما هذا البناء القديم . وبعد نحو ساعة من نزولهم والحسرة تقطع قلوبهم علموا أن هذا البناء القديم هو سجن مزرعة طره . وهنا ازددت بالله إيمانًا حيث سارت الأمور حتى ذلك اليوم مصدقة الرؤيا التي قال عنها النبي صلي الله عليه وسلم : " إنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة " .
الفصل الثالث : في سجن مزرعة طره
دخل الإخوان هذا المبني وهم لا يكادون يستطيعون الوقوف علي أقدامهم من شدة هول المفاجأة ، لاسيما بعد أن علموا أن المبني سجن آخر .. كادت تتمزق نفوسهم ، وتطير قلوبهم شعاعًا لولا بقية من إيمان بالله تتبدد علي عتبته سحائب اليأس ، وتتحطم علي صخرته جيوش الهموم . بدأوا المشوار من جديد .. أخذت بياناتهم ، وتسلمت أماناتهم ، قيدت أسماؤهم ، وقسموا أقسامًا في عنابر ، علي أن يشغل كل عنبر مجموعة اعتقلت من محافظة واحدة ، وكان نصيبي هذه المرة أن أكون في عنبر إخوان الإسكندرية وإن كان إخوان الإسكندرية قد شغلوا أكثر من عنبر ، والعنبر يضم مائة معتقل .
ولست أدري هل كان العاملون في إدارة السجن ملمين بظروف هؤلاء النزلاء الجدد الذين وردوا إليهم في تلك الليلة ، أم أنهم ألموا بها من أفواه هؤلاء النزلاء حين واجهوهم لأول مرة فلاحظوا أنهم في حالة هي أقرب إلي أن تكون انهيارًا عصبيًا ، وبالتفاهم معهم ألموا بما حاق بهم من كيد وما دبر لهم من صدمة .. علي أي حال لقد كان الضباط المسئولين عن إدارة هذا السجن يتحدثون معنا حديث المقدرين لما أصابنا والمواسين في المصيبة التي نزلت بنا .. وقد يكون هذا إلهامًا من الله لهؤلاء الناس حتى يخففوا من وطأة الصدمة ، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل . ألقي الضباط في روعنا أننا إنما حضرنا إلي هذا المكان لقضاء أسبوع واحد تمهيدًا للإفراج النهائي .. وفي الوقت الذي كلام الضباط علي أعصاب إخواننا بردًا وسلامًا فاستطاعوا أن يخلدوا إلي النوم بعد أن كان قد طار من عيونهم ، تلقيت هذا الكلام علي أنه نوع من المواساة يستحق عليها الضباط كل الثناء ، لأن الرؤيا عندي هي الأصدق وهي قد حددت الميعاد أدق تحديد .. ولكنني مع ذلك ظللت حريصًا علي ألا أكاشف الإخوان بها حتى لا أدخل اليأس في قلوبهم ، لاسيما والميعاد ليس بالقريب وأكثرهم لم يعد يستطيع أن يتحمل أن يسمع عن تأجيل الإفراج يومًا واحدًا .
معالم هذا السجن
وهل اختير للإخوان عفوًا ؟
وقبل أن أسترسل في حديث الترجمة عن مشاعر الإخوان التي كانت هي الوتر الحساس الذي يضرب عليه عارفو قطع العذاب بدون رحمة ، يحسن بي أن أتحدث عن معالم هذا السجن حتى تكون صورته واضحة في مخيلة القارئ . لاسيما وفي هذا السجن من المعالم ما لا يتصوره قارئ يعيش في القرن العشرين ، بل ما قد لا يصدقه القارئ إذا صورته له ولا يحمله إلا علي أنه نوع من الأساطير . صورة هذا السجن مغايرة تمام لسجن " أبو زعبل " ومضادة له كل التضاد .. فهذا سجن قديم مضي علي بنائه ما يربو علي مائة عام ، أرض فسيحة شاسعة من الأراضي الزراعية ، مبني عليها صف طويل من دور واحد من العنابر المتلاصقة العالية السقوف ذات النوافذ القريبة من السقوف ، وأمام هذه العنابر صف من حجر مختلفة المساحات منها ما يشبه العنابر وما يشبه الزنزانات ، وفي بعض هذه الحجر مكاتب لإدارة السجن وبجانبها شفخانة السجن ، كما يوجد قريبًا منه المطبخ . ويحيط بهذه المباني أرض شاسعة مزروعة ، يبدو أن السجن قد اكتسب اسمه منها .. وفي جانب من هذه المزارع تري مبان جديدة تشبه أن تكون صالات .
وعنابر هذا السجن في سعة عنابر سجن " أبو زعبل " إلا أنها بناء عتيق من طبيعته ألا يكون نظيفاً . جدران وسقوفاً وأرضًا . فإذا علمت أن وسائل التنظيف منعدمة لا وجود لها فلك أن تتصور مدي قذارتها – وأرضية العنابر من الإسفلت الخشن – ولا داعي لتكرار ما قلته من قبل من سعة مثيلاتها في سجن " أبو زعبل " وما حملته أكثر من سعتها من النزلاء ، حيث كان هذا هو العيب الوحيد فيها ، ولكن عنابر هذا السجن لا تصلح حتى أن تكون اصطبلات للخيل والحمير ، ولا داعي بعد ذلك إلي القول بأن الواحد منها يصلح لسكني عشرين مسجونًا ولكننا حشرنا فيه مائة .. والضوء في هذه العنابر شديد الخفوت مهما كانت الشمس مشرقة ؛ لأنها دور أرضي . ويخيل إليّ أن السجن في مجموعه منخفض عن أرض الطريق العام . وباب العنبر صغير ومن الخشب المصمت ، وهو مغلق دائمًا إلا في لحظات معينة . وكان الباب في " أبو زعبل " يلعب دورًا هامًا في التهوية حيث ينطلق الهواء من النوافذ إليه في تيار متجدد .
ومهما يكن من أمر فإننا نحن الإخوان المسلمين قد أخذنا أنفسنا من أول أيامنا في هذه الدعوة علي أن نعيش في مختلف الظروف والبيئات ، ننام علي الأرض وعلي البلاط وعلي الإسفلت بدون فراش ولا وسادة ولا غطاء ، كما ننام علي الأسرة الوثيرة الفراش الدافئة الغطاء ، لا نكاد نحس للتغير ما يحسه المترفون . ولذا فإن السطور التي أومأت فيها لوصف المكان الذي انتقلنا إليه لم يكن الهدف منها أن أشعر القارئ بأن شيئًا من الامتعاض قد ألم بنما ، وإنما قصدت أن أقدم إليه صورة المكان الذي انتقلنا إليه ؛ حتى يتمشي بمخيلته معنا في كل خطوة تمهيدًا لسماع ما أشرت إليه في السطور الأولي من هذا العنوان مما قد لا يتصوره ولا يخطر له ببال .
• إذلال مهين :
قدمت أن الإخوان لا يضيقون ذرعًا بضيق المكان ولا بسعته ، ولا بخشونة العيش ولا بنعومته ، ولا بقلة الطعام ولا بكثرته ، ولا برداءته ولا بحسنه . كما لا يضيقون ذرعًا بالجوع ولا بالعرى ولا بالحر ولا بالبرد ، فإن هذه أمور أخذوا أنفسهم بها من قبل واستطاعوا أو يوطنوا أنفسهم علي كل الأحوال في معسكرات الجوالة وفي ليالي الكتائب وفي رحلات الدعوة ، وغيرها من الأساليب التي عالجوا بها نفوسهم حتى أسلمت لهم قيادتها .
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلي قليل تقنع
وأعداء الإسلام من الحكام والجدد جربوا ذلك في الإخوان وأيئسهم صبرهم وجلدهم علي كل ما تعرضوا له من سهل وصعب وحلو ومر .. فلجأ فريق المتخصصين في فنون التنكيل والتعذيب إلي ابتداع أسلوب جديد ، ليس فيه ضجة التعذيب بالضرب والكي بالنار والنفخ بالمنفاخ ، ولا يبذل القائم بالتعذيب فيه جهدًا ولا وقتاً ولا انفعالاً ، ولا يتكلف حتى في الآلات التكنولوجية الحديثة ثمنًا لكهرباء ولا إهلاكًا للآلات ، كما أنه لا يترك في أجسام المعذبين آثارًا تشهد في يوم من الأيام علي التعذيب وتفضح الطغاة . لقد لقينا في السجن الحربي ما لقينا ، ولقينا في سجن " أبو زعبل " ما لقينا ، ووصل التعذيب إلي الموت أو ما يقارب الموت .. ولكن حاجات الطبيعة البشرية كانت ميسرة باعتبار ذلك مرًا متفقاً عليه يخرج من دائرة العداء بين الأطراف المتنازعة .
كان بالسجن الحربي دورات مياه صحية كتلك التي في بيوتنا ، وكان في سجن " أبو زعبل " دورات مياه ضحية تفوق مثيلاتها في السجن الحربي إعدادًا ونظامًا ونظافة ، فهي علي نظام أحدث .. والمقصود بدورة المياه الصحية أن يكون لها تهوية خاصة تفصل هواءها عن مكان المعيشة وتصله بالجو الخارجي المطلق ، كما أن فضلات الإنسان التي يتخلص منها في هذه الدورات تنصرف بنظام خاص له طرق مختلفة تختلف باختلاف درجة العمران . وحتى قبل انتشار العمران وتقدم فن البناء ، كان مراعي فيما يسمي الآن دورات المياه توافر الشرطين الضروريين المشار إليهما ، فلقد كانت أماكن قضاء الحاجة بعيدة عن المساكن حيث يقضي الناس حاجتهم ويتخلصون من فضلاتهم في الخلاء ، حتى سمي قضاء الحاجة " الذهاب إلي الخلاء " . وفي الخلاء المنفصل تمامًا عن المساكن التهوية الكاملة التي تتكفل أيضًا بما فيها من رياح وأتربة بمواراة هذه الفضلات حيث تحلل ولا يبقي لها أثر .
وليس الإنسان وحده هو الذي إذا تخلص من فضلاته لم يعد مسئولاً عنها ولا مطالبًا بشيء نحوها ، بل إن الحيوان أيضًا اكتسب هذا الحق .. حتى القائمون علي عملية الصرف الصحي وهم عمال المجاري لا يتعاملون مع هذه الفضلات إلا بعد تحللها وتحولها إلي مادة أخري تختلف عن الفضلات في اللون والقوام والرائحة .. ولن يقبل عامل من هؤلاء العمال مهما أجزلت له الأجر أن يتعامل مع فضلات أي إنسان وهي في حالتها الأصلية ولا حتى في فضلات نفسه . ما في سجن مزرعة طره فإنهم اقتطعوا من كل عنبر من عنابره جزءًا في أحد أركانه ، وأقاموا حائطًا بارتفاع قامة الإنسان وجعلوا هذا المكان لقضاء الحاجة دون باب ولا نافذة ولا سقف ، وليس بالعنابر مياه إلا ما يحضره المعتقلون في صباح كل يوم من مياه في جرادل من حنفيه في فناء السجن . وعلي من يريد قضاء حاجته أن يأخذ قدرًا من هذا الماء ويدخل هذا المكان وهو لا يكاد يستطيع التنفس ، كما أن عدم وجود تهوية إلي خارج العنبر تجعل ما ينبعث منه من روائح تنتشر في أرجاء العنبر .. وكان الإخوان في أول الأمر يعانون مشقة استنشاق هذه الروائح ، ولكنهم – بطبيعة حاسة الشم باستمرار هذه الروائح – فقدوا الإحساس بها .. وهذا من تخفيف الله عن الناس الذين لا متنفس لهم .
ثم يأتي بعد ذلك الدور الخطير .. أين تذهب هذه الفضلات ؟ هل لها نظام للتصريف كما يوجد في كل مكان في الدنيا ، حتى ولو كان هذا النظام بدائيًا ؟ لا .. ليس لها من تصريف .. وليس لها خزان كبير أو صغير يتشربها ويحللها .. ليس لها شيء من ذلك .. تحيرنا في أول يوم وسألنا السادة مديري السجن . فقالوا : عليكم أن تحملوها كل يوم وتنقلوها إلي أرض خالية في آخر السجن . في هذه اللحظة فقط فطنا إلي السبب الذي من أجله اختاروا لنا هذا السجن بعد سجن " أبو زعبل " لمن كانوا في " أبو زعبل " وبعد السجن الحربي لمن كانوا في السجن الحربي . هذا هو الإذلال الذي لم تتفتق عنه أذهان الذين سبقوا بالإساءة والظلم ، وتفتقت عنه أذهان أخلافهم الذين ظنوا أن الدنيا دانت لها ، فاستباحوا ما لم يستبحه الظالمون من قبلهم . هل كانت الدولة عاجزة عن توصيل هذه الدورات بالمجاري العمومية أو عن إنشاء نظام صرف خاص بها ؟ إن هذا لن يعجز عنه فرد واحد لو كان يملك هذه المباني ، ولكن الدولة أبقت عامدة علي هذا الوضع القذر الوقح كما تبقي عصابات اللصوص ومحترفو الإجرام علي إظلال الشوارع لتسهيل سطوهم علي بيوت الآمنين .. أبقت عليها لإذلال رقاب لم يستطيعوا إذلالها بكل وسائل العنف والقهر والإرهاب .
إن الأخ المسلم وقد مر بمختلف وسائل القهر والتنكيل والتعذيب طيلة شهور وسنين ، قد ينسي علي مر الأيام كل ما مر به من ذلك .. ولكنه لا ينسي هذا الإذلال الذي يحني له رأسه كل صباح ، والذي يعاني طول يومه وليلته من العيش في جواره وفي الجو المشبع به ، والباب مغلق عليه ثلاثًا وعشرين ساعة أو يزيد . لقد كان المقصود بجانب الإذلال القضاء علي هذه الفئة المؤمنة بالأوبئة والأمراض التي هي النتيجة المنتظرة لهذا الأسلوب من المعيشة الملوثة بكل أوبئة الموت والهلاك .. ولكن كان من عناية الله بأهل دينه وبالمدافعين عن كلمته أن حال بين هذه الأوبئة – المحيطة بهم – وبينهم كما فعل مع جدهم إبراهيم عليه السلام : ( ) كان المقصود بعد الإذلال أن تموت هذه الجموع ، فلا يقال : إنها ماتت من الضرب ولا من التعذيب ، ولكن شاء الطغاة وشاء الله ، فكانت مشيئة الله هي الغالبة ( ) .
إن الإخوان المسلمين الذين سيموا الخسف وعذبوا ونكل بهم ، إذا سألهم سائل عما لاقوا من مشقات ، سواء أكان هذا السائل صديقاً أو قريبًا أو محققًا بعد انتهاء عهد الظلام ، قد يقولون الكثير والقليل عما لاقوه .. ولكنهم يستحيون أن يثيروا إلي هذا اللون من الإذلال ولو مجرد إشارة ، لأن ألسنتهم لا تستطيع النطق به ، ولأن حياءهم يمنعهم من الحديث عنه ، وهذه مشقة نفسية قاتلة لا يقدرها حق قدرها إلا من عاشها وعاناها .
• وصل ما انقطع من الحديث :
مضي الأسبوع الأول الذي علل ضباط السجن به الإخوان حين رأوهم في حالة انهيار نفسي خطير . واشرأبت أعناق الإخوان يسألون هؤلاء الضباط وعدهم الذي وعدوهم ، فقالوا لهم : إن الجهات العليا رأت قبل الإفراج عنكم أن تحضروا محاضرات نوعية تستغرق أسبوعًا .. فتقبل الإخوان هذا الوعد الجديد علي مضض ضائقين ذرعاً بهذا التأجيل
• محاضرات نوعية :
تحقق ما قاله ضباط السجن ، فقد دعيت مجموعتنا الموجودة بهذا السجن في ذلك التاريخ إلي الاستماع إلي ثلاثة محاضرين يلقي كل منهم ثلاث محاضرات . وكان إلقاء المحاضرات في قاعة المحاضرات التي بنيت حديثًا بالسجن ، وكان الإخوان خلالها يجلسون علي الأرض والمحاضر يلقي محاضرته من فوق منصة . وكان المحاضر الأول هو الأستاذ كمال رفعت . وكان إذ ذاك وزيرًا في الوزارة ، وإما رئيسًا للجنة الفكر في الاتحاد الاشتراكي . وكان هذا الرجل من عتاولة التعذيب في عام 1954 ، ولكن قد يعجب القارئ حين أقرر مبتغيًا وجه الحقيقة أن الرجل خلال محاضراته كان ملتزمًا بحدود الأدب في حديثه إلينا ، وكان حريصًا علي أن يشعرنا بأنه لا يخاطبنا من علٍ . كما كان حريصًا حين يتكلم عن دعوة الإخوان ألا يسمها بكلمة نابية أو يجرحها بأسلوب من أساليب التجريح .. وكان كل اهتمامه موجهًا إلي أن يظهر فكر رجال الثورة علي أنه فكر إسلامي ولا داعي إذن لوجود شقاق بين إخوة أفكارهم كلها نابعة من مصدر واحد هو الإسلام .
وكان المحاضر الثاني مفاجأة لنا إذ وجدنا المحاضر هو الأخ عبد العزيز كامل . وكانت محاضرته تدور علي محورين ، المحور الأول : " الميثاق " وإثبات أن نصوصه مستقاة من الفكر الإسلامي . والمحور الثاني : هو نفذ كتاب " معالم في الطريق " للأخ الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – نقدًا يبرزه منافيًا للفكر الإسلامي خارجًا علي حدود الدعوة الإسلامية . ويجدر بي في هذا المقام أن أذكر أن أكثر الإخوان أصيبوا بصدمة حين سمعوا عبد العزيز في هذا الموقف وأساءوا به الظن . إلا أنني كنت أتصوره مكرها يظله قول الله تعالي : ( ) .
وكان المحاضر الثالث والأخير هو الدكتور الشيخ محمد سعاد جلال وكان أستاذًا بجامعة الأزهر ، ومن العلماء الذين يساهمون بلسانهم وقلمهم في الحياة الاجتماعية ومن ذوي الشخصيات والرأي .. ولعله اختير لهذه الميزات . وقد تكلم الرجل في محاضرته الأولي فأحسن الكلام ، وتحدث حديثًا مثيرًا عن الإسلام وعما آلت إليه حال الأمة الإسلامية مما أهاج الشجن في نفوسنا ، فاشترك عدد منا في الحديث إليه في صورة أسئلة في نهاية المحاضرة .. وكان ممن ساهموا في توجيه الأسئلة إليه الأخ الكريم الأستاذ صالح أو إسماعيل .. وكان منظره وهو يوجه السؤال منظرًا مؤثرًا . فقد كان إذ ذاك شابًا طويلاً وسيمًا ، وكان الجو باردًا ولم يكن معه ما يحتمي به من غوائل البرد فارتدي ما قد يسمي جاكتة السجن ، وهي نوع من الجيش أو اللباد السميك الشديد القذارة فهي من منظرها أشبه ببردعة الحمار ، ولم يكن هو وحده الذي يرتديها وإنما كان أكثر الإخوان يرتدونها كارهين .. فوقف يوجه السؤال إلي الشيخ وهو في هذا المنظر المثير ، ثم كان السؤال علي سبيل الاستفهام الاستنكاري :
فضيلتك تشكو إلينا حال المسلمين ، وتطالب كل ذي جهد أن يبذل جهده في سبيل إنقاذهم .. فهل تري أن هذا الوضع الذي وضع فيه أكرم رجال الأمة وصفوة شبابها المثقف الواعي مما يعمل علي الإنقاذ ؟! .
وهنا لم يملك الرجل سوابق دمعه التي انهمرت علي خديه لا يملك لها دفعًا ، ولا يستطيع لها منعًا .. بكي الشيخ محمد سعاد جلال فكشف بكاؤه عن أصالة نفسه وكرم محتد ، وقوة إيمانه . ورد إلينا ما كنا قد فقدناه من ثقة في الأزهر ورجاله ، وعلمنا أن هذه الأمة بخير مهما طفا علي سطحها من شر ، وأن الإيمان الذي غرس في النفوس منذ ثلاثمائة وألف عام هو منها في مكان آمين . لا يصل إليه بطش الجبارين ولا إغراء الذين يملكون خزائن الأرض من المغرورين والظالمين .
الفصل الرابع : أحداث وملاحظات وخواطر في هذا السجن
• انتفاعي بشعور الاستقرار :
كان إخواننا يستمعون إلي محاضرات التوعية كما سميت وعيونهم معلقة بآخر يوم من أيامها حيث وعدوا بالإفراج بعده .. ولما كان هذا المعني الذي شغلهم غير وارد علي خاطري ، فقد شعرت بالاستقرار الذي في ظله يستطيع الإنسان أن ينتفع بالوقت أكمل انتفاع . كان الذي يشغل بالي ويملأ خاطري هو لا أضيع لحظة من لحظات وجودي في هذا السجن دون أن أشغلها بالقرآن .. لقد لاحظت أو استعدت في " أبو زعبل " حفظ عشرين جزءًا فعليّ إذن في هذا السجن أن أثبت هذه العشرين جزءًا .. جعلت هذه الأجزاء العشرين وردي أقرأه علي نفسي ليلاً ونهارًا ، وعلي غيري إن وجد من يسمع مني وقلما يوجد . كنت أقرأ هذا الورد ابتداء من وقت السحر قائمًا في الصلاة ، ثم أقرأ بعد الفجر وأنا في هيئة النائم ، ثم أقرأ بقية النهار حتى النوم في كل وقت فراغ .. لازلت أذكر أنني كنت في فترة اضطجاعي بعد صلاة الفجر وصل ما كنت أقرأه علي نفسي خلالها في بعض الأيام إلي تسعة أجزاء . كنت حريصًا علي ألا أشغل نفسي بغير القرآن . وكان الإخوان – أكرمهم الله – قد لاحظوا ذلك عليّ فكانوا يعينونني عليه ، ولا يتحدثون إليّ إلا الحديث الضروري الذي لا مناص منه . إما إخواننا الذين يتعلقون بوعود الإفراج فقد انتظروا بعد انتهاء أسبوع المحاضرات أيامًا دون أن يتم الإفراج ، فراحوا يسألون ضباط السجن الذين وعدوهم فلم يجدوا عندهم إجابة ، فتولتهم الحيرة من جديد وطفقوا يضيقون بهذه الحياة ذرعًا .
• زائر يبعث الأمل :
وبينما إخواننا في هذا الضيق القاتل طلب أحدهم للخروج من العنبر لمقابلة زائر حضر لزيارته ، وكان معروفاً أن الزيارات والمراسلات ممنوعة سواء في " أبو زعبل " أو في هذا السجن .. وإذن فلن يسمح بزيارة منا إلا إذا كان الزائر شخصية كبيرة من الشخصيات ذات الصلة بدوائر الجهات العليا في الحكومة .. وكان مفهومًا كذلك أن مثل هذا الزائر لابد أن تكون رابطة قرابة تربطه بالمزور ، وأنه لا يقوم بالزيارة إلا إذا كان لإبلاغ قريبه بأمر ذي بال .
وتعلقت آمال إخواننا بهذا الزائر ، وقعدوا علي أحر من الجمر في انتظار زميلهم بعد انتهاء الزيارة ليسمعوا منه الأنباء الهامة .. ورجع الأخ الكريم من الزيارة مبتهجًا ، فتهللت وجوه إخواننا والتفوا حوله ينصتون إليه .. وبعد قليل هتفوا مسرورين .. وجاءوا يخبرونني بأن الزائر أخبر الأخ الكريم بأن قد تقرر الإفراج يوم 25 نوفمبر ، فقلت في نفسي : إذن المشطوب هو ديسمبر والمكتوب هو نوفمبر .. وكنا إذ ذاك علي مقربة من هذا اليوم فقضي إخواننا هذه الفترة الباقية في سرور وفرح . وأقبل يوم 25 نوفمبر وترقب الإخوان من يناديهم مناداة الإفراج الموعود . ومرت ساعات النهار الساعة تلو الأخرى وهم ينتظرون الفرج في كل ساعة حتى مضي اليوم بطوله وهم حيث هم مما أعقبهم همًا وحزنًا .. وكان نبأ هذا اليوم قد وصل إلي أسماع ضباط السجن ، وهم يعرفون أن مصدر النبأ من المصادر العليمة المطلعة فتعجبوا لعدم وصول الأمر المعهود بالإفراج ، والذي كانوا هم الآخرون يترقبون وصوله إليهم لحظة بعد أخري . ولشدة ثقة ضباط السجن في مصدر النبأ طلبوا من الإخوان أن يتعدوا للإفراج ويحزموا أمتعتهم حتى إذا ورد الأمر بالإفراج لم يستغرقوا وقتاً في حزن المتاع , وقد فعل الإخوان . ومضي يوم 26 ، ويوم 27 ، وأقبل يوم 28 نوفمبر وقد سقط في أيديهم ، ولكن ضباط السجن لم يفقدوا الأمل ، وطلبوا من الإخوان أن يظلوا علي أهبة الاستعداد .. ولم يكن هؤلاء الضباط هازلين ولا مغررين بالإخوان بل كانوا واثقين وتواقين أن يتم الإفراج علي أيديهم ، فكانوا يتناوبون الوجود أمام التليفون ليلاً ونهارًا لاستقبال إشارة الإفراج .
• مكاشفة الإخوان بالرؤيا :
ولما رأيت يوم 28 نوفمبر قد مضي دون إفراج ، ورأيت الإخوان في حرج شديد من أمام ما يعدهم به ضباط السجن يومًا بعد يوم ، وأمام ما يعانون من فقد الاستقرار النفسي ، طلبت الأخ الحاج نجيب عبد العزيز باعتباره قائدًا للعنبر ، وقلت له : يا أخي مادام قد فات يوم 27 نوفمبر دون إفراج فنبئ الإخوان بأن الإفراج سيكون بإذن الله يوم 27 ديسمبر . فسألني عن السبب فقصصت عليه الرؤيا وما دعاني إلي كتمانها طيلة المدة السابقة حتى لا أدخل اليأس في نفوس كانت تترقب الإفراج في كل يوم . ولا أدري هل أبلغ الحاج نجيب إخوانه بما سمع مني أم تصرف بأسلوب رآه أنسب لحالتهم ولكنني لاحظت أنهم حلوا أمتعتهم ورجعوا لي متكئهم وزاولوا أعمالهم اليومية كعادتهم . وأذكر بهذه المناسبة أن الحاج نجيب قص علي رؤيا رآها أيضًا إلا أنها لم تتحقق إلا في عام 1970 حين بارح جمال عبد الناصر بآثامه هذه الدنيا .
• إحالة اليأس بالنفوس :
لم أر اليأس أحاط بالنفوس كما رأيته ، وقد طلب علي أكثر المجموعة التي كانت معنا في هذا العنبر لاسيما بعد مرور 25 نوفمبر الذي كانوا قد أعدوا أنفسهم للإفراج فيه .. رأيت هؤلاء الإخوة وقد أنهكت نفوسهم من كثرة الوعود وخلفها ومن كثرة الجذب والإرخاء التي تعرضوا لها ، فبدأوا يكلمون أنفسهم ويكلم بعضهم بعضًا . ومما زاد الطين بلة أن فوجئنا بشيء لم يكن في الحسبان ، فقد ظللنا طيلة مدة وجودنا في هذا السجن وفي سابقه منقطعين عن العالم الخارجي ، فلا صحف ولا راديو ولا زوار ولا خطابات .. وفي مساء يوم 20 ديسمبر إذا بصوت مذياع مزود بميكرفون يذيع ، فتعجبنا من هذه المفاجأة ، ولكن لا ندري لم اختاروا هذا اليوم بالذات ، ولم يكن بد من الاستماع فالصوت قوي يخترق الأذان .. وبعد قليل فهمنا أن الحكومة قررت إذاعة جلسة تعقد هذا المساء لمجلس الأمة .. فقلنا : لعل الحكومة فاءت إلي رشدها ورأت أنها قد ضلت الطريق فأرادت أن تتلافى التعسفية التي اتخذتها ضد الإخوان هذه المرة لا مبرر لها ، وتبدو مفتعلة لا أصل لها .. وأنصتنا إلي المذياع لعلنا نسمع خبرًا يعود علي البلاد بالنفع ويجمع الكلمة علي الإصلاح .
قـانـون فـرعـون
وكان الذي سمعناه عجبًا .. خيب الظنون لمن يحسنون الظن ، وقطع خط الرجعة علي من قد تحدثهم نفوسهم بالدخول بين الطوائف بالإصلاح ، وأعلن الحرب قاطعًا كل أسباب المودة . سمعنا هذا المجلس يتباري أعضاؤه في النهش في عرض جماعة لا تملك أن تدافع عن نفسها ، ولا أن تلوذ من عرضها ، ولا أن تعلن حجتها .. وهذا لون من المجالس النيابية يسجل علي نفسه دون أن يدري الضعة والحقارة والخسة ؛ لأنه يرتع في غير مرتع ، ويعب من دماء جريح مثخن .. كل عضو من أعضائه ينظر إلي ما يعود علي نفسه من نفع من توطيد للصلة بينه وبين من يعتقد أنه هو وحده المانع المانح المذل المعز ، فيفرح بذلك ويسعد ظنًا منه أنه حقق الفوز وحاز النصر ، ولا يدري أن يد التاريخ تسطر عليه وعلي زملائه الخزي والعار والفضيحة ، سيذهب هو وزملاؤه وسيدهم وتبقي هذه السطور لا تمحي ولا تنسي علي مر الأيام والأعوام والدهور .
كان رئيس الجمهورية قد أصدر قانونًا في غفلة من مجلس الرياسة في 24 مارس 1964 وهو القانون رقم 119 لسنة 1964 ، وقد زوره علي هذا المجلس الذي كان إذ ذاك بحكم الدستور هو صاحب الحق في إصدار القرارات والقوانين ، فانتحل جمال عبد الناصر شخصية هذا المجلس في غيبته – مع أن أعضاءه موجودون – وأصدر هذا القانون باسم المجلس . " وهذا القانون يخول رئيس الجمهورية في غير الحالات الاستثنائية والطارئة المقررة في قانون الطوارئ ، وبدون إبداء الأسباب ، أن يقبض علي المواطنين ، وأن يحتجزهم فيما أسماه بمكان أمين . وأن يفرض الحراسة علي أموالهم وممتلكاتهم ، وأن يكون للنيابة العامة لدي تحقيقها سلطات مطلقة وغير مقيدة بما ورد في قانون الإجراءات الجنائية من قيود وضمانات للأفراد . كما يخول رئيس الجمهورية الحق في أن يأمر بتشكيل محاكم استثنائية من العنصر العسكري الخالص لمحاكمة المواطنين عما هو منسوب إليهم من جرائم ، بل وأنه أعفي هذه المحاكم من أي تقييد إلا بما ينص عليه في أمر تشكيلها من إجراءات .. وحظر في النهاية الطعن بأي وجه من الوجوه في أحكامها " .
لم يكتف جمال عبد الناصر بهذا القانون الفاجر الذي تبرأ منه أعضاء مجلس الرياسة ، والذي كان مخالفاً لوثيقة إعلان حقوق الإنسان وكافة المبادئ الدستورية بل وللقوانين العادية .. بل أصدر وحده أيضًا قانونًا أخر في 9 نوفمبر 1965 خص به الإخوان المسلمين ، وكان هذا القانون من ثلاث مواد :
المادة الأولي : لرئيس الجمهورية أن يستخدم الحق المخول له بمقتضي المادة الأولي من القانون رقم 119 لسنة 1964 بالمشار إليه بالنسبة إلي أي شخص من الأشخاص الذين سبق لسلطات الضبط والتحقيق ضبطهم أو التحفظ عليهم .. وذلك في جرائم التآمر ضد أمن الدولة والجرائم المرتبطة بها والتي تم اكتشافها في الفترة ما بين مايو 1965 وآخر سبتمبر 1965 . وله أن يطبق في شأنهم التدابير الخاصة بوضع أموالهم وممتلكاتهم تحت الحراسة . ولا يقبل الطعن قبل العمل بهذا القانون .
المادة الثانية : تنص علي أنه لا يجوز الطعن بأي وجه من الوجوه أمام أية جهة كانت في قرارات رئيس الجمهورية الصادرة وفقاً لأحكام هذا القانون .
المادة الثالثة : هي المادة التقليدية وتنص علي ما نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية ويعمل به من تاريخ نشره .
ولكي يقطع خط الرجعة علي زملائه أعضاء مجلس الرياسة الذين شغبوا عليه حين تجاهلهم وأصدر القانون رقم 119 لسنة 1964 ، لجأ بقانونه الجديد إلي صنائعه وعبيد إحساناته الذين أطلق عليهم أعضاء مجلس الأمة للموافقة عليه وإصداره .. فلم يكتفوا بمجرد الموافقة عليه بل أصدروه مجللاً بالعار المتمثل فيما يسمي بتقرير اللجنة التشريعية . ذلك التقرير الذي يندي له الجبين خجلاً مما تضمن من إفك وكذب وافتراء . وعلي من يريد أن يطلع علي هذا التقرير أو يرغب في مزيد من التفصيل في هذا الموضوع أن يرجع إلي كتاب " الموتى يتكلمون " للأستاذ سامي جوهر ، الذي استطاع أن يجمع في كتابه هذا نصوصًا لقوانين وتقارير ومحاضر تحقيقات ومحاكمات قبل أن تتمكن الأيدي الآثمة من سحبها من مظانها لطمس معالمها وإخفاء جرائمها .. وهذا الكتاب في مجموعه وثيقة تاريخية سوف يرجع إليها في يوم من الأيام حين تحين ساعة المحاسبة .
وقعت إذاعة هذه الجلسة علي إخواننا موقع الضربة القاضية التي قضت علي البقية الباقية من آمالهم وأسلمتهم إلي يأس عميق . وبدا ذلك جليًا في قسمات وجوههم وفي حركاتهم وسكناتهم وفي أثناء أحاديثهم . وكأنما كان بينهم وبين الحرية مائة باب مفتوح فجاءت هذه الجلسة فأغلقتها جميعًا دون رحمة ولا هوادة .. فزاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، وظنوا بالله الظنونا . أما موقع هذه الإذاعة عليّ فقد كان غير موقعها علي إخواننا . فلقد كنت كلما سمعت عبارة عن عبارات القانون تضع قيدًا جديدًا علي حرية الإخوان أشعر كأن هذه العبارة فكت قيدًا عنا ، وكلما سمعت الحاكم يضيق الخناق حول رقابنا أشعر كأنما ينقله من رقابنا إلي رقبته . وكلما جرفه الغرور فانزلق إلي مهوى جديد من مهاوي الاستبداد شعرت أنه إنما ينزلق إلي ما فيه نهايته .
كنت أسمعه وقصة فرعون مع بني إسرائيل ماثلة في خاطري . فكلما قال كلمة مما قاله فرعون أقول في نفسي : ليته يقول الكلمة التالية فيقولها . فأتمنى أن يتبعها بالتالية لها وهكذا حتى إذا قال الكلمة الأخيرة التي قالها فرعون كدت أصفق فرحًا ؛ لأنه أصبح أمام نهايته ( • • • • )
كان إخوان• كلمتي الوحيدة إلي إخوان العنبر :
نا في العنبر يقضون الكثير من الليالي في شبه ندوات تلقي فيها الكلمات النافعة . وكنت محجمًا عن الاشتراك معهم عازفاً عن التحدث إليهم .. ولكنني في الليلة التالية لهذه الإذاعة وجدت أن لهؤلاء الإخوة حقاً في أن أتحدث إليهم وأن أبثهم ما في نفسي ؛ لعلي أرفع عن قلوبهم ما أحاط بها من أسداف اليأس ، فما كدت أدعي للكلام حتى سارعت ، وقلت لهم كلامًا لا أنساه ، لأن معانيه كانت ممزوجة بدمي وزالت تجري في عروقي ، فهي مستمدة من سنن الكون التي سجلها القرآن فصارت جزءًا من إيماننا .. تضمنت كلمتي المعاني الآتية :
أولاً : أنني حين اعتقلت هذه المرة كنت حزين القلب خلافاً لما كنت عليه في اعتقالات 1954 .. لأن اعتقالنا هذه المرة كان أشبه بالاعتداء بالسلاح الآثم علي أسير أعزل مقيد اليدين والرجلين .. وهذه حالة تمثل أحط معاني الخسة والنذالة ، فهي اعتداء بلا مبرر ، لا يدفع إليه إلا غريزة الاستعلاء والغرور وغرائز نابعة من حقارة النفس ودناءتها .
ثانيًا : أن قصة فرعون مع بني إسرائيل لم تبرح خاطري منذ نشب الخلاف بين الإخوان وبين جمال عبد الناصر عندما استوي علي ملك مصر وصارت هذه الأنهار تجري من تحته .. كلما خطا خطوة رأيت لها مثيلاً في قصة فرعون .
ثالثا : كان اعتقالنا هذه المرة بهذا الأسلوب المنصف الغاشم خطوة في طريق القصة ولكنها لم تكن الخطوة الأخيرة .. ولما كانت رحمة الله تسبق غضبه فقد أحسنت الظن بالحاكم وقلت : لعل الله – من أجل إنقاذه وإنقاذ البلاد – يوفقه لتوبة تمحو حوبة ما ارتكب من مظالم ، ولا عجب في ذلك فقد قال الله تعالي في سورة البروج : ( ) فكأن الذين ألهموا التوبة ممن فتنوا المؤمنين والمؤمنات تشملهم رحمة الله وعفوه ومغفرته .. وظللت أنتظر منه ما يشعر بهذه التوبة حتى كانت الليلة الماضية .
رابعًا : تسمعت إلي المذياع لأول مرة منذ ألقي بنا في هذه السجون آملاً أن أسمع منه ما أتمناه له .. فكان كما يقول المثل : سكت دهرًا ونطق كفرًا .
خامسًا : أنه قبل الذي سمعناه بالأمس كان علي مفترق طريقين ، طريق التوبة وطريق التردي إلي الهاوية بالخطوة الأولي . وقد اختار الخطوة الأخيرة ليتم بها خطوات فرعون مع بني إسرائيل حين قال له الملأ من قومه : ( ) . والقانون الذي سنه هذا الحاكم لنفسه واستخف قومه فأطاعوه وأصدروه وسمعناه بالمذياع أمس هو ترجمة باللغة العصرية وبالأسلوب الركيك لهذه الآية الكريمة التي سجلها القرآن الكريم علي فرعون حين استبد به الغرور فختم علي سمعه وقلبه وجعل علي بصره غشاوة .
سادسًا : أقسم لكم أيها الإخوة : إنني لم أشعر بسعادة وسرور منذ شملنا هذا الظلم الأخير إلا بعد أن سمعت ما سمعت في الليلة الماضية ، فلقد أتم الحاكم الخطوات ، ولم يعد أمامه إلا النهاية ( • • • • ) .
لقد أراد فرعون – وقد أحس بأن نواصي الشعب أصبحت في يده – أن يستأصل شأفة بني إسرائيل من الوجود ، فأصدر قانونًا تقتل الدولة بمقتضاه كل رجالهم وتستبقي رهن الأسر النساء ، ويظل هذا الشعب من بني إسرائيل دائمًا تحت سطوة قانون الإرهاب حتى يفني عن آخره . أليس المعني واحدًا ، والهدف واحد بين ما سنه فرعون للقضاء علي بني إسرائيل ، وبين ما سنه حاكمنا للقضاء علي الإخوان المسلمين ، واستئصال شأفتهم وإفنائهم ؟! (• • ) .
سابعًا : وأخيرًا فإني أصارحكم بشعور غمرني ، وكأنما كشف الله حجب الغيب فرأيت هذا الحاكم علي حقيقته ، رأيته مسكينًا قضي الله عليه – جزاء ما شارك الله عز وجل في كبريائه وجبروته – أن ينكل به فسخره للإيذاء والشر (• ) فهو يعمل ما يعمل ويظن – وهو سادر في ظلمه مخدوع في نفسه – أنه فعال لما يريد .. وهو في حقيقة أمره أداة يسرت للشر ؛ لأنه لم يعد يستحق عند الله – بعد الذي اكتسب من الإثم – إلا أن يضعه هذا الوضع حتى إذا أخذه لم يفلته .. لقد حددت المواعيد ، ولن يستطيع هو إلا أن يدور فيما حدد له من دائرة حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً .. وإني والله أيها الإخوة لأنظر إليه نظرة الرحمة والإشفاق ، وأتمنى لو استطاع أن يعرف حقيقة نفسه حتى يتدارك أمره .. ولكن أني له ذلك وقد خطا الخطوة الأخيرة ؟! .
أما نحن .. ففي كنف الله وعنايته .. مظلومون مجردون من جميع وسائل الدفاع .. ما الذي يقلقنا ؟ ما الذي يقض مضاجعنا ؟ ما الذي يخيفنا ؟ هل ارتكبنا جرمًا ؟ هل اقترفنا ظلمًا ؟ هل اجترحنا إثمًا ؟ هل باشرنا اعتداءً ؟ . مادمنا نشعر بأننا برءاء من ذلك كله فلنهنأ بالاً ، ولنقر عينًا . ولنطمئن قلباً .. هل يؤلمنا أننا مظلومون ؟ إذن فلتبكوا علي الظالمين ( ) وإذا كنا نخاف علي أبنائنا وأهلينا ، فلسنا رازقي أنفسنا حتى ن رزقهم ، ولسنا كالتي شئوننا حتى نكلأهم ( • ) (• • ) ( ) . إنني أيها الإخوة أصبحت أنعم بشعور فياض من السعادة والاستبشار ، فالظلم هذه المرة بيّن وكله في جانب ، والبراءة البيضاء البينة كلها في الجانب الآخر ، وليس بينهما اختلاط ولا تداخل ، ولقد بلغ الظلم منتهاه بما سمعنا بالأمس ، وسنة الله لا تتخلف .. فاصبروا أيها الإخوة وكونوا علي بينة من أمركم ، وانتظروا وعد الله الذي لا يتخلف وترقبوا الخير وتجلدوا ( • ) .
شعرت بعد إلقائي هذه الكلمة براحة ضمير . كأنما هي أمانة كانت في عنقي أدينها إلي أصحابها .. ولاحظت ولله الحمد من قبل ومن بعد أن قلوب إخواني قد استراحت كأنها ألقت عن نفسها حمالاً وثقالاً من الهموم . وساد العنبر جو من الراحة النفسية والاطمئنان ، فقد استردوا الثقة في أنفسهم بعد أن ازدادوا ثقة في الله ( • ) وما أبلغ الكلام وأعمقه تأثيرًا في النفس إذا ما كان شعورًا صادقاً يبث ، وأحاسيس يضطرم بها القلب ، ويجيش بها الصدر .
• هل هذه إشاعـة ؟
وقبل أن نبلغ الكلام في موضوع هذا القانون إلي نهايته ، ينبغي أن أسجل مقالة سرت بين الإخوان عند مقدمنا إلي سجن مزرعة طره ، وتناقلتها الألسنة ، ولكنني كنت أحملها علي محمل الإشاعة التي تختلق من عدم ، ثم تثار فتسري . إلا أنني حين سمعت نصوص هذا القانون أيقنت أنها لم تكن كما ظننت إشاعة وإنما هي خبر أصيل تسرب إلينا ، وإن كنت لا أدري كيف تسرب .. وكانت هذه المقالة هي أن الحكومة في هذه المرة قررت اعتقال جميع من كانت له صلة في يوم من الأيام بالإخوان ، حتى إنها اعتقلت الباقوري وعبد العزيز كامل في هذا السجن أيامًا قبل مجيئنا إليه . ولست أدري حتى هذه اللحظة التي اعتقل الباقوري وعبد العزيز كامل اللذان خصوهما بالذكر أم لا . ولكن الذي أعلمه ورأيته بعيني أنهم جمعوا في هذه المرة كل من وصل إلي علمهم أنه كان من الإخوان في يوم من الأيام ، وكنت في دهشة من هذا التصرف الذي حملته علي التمزق . ولكن بعد أن سمعت نصوص هذا القانون فهمت أنه لم يكن نزفاً من الطغمة الحاكمة بل كان ترتيبًا منطقيًا متمشيًا مع ما أعدوه من خطة وتدبير . فالمادة الأولي من القانون تبدأ بهذا النص :
" لرئيس الجمهورية أن يستخدم الحق المخول له بمقتضي المادة الأولي من القانون رقم 119 لسنة 1964 المشار إليه بالنسبة إلي أي شخص من الأشخاص الذين سبق لسلطات الضبط والتحقيق ضبطهم أو التحفظ عليهم . وذلك في جرائم التآمر ضد أمن الدولة والجرائم المرتبطة بها والتي تم اكتشافها في الفترة ما بين مايو 1965 وآخر سبتمبر 1965 " . وإذن فيجب أن يسبق هذا القانون ضبط لأكبر عدد ممكن من هذه الفئة حتى يستطيع رئيس الجمهورية أن يستعمل حقه القانوني معهم ، الحق الذي لا يخضع لقانون ولا يحده دستور ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه .. وهذا لعمري إجراء لا يقدم عليه إلا إنسان اتخذ إلهه هواه ، والحاكم إذا اتخذ إلهه هواه جره ذلك إلي أن يجعل من نفسه إلهًا .
في شـهر رمضـان
أقبل علينا شهر رمضان ونحن في سجن مزرعة طره ، ويبدو أنهم أرادوا أن يشعرونا بأنهم يقدرون هذا الشهر . ولما كانوا حريصين علي ألا يدخلوا علي الطعام تحسينًا في النوع أو في الكم أو في الطهي ، فقد رأوا أن يجعلوا ميزة الشهر في أن يفتتحوا في السجن " كنتينًا " ويسمحوا لنا بالشراء منه . ومع أن الظروف كانت لا تسمح لنا بالاستمتاع بهذا الكنتين فإننا هششنا لنبأ افتتاحه . أما هذه الظروف فكان منها ما يتصل بالكنتين نفسه فإنه لم يكن مسموحًا للعاملين فيه بأن يحضروا فيه إلا بضاعة معينة . وأما ما يتصل بنا نحن النزلاء فجيوبنا كانت خاوية ، ولم يكن مسموحًا حتى ذلك الوقت بالكتابة لأهلينا حتى يرسلوا إلينا نقودًا . كان الذين معهم بعض النقود في العنبر عددًا قليلاً ، ومع كل منهم النزر اليسير وكنت من هذا العدد ، وكانت إدارة العنبر – الإدارة الداخلية من الإخوان – قد قسمت الإخوان فيه إلي مجموعات كل مجموعة تضم أربعة أو خمسة . ويوزع الطعام علي هذه المجموعات ، وتقوم كل مجموعة بالأكل معًا ، وتتكفل بتنظيف الأطباق الخاصة بها وما إلي ذلك .
• إلي المترفين والمتبطرين :
كان الطعام خشنًا ورديئًا قليلاً كما قدمت من قبل ، ولم يحاولوا أن يقللوا من رداءته ولا أن يزيدون من كميته ولا أن يغيروا من أنواعه . وجاء الشهر المبارك وافتتحوا الكنتين وجاءوا فيه بالبرتقال ، وقرروا بيعه بالثمن الذي أرادوا ولم نكن نعترض علي الثمن ولكن الذي بأيدينا من النقود قليل ، وأكثر المجموعات في العنبر خاوية الوفاض من النقود ، فكانت المجموعة التي مع أفراد منها نقود لا تستطيع أن تشتري إلا ثمرة واحدة من البرتقال أو ثمرتين ، وعليها أن تقسم ما حصلت عليه علي نفسها وعلي من حولنا من الإخوان ، ومع ذلك فإن مجموعات من العنبر لا يصل إليها شيء .. ولم يكن امتلاك النقود دليلاً علي أن الذي يمتلك أثري من أخيه الذي لا يمتلك ، وإنما امتلك الذي يمتلك لأنه تصادف حين ألقي القبض عليه أن كان في جيبه نقود ، في حين أن أخاه لم يكن حين القبض عليه في جيبه نقود .
ونظرًا لشدة خشونة الطعام وخلوه من الطعم أراد الإخوان أن يبتكروا شيئًا يخففون به من هذه الخشونة ولو كان هذا عن طريق الإيحاء والإيهام .. فتمنوا أن لو كان لديهم طماطم أو أي نوع من الخضرة ليصنعوا منه " سلاطة " .. ولكن شيئًا من ذلك لم يكن من سبيل إلي الوصول إليه .. وانتهي تفكير بعضهم إلي هذه البرتقالة .. إن الذي يؤكل منها هو ما بداخل قشرتها ، أما القشرة فيلقي بها بعيدًا .. ولكن هنا يجب أن ننتفع بكل شيء .. إن هذا القشر يصلح أن نصنع منه " سلاطة " . ومن أول يوم حصلنا فيه من الكنتين علي البرتقال قام الإخوان بإعداد السلاطة من قشر البرتقال ، أما كيف يصنعون هذه السلاطة ؟ فشيء في غاية البساطة ، يقطعون القشر قطعًا صغيرة ثم يخلطوها بقليل من الملح .. أما لماذا لا يخلطونها بأشياء أخري ؟ فلأنهم لا يملكون إلا هذا .
وفي يوم من أيام الشهر المبارك ، وكنا قبيل أذان المغرب ، وكنا جالسين ننتظر الأذان وكان أحد إخوان مجموعتنا ينزع القشر عن جزء من البرتقالة التي نملكها ، ونزع قطعتين من القشر فعلاً ، وأخذ في تقطيع القطعة الأولي .. أقبل في هذه اللحظة أخ كريم من مجموعة أخري – وكان هذا الأخ مهندسًا كبيرًا في أحد مصانع الإسكندرية وإن كنت الآن قد نسيت اسمه – وطلب من الأخ الذي كان يصنع السلاطة لنا القطعة الأخرى من القشرة التي لم تقطع بعد .. ويبدو أن صاحبنا الذي بيده القشرة رفض إجابة طلبه قائلاً : إننا محتاجون إليها . هنا التفت إليّ الأخ المهندس فرأيت الدموع تترقرق في عينيه وقفل راجعًا إلي مجموعته ، فناديته ، وأعطيته قطعة القشر التي طلبها .. فإذا بالفرح يتهلل في وجهه ، وذهب إلي مجموعته فتلقت منه قطعة القشر وكأنها قطعة من الشواء الشهي .
عيـد النـصـر
كانت الليلة الثانية أو المرة الثانية التي شنفوا آذاننا بصوت المذياع هي ليلة 26 ديسمبر التي تسمي عبد النصر . سمعنا الحاكم يتكلم في عيد النصر .. ويبدو أنه نسي المناسبة التي دعي للحديث عنها فقد قصر كلامه علي الحديث عن الإخوان وأخذ يكبل لهم التهم ويصب عليهم الشتائم واللعنات كما أخذ في الاستهزاء بمرشدهم .. وكرر نظريته التي يحاول بها التملص من المسئولية عما انحدر إليه الشعب من انحلال أخلاقي ، فيقول : إن مسئولية هذا الانحلال تقع علي كاهل رب الأسرة . والحكومة غير مسئولة عن ذلك وغير مطالبة بالتدخل لوضع حد له ، يقول هذا وهو يعلم أن الحكومة ضالعة في إفساد الشعب والأسرة والفرد بما تطلقه عليهم في مسارحها وسينماتها وصحفها وإذاعتها من تيارات الإلحاد والفسق والفجور . وأخذ يكرر ما سئمنا من سماعه من أن المرشد العام الأستاذ الهضيبي الذي طالب بحجاب المرأة ، ابنته تعمل أستاذة في معهد التربية ، وأخذ يشنع علي الرجل المحتجز وراء القضبان بذلك ، وهو يعلم أن ابنة المرشد العام تعمل أستاذة في معهد التربية وهي متحجبة الحجاب الإسلامي . وأن الحجاب الإسلامي لا يمنع المرأة من أن تتعلم وتُعلم ، وأن تباشر الأعمال التي تناسبها موفورة الكرامة . كانت كلمته في تلك الليلة تحاملاً علي الإخوان ، وتملصًا من المسئولية عن الفساد الذي استشري في الشعب ، وقد ذكرتني كلمته هذه بالمثل العربي الذي يقول : " رمتني بدائها وانسلت " .
• الإفـراج :
لم يكن الإخوان في عنبرنا مشغولين بما كانوا مشغولين به من قبل من التعلق بالإفراج والتفكير فيه ، بل كانوا ينعمون باستقرار واطمئنان .. ولكن الذي كان يشغلني ويشغل مجموعة من الإخوان معي تصديق الرؤيا ، لا توقًا إلي الإفراج ولكن لأن في تصديق الرؤيا شيئًا للإيمان في قلوبنا ، وبرهانًا جديدًا علي استئثاره سبحانه وحده بعلم الغيب ( ) لا أنكر أنني شخصيًا قد تولاني كثير من القلق فأنا بشر ولم تكن هناك دلائل ولا قرائن ولا علامات ولا إشارات أن سيكون إفراج قريب .. بل إن إذاعة كلمة رئيس الجمهورية علينا في ليلة 26 ديسمبر قد باعدت بين تفكير كل إنسان وبين الأمل في إفراج .. ولم يكن هذا القلق عدم ثقة في وعد الله ، ولكن البشرية تفتقر دائمًا إلي ما يشبه علاقة بين المادة والروح لتبث الاطمئنان في قلبها ، كما كان من شأن أبينا إبراهيم عليه السلام حين قال : ( • ) . ولا أنسي في تلك الليلة أن الأخ الكريم الأستاذ محمود إبراهيم وكان جاري في العنبر ، كان بين الفينة والفينة بعيد عليّ هذا السؤال :
هل أنت متأكد من المعلومات التي أخبرتنا عنها في هذه الرؤيا ؟
فأقول له : نعم .. فيبتسم وكأنه يريد أن يقول لي : ولكن الظروف التي نعيشها لا توحي بشيء من ذلك .
وانبلج الصباح .. وما كادت تشرق الشمس حتى سمعنا مكبرًا للصوت ينادي علي أسماء ويصمت فترة ثم ينادي علي عدد آخر من الأسماء .. وهكذا حتى سمعنا أسماءنا ينادي عليها ، وفتح باب العنبر ، وجاء يقول لنا : حضروا أمتعتكم فإنه الإفراج .
• إيمان باللمس :
حين جاء بشير الإفراج حمد الله أعظم الحمد ، لا علي الإفراج في ذاته – فقد كان شوقي إلي إتمام استعادة حفظ ما بقي من القرآن يجعل بقائي في السجن أحب إليّ من الخروج منه – بل علي ما منحني الله عز وجل من برهان جديد علي الإيمان بوجوده ، وعلي الثقة بإحاطة علمه ، وعلي قدرته علي إتمام مشيئته . وقد سميت هذا النوع من الإيمان بالإيمان باللمس ، لأنه جل شأنه قرّب الإيمان الذي هو روح منه إلي عقولنا وقلوبنا بما يشبه المزج بين روحانيته تعالي وماديتنا ، فالأرقام والمواعيد مادة ، وإحاطته جل شأنه بالغيب روح ( ) ( • ) . أشهد أنني خرجت من هذه المحنة بكسبين لا يعدلهما كسب كسبته في حياتي ، ولا أعتقد أن يعدلهما كسب أكسبه ما حييت ، ذالكما هما حفظ ما استعدت حفظه من القرآن ، وتجديد إيماني بالله عز وجل إيمانًا باللمس .. والإيمان باللمس لا يزعزعه ما يزعزع الجبال ، ولا تنال منه المصائب والأهوال . وأحمد الله علي ما أكرم به وأسأله الثبات عليه والمزيد منه حتى ألقاه عليه ، إنه علي ما يشاء قدير وهو بعباده خبير بصير .
الباب الثامن عشر : بـعـد الإفـراج
الفصل الأول : حالة المجتمع المصري وقتئذ
خرجنا إلي ما يسمونه الإفراج . فلما جربناه تمنينا أن لو عدنا إلي السجن ، فهو أهنأ بالاً من هذا الإفراج الذي قصد منه إفراغ أماكن السجون لاستقبال أفواج أخري ثم اعتبار المساكن التي يسكنها المفرج عنهم سجونًا ، ومقار أعمالهم سجونًا ، والشوارع التي يمشون فيها سجونًا ، فأينما كنت تري من يتبعك ، وحيثما استقر بك القرار تجد من يطرق الباب عليك ويجري معك تحقيقًا . وإذا زارك استدعيت للمثول بين يدي ضابط المباحث للاستفسار منك عن أسباب الزيارة وعما دار فيها .. ثم يقدم إليك النصيحة في صورة إنذار أو إنذار في صورة نصيحة ألا تستقبل زوارًا . وأنت حين كنت بين جدران سجن من السجون فأنت أمن أن تؤخذ بجريرة لم تجنها ؛ لأنك في مكان مغلق ، أما في حالة الإفراج المدعاة فإنك معرض أن تؤخذ بجرائر لم ترتكبها ، وبتصرفات لم تصدر منك ، ولكن المكلفين بمتابعتك قد حلو لبعضهم أن يخترع قصة من محض خياله ينسبها إليك أملاً في أن ينال عند سيده الضابط حظوة ، ولا يبالي ما يصيبك ويصيب أهلك من جرائها من قلق وعنت وإهانة .
وقد تقابل صديقًا عزيزًا عليك أثيرًا عندك وأنت مشتاق إليه ، فتحاول أن تتفادى اللقاء به وأنت في شوق إليه ، وقد يلاحظ ذلك فيسيء بك الظن وهو لا يعلم أنك تفعل ذلك خشية أن يكون لقاؤك به سببًا في إثارة المتاعب له ، وقد تلتقي بمثل هذا الصديق مصادفة وجهًا لوجه فلا تملك إلا أن تصافحه وتعانقه وتتحدث معه ، ثم يطالبك في نهاية الحديث بزيارة له في منزله ، فتعتذر بأعذار تلفقها ، فيعدك هو بزيارة منه ، فيسقط في يدك .. فإذا استطعت أن تجمع كل ما تملك من شجاعة رأيت نفسك توجه إليه النصح بألا يفعل .. والله وحده يعلم وقع هذه النصيحة في نفسه ، وعلي أي محمل حملها .. وهكذا تجد نفسك محاصرًا حيثما كنت ولا تضمن في كل مرة أن يكون محاصروك ممن لا يزالون يحتفظون ببقية من ضمير . أذكر بهذه المناسبة واقعة حدثت لي ، وإن كانت قد وقعت بعد انتهاء عام 1970 حين أتيح للناس أن تتكلم .. كنت في انتظار الترام صباحًا للذهاب لي مقر عملي ، فوجدت أخاً عزيزًا لي علي محطة الترام ، وكان هذا الأخ قد قدم حديثًا من بلد عربي غاب فيه بضع سنوات فكم مشوقاً إليه . فأقبلت مصافحًا ومعانقاً .. وما كدت أبدأ حديث الشوق حتى قدم الترام الذي كان في انتظاره فستأذن مني واستقله . ووقفت انتظر ترامي متمنيًا لو كان ترامه تأخر حتى أروي غلة الشوق من لقائه الذي لم يستمر إلا دقيقتين . وفي مساء اليوم التالي استدعيت لمقابلة ضابط المباحث الذي بدأ حديثه بتوجيه هذا السؤال إليّ : هل قابلت بالأمس صباحًا السيد (فلان) وقرأ لي اسمه من ورقة بيده اسمًا رباعيًا أي : اسمه واسم أبيه واسم جده والد جده – ثم قال : واستمرت المقابلة بينكم ساعتين ؟
فأجبته : نعم قابلته .. ولكن المقابلة لم تستمر إلا دقيقتين ، وكنت أتمني لو طالت إلي أكثر من ذلك .
ثم قالت له : من الذي جاءت بنبأ هذه المقابلة ؟
قال : هو أحد رجالنا المكلفين بمراقبتكم .
قلت : إذن تسمح لي بمواجهته ؟
قال : لماذا ؟
قلت : لأنني مصمم أن أصفعه ؛ لأنه مجرم وكذاب .
فلما رآني مغضبًا قال : لا داعي لكل هذا . قلت : إن صفع مثل هذا الكذاب قد يكون رادعًا له وقد يكون عبرة لغيره .. ثم قلت للضابط : إذا كنتم تستقون أخبار الناس من أمثال هذا الكذاب المختلق لا ضمير له فكيف تستقيم الأمور ؟! قال : لا تهتم بالأمر إلي هذا الحد . قلت : كيف لا أهتم وأنت قد\ بلغ من اهتمامك بهذا التقرير أنك استدعيتني ، ثم إنك تقره لي كأنه مستند خطير تعتز به ، فتقرأ اسم الصديق الذي قابلته اسما رباعيًا ، أنا شخصيًا والله لا أعرف كل أجداده كما تعرفون .. وكنا إذ ذاك في أوائل عهد جديد بعد العهد الذي طال ظلامه .. فما كان من الضابط الفاضل – وأقول الفاضل ؛ لأنه رجع إلي الحق ، والرجوع إلي الحق فضيلة – إلا أن اعتذر لي ووعد\ني بألا يتكرر هذا الإزعاج
• السجل والدليل وما يرمز إليه :
كنت قد تحدثت – كما قدمت – إلي إخواني في العنبر بسجن مزرعة طره عقب صدور القانون الذي أسمعونا موافقة مجلس الأمة عليه ، حديثا مستفيضًا أثبت لهم فيه أن هذا الحاكم قد استكمل بهذا القانون آخر حلقات القهر والجبروت التي أحكم بها سلسلة الغل حول أعناقنا يطبق علي هذه الأعناق في أي لحظة يشاء فتفارق الحياة . وقلت : إنني بذلك أتربص به ما حل بفرعون .. قلت ذلك ولم أكن أعلم بأن هذا الشعور نفسه هو شعور السيد كمال الدين حسين حتى إنه أطلق هذا القانون " قانون فرعون " ، ولم أعلم بهذه التسمية إلا من كتاب " الموتى يتكلمون " للأستاذ سامي جوهر الذي أشرت إليه من قبل والذي صدر في عام 1977 . وقد استلزمت المادة الأولي من هذا القانون لتنفيذها إعداد سجل أو دليل يثبت فيه أسماء كل الذين تناولهم الاعتقال عام 1965 حتى ولو كان الاعتقال ليوم واحد .. مع بيانات مستفيضة عن كل معتقل . ولم يكتفوا بالبيانات التي تطلب من أي مواطن حتى في أخطر الظروف بل تعدوها إلي بيانات لا تخطر علي بال ، وقد لا يعرف الغرض من ورائها إلا من درس هؤلاء القوم وألم بأهدافهم ومراميهم .
وكان معني هذا أنه قد استقر في خاطرهم أننا نحن الإخوان المسلمين قد أحيط بنا ، وقد وضعنا في أيديهم ، ولم يعد لنا من مفر إلا لهم ، ولا من مهرب إلا إليهم ، واعتبروا ذلك حقيقة مادية تمخضت عنها جهودهم طيلة اثني عشر عامًا ، فلما وصلوا إلي هذه الحقيقة المادية اطمأنت قلوبهم ، وأمنوا بذلك صروف الزمان ، وما كان لهم بعد ذلك إلا أن يرتقوا في الأسباب .. وما كان علينا نحن إلا أن ننتظر ألوان الكوارث وأسباب الفناء .
• الحال التي آل إليها المجتمع :
ولا ينبغي أن نخدع الناس ونخدع أنفسنا فتدعي أن اليأس لم يحُوم علي قلوبنا . فالإخوان صاروا في ذلك الوقت بين غائب وراء أسوار السجون ، وبين حاضر يشتهي أن يلحق بإخوانه الغائبين ، والكل بأهله وأقاربه وذويه في سجل حافل بين يدي الجلادين الذين لا يرحمون .. الأنفاس تعد ، والنظرات ترصد ، والكلمات يحاسب عليها ، ويوم يري إله الجلادين أن يجمعوا جمعت هذه الألوف المثبتة في السجل في أقل من ساعة .. وله حينئذ أن يلصق بهم من التهم ما يشاء ، وأن يحكم عليهم بما يشاء ولا معقب لحكمه .. لم يعد في البلاد من يستطيع أن يرفع رأسه أو يبس ببنت شفة إلا أن يكون مادحًا أو منافقًا . حالة يعذر من يغلبه اليأس فيها . وأقسم لقد كنت أجلس إلي نفسي فأتمنى أن أغيب مع إخواني وراء الأسوار ، لأن الله تعالي وإن ابتلاهم بالسجن فقد أعفاهم من كثير مما لو رأوه وشاهدوه لتفطرت نفوسهم حزنًا وآسي .. فمرافق البلاد تحولت إلي الصور التالية :
• المدارس :
لم تعد المدارس هي تلك الأماكن التي يتلقي فيها أبناؤنا أصول التربية ومكارم الأخلاق ، فالقدوة انعدمت ، لأن المدرس رأي بعينيه أن أهل الدين والفضيلة يدسون بالنعال ، فكيف يتمسك بما لو تمسك به لوضع في نفس الوضع ، ورأي بعينيه أن أهل النفاق والمتزلفين هم الذين يرفعون إلي أعلي المناصب . فصار همه أن يبحث عن وسائل الزلفى ليتقرب . ومن هذا الطريق تسربت إلي مناهج الدراسة أشياء مسخت عقول التلاميذ ونفوسهم .. امتدت يد الريف إلي التاريخ الوطني فحفرت من شأن كل ذي شأن لتظهر أن الفترة الوحيدة المشرقة في تاريخ البلاد هي الفترة التي سعدت البلاد فيها بأعظم رجل في التاريخ .. حتى اللغات التي اعتاد واضعو مناهجها أن يتخيروا النصوص ومواضيع القراءة لها من أبلغ التراث العربي لفصحاء العرب ، مسخوها فاتخذوها خطب الحاكم وبياناته – وهو أمي من الناحية اللغوية – نصوصًا ومواضيعًا للقراءة .. فنشأ الشباب معوج اللسان سوقي العبارة ، ضعيف الأسلوب .. وسري هذا المسخ إلي الصحف وإلي الكتب .. و لم ينج من هذا الطوفان الغث من الكتاب إلا القليل الذي اعتصم بكتاب الله وحديث الرسول وروائع المراجع الأدبية . ونشأ الشباب غير ذي عهد يقيم ، فرأيناه يملأ الشوارع يلعب بالكرة لا يبالي من أصابته الكرة من المشاة رجالاً ونساءً ، ورأينا الطلبة يضربون مدرسيهم ، ويضربون آباءهم ، ويتبادلون الشتائم علي قارعة الطرق بألفاظ نابية .. ورأينا الشباب يطاردون الفتيات ، والفتيات كاسيات عاريات . قلما نجد من يخدم كبيرًا أو يعين عاجزًا .. كل همهم المظهر حتى لم تعد تميز الولد من البنت .
• وسائل الإعلام :
لا عمل لها إلا أمران : إطراء الحاكم بنسبة كل المحاسن إليه ، وإلقاء المساوئ جميعًا علي سواه ، ونفث السموم في عقول الشباب من فتيان وفتيات بما تعرض من مقالة وتمثيلية وفيلم وأغنية .. فمن نجا من مسخ المدارس لأفكاره ونفسيته لم ينج من وسائل الإعلام التي تلاحقه حيثما كان .
• المجتمعات :
أما المجتمعات التي لابد لكل فرد أن يساهم فيها ، كالأعمال في دور الحكومة والمصانع والشركات والنوادي والمقاهي والجمعيات والنقابات ودور العلاج وغيرها ، فإن الناس أصبحوا لا يأمن أحدهم علي نفسه إذا هو تكلم أن يجد نفسه في مكان سحيق حيث لا يصل إليه قريب ولا صديق .. لأن الحاكم قد بث في كل مجتمع مهما صغر أو كبر أذناً من آذانه ، لا تنقل إليه جرائم المجرمين بل تنقل إليه كلام أصحاب الفكر علي أنه اعتداء عليه ومؤامرة تعد للإطاحة به ؟ أذكر بهذه المناسبة أن أحد الإخوان بالإسكندرية تعود في خلال تلك الحقبة أن يؤدي صلاة المغرب في زاوية صغيرة بجانب منزله ثم يلقي درسًا بين المغرب والعشاء . وفي أحد هذه الدروس تكلم عن عدالة عمر بن الخطاب .. وفي اليوم التالي جاء استدعاء لمقابلة ضابط المباحث الذي سأله : هل ألقيت درسًا أمس في زاوية كذا ؟ قال : نعم . قال : ماذا كان موضوعه ؟ قال : كان موضوعه عدالة عمر بن الخطاب . قال الضابط : إذن فتقرير المخبر في محله .. أنا أنذرك هذه المرة وبعدها أنا غير مسئول عما يحدث لك . قال الأخ : ولم هذا الإنذار ؟ قال الضابط : ألا تعلم أن حديثك عن عدالة عمر بن الخطاب معناه أنك تشير بذلك إلي ظلم جمال عبد الناصر .؟ يقول الأخ وهو يروي لي القصة : فضحكت في نفسي وتذكرت حكاية العسكري الذي سمع رجلاً يسب الحكومة (الكذا) فأمسك به وقال له : أنت تسب حكومتنا . قال الرجل : وما أدراك أنني أسب حكومتنا ؟ قال العسكري : وهل هناك حكومة(كذا) إلا حكومتنا .. وقد جاءني هذا الأخ عقب مساءلته في ذلك الوقت فعجبت لهذه الحساسية .
وكان أعوان الحاكم ينتدبون شبابًا غضًا للقيام بهذه المهمة في مختلف المجتمعات . ولما كان هذا الشباب قد نشأ في جو خال من القيم فإنه كان يسارع إلي الاستجابة ويري ف ذلك شرفاً ويظنه – كما علموه – جهادًا ووطنية .. وأذكر أن شابًا يافعًا جاء في تلك الحقبة يزور أصدقاء له وزملاء في مقر العمل الذي كنت فيه . فلما جلس وأخذ يتحدث صارحهم متفاخرًا أنه إذا سمع أحدًا منهم يذكر الحكومة بسوء أو ينقد عملاً فإنه سيرفع إلي الجهات المسئولة تقريرًا بذلك . فقال له بعضهم : ألا تري في مثل هذا العمل خيانة لزملائك ونذالة ؟ قال ؟ لا .. هذه هي الوطنية . فما كان منهم إلا أن أمسكوا عن الكلام حتى غادرهم . وأذكر أن كان لي صديق رئيسًا لشركة من الشركات الكبيرة ، وكنت في زيارته في تلك الأيام ، فدخل عليه شاب من موظفي الشركة فرأيته قد أولاه من الاهتمام ، وحباه بألوان من الاحترام ، مما لا يتناسب مع سنه ولا مع وظيفته . وكان صديقي هذا مشهورًا بجده في عمله وبأنه لا يبالي بمن يتعامل معه من موظفي شركته مهما علت وظيفته فهو رئيس والكل مرءوس .. فلفت نظري هذا التصرف الغريب منه مع هذا الموظف الصغير .. و قد عزمت علي أن أسأله في ذلك بعد خروج الشاب .. ولكنه كان أسرع مني ، فما كاد الشاب يخرج حتى قرب من أذني وقال لي : لعلك استغربت ما كان من مبالغتي في الاحترام لهذا الشاب ؟! فقلت له : لقد سبقتني فقد كنت عازمًا علي سؤالك في هذا الشأن . قال لا أستطيع أن أفعل إلا ما فعلن .. ألا تعلم هذا الشاب يستطيع بتقرير يكتبه عني أن أفصل من وظيفتي ؟! إنهما شابان في شركتنا اختيرا ليكونا عينًا علينا .. لم أعد استطيع أن أقطع في أمر من أمور الشركة إلا بعد أن أرجع إليهما . فإن أقراه أمضيته وإن رفضاه ألغيته . قلت : وهل هما من سعة العلم وطول التجربة بحيث يستطيعان أن يعرفا النافع من الضار في كل أمر من أمور الشركة ؟ قال : لا . قلت : إذا فقد يكون رأيهما في كثير من الأحيان خاطئًا . قال : نعم . قلت : وتمضي مع ذلك ما يريان ؟ قال : نعم . قلت : وقد يؤدي ذلك بمصالح الشركة . قال : نعم ، ولكن هكذا أرادت الحكومة .
وقد يلحق بهذا الذي سقناه لبيان ما آلت إليه حال المجتمعات أن أذكر واقعة تتصل بي شخصيًا ، ففي يوم من أيام تلك الحقبة كنت في منزلي فطرق الباب طارق ففتحت فرأيت شخصًا أمامي لا أعرفه فقال : سيادتك (فلان) ؟ قلت : نعم . قال : معي موضوع أحب أن أعرضه عليك فهل تسمح لي بالدخول ؟ فأذنت – قال : إنني من رجال المخابرات ، وقد بلغنا أنك من أهل الرأي في أوساط الإخوان ونحب أن نتبادل نعك الرأي . أستغفر الله لا بل أن نسألك الرأي في بعض الأمور التي تهم الدولة فهل لديك ما يمنع ؟ قلت : إذا كانت الأسئلة تتعلق بالإخوان فليس عندي ما أجيب به ؛ لأنني منقطع عن الإخوان ولا أعرف عنهم شيئًا . قال : لا .. إننا نريد رأيك في أمور أخرى , قلت : أجيبكم إذن علي ما أعرف . وتكرر ترددهم ، وما كان في وسعي أن أعرض عنهم ، ولكنني سألت الله تعالي أن يعينني عليهم ، وأن يخلصني من شرهم . وسألوا عن رأيي في الأعمال الحكومية التي نباشرها وعن العيوب التي أراها فيها ، فأجبتهم وأبرزت لهم عيوبًا ملموسة زعموا أنهم سيعملون علي إصلاحها .
وكان مما سألوني في شأنه وأظهروا اهتمامًا كبيرًا به موضوع الطرق الصوفية وهل من الصالح للدولة إلغاؤها ., وقالوا : إن الدولة الآن في سبيل إلغائها ، فإن كنت تري رأيًا آخر فادعمه بالحجج واكتبه لنا . وقد رأيتني بصدد هذا السؤال في حرج . فأنا أعلم أن أكثر الطرق الصوفية الآن ليست علي الصورة التي كانت عليها في صدر الإسلام ، وأنها في أمس الحاجة إلي من يردها إلي الطريق السوي ، وأن المآخذ عليها كثيرة ، وأن من المسلمين من يراها جديرة أن تحارب .. كل هذا علمته ، ولكنني رأيت هذه الحكومة قد قضت علي كل ما يمت إلي الإسلام بصلة ، حتى صار النشء الجديد تائها وسط بحر مائج من الترهات والأكاذيب الملبسة ثياب المبادئ والقيم ، وكلها تؤدي إلي الانحلال الأخلاقي والإلحاد ، ولا يجد هذا النشء من يأخذ بيده لي طريق أسلم ومبادئ أقوم . وأحسست بأن وراء الخطوة المعدة لإلغاء الطرق الصوفية قوة لا تبغي الإصلاح كما تتعمد أن تبدو ، بل هي قوة ملحدة .. بعد أن قضت علي القوة العاملة بلب الإسلام أرادت أن تمحو كل أثر إسلامي ، فلم يبق أمامها إلا المتزينين بمظاهر الإسلام المتشبثين منه بالقشور .
فقلت : قد يكون في الإبقاء علي هذه المظاهر والقشور ما يذكر الناس بالإسلام وسط هذا الليل الحالك البهيم المخيم علي البلاد .. فكتبت لهم عن الصوفية وتاريخها ما جعلهم يعدلون عن قرار إلغائها .
الفصل الثاني : إن الرواية لم تتم فصولا
خرجنا من المعتقل وكنت شخصيًا في حال من أسمي مراتب الروحانية ، وإن كنت – جسمًا – قد نقص وزني سبع كيلو جرامات حتى لم تعد كل ملابسي تصلح لي . ولكنني لبستها غير مبال بشيء فقد كنت في الحال التي قال فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم لصاحبه : " قد عرفت فألزم " ، فلقد آمنت بالله إيمانًا باللمس واطمأننت إلي وعد الله الذي سجله في كتابه حين قال : ( ) وحين قال : ( • ) وحين قال : ( • ) كنت موقنًا أن النهاية آتية لا ريب فيها . ولكن كيف تأتي ومتى تأتي ؟ فهذا ما استأثر به علم الله . ويبدو أن نهاية الظالم لا تأتي إلا بعد أن يصل إلي الغايات .. فمادام يري علي وجه الأرض من أعدائه ومنافسيه ومن لا يزال فيه بقية من عرق ينبض ، فإنه يعتقد أن سلطانه الذي يريد أن يبسطه علي كل شيء لا يزال مهددًا .. فعليه إذن أن يقطع هذا العرق النابض لتكتمل له أسباب السلطان ، ولينعم بسلطة لم ينعم بمثلها أحد سبقه في حكم مصر .
• المحاكمـات :
ويوحي من الحساسية التي سيطرت علي أعصابه ، والتي وصلت به وبمن حوله إلي الحد الذي صورته الآية الكريمة : ( • ) أخذ يجمع من خيالات الوهم المحيط به خيوطاً تكفي لنسج مؤامرة جديدة للإطاحة به ، واستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين كان مهمتهم أن يوجدوا من بين منافسيه ومخالفيه في الرأي أشخاصًا يلبسونهم ثياب المتآمرين ويوقعون بهم من الأذى والتعذيب ما يرغمهم علي الاعتراف بما أسند إليهم من أدوار في المؤامرة . وقد استمدت خيوط المؤامرة المتوهمة من سطور كتاب ألفه رجل من الإخوان تزخر المكتبة الإسلامية بالكثير من مؤلفاته .. ولم يفكر عهد من عهود الدولة الإسلامية أن يعتبر الآراء جريمة يعاقب عليها .. وإذا كان القرآن نفسه قد سجل حرية الرأي وقدسها حتى إذا بلغ الخلاف في الرأي مبلغاً يتناول العقيدة نفسها قال : ( ) فكيف تحاكم حكومة تدعي الانتساب إلي الإسلام وتدعي بلغة العصر أنها حكومة ديمقراطية إنسانًا علي آراء ضمنها كتابًا وهو لا يرغم أحدًا علي انتحالها ؟! ولكن " الملأ " كانوا يملكون الوسائل التي يحولون بها هذه الآراء إلي مؤامرة يعترف أصحاب هذه الآراء بتدبيرها . كان صاحب هذه الآراء هو الأخ الكريم الأستاذ سيد قطب وكان كتبه بعنوان : " معالم في الطريق " وينبغي هنا أن أذكُر بأن العداء قديم بين الأستاذ سيد قطب وبين جمال عبد الناصر ، منذ أنشأ هذا الأخير هيئة التحرير وطلب من الأستاذ سيد قطب أن يرعي هذه الهيئة وشاع في ذلك الوقت أنه يرشحه وزيرًا للتربية والتعليم .. فرفض الأستاذ سيد هذا العرض مؤثرًا أن يبقي حيث هو وفيًا لدعوته .. والأستاذ سيد قطب – رحمه الله – من العلماء الصرحاء الذين ينبذون إلي مخالفيهم بآرائه علي سواء .
ولن أتعرض للمحاكمات التي تمت في خلال هذه الفترة بشرح ولا بتفصيل فقد أُفردت لها كتب ، وسالت في التنديد بها أنهار الصحف , ولازال هذا كله قليلاً من كثير مما سيتناول هذه المحاكمات من شرح وتفصيل ؛ لأن هذه المحاكمات ليست مجرد قضايا نظرت مما تزخر به ملفات المحاكم فانتهت بانتهاء وقتها ، وكان إصدار الحكم فيها هو خاتمة المطاف ، وإنما هي قضية التاريخ التي يصدر الحكم فيها نمن التاريخ نفسه لا من الذين اتخذوا فيها شخصية القضاة .. وبصدور حكم التاريخ فيها يتحدد مصير هذا البلد ومستقبله . نعم هناك ذات شأن تعمل بكل جهدها علي طمس معالم هذه الفترة العصيبة من تاريخ البلاد ، وتحاول بذلك مصادرة التاريخ حتى لا يصدر حكمه . ولكن هذه الجهود ذاهبة سدي ، لأن التاريخ أقوي من أن يصادر ، وتياره أعني من أن تعترض طريقه عقبات .. ولكن التاريخ قد يؤجل نطقه بالحكم حتى تصل الأمور إلي مداها .
إن محاكمة " الدجوي " التي حاكمت الأستاذ سيد قطب وزملاءه – وأمثالها مما سميت زورًا محاكم – ستحاكم هي نفسها أمام محكمة التاريخ ، وستجر هذه " المحاكم " من كان وراءها من المجرمين الذين تواروا خلفها في أثواب حكام ، ويومئذ يأخذ هذا الشعب جلاديه بالتواصي والإقدام . لقد أعدموا في المرة الأولي سنة 1954 سنة من أكرم الإخوان ، وأعدموا في هذه المرة سنة 1965 ثلاثة آخرين من أكرم الإخوان ، وفعلوا ببقية الإخوان ما فعلوا وهم يحسنون أنهم أضحوا بذلك في مأمن من تقلبات الأيام ، وحسبوا أنهم قد آن لهم بعد ذلك أن ينعموا بهدوء لا تقطع سكونه الفواجع ، وينوم لا تؤرقه الأحلام .
• إزالة الآثار أو المحو من التاريخ :
والعجيب في تصرفات هذا الرجل هو أنه قد حقق لنفسه من السلطان كل ما كان يحلم به ، ومع ذلك فإنه كان يعيش في خوف دائم لا يفارقه من ليل ولا نهار .. وأبرز مظاهر خوفه أنه ينصرف كأنه منهم هارب من العدالة ، فأول شيء يحرص عليه هو أن يحرق الأوراق التي يعتقد أن فيها دلائل اتهامه ، فكل تفتيش كان رجاله يقومون به في دور الإخوان وفي بيوتهم كانوا حريصين فيه ألا يدعوا كتابًا ولا كراسًا ولا ورقة فيها كتابة إلا استولوا عليها ونقلوها إلي مقرهم وأحرقوها حتى لا يبقي منها إلا الرماد .
وتجلي هذا الشعور واضحًا فيما يتصل بالأخ الكريم الأستاذ سيد قطب وكان رجلاً كاتبًا وأديبًا . فكان جمال عبد الناصر حريصًا قبل كل شيء علي التخلص من كل ما كتبه الشهيد .. وقد أخبرني أحد الإخوة الكرماء – وكان مدرسًا إذ ذاك في مدرسة بنات إعدادية – أنه قرأ بنفسه الأمر الصادر إلي جميع المدارس والمعاهد والجامعات بتكوين لجنة في كل مدرسة وكل معهد وكل كلية مهمتها جمع كل ما كتب الأستاذ سيد قطب ثم حرق ما جمعته علي أن تحرر محضرًا بذلك موقعًا من أعضائها جميعًا . وقال لي الأخ الكريم : إن اللجنة الخاصة بمدرسته قد صدعت بالأمر . وأخبرني أيضًا أن هذه اللجان في المدارس الابتدائية كانوا يجمعون كتب القراءة المقررة وفي الكتاب ورقة واحدة فيها نشيد وطني من تأليف الأستاذ سيد فكانوا يقطعون هذه الورقة من كل كتاب ويحرقونها بمحضر .
وقد ذكرني هذا التصرف البالغ الوقاحة والخوف معًا بقول الله تعالي في كتابه العزيز : ( ) .
الفصل الثالث : اليـوم المـوعـود
سيطر علي الإخوان في تلك الحقبة الكئيبة ما يشبه اليأس وكادوا يظنون بالله الظنون ، فقد رأوا الظالم يبطش بأهل الحق وبالداعين إلي الله سنة 1954 فتربصوا به أن يصيبه الله بعذاب من عنده فلم يصبه بشيء بل زاده سعة في الملك ، وثباتًا في الحكم ، وتمكينًا في الأرض .. فلما سولت له نفسه أن يعيد الكرة مع المثخنين الذين باتوا كلهم في أسره منذ عام 1954 أعادها بوحشية تعافها الوحوش الكاسرة ، وتأنف منها الذئاب الجائعة .. وفي الوقت الذي يطأ بنعاله جثث القتلى والجرحى ممن طوح بهم ظلمه ، رأوه يعلو فتنحني لجبروته رءوس الشعب ، وتخطب ودّّه – اتقاء شره – مملوك العرب ، فيزداد علوًا في الأرض ، وعتوًا في الحكم ، واستهانة بالقيم . ولقد طالما صارحني بعض كرام الإخوة الفضلاء بما يوصف بأنه ليل لا فجر له ، فالرجل لا يزيد كل يوم إلا علوًا ، ولا يكتسب مع كل ظلم إلا تمكينًا فهل تبدلت كلمات الله ، ونسخت سنن الخالق ؟ وكنت أرد عليهم – واثقًا من سنن الله التي لا تتبدل ؛ مستندًا إلي الإيمان باللمس الذي من الله به عليّ – فأقول : إن اليوم والله لآت لا ريب فيه . ولكن متى يأتي وكيف يأتي ؟ فهذا ما استأثر به علم الله ولكنه أشار بقوله : ( ) وبقوله : ( •• ) .. وأقول لهم : لا تظنوا أن نهاية الظالم لابد أن تأتي علي أيديكم فإذا عجزتم عن ذلك كان عجزكم هو نهاية المطاف ، فعند الله من القوي مالا يخطر علي بال ولا يجول بحسبان ، وتذكروا أن الله تعالي قال : ( ) فإذا عجزت أيدينا فالله عز وجل يتولي الأمر بنفسه وناهيك بأمر يتولاه الله بنفسه .. ولقد كنت مع ثقتي بالعاقبة التي وعد الله بها لا أتعجل هذه العاقبة فقد تطول الأيام ، ويوم التاريخ طويل ، فكنت أقول لهم : قد لا نري هذه العاقبة وقد يراها أبناؤنا ولكنها لا محالة واقعة .
• جاء اليوم مبكرًا :
ما كنت أحسب أن اليوم سيأتي قريبًا إلي الحد من القرب الذي جاء به .. بل إنه جاء مفاجأة لنا وللظالم نفسه ولكل الناس ، حتى إن الإنسان لم يكد يصدق ما سمع .. لما جاء النبأ المفاجئ المزلزل شخصت الأبصار ، وسهمت الوجوه ، وفغرت الأفواه .. لو قيل لك إن الهرم الأكبر قد أندك فلم يعد له أثر ، أو أن جبال المقطم قد ابتلعتها الأرض لكان ذلك أقرب إلي التصديق من هذا النبأ . إن الرجل أضحي في عنفوان قوته .. ولما وجد نفسه قد أخضع العرب لسطوته ، راح يتطاول علي حكام الغرب وأساطينه ودهاقينه . فعقد مؤتمرًا صحفيًا اجتمع فيه صحافيو العالم كله في مساء يوم 28 مايو 1967سمعنا في الإذاعة صحفيًا اسمه " ستيفن هاربر " محرر الديلي اكسبريس البريطانية يوجه إليه سؤالاً عجيبًا يقول له فيه :
" لقد مررتم كإنسان بمرحلة ضغط كبيرة في أثناء أزمة مشابهة تقريبًا للأزمة الحالية في خلال صيف عام 1956 – فهل تجدون من السهولة بمكان تحمل أعبائها كإنسان أكبر سنًا مما كان عليه من قبل بأحد عشر عامًا ، أم أنكم تجدون أصعب شأنًا .. وكيف تستريحون من مشاكلكم ؟ " فيجيبه المارد الجبار بقوله : بالنسبة للسن أنا معجزتش ، وأنا لسه ما بلغتش الخمسين وأنا مش خرع زي المستر إيدين أبدًا بأي شكل من الأشكال . يعني لازم تفهموا هذا الكلام وطمنهم في انجلترا إني أنا مكملتش الخمسين وقاعد لسه مدة طويلة موجود هنا في هذه البلد وفي هذه المنطقة من العالم . وأنا في هذه الأزمة بالذات وفي هذه الأيام باصحى بدري وصحتي كويسة ، والأزمة صحتي بتبقي فيها أحسن ، وبأنام وخري ، وأظن شايف إن صحتي كويسة وقادر إني استمر في هذه المعركة وفي معارك أخري " .
إجابة ليس لله فيها نصيب ، بل كلها غرور وإعجاب بالنفس ، واعتقاد صاروخ بأنه القادر الفعال .. هذا الكلام سمعناه بألفاظه ومعانيه منذ أسبوع واحد بآذاننا .. فهل يعقل أن مثل هذا الرجل يقال لنا إنه محي من الوجود ، وإنه أضحي يحمل عار الهزيمة والذل والضياع ، وإنه قد سجل علي نفسه وعلي أمته خزي الأبد وذل الدهر ؟! . لقد ابتغي الرجل بهذه الحرب ضد إسرائيل أن يمد رواق مجده وسلطانه علي ما بعد أرض العرب ليرضي كبرياءه الذي يلح عليه فلا يقنعه شيء ملكه حتى يملك غيره ، فكيف تكون هذه الحرب هي قاصمة ظهره وأكله كبده ،وماحية أثره ؟! .
إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وصدق الله العظيم : ( ) ليس هذا وصف الظالمين يوم القيامة فحسب ، بل هو وصفهم أيضًا يوم يأتيهم العذاب في الدنيا من حيث لا يحتسبون ، وتنزل بهم القواصم وهم منها بسلطانهم معتصمون . لقد كان غاية ما يرجوه من ذاقوا العذاب علي يديه أن يهديه الله إلي الحق أو أن يقبضه إليه فيريح الناس من ظلمه .. ولكن الله وهو مطلع علي ما ارتكب من جرائم في حق الناس ، وعلي ما انتهك من حرمانهم ، أبي أن يهديه ؛ لأنه قرر في محكم كتابه ألا يهدي من رأي آياته فلم يؤمن بها (• ) والذي رأي وقرأ وسمع عن آيات الله في كونه وفي عباده فعلم نهاية الظالمين ، مثل هذا لا يقدم علي ظلم ،ولا يستبيح تعذيب الناس وقتلهم .. فأني يهديه الله إذا هو أعرض عن هذه الآيات وظلم وتمادي في الظلم .. أليس هو الله تعالي الذي قال : ( ) .
كما أن الله تعالي أبي أن يقبضه إليه فيذهب رجال دولته ، وسدنه عرشه ، في تمجيد أيامه كل مذهب ، فيكون موته أشد فتنة للناس من حياته .. واقتضت حكمته تعالي وسابغ عدله أن لا يقبضه إلا بعد أن يمحو تاريخه بيده ، وإلا بعد أن يشهده أهله وذووه ، ويشهده العالم كله وهو يسطر وثيقة الذل والهوان لنفسه ولبلده ، وإلا بعد أن ينطق بلسانه أمام شعبه وأمام العالم كله أنه هو وحده الذي يحمل تبعة هذا العار والخزي والهزيمة وأنه لا يستحق أن يبقي في دست الحكم بعد ذلك ساعة من نهار .. وإلا بعد أن يمد أكف الضراعة إلي الرجل الذي طالما تهكم عليه وهاجمه لأنه أراد أن يجمع كلمة المسلمين وذلكم هو الملك فيصل بن عبد العزيز . لقد أراد الظالم أن ينتصر بجيش هو حقاً كان جيشًا جرارًا مدججًا بأحدث سلاح ، ولكنه كان قد أخرج منه كل ذي دين وكل ذي مبدأ وكل ذي كرامة ، وحال بين هؤلاء وبين أن يتسربوا إليه ، فلم يعد في الجيش إلا أخشاب مسندة من أهل ثقته الذين كانت سمتهم المميزة الاستهتار بالدين ، والاستخفاف بالقيم ، فلم تغن هذه الحشود المدججة يوم الجد عنه شيئًا ، وفي أول لقاء فروا هاربين ، وتركوا أسلحتهم للعدو .
أسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
ليت الظالمين يعتبرون ، فإن حرب يونيو 1967 ستظل إلي الأبد عظة وعبرة لكل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ، ليس الظالم في حاجة إلي من يحفر له قبره ، إن من تنكيل الله العلي القادر به أن يسخره هو نفسه لحفر هذا القبر لا ليدفن فيه جثته وحدها وإنما ليدفن فيه مع جثته تاريخيه وأمجاده التي كان يتيه بها علي الناس ، ولا يبقي له بعد ذلك إلا الخزي والهزيمة والذل والعار . أراد الظالم بهذه الحرب لا أن يستخلص فلسطين من أيدي اليهود ، وإنما أراد أن يحقق فيها نصرًا يتيه به علي منافسيه ، ويستكمل به عدة التسلط والجبروت ، ويستعيد به مكانة فقدها بانسلاخ سورية عنه وليكون في الموقع من القمة الذي يفتك فيه بالحفنة من الرجال في هذه الأمة الذين – بالرغم مما يرسفون فيه من الأغلال – لازالت في صدورهم قلوب تنبض ، وألسنة تنطق ولكنها تأبي أن تقدس غير الله . وترفض أن تقر بالذل لغير الله .
وتقدرون وتضحك الأقدار
وصدق الله العظيم إذ يقول : ( • • • ) . حقا (• • ) إنه لا يأخذ الظالم إلا من علٍ . حتى إذا وقع كان لوقوعه ضجة وصخب يلفت الأنظار ، ويوقظ النائمين ، ويتيه الغافلين ، ويقرع أقفاه السادرين في الضلال والموغلين في الظلم والظلام .. إنه إذا أراد أخذهم لم يهدم بنياتهم – كما عهد الناس الهدم – من فوق حتى يهوي به إلي تحت ، فإن هذه الطريقة في الهدم تستغرق وقتاً طويلاً تضيع فيه قيمة المباغتة ، وتترك فرصة للظالم ومن معه أن يهربوا أو حتى أن يفيئوا إلي رشدهم ، ثم إنها قد تترك قواعده وأسسه باقية مما يغري ظالمًا آخر يرفع هذه القواعد مرة أخري .. وإنما اقتضت إرادته أن يبدأ في هدم البناء بنسف أساسه وقواعده فيخر البُنيان كله دفعة واحدة علي من فيه فلا يجدون لهم مفرًا ولا منجى ، ويكون في هذا النسف الفوري معني الأخذ والمباغتة التي يريد بها التنكيل للظالمين ، والثأر للمظلومين والعبرة للناس أجمعين .
• بعد حرب يونيه 1967 :
لن أتعرض هنا أيضًا للمهازل التي تلت الهزيمة التاريخية والتي انتهت بالإبقاء علي جمال عبد الناصر في رياسة الدولة ، فهذا موضوع سالت به أنهار الصحف ، وزخرت بمناقشته بطون الكتب ، وسيظل علي مر الزمن موضوع مناقشة حتى يستطيع المصريون جيلاً بعد جيل فك رموز هذه المعادلة الصعبة المستعصية علي الفهم والتي تقول بأن هزيمة 5 يونيه الماحقة تساوي النصر الذي يستحق الإشادة به والفخر .. نعم ظل عبد الناصر في موضعه ولكنه رجع مصدوع القلب ، مفري الكبد ، محطم الفؤاد .. وكأنما أحس بنهايته – وقد اعتبر كتاب الغرب يوم 5 يونيه يوم وفاته – تقترب ، بجرائمه تطيق علي عنقه فأراد أن يتوب .. وكأني برب العزة يرد عليه قائلاً : ( • •• ) فلقد تقدم إلي الشعب ببيان مارس 68 ولا أعده إلا بمثابة توبة فقد اشتمل علي مبادئ طيبة لإصلاح المجتمع .. فاستبشر الناس وما كادوا يفعلون .. كأن رب الناس أبي أن يجري خيرًا علي يدين ملطختين بدماء الأبرياء .. غلبت علي الرجل طبيعته فابتلع كل ما جاء ببيان مارس ورجع إلي حكم الفرد .. ولكن بقلب كسير ، وجناح مهيض .. فالحكم بوليسي إرهابي كما كان ، ولكن اليد التي تعودت البطش تبطش وقد نزعت مخالبها .
الباب التاسع عشر :الدعوة المستهدفة بأمـكر الأساليـب
الفصل الأول : مراجعة عامة
من حق القارئ عليّ بعد استيعابه هذه الصفحات التي كان جل همي منصبًا علي تسجيل الأحداث بطريق أقرب إلي السرد منها إلي الإفاضة والتحليل ، أن أتناول في هذه الخاتمة بعض ما مر من أحداث بشيء من التعليل والتجليل والتعليق والإفاضة حتى تتألق الحقائق الهامة تألفاً يبدد كل إبهام :
أولاً : قامت دعوة الإخوان المسلمين منذ أول يوم علي أساس فكرة شاملة واضحة محددة . وإن هذه الفكرة ظلت كما هي تمامًا لم يطرأ عليها أي تغيير أو زيادة مع تغير القيادات وتطور الأيام وتباين الظروف .
ثانيًا : قد يقال إن هذا يعزي إلي أنها دعوة منزلة من عند الله . ولكن هذا ليس السبب ، فإن الذي تكفل الله تعالي بحفظه هو القرآن الكريم وحده إذ يقول : ( • ) أما الفكرة الإسلامية المستنبطة من الكتاب والسنة فهي وإن كانت محددة المعالم بمقتضي هذين المرجعين إلا أن الناس من أتباعها ذهبوا في تصورها كل مذهب ، إذ دخلت عناصر أخري من الطبائع والأهواء .. فهؤلاء قعدت بهم الهمم فحصروها في نطاق ضيق حدوده جدران المساجد وصوامع العبادة ، وآخرون اعتبروها نظريات فلسفية ميدانها حلقات الجدل ، ومستودعها ما بين دفات الكتب ، فهي لون من الرياضات الفكرية ، وضرب فسيح من المتع العقلية ، وطائفة شط بهم الخيال فنأى بهم عن واقع الحياة فارتفعوا بها – غلوا فيها – ثم انقضوا بها علي هذا الواقع كما ينقض الصقر علي فريسته ، ونسوا أن هذه الفكرة لم تنزل من سمائها لتبيد من هم علي الأرض ، وإنما نزلت للأخذ بيدهم وإسعادهم .
وهكذا تناول أتباع الفكرة الإسلامية فكرتهم بالنقص تارة وبالزيادة تارة أخري ، وأخذ كل فريق يُلوَّنُها بلون نفسه وهواه . ولم تكن هذه الفكرة – فيما تناولها من تغيير وتبديل – بدعًا من الفكر المنزلة من السماء ، فمن قبل كان ذلك شأن الناس مع ما أنزل علي موسي وعيسي .. والقرآن مترع بالآيات الفاضحة لأتباع موسي وعيسي فيما غيروه وبدلوه ، وفيما اختلقوه ، ,فيما أخفوه من حقائق ، وفيما نسبوه إلي الفكرة الإسلامية زورًا وبهتانًا ( ) ( • • ) (• • ) ( ) .
وفكرتنا الإسلامية الشاملة الخاتمة التي جاء بها خاتم الرسل محمد صلي الله عليه وسلم لم تسلم من تغيير وتبديل ، إلا أن ما تناولها من تغيير وتبديل لم يصل إلي أغوارها ؛ لأن جوهرها وهو القرآن الكريم تكفل الله بحفظه .. ولذا فإن التحريف الذي استطاعه المحرفون والمغرضون والقاعدون والمتعالون لم يزد عن أن يكون اعتسافاً في التفسير منشؤه في كثير من الأحيان حمل الأسلوب القرآني العربي علي ما لا يحتمله من الأساليب الأعجمية الدخيلة ، حيث يفضي هذا الاعتساف إلي خلق ألوان من التعقيد ما أنزل الله بها من سلطان ، وما كانت لتخطر علي بال قارئ يقرأ القرآن بسجيته العربية . وأضرب لذلك مثلاً بما فسره بعض المفسرين الأعاجم لقول الله تعالي : ( ) فالقارئ العربي سواء كان أميًا في أعلي درجات الثقافة والعلم يفهم من الآية نفي وجود شريك لله تعالي أو مثيل .. ولكن المفسر الأعجمي يحمل الآية ما لا تحتمل فيدعي أن الكاف حرف تشبيه ، وبذلك فإن الآية تنفي وجود شبيه لمثل الله .. ثم يبدأ في مناقشة فلسفية يحاول أن يدحض بها أن لله مثلاً ، ويبحث عن تأويل للآية لتفادي ما نشعر به من أن لله مثلاً .
وعن طريق هذا الاعتساف نشأت نظريات تناولت عدة قضايا تتصل بصفات الله وأعمال العباد وشروط الإمامة وغيرها أدت إلي تشتيت شمل الأمة الإسلامية ومقاتلة بعضها لبعض .. وانتهت إلي كوارث لازال العالم الإسلامي حتى اليوم يلعق جراحه من آثارها . كما نشأ التحريف من فهم سقيم لبعض أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم ، ومن التذرع بأحاديث تحتاج في سبيل استنباط حكم شرعي منها إلي الإلمام الواسع المتبحر بعلوم عميقة الغور كعلم تاريخ الرجال وعلم أصول الحديث وعلم أصول الفقه وعلوم اللغة مع قاعدة راسخة في علوم القرآن .. مع أساس من عقلية خصبة قادرة علي الاستنباط ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل .
وقد يصلح أن يكون مثالاً لهذا ما سبق أن أوردته في سياق هذه المذكرات من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي " فمن طريق فهم هذا الحديث فهمًا سطحيًا نشأ في هذه الأمة ضلال كثير ، واستطاع جاهلون ومغرضون أن يبطلوا من الإسلام ما شاءوا من شرائعه وأحكامه ، وأن يحملوا أتباعهم علي شرائع وأحكام ابتدعوها .. ولكن بالفهم المستنير القائم علي علم متبحر في العلوم مع عقلية ناضجة مستنيرة ، استطاع الإمام الشاطبي رحمه الله أن يفسر هذا الحديث – في ضوء ذلك – التفسير الصحيح الذي لا تضل معه العقول ، ولا تزيغ به الأهواء حيث قال : إن هذا الحديث موجه إلي فئة معينة هي فئة الصحابة الذين عاشوا مع الرسول صلي الله عليه وسلم ورأوه بأعينهم ، وبذلك صارت له صورة محددة واضحة في خواطرهم ، فإذا رأوه في المنام علي الصورة التي رأوها بأعينهم فإنه سيكون هو نفسه حقاً لأن الشيطان لا يتمثل به .. أما من عدا هؤلاء ممن لم يروا النبي صلي الله عليه وسلم رأي العين فأني لهم إذا رأوا في المنام من يدعي أنه النبي أن يعرفوا إن كان هذا الادعاء حقاً أو باطلاً .. لاسيما إذا علمنا أن من آيات الله عز وجل أنه لم يخلق اثنين من خلقه علي صورة واحدة ( • ) .
فقد يتشابه اثنان حتى إذا دقق الناظر فيهما وأخال نظره في خلقتهما وجد اختلافاً لا تدركه النظرة العابرة من لون في البشرة ، أو طول في القامة ، أو قصر أو لون في العينين أو طول في الأنف أو اختلاف في شكل الأصابع أو فيما عدا ذلك مما يدركه من يمعن النظر .. ومن عاشر إنسانًا وأطال عشرته انطبعت صورته بكامل تفاصيلها في نفسه وعقله لا يمكن التلبيس عليه .. فهذه الفئة التي عاشت مع النبي صلي الله عليه وسلم وامتزجت به ، ولم تكن تصبر علي مفارقته ساعة من زمان ، هي التي تستطيع أن تميز صورته إذا رأتها في صحو أو منام .. أما غيرهم فإن ادعاءهم رؤيته في المنام , وأن الصورة التي رأوها هي صورته صلي الله عليه وسلم هو ادعاء مردود ، وكل ما ترتب علي هذا الادعاء من أمر أو نهي مردود . وبذلك تسلم الأمة من طائفة ادعاءات قد تنحرف بها عن شريعة الله ، وتنزلق بها إلي متاهات من الضلال والإفك والبهتان .
ثالثًا : الوسطية والقيمية :
هما سمتان من السمات المميزة للفكرة الإسلامية .. وسمة الوسطية هي التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله : ( • ) وسمة القيمية هي التي أشار إليها الكتاب الكريم في قوله ( ) وقد لفت نظري إلي علو شأن الوسطية في الإسلام أن رأيت الإسلام يلتزم الوسطية في نظرته إلي المجتمعات حتى في ناحية العقيدة .. فاقرأ في السيرة النبوية الشريفة أنه لما نشبت الحرب بين الفرس والروم انتهت بهزيمة الروم ، حزن المسلمون بمكة لهذا النبأ ، وتمنوا لو أن النصر كان حليف الروم باعتبار الفرس مجوسًا يعبدون النار ، والروم أهل الكتاب - وإن حرقوا فيه – فهم علي كل حال أقرب إلي المسلمين من عبدت النار . ولو أن الأمر وقف علي هذا الحد من العواطف ، لجار لنا أن نتشكك في صدق هذه العواطف من مسلمي مكة ، وفي سلامة اتجاهها .. ولكننا رأينا الوحي يتنزل علي رسول الله صلي الله عليه وسلم مزكيًا هذه العواطف ، ومؤيدًا هذا الشعور ، ومبشرًا بتحقيق أمنيات مسلمي مكة بنصر للروم قريب .. وقد افتتح سورة الروم بذلك فقال : ( ) .
وإذا كان للوسطية هذا القدر في الإسلام حتى تصنيف الناس عقديًا والتعامل معهم علي أساس هذا التصنيف الرحب الفسيح ، فلا شك في حرص الإسلام علي الوسطية وسيلة في تعامله مع ما هو دون العقيدة قدرًا وأهمية . ومقتضي ذلك أن لا يقف المسلمون أمام من يعيشون معهم في المجتمع موقف الجمود الذي ينظر فلا يري أمامه إلا الأبيض والأسود ، وإنما عليهم أن يوسعوا معهم من مجال نظراتهم ليجدوا حلولاً ما بين هذين اللونين .. وقد يتبدي ذلك واضحًا في صلح الحديبية وما تضمن من شروط رأي فيها عمر بن الخطاب وأمثاله من الصحابة تنازلات جعلت عمر يعترض ويقول : " لماذا نعطي الدنية في ديننا ؟ " .. وتمتد الأيام وثبت آخر الأمر أن هذا الصلح بشروطه كان خيرًا عظيمًا . ومن هذا يتبين أن نظرة بعض المنتسبين إلي الإسلام إلي المجتمع فيصنفونه صنفين ليس غير – إن هي إلا نظرة ضيقة بعيدة عن سمة الوسطية التي من طبيعتها أنها تترك الباب دائمًا مفتوحًا أمام التفاهم والتقارب والاتصال ، وتنتهي دائمًا بإثراء الفكرة الإسلامية بوفود متلاحقة ممن يقتنعون بها نتيجة لهذا التفاهم والتقارب والاتصال .
والقيمية وإن كانت من سمات الفكرة الإسلامية فإنها كذلك سمة كل فكرة نزلت من السماء أو تمخض عنها فكر بشري سوي ، فما من فكرة إلا ودعت إلي الصدق والوفاء والكرم والشجاعة والمروءة والرفق وما إليها من القيم – ولكن الذي اختصت به الفكرة الإسلامية دون سواها من الفكر هو امتزاج الوسطية بالقيمية ، فالقيم في ميزان الفكر الإسلامي إذا أفلت زمامها من يد الوسطية فإنها لا تُعَدّ من القيم في شيء وصار الفكر الإسلامي براءٌ منها . فالصدق دون أن تحكمه الوسطية قد يكون وقاحة ، والشجاعة قد تتحول إلي تهور ، والكرم قد يصل إلي إسراف ونزف ، والصبر قد ينتهي بصاحبه إلي الاستكانة .. وهكذا يتغير وجه القيم إلي وجه آخر كريه مرذول ، لا يقبله الطبع السليم ، ولا يستقيم من ميزان العقول . وقد جعل القرآن الكريم القيمية صفة للفكرة الإسلامية في ذاتها ( ) ولكنه جعل الوسطية للقائمين علي هذه الفكرة الحاملين لوائها (• ) ، لأن الاحتفاظ بقيم الفكرة في حدود الوسطية يحتاج إلي العامل البشري . ومن هنا كان العنصر البشري هو في حد ذاته جزءًا من الدعوة الإسلامية لا يمكن فصله عنها ؛ إذ بدونه تفقد قيمها ، .. ومن هنا نفهم لماذا قضي رسول الله صلي الله عليه وسلم ثلاث عشر سنة في مكة في تربية أصحابه ليكونوا أهلاً لحمل أعباء الدعوة الإسلامية دون أن ينحرفوا بها عن الوسط إلي يمين أو شمال . وقد يكون من أعظم إنجاز الإخوان المسلمين ، أنهم استطاعوا أن يحفظوا للفكرة الإسلامية وسطيتها دون انحراف أو انجراف وسط تيارات عاتية من طبائع شائهة ، وأهواء جامحة ، وظروف قاسية .
رابعًا : الداعية البصير :
فالفكرة إذن ليست شيئًا جديدًا ، بل إنها فكرة قديمة قدم رسالات السماء . ولكن الجديد هو إيجاد الأمة التي تؤمن بالفكرة ، وتعمل لها ، وتصوغ نفسها في قالبها .. هذا هو الجديد الذي تطلب الفكرة في كل زمان ومكان ، وتلح في طلبه من كل جيل .. تريد أن تري أمة تنادي بها ، وتقوم بأعبائها ، وتكون هي المتحكمة في حياتها .. وبديهي أن أمة لن توجد ، إلا بعد أن يوجد الداعية الذي يرفع اللواء ويدعو الناس إلي الالتفاف حوله . ودون وجود الداعية فلن تكون أمة . وقام دعاة اتخذ كل منهم رسائل لنشر دعوته ، ثم جاء حسن البنا فاتفق في الفكرة والهدف مع سابقيه ولكنه اختط في نشرها أسلوبا آخر .. كان هدفه أن تكون دعوته عالمية ، ولكنه رأي أن يخاطب بهذه الفكرة أول ما يخاطب عامة المسلمين وجماهيرهم ، بادئًا بأطراف البلاد وسكان القرى ، ثم قرر أن يكون له مركز في القاهرة لا ليتصل بالذين تتركز السلطات في أيديهم ،وإنما ليتصل بفئة أخرى من جماهير الشعب هم فئة الناشئة من طلبة المدارس والجامعة ، فقسم وقته وجهده بين هؤلاء في القاهرة وبين جماهير الشعب في بطون الريف ، فكون من هؤلاء جميعًا قاعدة عريضة آمنت بالفكرة ، وعاهدت علي العمل لها ، والبذل في سبيلها .
فلما جاء دور مخاطبة علية القوم وأصحاب السلطة بالفكرة الإسلامية – وهم بطبيعة تربيتهم وحكم مناصبهم يرون في هذه الفكرة منافسًا لهم ، ينتقض من سلطتهم ، ويحد من ترفهم .. فأرادوا – كدأبهم مع دعاة سابقين – أن يعصفوا بأصحابها ، ولكنهم وجدوا أنفسهم هذه المرة أمام مدَّ عارم هم عاجزون عن مواجهته ، من هذه القاعدة الشعبية الراسخة المتشعبة في قلوب أمة كاملة فاستعانوا بشياطين الأنس في داخلا البلاد وخارجها ، غير أن ذلك كله لم يتمخض عن شيء يذكر .. الفكرة هي الفكرة والدعاة هم الدعاة ، والمؤمنون بها في نمو علي مر الأيام وازدياد . وقد يكون هذا هو السر في ثبات هذه الدعوة – دعوة الإخوان المسلمين – واستمرارها ، ذلك أن حسن البنا بذر بذور هذه الفكرة في أصلح بيئة لها ، فتثبت نباتًا حسنًا ، تعهدها فيه عاكفاً علي تعهدها حتى أينعت وأثمرت وملأت الربي والوديان ، ضاربة بجذورها إلي أعماق الأعماق
خامسًا : الغلطة الكبرى لجمال عبد الناصر :
إذا استبعدنا سوء النية وحب الاستئثار بالسلطة ، فقد تكون الغلطة الكبرى لعبد الناصر هي أنه – تحديًا للإخوان المسلمين – أراد أن يثبت لهم أنه يستطيع أن يرسي دعائم حكمه دون الحاجة إليهم ، ظنًا منه أن الإخوان المسلمين هي مجرد فكرة ليس من الصعب علي حاكم أن ينتحل مضمونها فتستقيم له الأمور كما لو كان الإخوان المسلمون هم القائمين بأعباء الحكم . واستطاع فعلاً – عن طريق خزانة الدولة – أن يملأ مناصب الحكومة بأعظم الخيرات وأعلي المؤهلات . ولكنه ما لبث أن رأي الخلل والفساد يهز أركان الدولة ، ويهد في كيانها .. فأخذ بتلابيب هؤلاء الخبراء وذوي أعلي المؤهلات .. فقدمهم إلي المحاكم التي دمغتهم بفساد الذمة وموت الضمير . وكان المنطق يقضي – والحالة هذه – أن يقر الحاكم بخطئه ، ويفئ إلي رشده .. ولكن حاكمنا ما كان يستطيع أن يفعل ، فهو بحكم حقده أسير هذا الحقد ، ثم إنه كان قد قطع علي نفسه خط الرجعة ، بما ارتكب من فظائع ضد الإخوان ، وبما سفك من دمائهم وصار كما يقول المثل السائر : " ليس بعد حرق الزرع جيره " .
وهكذا لم يجد الحاكم الحقود أمامه إلا طريقاً واحدًا ليس غير ، هو الطريق الذي سلكه من قبل ووجد فيه الأفاعي والشياطين .. وظن أنه إذا لجأ إلي العسكريين الذين اعتادوا أن تحكم تصرفاتهم الأوامر والعقوبات ، فسيجد فيهم طلبته التي تدير شئون الدولة كما تدور الساعة ، فملأ المرافق والإدارات والشركات والمؤسسات بهم فلماذا كان من شأنهم ؟ كل الذي حققوه هو إحكام الشكليات لهذه الأعمال . فمواعيد الحضور ومواعيد الانصراف أصبحت تراعي بكل الدقة ، والعقوبات توقع علي من يتأخر عن الحضور دقائق ، كما أن التقارير والمذكرات تكتب ببراعة وإسهاب ، يضرب فيها علي الوتر الذي يطرب الرئيس العسكري .. وكل الذي يطربه أن نكتب هذه التقارير بأسلوب يقربه إلي سيده الحاكم ، الذي – يحكم رغبته في الاستئثار بكل شيء – أضحي لا يعرف شيئًا اللهم إلا ما يصله من هذه التقارير التي لا تمت إلي الواقع بصلة .. فإذا جاءت مناسبة من المناسبات يلقي فيها علي الشعب بيانًا ، ضمنه ما جاء بهذه التقارير .. والشعب يسمع ويضحك ،ويرسل النكات ، لأنه يسمع من الحاكم بيانات وأرقامًا ليس لها في واقع حياتهم أثرًا ، إذ هي مختلفة لا أصل لها .
وأخيرًا اكتشف الحاكم أن هؤلاء العسكريين ضللوه ، وأنهم أفسدوا مرافق البلاد . وتعجب كيف يقع هذا الإفساد من رجاله الضباط الأحرار ؟ .. ونسي الحاكم أن الضباط الأحرار – كما يسميهم – ليسوا إلا ناسًا كسائر الناس .. إن كانوا قد أدوا ما وكل إليهم من أعمال في الجيش علي الوجه الأكمل ، فإنما ذلك تحت سوط القانون العسكري الذي لا يرحم أما وقد رفع عنهم هذا السوط – بعد أن انخرطوا في سلك الحياة المدنية والوظائف المدنية – فلم يعد من رقيب عليهم إلا ضمائرهم إن كانت لهم ضمائر .. وأني يكون لإنسان ضمير وهو لا يعرف الله ، ولا يخطر بباله أن هناك حسابًا علي كل صغيرة وكبيرة بين يدي إله مطلع علي القلوب يعلم السر وأخفي .
سادسًا : الأمة المسلمة هي المعضلة :
يخطئ إذن من يظن أن مجرد المناداة بالفكرة الإسلامية وجعل الشريعة الإسلامية الأساس الذي تستمد منه الأحكام هو نفسه الأخذ بنظام الإسلام . فالنظام الإسلامي كل لا يتجزأ ، والأمة المسلمة جزء منه لا ينفصل عنه – والأمة المسلمة هي الأمة التي صيغت في بوتقة التربية القرآنية صياغة أنشأت من كل فرد منها صورة حية لهذا الدين بما فيه من خلق وآداب وعبادات ومعاملة ، وبحيث يكون هذا الفرد أداة إيجابية لها أثرها في الحياة وتترك طابعها علي كل من تخالطه أو تحتك به . ومن هنا كان تركيز الطغاة والمخططين لهم لا علي القضاء علي الفكرة الإسلامية في ذاتها ، وإنما كان تركيزهم دائمًا علي القضاء علي هذه الأمة التي أوجدها حسن البنا في هذا العصر والتي هي وحدها القادرة علي جعل الفكرة الإسلامية حياة سارية في أوصال الأمة ، ونبضًا دقاقًا في قلبها الواهن المخدر . وإن كان تحديد الفكرة الإسلامية ، وتوضيح معالمها قد تناوله القرآن الكريم بعشرات من آياته ، فإن آلاف الآيات خصصت لبيان خصائص الأمة المسلمة ، وكيفية تكوينها والحث علي إيجادها . والتحذير من آفات تفت في عضدها أو تهدد كيانها أو تقضي عليها .. وتري هذا واضحًا في سور القرآن الكريم طوالها وقصارها علي السواء ، ففي الوقت الذي تفتح فيه سورة البقرة ببيان أخص خصائص هذه الأمة فتقول : ( ) ثم تأخذ في بيان آفات الأمم والتحذير منها .. نري آخر سورة في القرآن تعلم هذه الأمة كيف تأخذ حذرها من وساوس شياطين الجن والإنس في قوله تعالي ( •• •• •• • •• • • • •• ) .
وحسبك أن تقرأ سورة كاملة كسورة التوبة لتري الروعة الأخاذة في كشف وسائل المخربين ، ودخائل المنافقين ، فضلاً عما جاء في صدر سورة البقرة في مفتتح الكتاب الكريم من إجمال ما فسرته سورة التوبة وسورة النساء وأكثر سور القرآن .. مما يدل دلالة واضحة علي أن المعضلة الكبرى ليست في مجرد تحديد الفكرة وتوضيحها ، وإنما هي في العمل علي إيجاد الأمة التي تحمل لواء هذه الفكرة ،وتأخذ علي عاتقها نشرها بالقول والقدوة والعمل وما يقتضيه ذلك من حكمة وجهاد وصبر . فالفكرة إذن بغير أمة متشربة لمعانيه . قائمة علي إبرازها وصيانتها ، متصدية لكل من يعتدي عليها ، ساهرة علي أطرافها وحدودها .. لا تكون شيئًا مذكورًا حيث تفقد كيانها ، وينعدم أثرها في الحياة .
لقد سمعنا من عبد الناصر في بيته في سبتمبر 1954 حين كان يقص علينا ما عده رغبة من الإخوان في الوصاية عليه بقوله : إن المرشد أرسل إلي فلانًا وفلانا (وذكر اسمين من الإخوان) يطلبان أن أعرض علي الإخوان كل قرار للحكومة قبل صدوره لكي أضمن تأييد الإخوان للثورة – وأنا لا أقبل هذه الوصاية وسأستغني عن الإخوان ، وسترون كيف سأحكم البلد بغير الإخوان .. وفي كفاءات البلد ما يغني عن الإخوان . وقد غاب عن الرجل أن المعضلة ليس حلها أن تجد الكفاءات فحسب ، وإنما المعضلة أن تجد الذين يجمعون إلي الكفاءات الأمانة والإخلاص – وهما ثمرة الخوف من الله – ولازالت كلمة عمر بن الخطاب دستورًا لمن يبغون الإصلاح : " أشكو إلي الله ضعف الأمين وخيانة القوي " . ورحم الله ابنة يوشع حين قالت لأبيها بعد تجربتها مع موسي : ( ).
سابعًا : تكاليف الوسطية :
التزام الإخوان حد الوسط في فكرتهم وسلوكهم كفلهم كثيرًا من المشقات والآلام والتضحيات . فلقد نكبت الإخوان بسبع فتن عمياء . وقد تحدثنا عن هذه الفتن في ثنايا الحديث الذي مضي في هذه المذكرات ونكتفي هنا بالإشارة إليها فيما يلي لحضرها :
1 – فتنة رفعت صديق .
2 – فتنو زواج عبد الحكيم عابدين من شقيقة الإمام .
3 – فتنة شباب سيدنا محمد .
4 – فتنة حسين عبد الرازق وأحمد السكري .
5 – فتنة ما بين الوفد والإخوان .
6 – فتنة تمرد رياسة النظام الخاص .
7 – فتنة ما بين الثورة والإخوان .
وليس معني حصرنا الفتن في هذه السبع أن الإخوان كانوا يعيشون فيما بين كل فتنة وأخري من هذه الفتن في هدوء واطمئنان ، ولكننا قصرنا الإشارة علي الفتن الجائحة التي كادت كل واحدة منها أن تطيح بالدعوة . ومادام التطرف والحقد والأنانية والغرور من الغرائز المتأصلة في الإنسان ، فلا مناص في أي مجتمع من ظهور آثارها ، وهذه الآثار هي ما نسميه الفتن .. إذ يريد أصحابها أن يكتسحوا كل ما يتعرض في طريقهم فيجدون في قبالتهم دائماً " الأمة الوسط " التي التزمت بتعاليم الإسلام وآدابه دون مغالاة ولا تقصير . ومن هنا يكون صدام . يتخلف عنه حطام ، كانت هذه المجتمعات أحوج ما تكون إليه لو أنه قاوم في نفسه هذه الغرائز والتزم حد الوسط . ولست هنا بصدد إحصاء الحطام الذي تخلف من وراء هذه الفتن في دعوة الإخوان المسلمين ، فحسبي ما قدمت من إلقاء الضوء عليها في سياق الحديث .. ولكنني أقرر أن الذين أوقدوا نار هذه الفتنة كانوا هم حطامها .. فبعضهم جني علي نفسه وذهب ضحية باردة بغير مبرر ولا ثمن ، وبعضهم صار رمادًا تزوره الرياح ، وبعضهم ظن أنه سيقيم الدنيا ويقعدها ، فلما واجه واقع الحياة تخاذل وتراجع وتضاءل حتى تقوقع وصار اسمًا بغير مسمي .
أما الذين بقوا من هؤلاء جميعًا علي قيد الحياة ، و رأوا بأنفسهم أن الهيئة التي رموها بالضعف والتخاذل لأنها لم تطاوعهم في آرائهم بالنبذ إلي الأعداء علي سواء وهي بعد بادرة غضة الإهاب .. رأوها في الوقت المناسب – وقد اشتد عودها – وقد صارت العقبة الكبرى أمام قوي الشر من طغاة ومستبدين ومستعمرين .. ووجدوا أن إخوانهم القدامى – الذين طالما رموهم بالضعف والخور – هم الذين يتصدون بصدورهم لسهام هؤلاء الطغاة لا يهابون ولا يخافون – ورأوا بأعينهم أن صلابة البناء علا بجدرانه حسن البنا في غفلة من قوي الشر هو الذي ثبت أمام الغارات الشرسة المتواصلة التي شنها العدو وزال يشنها دون هوادة .. ورأوا بأعينهم أخيرًا أن الفكرة التي كانوا يتسارون بها لغرابتها علي المجتمع في ذلك الوقت ، قد صارت فكرة عالمية وأصبحت الهيئة التي تنادي بها هيئة عالمية ، حتى من غير دور أو لافتات أو كيان رسمي .
عندما تفقد الدعوة قائدها ومؤسسها ، ويشب الأطفال عن الطوق ، ينسون أيام التدلل ، ويهرعون إلي حمل العبء ، والنهوض بالمسئولية ، فيسدون فراغ القيادة الشاغر باتحاد كلمتهم وائتلاف قلوبهم وتناسي أشخاصهم .
ثامنًا : كيف نؤمن بالقيادة ؟
قد يلاحظ قراء هذه المذكرات أنني لم أفرد بابًا أو فصلاً أسرد فيه صفات قائد هذه الدعوة سردًا . وهو ما اعتاد مسجلو تواريخ الدعوات أن يفعلوه – ومع تقديري لهذا الأسلوب في كتابة تاريخ الدعوات فإنني آثرت العدول عنه لسببين :
أولهما : أن صفات القيادة – مهما اختلفت الدعوات والفكر – صفات معينة . وجه الاختلاف بين قائد وآخر فيها منحصر في مقدار حظه من كل هذه الصفات ، بإفراد باب أو فصل لسرد صفات القائد – والحالة هذه – لن يعدو أن يكون شيئًا مألوفاً وكلامًا معادًا .. والسبب الآخر : هو أنني أري قائد الدعوة والدعوة شيئًا واحدًا أو قل هما شيئًان ممتزجان معاً لا تكاد تميز واحدًا منهما عن الآخر ، أو قل هما شيئًا متكاملان يكمل مكل منهما الآخر ، وتاريخ الدعوات مواقف ، والموقف هو طريقة في معالجة معضلة بأسلوب يحل هذه المعضلة دون مساس بالدعوة .. وطرق معالجة هذه المعضلات هي عرض تفصيلي وتطبيقي لمواهب قائد الدعوة ومقدار حظه من صفات القيادة . ولأن أترك للقارئ التعرف علي صفات القائد ومواهبه ومقدراته وخصائصه من أعماله ومواقفه ، خير من أن ألقنه هذه الصفات بسردها . كما لا يفوتني أن أقرر أنني لم أؤمن بقيادة الدعوة إلا بعد أن خضت معها المواقف ، وقد أحببت أن يكون قرائي علي شاكلتي في تعرفهم علي القائد .. وهذا هو أسلوب في نظري يجنب المؤمنين بالدعوات والفكر غوائل التطرف الذي يعبرون عنه في أيامنا هذه بعبادة الأشخاص ، وهو من أخطر ما يصيب مجتمعًا من المجتمعات ، لأنه يعمي أتباع القيادة عن أخطائها ، فتنحرف بهم هذه القيادة انحرافاً غير مأمون العواقب وهم لا يشعرون .
ولست أنكر أن الإيمان بالقيادة لا يتجزأ من الإيمان بالفكرة . ولكن هناك فرق بين الإيمان المطلق بالقيادة مهما انحرفت بالفكرة من طبيعتها ، وبين الإيمان المقيد بالتزام فكرة جديدة محددة المعالم ، واضحة الأسارير .. ولقد كان إيماننا بقيادتنا من هذا النوع المقيد .. وإذا كان النوع المطلق هو الإيمان الأعمى ، فإن الإيمان المقيد هو الإيمان البصير . ومن هنا كان الإيمان بالفكرة أساسًا لإيمان بالقيادة . فإذا لم تكن الفكرة واضحة محددة ، وارتضت فئة من الناس لنفسها أن تؤمن بها علي هذا الوضع الغائم الباهت المائع ، فإن المؤمنين بالقيادة علي أساس فكرة كهذه لن يشعروا في يوم من الأيام مهما انحرفت قيادتهم أن قيادتهم قد انحرفت .. لأن في ميوعة الفكرة التي آمنوا بها متسعًا لكل انحراف .. ولعل هذا بعض ما تعاني منه بلادنا في هذه الأيام .
وهنا تكمن خطورة أشخاص اختصتهم القدرة الإلهية بحظ لا بأس به من مواهب القيادة ، فاستعملوا هذا الحظ الذي أنعم الله به عليهم في غير ما شرع الله .. استغلوه في تحقيق أغراض شخصية ، وبناء زعامة لأنفسهم تثبت أقدامهم في أسباب السلطة ، مهما اقتضي ذلك من إغفال لمصالح الشعوب التي ائتمنتهم علي مصالحها .. فضلوا وأضلوا وانتهوا إلي كوارث حاقت بهم وببلادهم .. وأخال أن هؤلاء هم الذين أشارت إليهم الآية الكريمة : ( ) .
تاسعًا : معايير للإيمان عند البلاء :
أصحاب الدعوات الجادة معرضون لألوان مختلفة من المشاق عليهم أن يخوضوها ويصبروا عليها . والقرآن الكريم يزخر بفيض من الآيات التي لا تدع لمؤمن عذرًا أن يهرب من الميدان ، بدعوي أنه بوغت بهذه المشاق التي كان خالي الذهن عنها ، فمثل هؤلاء يفضح كذبهم ما افتتحت به سورة العنكبوت : ( •• • • ) ويصدعهم قوله تعالي : ( • • • • ) ولو شئنا أن نأتي بعشرات الآيات في هذا الصدد لما بذلنا أي جهد ، ولكننا نكتفي بهذه الإشارة ، وننتقل إلي السنة المطهرة فنقتطف من بستانها الوارف زهرة واحدة ، فهي بمثابة شرح ما أجمله القرآن الكريم .. يقول الأمام أحمد بن حنبل :
حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن صهيب أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبرت سني وحضر أجلي ، فادفع إليّ غلامًا لأعلمه السحر . فدفع إليه غلامًا فكان يعلمه السحر . وكان بين الساحر وبين الملك راهب ، فأتي الغلام علي الراهب فسمع من كلامه ، فأعجبه نحوه وكلامه ، وكان إذا أتي الساحر ضربه وقال : ما حبسك ؟ وإذا أتي أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلي الراهب فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي . وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر . قال فبينما هو ذات يوم إذ أتي علي دابة فظيعة عظيمة ، قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا فقالوا: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلي الله أم أمر الساحر ، قال : فأخذ حجرًا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضي من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس . ورماها فقتلها ومضي الناس .. فأخبر الراهب بذلك فقال : أي بني ، أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلي فإن ابتليت فلا تدل عليّ فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم .. وكان جليس للملك فعمي فسمع به ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : اشفني ولك ما هاهنا أجمع . فقال : ما أشفي أحدًا ، إنما يشفي الله عز وجل ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك ، فآمن فدعا الله فشفاه .
ثم أتي الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس . فقال الملك : يا فلان من رد عليك بصرك ؟ فقال : ربي .. فقال : أنا ؟ قال : لا . ربي وربك الله . قال : أولك رب غيري ؟ قال : نعم ، ربي وربك الله .. فلم يزل يعذبه حتى دل علي الغلام . فبعث إليه فقال : أي بني ، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء ؟ قال : ما أشفي أحدًا ، إنما يشفي الله عز وجل . قال : أنا ؟ قال : لا . قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله . فأخذه أيضًا بالعذاب ، فلم يزل به حتى دل علي الراهب ، فأتي بالراهب فقال : ارجع عن دينك . فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقاع شقاه . وقال للأعمى : ارجع عن دينك ، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلي الأرض . وقال للغلام : ارجع عن دينك . فأبي فبعث به مع نفر إلي جبل كذا وكذا وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه من فوقه . فذهبوا به فلما علوا به الجبل قال : اللهم اكفنيهم بما شئت . فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون . وجاء الغلام يتلمس حتى دخل علي الملك فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله .. فبعث به مع نفر في قرقور (سفينة صغيرة) فقال : إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر . فلججوا به البحر . فقال الغلام اللهم اكفنيهم بما شئت . فغرقوا أجمعون . وجاء الغلام حتى دخل علي الملك فقال : ماذا فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله . ثم قال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به ، فإن أنت فعلت ما أمرك به قتلتني ، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني علي جذع ، وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم قل : " بسم الله رب الغلام " فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال : " بسم الله رب الغلام " فوقع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده علي موضع السهم ومات .. فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ؟ فقد والله نزل بك ، قد أمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران . وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها . قال : فكان الناس يتعادون فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي : اصبري يا أماه فإنك علي الحق " .
وتعليقاً علي هذا الحديث الشريف نقول :
1 – هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده ، ورواه مسلم في صحيحه ، كما رواه النسائي ، وقد جوّده الإمام الترمذي .
2 – قرر هذا الحديث أن الحق والباطل لا يجتمعان في مكان واحد ، وأنهما إذا وجدا في مكان واحد فلابد من صدام ، يبدأه الباطل بالاعتداء ، بعد أن تعوزه الحجة فلا يجد أمامه من سلاح إلا البطش والتنكيل .
3 – يظن أهل الباطل أنهم يستطيعون بما أوتوا من وسائل القهر والبطش والتعذيب والإبادة أن يستأصلوا شأفة الحق ويمحوه من الوجود ، ولكن واقع التاريخ ينبئنا بغير ذلك ، فالعاقبة تكون دائمًا للحق وأهله ( ) .
4 – ليس شرطا علي الله أن يخرق العادات لينجي أهل الحق من بين براثن المبطلين فقد يترك سنن الكون تأخذ مجراها امتحانًا لأهل الحق وإملاءً لأهل الباطل ، حتى يأخذهم بجريرتين جريرة اعتناقهم الباطل ، وجريرة اعتدائهم علي أهل الحق ، وحتى يسجل عليهم الخزي في الحياة الدنيا .. فلا تزال الأجيال المتعاقبة تدرس ممارستهم للظلم ، واعتداءهم علي العزل من أهل الحق ، فتلحقهم بذلك لعنة هذه الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها ( ) .
5 – من أخطر أضرار السلطة ، أنها تبعث في نفس صاحبها أسباب الغرور . ولا يزال هذا الغرور يستبد بصاحبه حتى ينسي أنه مخلوق حقير ، فيدعي الإلوهية . ويظل يعيش في هذا الوهم ضالاً هائمًا لا يوقظه إلا قارعة تصيبه أو تحل قريبًا من داره .. وليته يفئ إلي الحق ، وقد امتلأ صدره بكبر ما هو ببالغه .
6 – هؤلاء المغرورون من أصحاب السلطة لن يعدموا أن يجدوا بطانة تؤمن بباطلهم ، تقدس أشخاصهم ، وتضع نفسها في خدمة ظلمهم ، وتزين لهم أعمالهم ، وتجد سعادتها في مشاركتهم في البطش والإرهاب . وهؤلاء هم الذين يقولون يوم القيامة : ( ) فيرد عليهم الله عز وجل بقوله : ( ) .
7 – حين يخرق الله تعالي العادات لإنسان مقرب إليه ، لا يفعل ذلك تكريمًا لهذا الإنسان ، بقدر ما يفعله تحقيقًا لأمر عظيم يتغير معه مجري الأحداث ويتبدل به وجه التاريخ . فلم يكن خرق العادات للغلام مجرد تكريم له ، وإنما كان وسيلة لدخول أهل المملكة بقضهم وقضيضهم في الإيمان بعد أن كانوا كافرين .
8 – لإيمان باللمس حلاوة تهون أمامها كل المرارات ، مرارة الإيذاء والإهانة ، ومرارة التنكيل والتعذيب وحتى مرارة الموت ، وهذا كان حال الراهب وحال الغلام وحال جليس الملك الأعمى وحال أهل المملكة الذين احتشدوا ليشهدوا قتل الغلام .. ولذا فإنهم كانوا يتسابقون إلي النار التي أججها الملك في الأخاديد غير هيابين ولا مترددين ولا جزعين . والإيمان باللمس هو النوع من الإيمان الذي لا يتطرق إليه الشك ، ولا يطرأ عليه الضعف ، ولا يتسرب إليه الوهن ،وهو النوع الذي طلبه إبراهيم من ربه سبحانه حين قال : ( • ) .
9 – حكم العقل والمنطق كان يقضي – وقد رأي الملك بنفسه صدق الغلام – أن يكون هو أول المؤمنين برب الغلام ، ولكن الذي حدث كان عكس ذلك . فقد جحد وتغطرس ، وازداد إمعانًا في الظلم والعسف فهل كان الملك فاقد عقله ؟ والرد علي ذلك يقرره القرآن في قوله تعالي : ( ) وفي قوله : ( • ) .
فالإنسان ليس مسيرًا بعقله وحده ، وإنما تسيره مع العقل عواطفه وهواجس نفسه والظروف المحيطة به . وهواجس النفس وعواطفها إذا وجدت من البيئة المحيطة به ما يستجيب لها ويفسح المجال أمامها ، وتنطلق متضخمة معربدة حتى تكون لها السيطرة علي صاحبها ، فيقول العقل كلمته ، ولكن هذه تقذف بهذه الكلمة بعيدًا لتكون هي وحدها القاضية الحاكمة .. وأولئك الذين بوأتهم الظروف دست السلطة يجدون ممن حولهم عادة من ينفخون في أوداجهم ، وينفثون في روعهم ما ينسيهم – كما قدمنا – حقيقة أنفسهم ، وتستبد بهم الأوهام يومًا بعد يوم حتى يحملوا الناس علي عبادتهم – وقليل من الحكام من استطاع النجاة من هذا الإخطبوط اللعين .
10- طلب الراهب من الغلام إذا هو امتحن ألا يدل عليه . ولا شك في أن الغلام قد تعهد للراهب بذلك , ثم جاء الامتحان ، وأمر الملك بتعذيب الغلام حتى يدل علي الذي علمه .. وظلوا يعذبون الغلام حتى دل علي الراهب , وأتي الراهب فقتل .
وهنا قضية ينبغي تمحيصها وتتلخص في هذا السؤال :
هل إخلال الغلام بعهده للراهب ،وإفضائه باسمه تحت تأثير التعذيب ، وكشفه لهم عن مكانه . هل في هذا جريمة خلقية تمس الإيمان وتجرحه ؟
لا شك في أن الغلام كان يعلم أن ظفرهم بالراهب معناه قتله ، فهل باء الغلام بذنب مقاتل الراهب ؟ إن الحكم في هذه القضية يهمنا نحن الإخوان المسلمين باعتبارنا أصحاب دعوة تعرضنا لما تعرض له الغلام ،وكان من بعضنا ما كان منه ، وتسبب إفضاء بعضنا بأسماء آخرين في القبض عليهم وإرهاقهم وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم .. واعتقد الكثيرون من الإخوان أن هؤلاء الإخوة الذين دلوا علي غيرهم تحت سوط التعذيب ناكثون بعهدهم ، مفرطون في حق دعوتهم ، واعتبروهم قد وهنوا واستكانوا .. وأخذوا يغضون عنهم الطرف حتى شعروا بأنهم منبوذون . إن قصة الغلام تقضي بأن علي الإخوة اللائمين أن يعيدوا النظر علي ضوء هذا الحديث .. فلو كان الإدلاء بشيء مما يرضي الأعداء تحت تأثير التعذيب يجرح الإيمان ، لرفع الله تعالي يده عن هذا الغلام الذي دل علي الراهب ، ولما أبقاه في كنفه ، وأجري علي يديه خوارق العادات حتى أسلم شعب المملكة بأسره علي يديه . علي ذلك أن لا يتناقض مع صريح القرآن حيث يقول تعالي : ( • ) .
عاشرًا : بعد كل الذي حدث أين الإخوان المسلمون الآن ؟
والآن وقد وضعت التجربة بين يدي القراء الكرام بحذافيرها ، نريد – ونحن نطل الآن علي منتصف الثمانينات – أن نعيد النظر في هذه التجربة ونجبله فيها من أول يوم فيها حتى آخر يوم . ولقد استغرقت التجربة ربع قرن أو يزيد ، وأمكن عرضها في هذه الصفحات ، ويمكن إجمالها في النقاط التالية :
1 – نشأة في أحضان الإخوان المسلمين .
2 – قيام " بالثورة " في حماية الإخوان المسلمين بعد التعهد بجعلها لحساب الإسلام .
3 – نجاح " الثورة " والتملص من العهد .
4 – محاولات لاحتواء هيئة الإخوان المسلمين وتطويعها لإدارة عبد الناصر وأهوائه بوسائل منها :
أ – باللف والدوران حولها .
ب – بإنشاء هيئات ضرار بجانبها .
ج – باستغلال قيادة النظام الخاص في افتعال فتن داخلية .
د – بإصدار قرار بحل الهيئة واعتقال المرشد العام وقيادات الهيئة مع تسوئ سمعتها باللجوء إلي الكذب .
5 – فشل كل هذه الجهود ، واضطرار عبد الناصر للتظاهر بالإذعان مع تنويم الإخوان مستغلاً في ذلك ما هو معروف عنهم من تمسكهم بعهودهم – حيث دبر في ظل ذلك مظاهرات مأجورة قلبت الوضع وجعلته في موقف القوة وجعلت الإخوان في موقف الضعف .
6 – محاولة لتتدارك الموقف بعد أن أخذ في التدهور السريع ، في محاولة للحصول علي هدنة يسترد الإخوان فيها أنفاسهم ويراجعون فيها خططهم علي ضوء واقع جديد ، وفشل هذه المحاولة .
7 – محاولة عبد الناصر خلع المرشد العام ، وتسخير وسائل الإعلام لنشر الأكاذيب عن الإخوان مع حرمان الإخوان من جميع وسائل النشر .
8 – فشل هذه المحاولة وظهوره بنفسه علي المسرح .
9 – استخدامه جميع وسائل البطش والإرهاب عام 1954 ، مما لم يسبق له مثيل بقصد إبادة الهيئة مع تسخير جميع وسائل الدولة وإمكاناتها في ذلك .
10- أحكام الإعدام والسجن المؤبد وبآلاف السنين علي مختلف أفراد الإخوان مع استعمال كل أساليب التعذيب حتى الموت .
11- إعادة الكرة مرة أخري عام 1965 . وكانت الأولي لحساب الغرب أما هذه المرة فكانت لحساب السوفيت – هذه المرة كانت علي أوسع نطاق وبوسائل تعذيب وإبادة مستحدثة للقضاء هذه المرة لا علي الإخوان المسلمين فقط بل علي كل من يمتون إلي الفكرة الإسلامية بسبب من قريب أو من بعيد .
هذه هي خطوات التجربة مجملة غاية الإجمال . وقد فصلنا بجمعها في هذه السطور بعد أن قرأ القراء تفاصيلها لتوجه إليهم بعد ذلك سؤالاً :
هل نجح عبد الناصر فيما كان يريد تحقيقه فيما يتصل بهيئة الإخوان المسلمين ؟ - ولتوضيح هذا السؤال نقول : إن عبد الناصر كان يريد في أول الأمر أن يطوع هذه الهيئة لإرادته ، فلما فشل في ذلك نتيجة وجود حسن الهضيبي حول كل جهوده إلي إزاحة هذا الرجل من مكانه فلما فشل في ذلك قرر القضاء علي هذه الهيئة قضاءً مبرمًا لا قيام لها بعده ، وفعل في سبيل ذلك ما لا يخطر ببال إنسان من البطش والقتل والتعذيب والإرهاب . ومات عبد الناصر والمرشد وآلاف الإخوان في السجون .. فهل حقق عبد الناصر هدفه في إبادة الإخوان ؟ . هل انقرض الإخوان المسلمون .؟ سؤال يجيب عليه الواقع فيقول :
إن هؤلاء الذي ادعي عبد الناصر أنه أبادهم أصدروا مجلة الدعوة فكان توزيعها يفوق الثمانين ألف نسخة من العدد الواحد .. إن هؤلاء الذي ادعي عبد الناصر أنه أبادهم هم الذين رشحوا فردًا منهم في إحدى دوائر الإسكندرية ضد خمسة عشر مرشحًا أكثرهم من وزرائه في أول انتخابات حرة لمجلس الشعب فنجح هذا الفرد وسقط الباقون . هؤلاء الذين اعتقد عبد الناصر أنه أبادهم هم الذين تشهد المناسبات التي تتباري فيها كل الأحزاب والهيئات في إظهار مدي نفو1ذها الشعبي .. فتشهد هذه المناسبات بأن جموع المستجيبين لنداء الإخوان أضعاف المستجيبين للحكومة وحزبها مع ما في الاستجابة لحزب الحكومة من مغريات وما يرجي من حوله من مغانم – بل إن اجتماعاتهم الأسبوعية في بيوت الله – دون دعوة ولا تحضير – تفوق اجتماعات أنصار الحكومة التي تعد لها بكل وسائل الإعداد والإغراء .
لازال الإخوان يحتلون مكانهم المرموق في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في مصر ، ولازالت تتحرك بإشارتهم عشرات الألوف في كل موقع من مواقع الحياة في مصر – ولازالت فكرتهم عالية شامخة ـ،ولازال تيارهم دفاقًا قويًا يشق طريقه وسط كل التيارات لا يتوقف لحظة واحدة مهما ووجه مده بمعوقات وعقبات . لا ننكر أن الإخوان فقدوا الكثير من الأرواح والأجسام ، ولكنهم لم يفقدوا ذاتهم التي أحاطوها بأرواحهم وأجسامهم فنال البطش كثيرًا من هذه الأرواح والأجسام ولكن ذاتهم لم تمس ، ولم تصل إليه اليد الباطشة ، مع أن الذات كانت هي المقصودة .. لقد كانت ذاتهم في ذلك الوقت متمثلة في مرشدهم ، فلو أنهم فرطوا فيه أو سلموا بتنحيته لذابت فكرتهم في محيط أهواء عبد الناصر ، ولخرجت آخر الأمر شيئًا آخر اسمًا علي غير مسمي ، ولفظًا بلا معني ، كأحزاب الحكومة ، معالم فكرتها ما تحدده لها أهواء رئيسها .. وإذن لحفر التاريخ بيده قبرًا يواري في رفاتها ، ولكانت لافتاتها بعد ذلك عند الشعب بمثابة شواهد لهذا القبر كتب عليها اسم صاحبه . ولكن صبر عشرين عامًا علي أشد ما يخطر ببال من القهر والعذاب والإذلال حفظ لهذه الفكرة تميزها . فلا زال يهتف بها اليوم بنفس الصيغة وبنفس الألفاظ التي هتف بها حسن البنا في أول هتاف له بها – ولازالت تزهي بطهرها وبراءتها ونقائها مثل صرة من الجواهر النفيسة ألقيت في القاذورات .. وأهيل عليها جيل من هذه القاذورات . فلما رفعت هذه القاذورات إذا بالجواهر النفيسة محفوظة داخل صرتها ، محتفظة بلمعانها وبريقها ونفائسها ( • •• • •• • ) .
إنك لتقابل الأخ المسلم الذي قضي زهرة شبابه في أتون البلاء .. فماذا تقرأ في ملامح وجهه ؟ وماذا تسمع من بنات لسانه ؟ .. إنك لا تلمح إلا الرضا ، وكأن هذا الوجه لم تسل دماؤه تحت أسواط العذاب ، وكأنه لم يضرج بدمائه في الرغام .. ثم إنك لا تسمع منه إلا حمد الله وشكره لا علي أنه نجا من أيدي الظالمين ، إنما علي دعوته خرجت من المعركة سالمة لم تستطع يد الظلم والإرهاب – التي نالت من أصحابها – أن تنال منها ولا أقل القليل .. حقاً صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم : " ألا إن سلعة الله غالية " . لقد فشل عبد الناصر فيما قيض لتحقيقه كل جهوده ،وبذل للوصول إليه كل حياته .. فراح إلي حيث يروح كل جبار عنيد .. راح تلحق به مظالمه .. ولكن دعوة الإخوان المسلمين بقيت كما كانت عزيزة شامخة . ومثل ما كان من أمر الإخوان المسلمين مع عبد الناصر ، كمثل رجل آلت إليه عن أبويه وثيقة يمتلك بها دارًا فارهة عظيمة فجاء أحد أقاربه – وقد نفس عليه أن يمتلك مثل هذه الدار – طامعًا في أن يضع يده عليه ، وحاول ذلك بوسائل وحيل ماكرة فاشلة .. فألب عليه خاصة أهله الأقربين ملوحًا لهم بأنه إذا آلت إليه الدار فسيكونون شركاء فيها – ولكن هذه المحاولة فشلت كذلك .. فراح واستأجر عصابة من المجرمين ، وهاجموا الرجل محاولين استخلاص الوثيقة منه ، ولكنهم وقد استفرغوا كل جهدهم معه وأذاقوه ألوان العذاب حتى شرحوا جسده ضربًا وتجريحًا .. ومع ذلك ظل مستمسكا بالوثيقة .. وخارت قواهم ومات مستأجرهم ففروا هاربين .. وقام الرجل مثخنًا بالجراح ولكن الوثيقة في قبضة يده .
وعند هذا الحد من الكتابة في هذا الفصل فكرت في عبارات أختمه بها ، وأرجأت ذلك بعض الوقت حتى قرأت ذلك بعض الوقت حتى قرأت في 29/7/84 بجريدة الأهرام تحت عنوان " ثرثرة مع الحكيم علي فراش المرض " وهو نقاش يديره الأستاذ صلاح منتصر مع الأستاذ توفيق الحكيم ينشره في حلقات أسبوعية بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو 1952 – وكان دور هذه الحلقة الرابعة من النقاش يدور حول كتاب " عودة الوعي " الذي أصدره توفيق الحكيم بعد وفاة عبد الناصر ، فرأيت أن أنقل منه فقرات تكون خاتمة لهذا الفصل :
يقدم الأستاذ صلاح منتصر لنقاشه مع الحكيم بهذه المقدمة : لماذا كتب توفيق الحكيم " عودة الوعي " لماذا قال عن عبد الناصر ما قاله بعد أن مات ، وهو الذي منحه حيًا أرفع الأوسمة وأعلاها ؟ ماذا يقول لعبد الناصر عندما يلتقي به في الآخرة ؟ ثم وجه إليه السؤال :
سؤال : ما الذي بهذا المفهوم أردت أن تقوله في " عودة الوعي " ؟
الحكيم : أن تفتح الملفات .. أن يكون هناك نقد موضوعي للنظام الذي استقبلته بالحماسة والذي تحول شيئًا فشيئًا إلي نظام بوليسي ، وأدي إلي هزيمة منكرة من عدو صغير . هزيمة أي دولة عسكريًا ليست مصيبة . ولكن المصيبة الأعظم والأكبر والأخطر في هزيمتنا من إسرائيل هي أن البرلمان المفروض فيه أن الشعب اختاره ليسأل ويستجوب ، لم يجرؤ نائب واحد من أفراده أن يقف ويقول : إنه مع حبنا وإجلالنا العميق لزعيمنا ، فإننا في إطار حبنا له وإخلاصنا له وللثورة فإننا نريد أن يوضح لنا أمرًا واحدًا .. كيف وقعت الهزيمة . مجرد سؤال يلقيه نائب واحد بكل الاحترام .. لم نسمعه .. وبدلاً من ذلك فإن الذي حدث في مجلس الشعب عندنا بعد الهزيمة هو الرقص ؟! نعم .. نائب يرقص ؟! . إذن كنا وكان نوابنا في حالة وعي وعي غائب ، أو في نظام جعل الناس يعتادون الهتاف والتصفيق . وغاب عنهم الوعي بضرورة السؤال والمناقشة .
سؤال : ماذا تقول لعبد الناصر عندما تلتقي به في الآخر ؟ لو سألك في هذا اللقاء عن أخطائه في الحكم فماذا سوف تقول له ؟ .
الحكيم : سأقول له : إنك حاولت أن تكون أبًا يفعل ما لا يجوز أن يفعله الأب ، عندما يحدد لابنه كل خطواته ، ماذا يأكل وماذا يشرب ، ومن يحب ومن يكره ، ومن يتزوج ، وماذا يقرأ ، وماذا يقول ، وأين يسهر ، ومن يصادق ، ومن يعادي . سأقول له : إنك جعلت البلد في إطار من صنع عبد الناصر . وهذا أدي بنا إلي فقد شخصيتنا ، ووصل بنا إلي فقد وعينا . وعندما وقعت الهزيمة لم يجرؤ واحد علي الوقوف وتوجيه مجرد سؤال بسيط عن سبب ما حدث . وسأقول له أيضًا : إنك حجبت قراءة تاريخ مصر عن الشعب ، وإنك أمسكت تاريخ مصر وضغطته ووضعته في جيب الثورة ،و هذا ما أضعف شخصية مصر ، بينما كانت مسئولياتك أن تثقف الشعب وتعلمه وتجعله يختار الطريق الذي يريده .
هذا .. وهناك نقطة هامة لا يفوتني أن أنبه إليها وأعدها غاية في الأهمية ، تلك هي أن الخطة التي وضعت بإحكام للقضاء علي الإخوان المسلمين – والله يعلم أين وضعت هذه الخطة هل في مصر أم في خارج مصر – كانت أن يقضي الإخوان المسلمون بأنفسهم علي أنفسهم حتى يكون القضاء بذلك قضاءً مبرمًا لا قيام بعده . ولكن الذي حدث أن كل الأساليب التي خطط لها ليكون القضاء عن طريقها لهذه الطريقة – باءت جميعًا بالفشل .. فلم يبق أمام المخططين والمنفذين إلا الطريق الوحيد الذي حاولوا تفاديه من قبل وهو طريق المواجهة ، وهو طريق بالرغم من كل ما فيه من قسوة وفجور ووحشية ، فإنه لا يؤدي إلي النهاية إلي القضاء علي هيئة تقوم علي أسس راسخة من المبادئ السامية ، والتربية الروحية الصافية والارتباط القلبي بخالق الكون .. وهم كانوا يعلمون ذلك ولكن لم يكن أمامهم من سبيل آخر بعد أن جربوا كل وسائل التفجير من الداخل . وهكذا تفادى الإخوان المسلمون – بتوفيق من الله وحده – قفزة الموت التي حوصروا من كل مكان حتى يقفزوها ، ولكن الحق تبارك وتعالي عصمهم وأبقي عليهم .
وهكذا وصلت إلي هذا القدر في المذكرات التي أنقلها من مسوداتها ، وجدتني كنت في هذه المسودات قد تجاوزت هذا القدر وكتبت عن عهد السادات إلي أواخر عام 1971 . ويبدو أنني حين كتبت عن هذا العهد إلي هذا التاريخ قد خطر لي آنذاك أن أضمن هذا القدر من عهد السادات الجزء الثالث فيه ، ولكن خطر لي في الوقت خاطرة أخري جعلتني أذيل ما كتبت بالعبارة الآتية التي أنقلها للقراء من المسودات : " ولابد أن القارئ واجد نفسه مشغوفاً إلي مواصلة قراءة التعليق علي ما جد من أحداث بعد ذلك ، ولكننا نقف في هذه المذكرات عند هذا الحد ، لأنه الحكم الصحيح لا ينبغي أن يجتزئ فترة من عهد من العهود فيحللها ويصدر حكمه عليها ، بل ينبغي أن يتريث المراقب حتى يتم العهد كاملاً بما فيه من سلب وإيجاب ، فينظر فيه نظرة شاملة تستوعبه جميعًا ، فإذا أصدر حكمه حينئذ كان أقرب إلي العدالة والصواب .
الفصل الثاني : كبح مؤامرة اشرأبت بعنقها مرة أخري
في الفصل الخامس من الباب الرابع من الجزء الثاني من هذه المذكرات ، وفي صدر الحديث عن " حسن البنا وكبار الدعاة في العالم الإسلامي في العصر الحديث " بعد أن استعرضت عددًا من أبرز هؤلاء الدعاة ، وألمحت بلمحة سريعة مجملة عن معالم أسلوب كل منهم في الدعوة ، وعقبت علي ذلك ببيان عن موقف حسن البنا من هؤلاء الدعاة .. وفي صفحة (300) كتبت نحو خمس صفحات تحت عنوان قصدت أن يكون بارزًا يلفت النظر ، نصه : " مزيد وتحذير من تدبير خطير – تجريح قادة الدعوة الإسلامية أسلوب خبيث لهدم هذه الدعوة في نفوس المسلمين " . والمطالعون لهذا الجزء من الكتاب قد يحسون – حين يقرأون هذه الصفحات الخمس – أن هذه الصفحات قد أقحمت علي السياق إقحامًا .. ولمن أحس بهذا الشعور من القراء العذر ، فلقد كان هذا الجزء من الكتاب معدًا للطبع دون أن يكون فيه هذا الموضوع . ولكن موقفًا طرأ في آخر لحظة ألزمني أن أقحم هذه الصفحات .
ومن حق القراء أن يحيطوا بهذا الموقف علمًا ، لاسيما وقد أثبتت الأحداث بعد ذلك أنني كنت محقاً في المسارعة إلي الكتابة فيه والتخدير من أخطاره . ذلك أنه بعد أن نشر الجزء الأول من هذه المذكرات جاءني أحد الأحباب يستأذنني في أن يزوروني أربعة من الإخوان ليعرضوا بعض ملاحظات لهم فيما يتصل بنقاط معينة فيه ، فرحبت وحضر الأربعة الذين لم أكن قد شرفت بمعرفتهم ومعهم إخوان وثيقا الصلة بي .. والإخوة الأربعة من الجيل الإخواني الحديث . المثقف المتطلع إلي المعرفة ويشغلون مناصب تعليمية مرموقة . وكانت أكثر ملاحظاتهم استفسارًا قمت ببيانه .. حتى داهموني آخر الأمر بملاحظة أذهلتني . وقد استغرقت ملاحظتهم هذه أكثر الوقت . وتبين لي أن هذه الملاحظة ليست مجرد ملاحظة ، بل هي اعتراض منهم علي نقطة معينة كانت هي بيت القصيد والغرض الأصيل من زيارتهم .. لأنني لاحظت في عرضهم لحججهم في هذا الاعتراض أنهم كانوا في أكثر الوقت يرجعون إلي ورقة بأيديهم يقرأون منها بعض نصوص كأنما نقولها من مرجع من المراجع .
وقد صبرت حتى أنهم ما عندهم .. فسألتهم عن هذا المرجع الذي استقوا منه هذه المعلومات ، فلما علمته تكاملت صور الموضوع في خاطري ووضح لي أن هؤلاء الإخوة الأربعة إن هم إلا ضحية مؤامرة محبوكة الأطراف للقضاء علي الدعوة الإسلامية وهدمها في نفوس المسلمين بطريقة ماكرة مبتكرة . وإذا كان هؤلاء إخوانًا مسلمين ووقعوا في حبائل هذه المؤامرة فما بالك بعامة المسلمين ؟! . وكان الذي أتم صورة المؤامرة في خاطري أنني أعرف عن مؤلف المرجع الذي يرجعون إليه مالا يعرفه غيري وغير أو خمسة من قادة الإخوان المسلمين حين كنا طلبة بالجامعة وكان هذا المؤلف زميلاً لنا طالبًا في كلية الآداب .
والعجيب في الأمر أن موضع الاعتراض الذي استغرق منهم في مواجهتي به أكثر الوقت وأطول الحديث – وكان الحديث كله من جانبهم فقد كنت في موقف المستمع عبارة وردت في صفحة من الجزء الأول في صدد حديثي عن مقال لي كنت كتبته في مجلة الإخوان المسلمين فقلت :
" وقد تحدثت في هذا المقال عن تسلسل قيادات الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ومنها جمال الدين الأفغاني ثم الإخوان المسلمون ، ووزانت بين هذه الأطوار للدعوة الإسلامية ، وأثبت أن دعوة الإخوان استوعبت الدعوتين (دعوة جمال ودعوة السنوسية) وزادت عليهما بنظام أشمل ، وقيادة أشد إحكامًا وأبعد نظرًا " . فكان اعتراضهم منصبًا علي ذكر جمال الدين الأفغاني باعتباره أحد قادة الدعوة الإسلامية .. وأخذوا يكيلون له التهم ،و يصمونه بالماسونية ، ويتهمونه بالعمالة للمستعمرين ، ويشككون في إيمانه ، مستقين كل هذه التهم من المرجع الذي أشرت إليه ، والذي كان صاحبه ، يشغل في ذلك الوقت منصبًا مرموقاً في جامعة الإسكندرية . ولما أنهي إخواننا هؤلاء كل ما عندهم من " معلومات " في تحطيم شخصية جمال الدين الأفغاني ، اتجهوا إليّ ينتظرون مني جوابًا .. غير أني اعتصمت بالصمت لحظة وفي صدري مرجل من الغضب يغلي ويتأجج .. فلما ألحوا في سماع جوابي انفجرت قائلاً :
أيها الإخوة .. صدقوني إذا قلت لكم إن هذه الليلة هي من أسوأ ما مر بي في حياتي من ليال .. إن ما سمعته منكم الآن مصر قلبي وفتت كبدي .. إنكم أربعة من خيار الإخوان المسلمين ، وقد وقعتم مع ذلك في حبائل مؤامرة خبيثة حيكت بدهاء ومهارة للقضاء علي الدعوة الإسلامية بتشكيك المسلمين في قياداتهم ، و بإفقادهم الثقة فيهم .. وإذا كنتم لا تعرفون مؤلف المرجع الذي ترجعون إليه فأنا أعرفه .
وصدر الجزء الثاني من هذه المذكرات في أول يناير عام 1981 وقد أقحمت فيه الصفحات الخمس .. وكنت أعتقد أن المؤامرة قاصرة علي هذا المرجع الذي يرجع إليه أصحابنا ، وقد ألمحت في الصفحات الخمس إلي تاريخ مؤلفه وعلاقاته بالجهات المشبوهة مما قد يضئ الطريق أمام الباحثين والمطالعين فلا يأخذوا الكلام علي عواهنه دون أن يعرفوا ما وراءه وما حوله .. وقلت إنها مؤامرة دست علينا سمومها في هذا المرجع ، وحمدت الله أن أتاح لنا فرصة لقاء هؤلاء الإخوة فتنبهنا لها ووضعنا علامة الخطر علي رأس الطريق فلم يعد خطر يخشي بعد ذلك علي أحد .
وإذا الرواية لم تتم فصولاً !!
ولكن تنبين أننا كنا مسرفين في حسن الظن ، حين ظننا أننا قد لممنا بساط الفتنة من جميع أطرافه ، وأحطنا بوميض نارها من جميع جهاته .. فلقد فوجئنا بالفتنة تشرئب أعناقها من جديد ، وتنطلق ألسنة لهيبها من بعيد – وإن كان البعيد لم يعد في زماننا هذا ببعيد – فقد قصرت وسائل الإعلام الحديثة المسافات بل ألغتها ، فالكلمة تلقي في آخر الدنيا فتقتحم عليك في نفس اللحظة وأنت هادئ في بيتك في أول الدنيا .. ولم تعد لإنسان حصانة أمام وسائل إعلام اليوم إلا التحصن بوسائل إعلام مماثلة تدفع عنك غوائل أخواتها . جاء في شهر إبريل من عام 1983 فرأينا الدكتور لويس عوض الكاتب المصري يكتب " بحثا في مجلة التضامن " التي تصدر في لندن باللغة العربية تحت عنوان " الإيراني الغامض في مصر " ويقود في بحثه نفس الحملة الشعواء التي كنا قد تصدينا لها في الجزء الثاني من كتابنا .. ولكن الحملة هذه المرة كانت أشد خطرًا لأنها ليست بين دفتي كتاب قلّ من يفكر في اقتنائه ، وإنما تصدر هذه المرة في مجلة سيارة دورية تصدر في عاصمة من أعظم عواصم العالم ، تصل بكل سهولة إلي يد كل قارئ ، فتجد من يقرأها وتجد من ينقل عنها ومن فاته قراءتها هذا الأسبوع سيقرأها في الأسبوع التالي " والبحث " مسلسل .
ومهما قيل عن تقطع أوصال المسلمين ، وتشتت جماعتهم ، وغفلتهم عن دينهم ، وتفريطهم في حق تاريخهم ، فإن هناك ومضات تنبعث بين الحين والحين في ظلمات ليل هذه الأمة الطويل ، تضئ فتبعث الأمل من جديد .. ومن هذه الومضات انبعث فسطعت علي بحث الدكتور لويس عوض في مجلة " التضامن " فبددت ضبابًا اصطنع حول هذا البحث فكشفت عن حقيقته ، وانعكست هذه الومضة في صورة سلسلة مقالات ضافية دبجتها أقلام أعلام في الأدب والعلم والتاريخ أجهضت مؤامرة الدكتور لويس عوض ، وأظهرت زيفها ، وكشفت عن سوء النوايا من ورائها ، ونبهت الأذهان إلي خطورتها ، وحذرت – كما حذرنا – من الانخداع بأباطيلها . ولما كان الرد الذي تولته جريدة الأهرام لم يكن ردًا علي مجرد مقال ، وإنما هو التصدي لمؤامرة عالمية لم يكن الدكتور لويس عوض أكثر من مجرد اسم لكاتب رضي لنفسه أن يتخذه المتآمرون ستارًا يلعبون من ورائه فقد نشرت " الأهرام " عشرات المقالات ، وقد استغرق نشرها نحو ستة أشهر ، بدأت في أواخر أغسطس 1983 بافتتاحية للأستاذ أحمد بهجت ، وختمت بمقال في 17 سبتمبر 1983 ، ثم عاد في الشهرين الأولين من عام 1984 إلي الموضوع بتقديم كتاب للدكتور محمد عمارة عنوانه " حقيقة جمال الدين الأفغاني " . ولما كان التسجيل الكامل لهذه المقالات يقتضي أن يفرد له كتاب مستقل فقد رأيت أن اجترئ هنا نماذج من هذه المقالات مما هو في صميم موضوعنا . الأفغاني .. بين الحقيقة والافتراء
هذا هو العنوان العام لجميع المقالات التي كتبت في هذا الصدد في " الأهرام " وقد افتتحها الأستاذ أحمد بهجت في 29/8/1984 بالكلمة التالية :
أيها السادة المثقفون ، لقد كنا ضحية خديعة فاجعة .. كنا جميعًا مخطئين حين تصورنا أنم السيد جمال الدين الأفغاني رجل يوزع السعوط بيمناه ، وينشر الثورة بيسراه . كنا مخدوعين حين تصورنا أن جمال الدين الأفغاني ثائر إسلامي ، ومصلح اجتماعي ، ورجل عظيم أيقظ الشرق من سباته .. إن جمال الدين الأفغاني هو عكس ما كنا نتصور .. إن اسمه ليس هو اسمه .. إن اسمه أفغاني بينما هو إيراني .. وليته كان إيرانيًا فحسب . إنما هو الإيراني الغامض . وهو غامض لأنه أفاق مغامر متلون ..
هذا الاكتشاف " الهزلي " الجديد يدين بوجوده الدكتور لويس عوض . كشف عنه في سلسلة المقالات التي يكتبها لمجلة عربية تصدر في لندن .. ويسمي الدكتور لويس ما ينشره " بحثًَا جريئًا " .. والأصل في البحث أن يتحري الحقيقة ، ويحلل الأحداث والمواقف ، ويضئ جوانب كانت غامضة ، بهدف نهائي هو اكتشاف الحقيقة .. أما بحث الدكتور لويس ليس كالبحوث . فهو بحث جرئ .. ومن ثم فهو لا يلتزم بأصول البحث ، ولا يرجع إلي المراجع المحترمة أو المعتمدة ، وإنما يستند إلي مراجع تشبه تقارير المخبرين السريين التي يكتبونها عن ثائر ، فيصفونه بكل رذيلة وشر ، ويسندون إليه كل نقيصة وبلية .. وشر البلية ما يضحك . ويبدل الدكتور لويس عوض جهدًا كبيرًا في بحثه المزعوم ، بينما الحقيقة أنه يرسم صورة كاريكاتورية للأفغاني ، صورة تفتقر إلي الفن وإن كان هدفها السخرية والتشويه وإسقاط الاحترام ويبدو عبث المحاولة في الجهد الشديد الذي يبذله الدكتور وهو يلوي عنق الأحداث ويستشف منها ما يحاول به تشويه صورة الأفغاني والخميني . ولعله يفرد لنا بحثًا في بحثه الجرئ يربط بينهما ولو بأي رباط . لا يهم لنا أن يكون الأفغاني قد مات قبل ميلاد الخميني . فإن الدكتور لويس يكتب بحثه وفي وطنه أن الناس لا تقرأ ولا تكتب ولا تفهم .
إن تحطيم صور الثائرين المسلمين في تاريخنا يستهدف عزلنا عن الماضي ،ومحاصرتنا في الحاضر ، وتجريدنا من ثروتنا في الأبطال والزعماء ، حتى نصير إلي الفقر والوحدة ، فيسهل إقناعنا بأـي هراء يصبه أصحاب المصالح في عقولنا .. هذا هو هدف كما نري يصعب السكوت عليه . ومن هنا جاء جهد " الأهرام " في الرد . وبعد هذه الكلمة الافتتاحية ننقل مقالين للدكتور جابر قميحه بجامعة عين شمس نشرًا في يومين متتاليين يومي 5/9/83 ، 6/9/983 الأول تحت عنوان :
قصور البحث .. وغياب المنهج
ولد جمال الدين الأفغاني في قرية " أسد آباد " بالقرب من مدينة همدان في غرب إيران . وليس في قرية " أسد آباد " الأفغانية . ونشأ نشأة شيعية . وتلقي التعليم علي أيدي الشيعة والبهائيين " مجلة التضامن العدد الأول " .. ومعروف أن الشيعة يؤمنون بالتقية أي كتمان الآراء والمعتقدات وإظهار الإنسان خلاف ما يبطن .. وقد نشأ الأفغاني في هذه التقاليد الشيعية التي جعلت منه إنسانًا مزدوج الشخصية بل ومتعددها ، يفصل الكلام والتعاليم بحسب من يخاطبه ، وبحسب ظروف الزمان والمكان حتى بدت تعاليمه وأقواله مأثورة ومواقفه وتحركاته جملة من المتناقضات التي يصعب نسبتها إلي رجل واحد (التضامن العدد الثاني) ولم يكن الأفغاني متدينًا بالمعني المفهوم . ولكنه كان ينظر إلي الدين كمجرد دافع للجماهير الجاهلة لتحصيا الاستقلال السياسي أو بناء الإمبراطوريات (التضامن العدد الثالث) .
وفي شبابه كان متفرنجًا ، لا يعيش كالمسلمين ولكن يعيش كالأوروبيين . وفيما يبدو لا يتبع دينًا معينًا (التضامن العدد الرابع) – وكان يجاهر بعصيان الدين أثناء إقامته في كابول فكان يفطر علنًا في رمضان (التضامن العدد السادس) فلما جاء إلي مصر شدد ليه رياض باشا أن يهتم بشعائر الدين حتى تقبله بيئة الأزهر (التضامن العدد السابق) وقد ظهر في مصر لا في صورة المفكر والسياسي فحسب ، بل في صورة زعيم إرهابي يمكن أن ينظم الجمعيات للاغتيال السياسي علي غرار ما كان يفعله الفوضويون في أوروبا (التضمن العدد الثامن) .
عنوان البحث يبرر أمامنا نقاط مهمة هي :
1 – منطوق العنوان " الإيراني الغامض في مصر " . وهو بذلك يعد حكمًا قاطعًا – من ناحية – بأن جمال الدين إيراني الجنسية . مع أن الراجح كما سنري أنه أفغاني المولد . وهو من ناحية أخري يقطع بأن شخصيته " غامضة " ذات دروب خفية وخبايا . وذلك يعني أن ما كتبتنه عنه أقلام أخري من صراحة وجرأة ووضوح وتدين ليس بشيء .
والعنوان بهذا المنطوق المثير يذكرنا بعناوين القصص والأفلام البوليسية المثيرة مثل " القاتل المجهول " و " الرجل الخفي " .
2 – يأتي نشر حلقات البحث بهذا العنوان المثير في وقت أصبح فيه لكلمة " الإيراني " انطباع سيء في نفس القارئ العربي خصوصًا المصري ، فهو لا يطرق سمعه الآن عن الثورة الإيرانية وزعيمها إلا ما يحزن ويؤلم ويثير الأسى والنقمة فما بالك إذا كان هذا " الإيراني " إيرانيًا غامضًا . وكأني بهذا التوقيت الزمني يهدف إلي خلق لون من " اللقاء أو الربط النفسي " بين الحاضر والماضي القريب الذي عاشه جمال الدين " الإيراني " ، وأن يقرأ العربي عن جمال الدين وطيف الخميني لا يفارق خاطره ، وأن يتابع حركات جمال الدين وهو أسير الانطباعات التي تثقل كاهله عن الثورة الإيرانية .
3 – إن مجلة التضامن دأبت علي تصدير كل حلقة من حلقات البحث بعبارة " بحث جرئ عن جمال الدين الأفغاني " وهو وصف يعكس إيحاءً قويًا بأن هذه الحلقات فيها خروج وتمرد علي ما كتبه وعرفه الناس عن جمال الدين مع أن البحوث – وخصوصًا الأكاديمي منها – لا توصف عادة بالجرأة أو الجبن ، ولكنها توصف عادة بالموضوعية والتجرد أو بالهوى والتحيز .
واعتقد أن القارئ يشهد بالبراعة والتوفيق للمجلة والكاتب في نطاق هذه الثلاثية التي ذكرتها : فمنطوق العنوان : حكم جازم بالإدانة المسبقة علي شخصية " يعتقد " أنه قمة من قمم الشرق فكرًا ودينًا وخلقاً – وتوقيت النشر : أصاب المحز – كما يقولون – إذ جامع مع جو نفسي مهيأ لتقبل أي مذبحة فكرية – مهما كانت ضراوتها – لكل ما هو إيراني . والوصف بالجرأة بعد ذلك يعضد من قيمة البحث – ويمنح البحث وصاحبه شهادة بالتجديد والتحرر الفكر . ولكن دعك من هذا العنوان ولننظر إلي طبيعة الأحكام التي " خلعها " الدكتور لويس – بكرم فياض – علي جمال الدين الأفغاني . إنها في إيجاز – تقف علي طرف مناقض تمامًا لما كتبه علماء غربيون عرفوا بسعة الثقافة والقدرة علي التعمق والتحليل والتمحيص من أمثال : رينان وبراون وجولد زيهر ولوثر ستوردارد . ونكتفي بسطور قليلة مما قال براون عنه : " كان جمال الدين فيلسوفاً وكاتبًا وخطيبًا معًا . وكان يرمي إلي تحرير هذه الدول (الشرقية) من النفوذ الأوروبي واستغلال الأوروبيين ، والنهوض بها نهوضًا ذاتيًا من الداخل " .
وحتى ارنست رينان الذي هام الإسلام في إحدى محاضراته بالسربون . وتصدي له جمال الدين ناقضًا ما ذهب إليه في مقال نشره جمال الدين في الجريدة الباريسية " جورنال دي ديبا " – يقول رينان عن جمال الدين في رده علي مقاله : " تعرفت بالشيخ جمال الدين من شهرين ، فوقع في نفسي منه ما لم يقع إلا من القليلين ، وأثر فيّ تأثيرًا قويًا . وقد جري بيننا حديث عقدت من أجله النية علي أن تكن علاقة العلم بالإسلام هي موضوع محاضراتي في السربون .. والشيخ جمال الدين نفسه خير دليل يمكن أن تسوقه علي تلك النظرية العظيمة التي طالما أعلناها ، وهي أن قيمة الأديان بقيمة من يعتنقها من الأجناس . وقد خيل إليّ من حرية فكره ونبالة شيمه وصراحته – وأنا أتحدث إليه – أنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد .. " . كذلك جاء ما كتبه الدكتور لويس مناقضًا تمامًا لما كتبه علماء شرقيون عدول من أمثال محمد عبده ورشيد رضا ومحمد باشا المخزومي وأحمد أمين وعبد الرحمن الرافعي والدكتور عثمان أمين والدكتور محمود قاسم وكذلك سليم العنحوري الشامي المسيحي المهاجر الذي اتهم جمال الدين بالإلحاد ثم تبين له وجه الصواب ، فكتب معترفاً بخطئه فيما رمي به الرجل العظيم ، ولم تأخذه العزة بالإثم .
وأعتقد أن أعدي أعداء جمال الدين وأعدي أعداء الشرق الذين فقدوا جمال الدين وشوهوا بعض جوانب شخصيته لم يبلغوا بعض ما بلغه الدكتور لويس في حلقات بحثه " الأكاديمي " من سلب جمال الدين كل محمدة من محامده ، وقذفه بكل هذا الفيض الغامر من النقائض والمثالب . حتى يظن من يجهل تاريخ الرجل أنه كان " مسخًا " في فكره ودينه وغاياته ورسائله . ولا أدعي أن جمال الدين فوق النقد ، فهو بشر يخطئ ويصيب ، ويخفق وينجح . كما أن أقوال السابقين وشهاداتهم للرجل لا تلزم الباحث أن يتبع نفس المنهج ، ويستقي من نفس المشرب ، فمن حقه أن يرفض بعض ما قيل عن جمال الدين بل كل ما قيل عنه ، ومن حقه أن يفجع الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي الناهض في شخصية كان لها أثرها البالغ العميق في البحث الفكري والنهوض السياسي والديني . من حق الدكتور عوض أن يفعل كل أولئك . ولكن من حقنا – وقد صدرنا مقالنا بأحكامه – أن نبحث عن ركائزه العلمية التي اعتمد عليها ، ومصادره التي استقي منه ، ومنهجه في التعامل مع المعطيات التاريخية التي أثرت في مجريات السياسة والفكر ، وتفاعلت مع شخصية جمال الدين وتأثرًا وتأثيرًا . وحتى أكون أمينًا مع نفسي وقارئي أعترف بأنه كان ثمة سؤال يلح عليّ أثناء قراءتي مقالات الدكتور لويس وبعد انتهائي منها وهو : ما حكمنا علي من يكتب السيد تاريخ السيد المسيح عليه السلام – معتمدًا اعتمادًا كليًا أو شبه كلي – علي أقوال الفريسيين واليهود " أبناء الأفاعي " و " خراف إسرائيل الضالة " كما كان يصفهم السيد المسيح عليه السلام ؟ " وما حكما علي من يكتب تاريخ النبي محمد – عليه السلام – اعتمادًا علي تصورات الكفرة من أمثال أبي جهل والمنافقين من أمثال عبد الله بن سلول واليهود من أمثال حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ؟ .
اعتقد أن السؤال في غني عن جواب . واعتقد أنه ما خطر لي أو ما فرض نفسه علي إلا لأني رأيت الدكتور لويس يجعل ركيزته الكبرى في بحثه الجرئ " الوثائق البريطانية " – وهو حين يتحدث عن هذه الوثائق يتحدث عنها بتقدير وإجلال وثقة كاملة بعبارات تجري مع النسق التالي : " وقد أثبتت الوثائق البريطانية .. " و " أكدت الوثائق البريطانية " وكأن الدكتور لويس يجهل أن هذه الوثائق إنما هي وثائق الرجال الذين عاش الأفغاني يحارب إمبراطوريتهم في كل مكان يحل به ، ويؤلب عليهم الشعوب ، ويلهب ضدهم المشاعر . وما يقوله كبار المسئولين الانجليز من أمثال السير فرانك لاسيز قنصل انجلترا العام في مصر عن جمال الدين من وصفه بالعمل علي نشر مبادئ الفوضى . وما يقوله مراسل التيمز في رسالة يصف فيها الأفغاني بأنه " ذو ماض مريب " (التضامن العدد الأول) . كل هذه الأقوال لها عند الدكتور لويس احترامها وقدسيتها . بل إن الدكتور لويس يفتح صدره في سماحة وكرم لتقارير الجواسيس فيكب (في العدد الأول من التضامن) بالحرف الواحد : " انظر إلي هذا التقرير الذي كتبه موظف في حكومة كابول سنة 1868 كان يعمل جاسوسًا لحساب الانجليز . والتقرير بعنوان : سجل بأوصاف السيد الرومي في كابول (يقصد جمال الدين) يشتبه أن يكون عميلاً روسيًا يخدم في دوبارة (بلاط) كابول " .
وتنتهي كل هذه التقارير والوثائق إلي أن الأفغاني كان عميلاً روسيًا مأجورًا بل وأكثر من ذلك كان عميلاً مزدوجًا ، وهذا ما يرجحه الدكتور لويس عوض ويطمئن إليه (التضامن العدد الرابع) . أما ما يقوله جمال الدين عن نفسه تعبيرًا عن فكره ومعتقده فهو مرفوض عند الدكتور لويس عوض . أما شهادة طلابه ومريديه ومعايشيه من أمثال محمد عبده ورشيد رضا والمخزومي فموضع شك كبير عند الدكتور لويس عوض . وإلي هنا انتهي المقال الأول للدكتور جابر قميحه ونبدأ في نقل الثاني بعنوان : "التزوير وأمانة الكلمة " .
استعرضنا بالأمس الصورة الممسوخة التي رسمها الدكتور لويس وتحدثنا عن الطبيعة العامة لأحكامه ، وكيف كانت في مجموعها متناقضة مع ما قاله غربيون وشرقيون أعمق فكرًا وأوسع ثقافة .. ورأينا كيف جعل الكاتب مصدره الأساسي تقارير الجواسيس ووثائق الحكومة البريطانية التي عاش الأفغاني حربًا عليها في كل مكان يحل به واليوم نري مع قرائنا كيف تعامل الأستاذ الأكاديمي مع النصوص وأحداث التاريخ . فلنسر مع هذا " الخط المنهجي " – إلي حين – ولننظر في نصوص الدكتور لويس ووثائقه ووقائعه ، وسنكتشف أنه – فيما يستخلصه ويستنبطه من نتائج وأحكام – يحملها – لا أقول أكثر مما تحتمل فحسب – بل يحملها – في كثير من الأحيان – مالا يمكن أن تحتمله إطلاقاً ، ولنعايش بعض الأمثلة :
1 – أغلب الأحيان شرقيها وغربيها – تؤكد أن جمال الدين أفغاني المولد – سُنَّي المذهب ، وأنه ولد في أسعد أباد وهي إحدى القرى التابعة لخطة كنر بالأفغان – ويرتقي نسبه إلي الحسين ابن علي . وممن حقق ذلك بدقة واستفاضة المؤرخ العظيم عبد الرحمن الرافعي في كتابه القيم عن جمال الدين . ولكن بعض الإيرانيين يزعم أنه ولد في قرية " أسد أباد " الإيرانية وهو قول لا دليل علي صحته . وإن كان هذا التنافس علي نسبة جمال الدين يعد في ذاته بعظمة الرجل وعذر مكانته . وجمال الدين نفسه قد حسم هذه القضية بما نقله عنه أقرب الناس إليه مثل محمد عبده وشكيب أرسلان وعبد القادر المغربي فمن أقوال جمال الدين : " ونظرت إلي الشرق وأهله فاستوقفتني الأفغان ، وهي أول أرض مس جسمي ترابها " . وقوله مرة أخري : " .. وقد اضطررت لترك بلادي الأفغان " .
2 – ويذهب الدكتور لويس إلي أنه كان يؤمن بالقضية ويظهر خلاف ما يبطن – مع أن التاريخ يقطع بأن حياة الأفغاني كلها كانت سلسلة متصلة الحلقات من الجرأة والشجاعة والصراحة .. وقد كلفه ذلك من جهده وصحته واستقراره الشيء الكثير . وكثيرًا ما كانت شجاعته تتحول إلي حدة وهياج في مواجهة القادة والزعماء يقول عنه محمد عبده : " وهو شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه . إلا أنه حديد المزاج ، وكثيرًا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة " – وحينما كتب محمد عبده من مصر كتابًا لجمال الدين وهو في الأستانة كتابًا غفلاً من " الإمضاء " ويظهر أن ذلك خوفاً من الرقابة – أرسل إليه يؤنبه في ذلك التصرف قائلاً : " .. تكتب ولا تمضي ؟؟ أمامك الموت ولا ينجيك الخوف ، فكن فيلسوفاً يري العالم " ألعوبة " ولا تكن صبيًا هلوعًا " .
ويسبب صراحته وجرأته " جرد " عليه شاه إيران ناصر الدين حملة من خمسمائة جندي وسحبوه مسلسلاً في الحديد وألقوا به خارج البلاد وهو مريض في يوم جليدي شديد البرد ، فأخذ يهيج مشاعر الناس علي الشاه في كل بلد يحل به .. ولما استقر به المقام في الاستبانة طلب منه السلطان عبد الحميد أن يكف عن مهاجمة الشاه ، فقال جمال الدين : " إني لأجلك قد عفوت عنه " . وكان يحدث السلطان وهو يلعب بحبات مسبحته فلما طلب منه بعض الحاشية أن يكف عن ذلك قال : " إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بسبحته كما يشاء ؟؟ " .
ويطول بنا المقام لو رحنا نعدد الشواهد والوقائع التي تنفي عن الرجل القول بالجبن والتقية وإظهار خلاف ما يبطن ، فكم جابه الحكام في صراحة لا موارية فيها وخاصة بدعوته إلي الشورى والحكم النيابي ، ومن هؤلاء الخديوي توفيق وقيصر روسيا . والغريب أن الدكتور لويس نفسه عاد فنقض ما ذهب إليه من القول بتقية الأفغاني حيث يقول : " .. وكان الأفغاني يتحرك بوضوح في مرحلته المصرية في سنة 1871 إلي سنة 1879 أساسًا بين صفوف المجددين والديمقراطيين لأديب إسحاق : " فأجرت له الحكومة الخديوية رزقاً علي أن يكون من المدرسين فجرت بينه وبين علماء الأزهر مناظرة أفضت إلي المنافرة . فانقطع إلي منزله وصار له فيه حلقة تدريس (التضامن العدد السادس) . فالوضوح والمواجهة الصريحة لا يتفقان مع منطق القضية التي تعتمد علي التورية والمجاراة وإظهار خلاف الباطن .
3 – ويذهب الدكتور لويس إلي أن جمال الدين طرد من المحفل الماسوني (التضامن العدد الرابع عشر) . والثابت أن جمال الدين الأفغاني اشترك في المحفل الماسوني الانجليزي مشدودًا علي حد قوله بشعارهم الكبير الخطير " حرية مساواة إخاء .. " وكان المحفل يضم أشراف الناس وكبراءهم . وصدم جمال الدين حين رأي أن هذا الشعار لا وجود له في واقع هؤلاء الأعضاء ، بل لم يجد منهم إلا الجبن والسلبية والتزاحم علي المناصب . فاستقال . وأنشأ محفلاً آخر تابعًا للشرق الفرنسي ونجح في تنظيمه حتى بلغ عدد أعضائه ثلاثمائة عضو – وكان يبغي من ذلك إيصال دعوته الإصلاحية إلي كبار الناس وعظماتهم .
4 – ولم يكن الأفغاني يستحل لنفسه أتباع الوسائل الخسيسة في سبيل تحقيق غاياته النبيلة أو غير النبيلة .. فيكفي للرد علي ذلك ما جاء علي لسان محمد عبده إذ قال : " ماذا كان يضر السيد الأفغاني لو مهد لإصلاحه – وهو في الأستانة بالسعي عند السلطان في إعطاء أبي الهدي الصيادي خمسمائة جنيه ونيشانًا لابنه أو لأخيه . فإذا رأي أبو الهدي أن السيد يخدمه ، فإما أن يواتيه وإما ألا يناوئه ؟؟!! . ولكن ما كان للسيد الأفغاني أن يسلك مثل هذه الخطة التي لو حققت من النفع العام الكثير الكثير .. ولما دس له أبو الهدي الصيادي عند السلطان قال له عبد الله النديم : ليتك ذكرت للسلطان دسائسه وضرره ، فغضب جمال الدين وقال : " أعوذ بالله أن أكون من المنافقين ، أو أن أفعل ما أنكره علي الغير ، أو أن أكون همازًا مشاء بنميم " . فالغاية عنده لا تبرر الوسيلة . والنفس الكبيرة لا تستشرف إلا الغايات العلية ، ولا تتبع إليها إلا الوسائل الشريفة النبيلة .
5 – وهل كان جمال الدين متعصبًا دينيًا .. داعيًا إلي التعصب الديني في مرحلة " العروة الوثقى " التي عاشها في باريس ؟ (التضامن العدد التاسع عشر). إن واقع " العروة الوثقى " يفند هذا الادعاء .. فمما كتبه في إحدى مقالاته بـ " العروة الوثقى " : : لا يظن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحيانًا ومدافعتها عن حقوقهم – تقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم في أوطانهم ويتفق معهم في مصالح بلادهم ، ويشاركهم في المنافع من أجيال طويلة ، فليس هذا شأننا ولا مما تدعو إليه ، ولا مما يبيحه ديننا ... " .
فمن أين جاءت تهمة التعصب التي خلعها الدكتور لويس علي الأفغاني في مرحلة " العروة الوثقى " ؟ اعتقد أنها جاءت من إلحاح الأفغاني – بعد أن رأي ما رأي من انكسار الثورة العرابية والاضطهاد الواقع علي المسلمين من حكامهم ومن المستعمرين – علي ضرورة التجمع في دولة واحدة أو دول متوحدة في شكل كومنولث إسلامي مع التمسك بدينهم والالتفاف حول كتابهم والاعتزاز بالعصبية الدينية " هي غير التعصب المقيت " الذي يقوم علي الشقاق والتطاحن بين أصحاب الديانات المختلفة ، والذي تبرأ منه جمال الدين في صفحات " العروة الوثقى " . وتاريخ جمال الدين يشهد أن من تلاميذه النجباء وأصدقائه المخلصين كثيرًا من غير المسلمين مثل أديب إسحاق المسيحي الدمشقي ويعقوب صنوح اليهودي . وقد شجع الأول علي إنشاء جريدتي مصر والتجارة ، وكان جمال الدين يكتب فيهما بنفسه . وشجع الثاني علي إنشاء مجلته الهزلية " أبو سارة " .
لقد عاش جمال الدين لفكره وعقيدته . ولم يتعيش بفكره وعقيدته – عاش عمره يضرب في أنحاء الأرض ينثر بذور الإصلاح ، ويلهب المشاعر ، وينتصر للعقل في وضوح دون موارية ، ولو تنازل عن قليل من كرامته ، ولو باع ضميره ولو للحظة واحدة لوجد آلافًا يغلونه الثمن .. بل كم من أمراء وحكام كانوا علي استعداد أن يشتروا سكوته .. بثروات باهظة .. ولكنه أثر عذاب الجهاد .. وجوع الليالي .. ومفارقة الأوطان .. علي استكانة الدعة وسلام الإذلال .. فعاش فقيرًا .. وظل قبره تائها مطموسًا بين القبور بلا معالم تدل علي صاحبه .. إلي أن جاء أمريكي – صديق للعرب – فتبني القبر وبناه وأظهر ما انطمس من معالمه .. ولن يضير جمال الدين أن تتطاول عليه ألسنة وأقلام .. فالبقاء للأصلح .. للأصلح دائمًا .. وبعد أن نقلنا هذين المقالين للدكتور جابر قميحه ننقل مقالاً نشر في 4/10/1983 للأستاذ عبد المنعم شميس عنوانه " تجريح التاريخ " .
عندا أراد المليونير الأمريكي عضو الكونجرس المستر كراين إقامة ضريح لجمال الدين الأفغاني علي نفقته ، اعتزازًا بشخصيته حدث نزاع بين إيران وأفغانستان . وادعت كل دولة منهما انتساب جمال الدين إليها وإقامة ضريح في عاصمتها بعد نقل رفاته من مقبرة المشايخ في اسطنبول حيث دفن . وقد أقام المستر كراين ضريحًا لأبي العلاء المعري أيضًا في النعمان بسورية علي مشارف حلب ، وعلي واجهة الضريح لوحة رخامية مكتوب عليها اسم منشئته – فقد أعجب هذا الرجل الأمريكي بعظيمين من عظماء الشرق هما الأفغاني والمعري وتبرع بإقامة ضريحين لهما علي نفقته . ولما ثارت مشكلة جنسية جمال الدين وادعي كل من الفرس والأفغان انتسابه إليهما تشرفاً بهذا النسب ، انتظر مستر كراين حتى يتم الاتفاق علي هذه المسألة ثم يقام الضريح في " طهران " أو " كابول " بعد أن يقدم الطرفان الوثائق والبراهين علي جنسيته .. وأخيرًا ثبت أنه أفغاني وأقيم الضريح الأول في كابول أمام مبني جامعتها كما أخبرني السيد محمد مرسي شفيق سفير أفغانستان الأسبق في القاهرة . وأقيم احتفال بنقل رفات الأفغاني من اسطنبول ومر موكبه بالعراق وإيران وسط الاحترام والتبجيل حتى عبر ممر خيبر إلي كابول حيث استقبله الملم محمد ظاهر شاه ملك أفغانستان الذي يعيش الآن في المنفي في إيطاليا .
ولذلك فإن قضية جنسية الأفغاني التي أثارها الدكتور لويس عوض ورد عليها كثيرون من الكتاب علي صفحات " الأهرام " ليست جديدة ، وقد وصلت إلي حد المشاكل الدولية التي تقدم فيها الدول كل المستندات والوثائق والدراسات . وقد تم حل المشكلة علي هذا المستوي الدولي ، واستقر الرأي أن جمال الدين أفغاني الجنسية ، ولم تعد هناك حاجة إلي مناقشة هذه القضية بالذات ؛ لأن أي باحث أو دارس أو مؤرخ لا يستطيع الوصول إلي وثائق وصلت إليها حكومة وافقت عليها حكومة أخري ، ثم أقام الطرف الثالث أي مستر كراين ضريح الأفغاني في كابول بناء علي هذا الاتفاق . ولكن المشكلة في جوهرها ليست هي محاولة الوصول إلي الحقائق التاريخية في حياة رجل مثل الأفغاني اعترف كل الدارسين من أهل المشرق وأهل المغرب بأنه فيلسوف الشرق في العصر الحديث ، ومفجر النهضات والثورات في أرجائه .. المشكلة هي محاولة تجريح التاريخ وإسقاط قيمة أعلام الرجال الذين كان لهم دور في يقظة الشرق . وقد لاحظت علي ما كتبه الدكتور لويس عوض من الأفغاني ، ومن الردود التي كتبت في الرد علي مزاعمه أنه علي عادته – لم يتحر أي منهج علمي في كتاباته . ولذلك تصبح كلها كتابات ساقطة لا قيمة لها من الناحية العلمية .. وقد اعتمد علي تقارير لبعض الجواسيس ورجال المخابرات والمخبرين السريين ، واستخدام أساليب الإثارة والكذب والتضليل والتزوير عند هذه الطائفة من العملاء .
ولذلك فإن كتابات الدكتور لويس مطعون فيها منذ البداية . وهو لم يستطع التعرض للقضايا الكبرى في حياة الأفغاني بل استخدام التهويش وإلقاء المهاترة والسباب علي الرجل الذي تعرض في حياته إلي أكثر منها ، ثم خرج من الحياة ذاتها طاهر الذيل نقي الصفحة . وقد ذكر الأفغاني نفسه ملاحظة الجواسيس له في كل مكان ، حتى إنه قال للسلطان عبد الحميد في اسطنبول إن نفقات هؤلاء الجواسيس لا داعي لها ، وأنه سيخبره بكل شيء يريد معرفته عنه ، لأن هذا خير من التقارير المكذوبة التي ترفع إليه ولكن الغموض الذي كان يسود كواليس السياسة انعكس علي حياة الأفغاني نفسه وهذا أمر طبيعي .. هذا الرجل لا يقال عنه إنه جاسوس لأن الجاسوس كما يعلم الدكتور لويس يتقاضي الثمن ذهبًا وهاجًا ، ولا يكون ثمن جاسوسيته طباعة مصحف القرآن .. وأنا لا أحاول الدفاع عن الأفغاني ، لأنه أكبر من أن يدافع عنه أحد بعد أن وضع في مكانه الصحيح من تاريخ الإسلام . وكذلك لا ينقصه أن يهاجمه الدكتور لويس فقد هاجمه من قبل كثيرون وذهبت كلماتهم أدراج الرياح ، ومنهم واحد اسمه ، سليم العنحوري قال : إن الشيخ جمال الدين يحب شرب الكونياك . وهوجم أيضًا الشيخ محمد عبده تلميذ الأفغاني بمثل هذه الأسلحة الفاسدة حتى وصل الأمر إلي اتهامه بالكفر والزندقة . ليس الأمر هو تفنيد أقوال الدكتور لويس عن الأفغاني ؛ لأنها في جملتها لا تستحق هذا العناء ، بل لا تستحق ثمن المداد الذي كتبت به – إن الأمر اخطر من ذلك كثيرًا ؛ لأنه يتعلق بالمحاولات الدائمة لتجريح التاريخ الإسلامي والمصري منه علي وجه الخصوص – طبقاً لحظة محكمة وموضوعة تهدف إلي تشكيك الناس في كل القيم ، حتى يصبحوا في شك دائم من أمر قادتهم وزعمائهم فتنهار نفوسهم ، وتتمزق عقولهم ، ويأكل الوهم الخلايا الحية في أجسادهم .
ولا يكتفي أصحاب هذا المخطط بما وصلت إليه حالة العالم الإسلامي والعربي من تمزق وانهيار ، فيمسكون بمعاولهم لهدم الشخصيات الناصعة في هذا العالم الإسلامي والعربي مستغلين ظروف الضعف والاستكانة والذل التي وصلت إليها هذه البلاد للإجهاز علي البقية الباقية من تاريخ وقوي ومشرف . وليس الدكتور لويس وحده هو الذي يتولي هذه المهمة ، ولو أنه دور قيادي فيها ، فقد كتب أحد تلاميذه هذا الكلام عن الأفغاني منذ سنوات في جريدة الجمهورية القاهرية وكتبت ردًا عليه أسكته ، ولكن أستاذه الدكتور لويس لم يسكت . وما قولكم في كاتب شهير جهير ومثقف عظيم مثل الدكتور لويس يزعم فيما كتب أن الجنرال يعقوب الذي انضم إلي حملة بونابرت علي مصر ، وجند حوالي ألف شاب من الأقباط ، وألبسهم ملابس عساكر فرنسية ، وحارب بهم أهله من الأقباط والمسلمين كان بطلاً قوميًا مصريًا في رأي الدكتور لويس . وهذا الجنرال يعقوب تبرأ منه أعيان الأقباط وأعلنوا أنه ومن معه ليسوا منهم . وعندما هزمت الحملة الفرنسية وغادرت مصر ، سافر معها يعقوب إلي فرنسا . ولكن الجنرال عبد الله جاك مينو لم يتركه يكمل رحلة الخيانة من الإسكندرية إلي طولون ؟ حتى لا يدنس أرضًا فرنسا وألقاه في البحر الأبيض المتوسط حيًا حتى يصبح طعامًا للأسماك . وهذا الجنرال يعقوب بطل قومي مصري وجمال الدين الأفغاني جاسوس سكير خائن ؟؟!! هكذا يكتب التاريخ علي طريقة الدكتور لويس عوض فهل يجوز الرد علي كلامه ؟! لا أعتقد .
ولكن القضية كما قلت أكبر من الرد ؛ لأنها قضية تجريح التاريخ . ولذلك فإن الدخول في تفصيلات ما يكتب الدكتور لويس عن هذه الموضوعات وغيرها يدخل في هذا النطاق – ونحن لا نحجر علي حرية الدكتور لويس ككاتب ، بل نرفض هذا الحجر رفضًا قاطعًا .ولكننا نجد أنفسنا أمام ظاهرة فكرية مريضة تحاول دائمًا إحداث فرقعات مثل بمب الأطفال لتلفت الأنظار أو تزعج المارة في طريق الحياة . وقد يمتد لهب هذا البمب فيحرق أطراف ثيابهم أو يعفر جبينهم بالتراب الذي ينبعث منه . إن كل ما يقال عن هذه الكتابات هو أنها فاسدة ومغشوشة ، ويجب النظر علي أنها فاسدة ومغشوشة ، مثل الأطعمة المسمومة التي كثرت وراجت أخيرًا ثم عرفها الناس بعد ذلك فابتعدوا عنها عندما تبينوا حقيقتها ، وقد كانت هذه الأطعمة الفاسدة المسمومة المستوردة توضع في أجمل غلاف شأنها شأن هذه الكتابات .
ثم نختتم هذه القطوف بالمقال الأخير في هذا الموضوع للأستاذ أحمد بهجت تحت عنوان : كلمة أخيرة عن جمال الدين الأفغاني
لو كان الخديوي توفيق حيًا لقر عينًت بما كتبه الأستاذ الدكتور لويس عوض من مقالات عن الأفغاني .. ولو كانت اللجنة المغرضة التي كتبت أسباب نفي الأفغاني من مصر قائمة وموجودة لقرت عينًا هي الأخرى بما يكتبه الدكتور لويس عوض عن الأفغاني . إنه يبرر لها قرار الطرد بعد مائة سنة من صدوره – لقد رفعت هذه اللجنة قرارًا رسميًَا لمجلس الوزراء المصري حينئذ قالت فيه مبررات طرد الأفغاني إنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش ، مجتمعة علي فساد الدين والدنيا .
وها هو الدكتور لويس عوض يحدثنا أن الأفغاني كان مجتمعًا علي فساد الدين والدنيا ، وكان عميلاً وجاسوسًا وزنديقاً وكان .. وكان .. هل هي محاولة جديدة لطرد الأفغاني من قلوب الشباب اليوم كما فشلت محاولات طرده من قلوب معاصريه .. ؟ هل هو خط واحد .. من خطوط مؤامرة هدفها تحطيم النماذج الثائرة في تاريخنا حتى نتوجه إلي أثداء أوروبا لنرضع عسلاً أذيب فيه السم .. لست أعرف .. كل ما أعرفه أن محاولات نفي الأفغاني مازالت مستمرة ، ولقد اكتشفوا أن أفكاره لم تزل حية ، وبالتالي فإنهم مازالوا يحاولون نفيه .. ولم يكن النفي هو الشيء الوحيد الذي تعرض له الأفغاني .. كان القبض عليه والسجن والتشريد ومصادرة الكتب أحداثاً يوميه في حياته .. سئل ذات يوم من سلطات الأمن – أيم كتبك ؟ .. أشار إلي قلبه وقال : إنها هنا .. سئل عن ملابسه وحقائبه فأشار إلي جبته التي يرتديها وقال : كنت أول عهدي بالنفي أستصحب جبة ثانية وسراويل ، ولكن لما تولي النفي في سبيل الإسلام سياحة . أما القتل في سبيل الله فهو شهادة وهذه أسمي مراتب الجهاد .. كان الأفغاني مجاهدًا مسلمًا .. كان روحًا إسلامية تجوب الأرض ، وتوزع الثورة الواعية علي الناس . كان يشبه أبطال الأساطير الحقيقية . لم يكن – لحسن الحظ – من أبطال الأساطير اليونانية الذين يسترضون " زيوس " ويشركون بـ " ديانا " ولو فعل لاستحق رضاء الدكتور لويس عوض .
كان الأفغاني حنيفاًَ موحدًا .. لا يريد سوي وجه الله وحده .. من هذا كان ضرام لحملة ضده .. ومن هنا استمرت هذه الحملة حتى موته .. بل إن الأفغاني بسبب جهاده .. صار رمزًا للثائر المسلم .. ومن هنا فإن كل السهام التي توجه للإسلام لابد أن تمر علي صدره .. وكل المؤامرات التي تستهدف تشويه الأبطال المسلمين لابد أن تعبر علي جسده أولاً .. وهكذا لم يسلم الأفغاني طوال حياته من الكيد ، يستوي في ذلك كيد اللجان الرسمية أو كيد البصاصين أو كيد أذناب الاستعمار من الحكام أو كيد الكارهين لانتشار الإسلام ، ثم ها هو كيد المثقفين أخيرًا . ما الذي فعله الأفغاني واستحق عليه هذا كله ؟ لقد كرس الأفغاني حياته لإنقاذ الروح الكامنة في الإنسان الشرقي .. وكرس حياته لمحاربة اليأس والنفوذ الأجنبي .. وكرس حياته لالتماس المنهج القرآني في بناء الأفراد والجماعات . وكان يري أن هذا هو الحل الوحيد أمام المسلمين . كما استهدف الأفغاني في حياته تنبيه الأمة الإسلامية إلي ذاتها الأصيلة التي أنشأت الحضارة . كما كان وجوده في الحياة حربًا علي الاستعمار والتبعية ومقاومة لذوبان الفكر الإسلامي في الفكر العالمي .
باختصار كانت حياة الأفغاني مصداقاً للحديث النبوي الشريف : " إن الله يبعث علي رأس كل مائة سنة لأمتي من يجدد لها أمر دينها " هذا هو عندنا وعند التاريخ .. لكنه عند الدكتور لويس عوض إيراني غامض عميل وجاسوس وزنديق يجوب الآفاق . إن الشيخ الإمام محمد عبده تلميذ الأفغاني يفسر لنا اختلاف الناس فيه بكلمة دقيقة تعبر بإيجاز عن حقيقة الأفغاني :
قال الشيخ محمد عبده : إن الناس قد اختلفوا في الأفغاني ، حتى لكأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه ، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله . أشيع عنه في حياته قوله : إن الشرق يحتاج إلي مستبد عادل .. وكان الذين أشاعوا هذه المقولة عن الأفغاني يحاولون تبرير الاستبداد بإضافة العدل إليه ونسبة العبارة كلها إلي السيد جمال الدين الأفغاني – سأل محمد باشا المخزومي السيد جمال الدين يومًا : إن المتداول بين الناس علي لسانك قولك : " يحتاج الشرق إلي مستبد عادل " .. قال الأفغاني : هذا من قبيل جمع الأضداد . كيف يجتمع العدل والاستبداد – وهكذا نفي الأفغاني ما نشره أعداؤه عنه زورًا .. ومثلما لم تسلم أفكاره لم يسلم شخصه . كان من الصعب علي العملاء والجواسيس والبصاصين الذين يقتفون أثره ويرصدون تحركاته أن يفسروا النيل والإيثار اللذين يصدران عنه بشكل طبيعي كما يصدر الدفء عن الشمس ..
ومن هنا كان تفسير كل شيء بعكس الواقع إذا رفض الأفغاني الجاه فإنما يرفضه كخطة لا تعففاً وإذا عرض عليه الملك ورفضه فإنما يفعل ذلك لأنه يريد الخلافة . وإذا أفطر في رمضان بعد المغرب قال البصاص الذي يتبعه كظله إنه رآه يفطر قبل المغرب .. وهكذا تمضي الحلقة . ولقد كان الرجل يدرك أن يحمل دعوة لها أعداء كثيرون .. وكان يعرف أن الابتلاء قدر مقدور علي حملة الدعوات العظيمة .. ومن ثم مضي في طريقه غير عابئ بما يتميز بما تثير أفكاره أو تصرفاته – كان وجه الله هو غايته .. ومن كانت هذه غايته لم يلتفت إلي حملة الأحجار والغوغاء والكائدين . كانت مشكلة الأفغاني أنه منحاز إلي الإسلام والعروبة والعدالة الاجتماعية والشورى وحرية الإنسان وكرامة الخلائق .. كان الاستعمار قوة من قوى الظلام المؤثر في عصر الأفغاني ، ومن هنا تحدد موقف الأفغاني بالوقوف ضد الاستعمار .. حين دخل الهند وجد الاستعمار الانجليزي يحتضن طائفة من المثقفين – كعادته – وكانت دعوى هؤلاء طرح الفكر الإسلامي والدعوة للثقافة المدنية .. وقف الأفغاني ضدهم وكتب لهم " رسالة الرد علي الدهريين " . وحين جاء الأفغاني إلي مصر أقام فيها أبًا روحيًا وموقظاً لحركة البعث والإحياء والثورة .. كانت الثورة العرابية شرارة من شرارات فكره .. كانت ثورة 1919 نتيجة من نتائج أفكاره .. كان من رجالات مصر من المثقفين والمتعلمين والصحفيين والدعاة في عصره من أصدقائه وجلسائه وتلاميذه – وحين خشي البعض في مصر من غضب الخديوي توفيق وآثر السلامة وتنكب طريق النضال قال الأفغاني كلمته عن توفيق : توفيق في غضبه ورضاه تابع لما يلقي إليه .
وبهذه الجملة لخص الأفغاني حقيقة الموقف السياسي في مصر ، وكشف عن تبعيته للاستعمار الغربي .. ولقد كان هذا كله يبلغ توفيق بشكل أو بآخر ، ومن هنا أصدرت اللجنة قرارها الشهير بزعامته لطائفة من الشبان هدفهم فساد الدين والدنيا . وطرد الأفغاني من مصر .. وحين ذهب إلي إيران وأبصر المظالم التي يجترحها الشاه ناصر في شعبه ، قاد ضده حركة شجاعة ،ووقف بالإسلام ضد احتكار الانجليز أصدقاء الشاه " للدخان " وأوحي الأفغاني إلي الشيرازي وكان مفتيًا أن يصدر فتوى يحرم فيها علي المسلمين شرب " الدخان " – وهكذا تراجعت شركة الدخان عن مشروعاتها الضارة بالبلاد ، واضطر الشاه إلي تعويضها عن الامتياز .. وبعث الشاه بخمسمائة من فرسانه ليقتحموا فراش جمال الدين وهو مريض يشكو من الحمى ، وقاده الفرسان وهو مريض إلي حدود إيران وأمروه أن يمضي ولا يلتفت أبدًا لإيران . ويذهب الأفغاني إلي تركيا فيخوض معركته الشهيرة ضد الجمود ، ويستمر في خوض معاركه ضد الاستعمار – ويذهب إلي باريس ويصدر هناك جريدة " العروة الوثقى " وهي جريدة تجاوزت أن تكون عملاً صحفيًا تجاريًا إلي صيرورتها مشروعًا دينيًا سياسيًا ثوريًا .. وتقض الجريدة مضجع الاستعمار . ويصدر نوبار باشا رئيس النظار في مصر قرارًا بتغريم كل من يقرأ : العروة الوثقى " 25 جنيهًا واعتبار قراءتها جنحة .
ولقد تغير فكر الأفغاني كما كشفت الدراسة المتأنية التي قام بها الدكتور محمد عمارة خلال تحقيقه لأعمال الأفغاني . تغير فكره في نهاية حياته عن فكره في بدايتها .. كان التغيير نحو النضج والثورة والتقدم ، لقد وقف الرجل مع العدالة الاجتماعية وقف مع التعليم الوطني ، وقف مع الجامعة الإسلامية . وقف مع الشورى . وقف مع الاستبداد . تغيرت بعض مواقفه كموقفه من النشوء والارتقاء والقومية والاشتراكية .. في بداية حياته كان ينظر إليها بارتياب ، فلما تقدمت به السن وزادت خبرته أعاد النظر في مواقفه السابقة وصححها بما تراءى له من قراءة وسياحة وحكمة .
كانت هناك متغيرات وثوابت في حياته .. كان الأمر الثابت أنه يتحرك كفارس من فرسان الدعوة الإسلامية .. وثائر عظيم من ثوار الحياة .. إن هدفه هو العدل والرحمة والحق والخير والجمال .. لقد أيقظ الشرق من سباته ولقد لبس البحث الجرئ الذي كتبته الدكتور لويس عوض عن الأفغاني ثوب البحث ، ولكنه لم يكن بحثًا .. إلا أن يكون بحثًا من قبيل أبحاث المباحث العثمانية أو الخديوية أو الإيرانية أو الانجليزية . إن مصادر بحث الدكتور تكشف عن تهافتها ، ومعظم ما يبنيه الدكتور حول الأفغاني رغم فخامته مزور – ولا أظن أن أحدًا ممن اشتركوا في الرد علي الدكتور لويس كان يريد تفنيد أقواله ؛ لأن أقواله في جملتها لا تستحق هذا العناء . إنما تصدينا بالرد حتى ننبه إلي محاولة تجريح التاريخ الإسلامي وتحطيم النماذج الرفيعة الثائرة .. حتى إذا تلوث تاريخنا وصار أبطاله عملاء وثواره جواسيس ونماذجه الرفيعة أقزامًا ومسوخًا .. حتى إذا وقع هذا تحولنا إلي الغرب وطرحنا ماضينا ، وقطعنا الصلة ببذورنا وتاريخنا .. وصرنا رجالاً جوفاً لا ماضي لهم ولا وجدان ولا عقيدة .
عندئذ ترضي عنا مراجع أبحاث الدكتور لويس عوض ويرضي هو عنا .. لقد تصدي " الأهرام " بجملة من الأساتذة المتخصصين البارزين للرد تصحيحًا لهذه الفكرة ، انبعاثًا من الأمانة الدينية والموضوعية العلمية . إن طبق الطعام الذي قدمه الطاهي الشهير لويس عوض عن الأفغاني كان طبقاً من الطعام الفاسد المغشوش . إن الطبخة كلها بغير ملح .. بغير صدق ..
الفصل الثالث : إلي هذا الحد يزيف التاريخ
جاءني صديق منذ نحو عام بنسخة من كتاب يسمي " الإخوان المسلمون والتنظيم السري " للدكتور عبد العظيم رمضان . وطلب إليّ الصديق أن أطالع هذا الكتاب وأتناوله بالرد . ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي أناقش فيهلا آراء لهذا الكاتب ، قد ناقشت له في الجزء الأول من هذه المذكرات رأيًا كان قد نشره في جريدة الأهرام فيما يتصل بترشيح الأستاذ البنا لمجلس النواب في عهد وزارة النحاس باشا عام 1942 .. ويؤخذ علي هذا الكاتب أنه يصر في كتاباته علي أنه مؤرخ ثم يتناسى ذلك بين صفة المؤرخ وصفة الكاتب المتحيز ، صاحب الفكرة المعينة ، يتصيد لها القرائن والمبررات لدعمها ، ثم يقدمها للناس علي أنها تاريخ .. وهذا الوصف الغالب عليه ينزلق به في كثير من الأحيان إلي الخلط وإلي تأويل النصوص وبترها وإلي تجاهل الأحداث وتسلسلها ، بل يصل في بعض الأحيان إلي قلب الحقائق .
وقد طالعت الكتاب ، ولا أراني في حاجة إلي تناوله بالرد ؛ لأن الرجل فعلاًَ – كما نصحه الأخ الأستاذ صلاح شادي وعملاً بالتوجيه القرآني الحكيم : ( ) – كان عليه قبل أن يبدأ الكتابة عن الإخوان المسلمين أن يطلع علي ما كتبه الذين عاشوا أحداث الإخوان المسلمين من داخلها ، ومارسوها وكانوا من صانعيها ومن حصادها .. لا أن يأخذ معلوماته عنهم من تصورات له وتخيلات أو من كتابات لذوي قلوب مريضة يرون في الإخوان المسلمين السد المنيع دون نجاح مخططات غربية وضعوا أقلامها في خدمتها . ثم إن الرجل بتجرئه علي ارتياد طريق يجهله دون دليل من أهله ، أخذ يخلط ويخبط خبط عشواء ، حتى إنه أخذ من أقوال لمجلة الدعوة – بعد فصل صاحبها من الإخوان – ما اعتبره حجة علي قيادة الإخوان كأنما قد صدرت هذه الأقوال عن هذه القيادة . هذا كله إذا أحسنا الظن بالرجل ، وإلا فإن في كتاباته ما يشعر القارئ الخبير بأن وراء هذه الكتابات إغراضًا يلح عليه إلحاحًا بإبراز الإخوان المسلمين في صورة معينة ، مهما كانت هذه الصورة مخالفة للواقع . وسنكتفي بمناقشة قسمتين من قسمات الصورة المشوهة التي أراد هذا الكتاب أن يضع الإخوان المسلمين في إطارها ، تاركين للسادة القراء الحكم من خلال هذه المناقشة علي قيمة المعلومات التي أوردها الكاتب في كتابه ، وعلي النتائج التي توصل إليها من خلال هذه المعلومات :
القسـمة الأولـي
أورد الأستاذ المؤرخ في صفحة 115 من كتابه ما يلي :
" وبالنسبة للمفاوضات بين الانجليز والإخوان ، فكما هي العادة في كل مفاوضات لا تستند إلي جبهة داخلية قوية ، فإن الصراع المكتوم بين الثورة والإخوان كان له تأثيره في موقف الاعتدال الذي وقفته الجماعة أثناء المفاوضات خوفًا من الحرب في جبهتين : جبهة الثورة وجبهة الانجليز . فقد وافقت الجماعة علي ما قبله عبد الناصر في اتفاقية الجلاء بعد ذلك بعام ، وهو بقاء خبراء انجليز في قاعدة قناة السويس ، وحق عودة القوات البريطانية إلي القناة ، واستخدام القاعدة في حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج علي أي بلد يكون طرفاً في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية أو علي تركيا . والتشاور علي العودة في حالة خطر الحرب (184) .
وتعليقاً علي هذا النبأ الذي أورده من يقرر مقدمة كتابه أنه مؤرخ يبحث بجد عن الوثائق ليستقي منها أنباءه التاريخية أقول :
1 – لما كان هذا النبأ مغايرًا بل مناقضًا للواقع التاريخي الثابت الذي نعرفه والذي كنا حضوره ومشاركين في صناعته ، قلت : لعل هناك مصدرًا آخر لا نعرفه يكون أوثق من صانعي النبأ أنفسهم ، ونظرت فوجدت المؤلف قد ذيل هذه العبارة التي تضمنت النبأ بهذا الرقم (184) ، فنظرت في هامش الصفحة وبحثت عن هذا الرقم فوجدت المصدر هو ( عبد العظيم رمضان : المرجع المذكور ص 130 – 136 ) .. فعجبت للمؤلف يورد النبأ المناقض للتاريخ ويجعل الوثيقة التي استقاه منها هي المؤلف نفسه .
2 – ونعتقد أن السيد " المؤرخ " قد استقي نبأه هذا من قرار جمال عبد الناصر الذي أصدره في 12 يناير 1954 بحل الإخوان المسلمين ، واتهم الإخوان فيه بالاتصال بالانجليز من وراء ظهره ، وقد تبين للناس جميعًا بعد صدور هذا القرار أن عبد الناصر كان كاذبًا فيما جاء في القرار من اتهامات ، بعد أن تحداه المرشد العام في ذلك وهو في السجن علي صفحات جريدة " المصري " – أوسع الجرائد المصرية اليومية انتشارًا في ذلك الوقت – ودعاه إلي المباهلة حتى تنزل لعنة الله علي الكاذبين .. فتراجع عبد الناصر في الحال .. وردًا لاعتبار الإخوان أفرج عنهم وقام بزيارة المرشد العام في منزله ونشر ذلك في الصحف .
ولجوء هذا " المؤرخ " إلي أمثال هذه المصادر المشبوهة والمدموغة بالكذب أمر قد ارتضاه لنفسه من قبل ، فلقد ناقشنا له في الجزء الأول من هذه المذكرات أنباء عن الإخوان المسلمين استقاها من البوليس السياسي ، ولم يخجل من نشرها في جريدة الأهرام منسوبة إلي هذا المصدر وإلي تقارير المستعمرين . فجل هم هذا " المؤرخ " هو أن يتسقط الأنباء من أي مصدر من المصادر – دون مبالاة بصدقها أو كذبها – مادام يجد في هذه الأنباء ما يبرز به محاولاته المستميتة في التهجم علي الإخوان والنيل منهم والانتقاص من مكانتهم وتشويه سمعتهم ، معتمدًا في ذلك علي خلو أذهان الأجيال الناشئة وما شاع في هذه الأيام من الأمية السياسية بين المواطنين نتيجة ربع قرن عاشوه تحت نير حكم يتسم بالقهر والاستبداد وحجب الحقائق . وهذا الأسلوب من أساليب التأريخ قد أشرنا إليه في الجزء الأول من هذه المذكرات في الفصل الثالث من الباب الرابع عند حديثنا عن خطط التآمر العالمي علي القضاء علي الدعوة من شاء فليرجع إليه .
القسـمة الثانـية
ويواصل الأستاذ المؤرخ تأريخه فيقول في صفحة 116 :
" وقد أدرك الانجليز من خلال هذه المفاوضات أن الإخوان ليسوا بالتطرف الذي كانوا يخشون ، فقد قبلوا التفاوض معهم – كما قبلوا الأسس السالفة الذكر للاتفاق . واثبتوا بذلك أنهم أكثر اعتدالاً من الوفد الذي ألغي معاهدة 1936 ونص في برنامجه عقب قيام الثورة علي نبذ المفاوضة نبذ النواة ، ونبذ الدفاع المشترك ومشروع قيادة الشرق الأوسط (185) . وكان الإخوان يسعون في الحقيقة إلي ترك هذا الانطباع لدي الانجليز . فقد ذكرنا أن موقف قيادتهم أثناء معركة القناة سنة 1951 – 1952 كان موقفاً متخاذلاً . قد تبرأت تمامًا من كل شبهة تتعلق بالاشتراك في العمل الوطني ، وتبرأت من دعوة شباب الإخوان إلي مقاطعة الانجليز ، وتبرأت من استخدام القوة أو النية استخدامها ، وتبرأت من مجلة " الدعوة " حين هاجمت تعيين حافظ عفيفي لضرب الحركة الوطنية . وفي الفترة التي أباح فيها بعض علماء الدين مثل الشيخ أبو العيون سكرتير عام الأزهر والشيخ علي الخفيف دماء الإنجليز علنًا في الصحف – كانت قيادة الإخوان المسلمين ترفض علنًا العنف كوسيلة لإخراج الانجليز – وقد كان قبول الإخوان المسلمين لأسس الاتفاق في صراحة تامة قائلاً : " أنا علي ثقة من أن الغرب سيقتنع بمزايا الإخوان المسلمين ، وسيكف عن اعتبارهم شيخًا مفزعاً كما حاول البعض أن يصورهم " .
ويكفي للرد علي ادعاءات السيد المؤرخ أن نسأله سؤالاً واحدًا فنقول :
جاء في سياق حديثك في هذه الفقرة ذكر ثلاث هيئات هي التي كانت في الساحة في ذلك الوقت : الإخوان المسلمون وحزب الوفد وعلماء الدين .. فما هي التضحيات التي قدمتها كل هيئة من هذه الهيئات في مقاومة الانجليز في الفترة من 1951 – 1952 ؟ . وإذا كان السيد المؤرخ لا يسعفه أسلوبه الذي ارتضاه لنفسه ولا يرتضيه التاريخ أن يجيب علي هذا السؤال ، فإننا نتطوع للإجابة عليه .. ونحيله في ذلك إلي الصحف اليومية وإلي جريدة " المصري " بالذات صحيفة حزب الوفد الذي كان الحزب الحاكم في ذلك الوقت ، فسيجد أن الجهة الوحيدة التي قدمت ضحايا هي هيئة الإخوان المسلمين ، فقد شيع الإخوان المسلمون في خلال الخمسة عشر يومًا الأولي من شهر يناير 1952 ثلاثة شهداء من طلبة الجامعات هم عادل محمد غانم الطالب بكلية الطب عين شمس وعمر شاهين الطالب بآداب القاهرة ، واحمد المنيسي الطالب بطب القاهرة – وكان تشييع جنازة الشهيدين الأخيرين في مدينة الزقازيق .. وقد وصفت جريدة المصري روعة الجنازة واشتراك جميع الطوائف فيها ، ونشرت في صدر صفحتها الأولي صورة للمشيعين يتقدمهم المرشد العام للإخوان المسلمين . ثم نحيل السيد المؤرخ أيضًا كتاب صديقه الأستاذ صلاح شادي " صفحات من التاريخ " الجزء الأول في صفحات 150 إلي 159 ليقرأ قصة جهاد الإخوان المسلمين في خلال هذه الفترة التي حلا " للمؤرخ " أن يرمي الإخوان فيها بالتخاذل ، وليقرأ عن قصة اللغم الذي أعده الأستاذ صلاح شادي لسد القنال به بناءّ علي أمر المرشد العام . ونقتطف نحن فقرات من هذه الصفحات لا لإقناع السيد المؤرخ وإنما لتطمئن قلوب القراء الذين لم يجحدوا هذه الجهود .. يقول الأخ الكريم الأستاذ صلاح شادي :
جرت أحداث هذا اللغم البحري الذي حاول الإخوان المسلمون تفجيره مرتين في قنال السويس ضمن سلسلة النشاط الفدائي الذي قامت به الجماعة ضد الانجليز في أثناء تولي فؤاد سراج الدين شئون وزارة الداخلية في وزارة الوفد بعد إعلانه إلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر 1951 . وكان الجو الذي تعيشه مصر آنذاك مشحوناً بكراهية الانجليز وخاصة إعلان حظر تشغيل العمال المصريين بالقاعدة البريطانية ومنع تموينها من داخل مصر ،وبدأ الشباب يدرك واجبه في العمل الفدائي لإخراج الانجليز بإقناعهم بأن حجتهم في البقاء في مصر للمحافظة علي قناة السويس حجة داحضة ؛ لأنهم لا يستطيعون حماية أنفسهم فيها إزاء سخط الشعب فكيف يحمون القناة ؟ ولذلك كان مسرح الأعمال الفدائية الانجليز أنفسهم ومؤسساتهم في قناة السويس . وسرت الحماسة في الأجهزة الحاكمة التي دعت إلي ائتلاف قومي يضم أصحاب الرأي في مصر لتنسيق النشاط الفدائي . وكان عبء العمل الحقيقي الفعال يقع علي كاهل الإخوان المسلمين ، فقد قامت المعسكرات في الجماعة لتدريب الشبان علي استعمال السلاح والمواد المتفجرة والقنابل الحارقة والألغام ، بمباشرة الأخ محمد عاكف في جامعة القاهرة وغيره من الإخوان في الجامعات الأخرى ، وأعطتهم الجامعات ما يؤهلهم لهذا الدور .. وقام الضابط مجدي حسنين الذي بايع الإخوان من قبل بتدريب الإخوان علي استعمال الأسلحة وقذف (قنبلة الأنرجا) .. وسقط كثير من الشهداء وكان لكل منهم قصص بطولة تذكرنا بالسلف الصالح .
وفي هذا الجو المشحون بالرغبة في التحرك ضد المحتلين بالصورة المتاحة ، فكر الإخوان المسلمون في صنع لغم بحري لنسف إحدى المراكب الانجليزية المحملة بالبترول في داخل القناة . وفكرت في الأمر مليًا بعد تكليفي من الأستاذ حسن الهضيبي مرشد الإخوان المسلمين بصنع هذا اللغم وتفجيره ، ووجدت أن الاستعداد لصنع هذا اللغم لا يتوافر في إمكاناته العلمية فضلاً عن التصنيع إلا بمعاونة قسم الأبحاث في الجيش الذي كان يعمل فيه الضابط صلاح هدايت . وذهبت إلي جمال عبد الناصر وعرضت عليه الفكرة ، وقام من فوره معي وذهبنا إلي صلاح هدايت وتحدثنا في الأمر ، فكان رده مشجعًا لنا في المضي لإكمال هذا التخطيط ، ووعد بصنع لغم علي شكل كرة كبيرة مجوفة علي نصفين قطرها ، نحوًا من متر ، من معدن خفيف يسمح لها بالطفو داخل المياه وبداخلها مادة T.N.T المتفجرة بكمية مناسبة ، ويعلق بها ثقل محسوب الوزن لتبقي علي ارتفاع معقول أسفل سطح الماء بحيث تلاصق أسفل المركب المقصودة ويجري تفجيره في الوقت المناسب لمرور مركب " الاسترنة " حاملة الغاز المراد تفجيرها .
وبعد إتمام صنعه كان لابد من نقل هذا اللغم بأجزائه كلها إلي منطقة القنطرة شرق ، ورؤى تجربته فوضع الثقل الحديد الذي لا يؤدي كشفه إلي مخاطر ، فوضع في صناديق أوصلها السيد مجدي حسنين إليّ بمحطة القاهرة لشحنها بالسكة الحديد إلي القنطرة شرق ، حيث استقبلني في محطة القاهرة السيد وجيه أباظه ليعرفني بمأمور جمرك السبتيه الذي سيصحبني في القطار إلي القنطرة شرق ليسهل لي استلام صناديق الشحنة باعتبار أنها متفجرات . والذي علمته من وجيه أباظه أن فؤاد سراج الدين سيسهل نقل اللغم – وكان وقتئذ وزيرًا للداخلية – وأنه وعد تسهيل الشحن ، وبإيفاد مندوب الجمرك معي لهذا الخصوص . وطبعًا لم يعلم أحد وربما وجيه أباظه نفسه أن الموجود في الصناديق لا يعدو أن يكون " ثقل حديد " . ولكن مع ذلك أردت أن اختبر مدي الأمن في الشحن بالسكة الحديد إذا دعت الضرورة إليه بعد ذلك ، مع عدم التعرض لمخاطر افتضاح الأمر في أول تجربة لنا مع الحكومة الوفدية التي أثبتت الأحداث بعد ذلك صدقها في المضي مع الشعب في جهاده .
وهنا يتوقف صاحب المذكرات لحظة عن نقل ما ينقله من فقرات من كتاب الأخ الأستاذ صلاح شادي ليلفت نظر السيد المؤرخ إلي أمانة التاريخ وأدب التعامل مع أحداثه وهيئاته ورجاله ، فالوفد الذي كان بيننا وبينه من التنافس ما أدي إلي احتكاك شديد لم يمنعنا ذلك أن نسجل له الثناء في موقف يستحق الثناء .
ثم نرجع إلي ما نقله من كتاب الأخ الأستاذ صلاح شادي حيث يقول :
أما بقية أجزاء اللغم بما يحمله من متفجرات فقد نقلت بالطائرة إلي العريش ومنها بالسيارة إلي القنطرة شرق حيث قدم بها السيد / صلاح هدايت . وأودعناها بمنزل الأخ عبد الفتاح غنيم مأمور القنطرة شرق – الذي احتمل كثيرًا من المخاطر بسبب النشاط الفدائي في منطقته – لحين ربط أجزاء اللغم وتجهيزه للعمل من داخل هذا المكان . ثم أخذ الأخ الأستاذ صلاح شادي يصف كيف سهر هو وعدد من الرجال الكرام علي تركيب أجزاء اللغم ثم نقله إلي الضفة الشرقية للقناة ، ثم تحري التوقيت المناسب ، ثم وصولهم إلي مكان يبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن كوبري الفردان الذي تقوم عليه نقطة حراسة انجليزية . ثم استعانوا بالضابط حسن التهامي لتفادي قوة خفر السواحل ثم يقول :
" واخترنا الليلة والمكان والساعة . ووضعنا اللغم في سيارة جيب ، واتجهنا بالسيارة إلي المكان المقصود تحرسنا من سيارات الجيش بقيادة الرائد حلمي السوده الضابط بالمعسكر المصري في الضفة الشرقية ومعنا الضابط حسن التهامي والإخوة رشاد المنيسي وإبراهيم بركات ويوسف عبد المعطي وصلاح عبد المتعال وآخرون نهضوا معنا بمسئولية تنفيذ هذه العملية . وكان وقت التنفيذ بعد منتصف الليل ، وحملت السيارة الجيب اللغم يستره غطاء السيارة ، ومضت القافلة برجالها إلي المكان المتفق عليه يحرسنا السيد / حسن التهامي ويساند ظهرنا من أي عدوان يقع علينا . وكان المتفق عليه قيامي بتفجير اللغم من مكان علي الشاطئ الشرقي يشبه الكهف الصغير ، ويبعد عن مكان الانفجار نحوًا من مائتي ياردة .
ولكن ..
قبل وصول السيارة إلي المكان المعد للتنفيذ ساخت في رمال الضفة الشرقية ، وتوقف الموتور ، ولم نتمكن من تحريكها .. وغير بعيد منا تقع نقطة الحراسة الانجليزية !! وتركنا السيارة ،وحملنا اللغم من " الشقة " التي تربط النصف العلوي منه بالنصف السفلي ومضينا إلي مكان الالتقاء ننتظر القارب القادم " بالثقل الحديد " من الضفة الغربية . ومضت نصف ساعة متثاقلة الدقائق والثواني .. وبدأنا نسمع أصواتًا تتصاعد من بعيد من الجهة التي ننتظر قدوم القارب منها . وكان شجارًا نشب بين الأشخاص علي الضفة الغربية . ولم نتبين تفاصيل الحديث ، فأرسلنا من يتحري الأمر فوجد أن القارب في مكانه من الضفة الغربية لم يتحرك ، وعلي الشاطئ جنود من حرس الحدود فأدركنا أنهم منعوا القارب من التحرك مخافة استعماله في تهريب مخدرات أو نحوها .. وكنا حريصين في الخطة علي إخلاء الشاطئ من أي دوريات حتى لا نواجه بهذه المفاجآت ، وعلمت من حسن التهامي الذي كان مكلفاً بهذا الدور أنه أبلغ القائد العسكري لهذه المنطقة بإخلائها من الدوريات ، ولكن يبدو أن قائد المنطقة تخوف من احتمال الإيذاء الذي يلحق به من الانجليز إذا تم التفجير فأخرج الدورية في نفس المنطقة التي رغبنا في إخلائها ، وأوقف القارب عن العبور إلي الضفة الشرقية لوضع الكرة التي تحمل المادة المتفجرة T.N.T وربطها (بالثقل) الذي بداخل القارب ثم إنزال الثقل بعد ذلك في جوف المياه مثبتًا به الكرة المتصلة بسلك ممتد إلي مائتي ياردة في العمق حتى أول الشاطئ إلي حيث مكان الكهف الذي يعتبر سائرًا لمن يقوم بمهمة التفجير .
وأسقط في أيدينا .. إذ لا شك أن تفجير اللغم لو حدث علي سطح الماء فلن ينتج شيئًا له أثره ، وفي نفس الوقت يجعله ظاهرًا للعيان ولا يمكن تثبيته في الماء ، لأنه سيسبح مع التيار ونعجز بالتالي عن ملاحقته .. وشهدت الألم والقنوط علي وجه حسن التهامي ، بل عجز عن حبس دموعه .. وجدت أن هذا الأمر يستقيم ومشاعرنا جميعًا فلم يشغل بالي .. ولكنه أصر علي تنفيذ العملية برغم ذلك .. وأصر علي تفجير اللغم في السفينة في الهواء لا وزن لها .. ولما يئس حسن التهامي أخبرنا أن جريدة " المصري " قد جهزت مانشيت بالخط العريض تحكي تفاصيل هذه العملية وأنها كانت تنتظر منه الإشارة بالتنفيذ لطبع المانشيت .. فما هو الموقف الآن ؟! . فقلت : لا شيء . لا يكتب شيء عن هذا الحدث علي الإطلاق ،ولا علم لي بذلك أصلاً : وإذا كان عبد الناصر قد رتب الإعلان عن هذا الحادث في جريدة " المصري " بدون أن يخبرني فعليه وحده علاج هذا الأمر مع الجريدة .
ونكتفي بهذا القدر من قصة اللغم ، وقد أوردناها بالذات ؛ لأنه شهودها لازال عدد منهم علي قيد الحياة ونهديها إلي أولئك المؤرخين العظام الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . هذا .. وإذا كان المرشد العام حين يسأله مندوب الصحف فلا يري أن الإخوان – مع كل هذا – قدموا شيئًا للقضية ، فإنما هو التواضع الذي يلتزم به القائد المسلم – أما الجعجعة وإصدار الفتاوى والتصريحات وإطلاق الشعارات والتهديدات فهذه ليست بضاعة الإخوان المسلمين ، وقد تركوها لغيرهم يتاجرون فيها .. والقائد في حرب مع الأعداء عليه ألا يكشف خططه مهما أحرجه السائلون بألسنتهم والحرب خدعة . وإذا كان الكاتب قد اعتمد طريقة الوقوف عند " ويل للمصلين " فاقتطع من كلام المرشد العام فقرات تناسب هذه الطريقة ، فقد نقلنا لقرائنا في هذه المذكرات نص الحديث الذي دار بين المرشد العام وبين وكالة يونيتدبرس كاملاً دون بتر ولا تقطيع أوصال حتى يتبينوا الحق من الباطل . ولا أعتقد أن " مؤرخًا " كهذا المؤرخ – هذا مدي تجنيه علي التاريخ ، وجرأته في قلب الحقائق ، واستخفافه بعقول مواطنيه يستحق في نقده أكثر من هذه السطور .
الباب العشرون : أضواء علي هذه الحقبة من الزمن
الفصل الأول : وشهد شاهد من أهلها – تصديق علي ملاحظاتنا
في البابين الثاني والخامس من هذا الجزء في الحديث عما يتصل بمشروع الإصلاح الزراعي وجمعية الفلاح ، وفي الباب الحادي عشر فيما يتصل بمشروع اتفاقية الجلاء ، داخلني شعور ببعض شكوك حول اهتمامات أمريكية ملفتة للنظر وجدت صداها بارزًا في تصرفات الحكومة المصرية .. ولم أكتم في نفسي هذا الشعور بل صارحت القارئ به ، غير أني في نفس الوقت لم أجرؤ أن أنقل الشعور من دائرة الشكوك إلي دائرة الحقائق . ولكنني بعهد أن أنهيت مسودة هذا الجزء ، وقع لي كتاب أعارنيه صديق ، فلما قرأت هذا الكتاب وجدت من الأمانة العلمية أن أعود علي هذا الشعور الذي بثثته القراء بمزيد من البسط وبشيء من المناقشة علي ضوء ما تضمنه هذا الكتاب من معلومات ، تاركًا للقراء بعد هذا البسط وهذه المناقشة أن يعيدوا تقييم هذا الشعور فيبقوا عليه في دائرة الشكوك أو ينقلوه إلي دائرة الحقائق .
والكتاب الذي وقع لي هو كتاب وضعه الدكتور محمد صادق دراسة وتحليلاً حول كتاب " لعبة الشعوب " وقد أحسست وأنا أقرأ هذا الكتاب بأن الدكتور محمد صادق قد بذل مجهودًا مضنيًا في تقصي نصوص كتاب " لعبة الشعوب " ودارستها وتحليلها دراسة العالم الخبير ، كما أنه كان من دقة الأمانة العلمية إلي حد أنه في نقله نصوص الكتاب من طبعته الانجليزية كان حريصًا علي إلحاق كل نص برقم الصفحة ورقم السطر . ولكننا فيما ننقل عنه للقارئ من هذه النصوص فسنكتفي بذكر الصفحة دون رقم السطر . ومع ذلك فلن نلجأ إلي تحليلات الدكتور محمد صادق إلا في القليل وسيكون همنا منصبًا علي نقل نصوص كتاب " لعبة الشعوب " نفسه ووضعها للقراء تحت عناوين ، ذلك أن مؤلف هذا الكتاب " مايلز كوبلاند " أحد الذين قاموا بدور هام في تأسيس المخابرات المركزية الأمريكية وفي نشاطها السري بمنطقة الشرق الأوسط منذ عام 1947 ، وكان يعمل بالمخابرات المركزية الأمريكية في مصر في بداية عهد عبد الناصر – يذكر ذلك عن نفسه ويقول إنه قام بدور هام في العلاقة بين المخابرات المركزية وحكام مصر العسكريين . ويروي في هذا الكتاب ذكرياته عن الفترة من عام 1947 إلي 1967 ويضيف إليها آراءه وتعليقاته – وإن كانت وجهة نظره في هذه التعليقات تصور التدخل الأمريكي علي أنه حتمية تاريخية ، و تصور نظم الحكم " الناصرية " علي أنها ثمرة هذا التدخل ، وأنها في نظره أحسن نظم الحكم التي تحقق أهداف السياسة الأمريكية ، وتلاءم المصالح الغربية في الدول الناشئة في آسيا وأفريقيا .
وهذا التصوير الذي يصوره للتدخل الأمريكي في بلادنا هو من حقه باعتباره أمريكيًا مسئولاً عن تقديم أعظم خدمات لبلاده ، وعن تهيئة الظروف حيث كان لإنجاز مصالحها .. ولا يعنيه بطبيعة الحال إن كانت تهيئة الظروف هذه هي في مصلحة البلاد التي تهيأ فيها هذه الظروف أم هي في غير مصلحتها لأنه يعمل في هذه البلاد لحساب بلاده وحلفائها الغربيين . وهو يقرر أن سياسة الولايات المتحدة ذات الوجهين ، وجه تمارسه الحكومة الأمريكية ووزارة الخارجية ، وهذا الوجه يتقيد بالمبادئ الدبلوماسية والأخلاقية . والوجه الآخر فيما يراه " كوبلاند " ويسميه " السياسة الخلفية " يري أن السياسة الأمريكية يجب أن يكون هدفها الأول مصالح أمريكا ذاتها ، وأنها يجب أن تعمل لحماية مصالحها " الجوهرية " بجميع الوسائل والأساليب ، حتى ولو لم تكن متفقة مع القواعد الخلقية ولا مع المبادئ الديمقراطية .. وهذا هو الاتجاه " الميكافيلي " ويمارس هذا الوجه " إدارة المخابرات المركزية " .
وبعد أن يذكر " كوبلاند " في كتابه مبررات هذه الإستراتيجية " ذات الوجهين " ويبين الأسباب التي دعت الولايات المتحدة إلي السير فيها بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط خاصة ، وشعوب العالم الثالث عامة ، ولا يخفي شعوره بما في هذه السياسة المزدوجة من نفاق وخداع يتعارض مع المبادئ الأخلاقية والمثل الأمريكية .. بعد ذلك أخذ يبرئ نفسه من الدفاع عنها ، وإن كان يقررها كحقيقة واقعة بقوله في صفحة 21 :
" من الطبيعي أنني لا أدفع عن هذه الازدواجية ، إنني لا أشعر بميل إليها ولا نفور منها ، إنما اكتفي بالقول إن هذا هو الواقع ، وإن علمنا (سواء في " مركز اللعب " أو في عالم الواقع الذي تقوم به دبلوماسيتنا وقواتنا المسلحة) أساسه وجود هذه " السياسة المزدوجة " . " .
ويلاحظ أن كوبلاند مؤلف هذا الكتاب عاش في المنطقة منذ عام 1947 وشارك بصفته أحد رجال المخابرات الأمريكية في " بعض " العمليات التي نفذتها في سوريا وفي مصر بصفة خاصة . وقد رأي بعد كارثة عام 1967 أن ينشر في كتابه " بعض " معلوماته عن تلك العمليات التي شارك فيها . وهو يصرح بأنه كان من خلصاء جمال عبد الناصر فيقول في صفحة 77 :
" من الراجح أنني رأيت عبد الناصر أكثر من أي " غربي " آخر حتى هذه اللحظة . ولو أنه لم يعد من الممكن لي أن أفاجئه بدون رسميات وأن أجلس للغداء معه ، فإنني أحرص علي أن تكون لي معه جلسة وحديث كل شهر أو شهرين علي الأكثر ، وذلك في ظروف يرتفع فيها التكليف ، وينطلق هو فيها علي سجيته وفطرته إلي أقصي حد ممكن – لقد كنت أذهب لهذه الأحاديث في بعض الأحيان لمجرد المودة الشخصية كصديق . ولكن في بعض الأحيان كنت أكلف بمهمة يكلفني بها أحد شركائي . وكان يسبق الزيارة في بعض الأحيان درس كامل يعطيه لي أحد " الأطباء " أو " المحللين النفسيين " أو مسئول عادي في المخابرات ، ويمكنني هذا الدرس من كشف الأعراض التي قد تدل علي انهيار صحي أو في القوي العقلية " .
كما أن " كوبلاند " يقرر بأنه صديق لعبد الناصر وانه يحبه شخصيًا ، يقرر ذلك في صفحة 239 ويذكر لنا صفاته الشخصية وأهمها في نظره أنه " شجاع ولا مبدأ له " . رغم أن كتابة 5قد حدث ضجة كبرى في الأوساط العربية التي اطلعت عليه ، إلا أنه مع ذلك لم يفض بكل ما عنده فقد قال في صفحة 14 من كتابه : " عندما قررت ماذا أكتب وماذا احتفظ به ، فإنني قد راعيت أن الهدف من كتابي هو .. ثم يقول : " لقد حذفت المعلومات التي تمنع نشرها قواعد الأمن الحكومي سواء بالنسبة للحكومة الأمريكية والبريطانية " ويذكر في صفحة 238 أنه هرب من مصر في أواخر مايو 1967 قبل الهجوم الإسرائيلي علي مصر بأيام معدودة .. ولعل لهذا التوقيت مغزى لدي بعض القراء .
• لماذا قرر " كوبلاند " نشر كثير من الوقائع السرية ؟
أما لماذا قرر " كوبلاند " نشر كثير من الوقائع السرية الخاصة بالمخابرات الأمريكية والعلاقات الدبلوماسية الأمريكية رغم أنه من المفروض أنه مازالت له صلات بأوساط المخابرات ، فتجيب عليه جريدتنا الكريستيان سيتس مونيتور ولوس انجلوس تيمز فتقولان : إن كوبلاند يقول إن الصحفي الجاسوس الانجليزي " كيم فلبي " كان يعلم أغلب هذه التفصيلات السرية ، وإن الروس الآن أصبحوا يعرفونها (بعد أن هرب فلبي إلي روسيا) . ولكن يوجد سبب آخر ظهر فيما بعد ، ذلك أن اثنين من المؤلفين كان يعدان كتابًا تثبت أن عبد الناصر كان عميلاً فعليًا للمخابرات المركزية الأمريكية أثناء صعوده سلك السلطة ، وأن المخابرات المركزية وجدت أن نشر وجهة النظر هذه سيضر بالمصالح الأمريكية . لذلك قررت أن تكشف بعض ملفاتها السرية علي أمل أن تظهر عبد الناصر علي أنه وطني مستقل حاول أن يستغل الولايات المتحدة من أجل تحقيق مصالح مصر الوطنية .
• " لعبة الشعوب " أو " مركز اللعب " :
يقول كوبلاند في صفحة 23 من كتابه إنه كان يلعب دور عبد الناصر في " مركز اللعب " ابتداءًا من صيف عام 1955 إلي ربيع عام 1957 . ويصف هذا المركز بأنه في الطابق الثاني عشر من إحدى ناطحات السحاب بواشنطن ، وأن اجتماعاته تبدأ من الخامسة بعد الظهر حتى الثانية عشرة ليلاً ، وأن هدفه هو أعداد التنبؤات بردود الفعل أو المواقف التي تتخذها بعض الشخصيات الأجنبية في ظروف معينة تقترحها إدارة المخابرات حتى تعرف مقدمًا ماذا ستفعله هذه الشخصيات عندما تتوفر تلك الظروف لها في الواقع العملي مستقبلاً " .
ويشرح الدكتور محمد صادق دور هذا المركز فيقول : " إن هذا المركز الذي صنعته المخابرات الأمريكية يقوم بدور مسرح صغير تجري فيه " بروفات " وتجارب ينوب فيها خبراؤها عن الشخصيات الأجنبية التي يمثلونها – ويتصرفون كما يعتقدون أنها سوف تتصرف إذا وجدت في الظروف المفروضة عليهم ، والتي يحتمل أو يتوقع أن تتحقق في يوم من الأيام في عالم السياسة الدولة في " المسرح الكبير " مسرح العلاقات الدولية والأحداث السياسية الذي تقوم فيه هذه الشخصيات الأجنبية فعلاً بأدوارها التي تنبأت بها المخابرات الأمريكية قبل وقوعها عن طريق تجاربها في المسرح الصغير . بهذه الوسيلة التمثيلية الدراسية تستطيع أجهزة المخابرات ومخططو السياسة الأمريكية أن يعرفوا الظروف التي يمكن إذا تحققت أن تدفع زعيمًا معينًا أو سياسيًا معينًا (كعبد الناصر مثلا) لاتخاذ قرار معين أو موقف معين (مثل قرار تأميم قناة السويس أو قطع العلاقات مع بريطانيا أو ألمانيا الغربية أو إعلان الحرب علي إسرائيل أو صفقة الأسلحة التشيكية إلخ) فإذا أرادوا بعد ذلك أن يدفعوه نحو اتخاذ مثل هذا القرار دون أن يظهروا ذلك عملوا علي خلق الظروف والأساليب التي يعلمون مقدمًا – من دراستهم في مركز اللعبة – أنها تدفعه إلي اتخاذ القرار المطلوب . وهكذا يحققون غرضهم في الوقت الذي يعلنون " معارضتهم " أو " احتجاجهم " علي ما وقع بتدبيرهم المبني علي التنبؤ " برد الفعل المعاكس " تمامًا كما يفعل لاعب البلياردو حتى يدفع كرته لتنصل إلي كرة أخري ، ولكنه لا يوجهها نحوها ، بل يوجهها نحو موقع مغاير يعلم أنه سيصدمها ويدفعها بعد ذلك في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي كانت متجهة إليه .
ونجاح المخابرات الأمريكية في هذه " العمليات " يتوقف علي دراسة الشخصيات التي تتعامل معها ، وفهم العوامل والاعتبارات التي تؤثر فيها ، علي مدي سيطرتها الفعلية علي " العوامل المؤثرة " في الشخصيات السياسية الأجنبية التي تتعاون معها أو تتعامل معها – وهذه العوامل المؤثرة هي " مفاتيح " شخصية الرجل السياسي التي تحركه . ومتى عرفتها المخابرات ، ووضعت يدها عليها ، أصبح في يدها الخيوط التي تحركه وتدفعه في اتجاهات معينة . تمامًا كما يمسك اللاعب المستتر في " مسرح العرائس " بالخيوط التي توجه الدمى وتحركها هنا وهناك ، لتقوم بأدوارها المرسومة لها أمام النظارة والمتفرجين كما لو كانت تتحرك وتتصرف من " تلقاء نفسها " . وقد أشار كوبلاند من غير قصد في صفحة 24 إلي حالة من هذا النوع حين قال : " أسبوع واحد قبل أزمة السويس (تأميم القناة) سألني " فرانك فزتر " نائب مدير قناة السويس فيما لو سحبت الحكومة الأمريكية معاونتها المالية لمشروع السد العالي (فضلاً عن قيامه بإجراءات أخري) ؟ - فأجبته :
" حقاً ، إنني في مكانه وأثناء قيامي بدوره في " اللعب " لقد قررت تأميم شركة قناة السويس منذ شهر سابق – ولكنه لم يفعل ذلك حتى الآن – ولذلك لا أعرف ماذا سيفعل الآن " .
يقول الدكتور محمد صادق : " إن المؤلف " كوبلاند " يستشهد بذلك علي أن مواقف عبد الناصر كانت دائمًا أقل ضررًا علي المصالح الغربية مما كان يتوقعه هو عندما كان يقوم بتمثيل دوره في " مركز اللعب " ولكن جوابه يؤكد أنه كان يعلم بأن العوامل التي تدفع عبد الناصر للتأميم قد توفرت منذ شهر ( وإن كان لم يذكر هذه العوامل) وأنه كان مندهشًا لعدم إقدامه علي ذلك ، حتى إنه سأل عبد الناصر بعد ذلك عن السر في هذا " التأخير " غير المتوقع – ففهم أنه كان يخشي أن يكون رد الفعل الانجليزي الأمريكي أعنف مما حدث – بسبب جهله ببعض " المعلومات " التي كانت لدي كوبلاند . (لا شك أنها معلومات تدل علي عدم عنف المعارضة الأمريكية للتأميم ولكنه لم يذكرها أيضًا) . هذه القصة تؤكد أن الحكومة الأمريكية عندما سحبت معاونتها للسد العالي كانت تتوقع أن يكون تأميم القناة أحد ردود الفعل التي سيتخذها عبد الناصر . وأن ما أظهرته من دهشة واعتراض علي التأميم عند صدور قراره لم يكن يتفق مع الواقع – بل إن القارئ يستطيع أن يتساءل هل كانت السياسة الأمريكية تهدف إلي دفع عبد الناصر لهذا القرار ، وأنها أوجدت الظروف التي تدفعه لذلك قبل سحب إعانة السد العالي بشهر كامل ، ولكنه تردد ولم يقدم ، فزادت عليها بعد ذلك قرارها بسحب الإعانة وهي تتوقع أن يقدم علي التأميم هذه المرة – وقد كان .. وثم ما أرادت رغم ظهورها بمظهر الاعتراض ؟! .
• لماذا تحولت الخارجية الأمريكية عن الاتجاه المثالي ؟
يربط " كوبلاند " بين تحول السياسة الأمريكية إلي الاتجاه الميكافيلي وبين التمهيد للانقلاب العسكري في مصر في أواخر عام 1951 وأوائل عام 1952 ، وهي الفترة التي وصلت فيها الأزمة بين مصر وبريطانيا أقصي درجاتها بتزايد العمل الفدائي الشعبي ضد القواعد الانجليزية بالقنال – وضغط الرأي العام المصري علي الحكومة وعلي الملك فاروق لدرجة أدت إلي إعلان إلغاء المعاهدة 1936 التي كان يعتمد عليها الوجود العسكري البريطاني في القنال في أكتوبر عام 1951 – فأصبح وجود القواعد العسكرية الانجليزية بغير " أساس " وأصبح العمل الفدائي واجبًا وطنيًا وكفاحًا شعبيًا مجيدًا . كان وزير خارجية أمريكا في ذلك الوقت هو المستر دين أتشيسون – ويظهر أنه تعرض لضغوط دولية لم يذكر لنا المؤلف كوبلاند مصدرها – وإن كان من المفهوم أنها آتية من ناحية بريطانيات أولاً ثم من ناحية إسرائيل أيضًا لأنها كانت تعتبر الجيش البريطاني في القنال هو خط دفاعها الأول ضد الحركات الفدائية المصرية .
ويصف كوبلاند موقف المستر أتشيسون في عام 1951 في صفحة 48 فيقول : " يظهر أن وزير الخارجية المسر دين أتشيسون في عام 1951 لم يكن علي كل حال ذا ثقة تامة في (الأساليب الديمقراطية) إنه عندما كان يتكلم علنًا لم يكن يذكر سوي أساليب " الدبلوماسية التقليدية " ولكن في أحاديثه الخاصة كان يبدي اعتقاده أن احتمال الالتجاء إلي بعض " النشاطات غير التقليدية " (المخالفة للمبادئ الديمقراطية والأخلاقية كتدبير الانقلابات والمؤامرات .. إلخ) – هو أمر يستحق الدراسة علي الأقل لمساعدة بعض "القوي الطبيعية " علي الظهور . ونتيجة لذلك فإنه في نهاية عام 1951 قررّ تشكيل " لجنة خبراء " سرية لدراسة العالم العربي فيما يتعلق علي الخصوص بالنزاع العربي الإسرائيلي لاستعراض المشاكل ، واقتراح الحلول سواء كانت تتفق مع أساليب العمل الحكومي " النظيف .. أم لا " . وقد استعار وزير الخارجية من الهيئة المركزية للمخابرات الأمريكية المستر " كيرميت روزفلت " ليرأس هذه اللجنة ، التي كانت تضم بعض رجال وزارة الخارجية وبعضًا آخر من وزارة الدفاع وبعض المستشارين من دوائر رجال المال ومن الجامعات . ولم يكن فيها من المخابرات إلا رئيسها .
• ما الذي قررته لجنة الخبراء ؟
يقول " كوبلاند " : إن أهمية هذه اللجنة هي أنها قد بحثت عن الوسائل التي تستخدمها مخابرات الولايات المتحدة لتمكين العناصر الموالية لها من الوصول إلي الحكم – وقد قررت اللجنة بصراحة أن لها أن تستعمل كل الوسائل دون تقييد بقواعد " الدبلوماسية التقليدية " أي لا تتقيد بالمبادئ الأخلاقية أو الديمقراطية – ويقول " كوبلاند " إن قرارات هذه اللجنة هي نقطة التحول من المرحلة التي استخدمت فيها الوسائل التقليدية من عام 1947 إلي عام 1951 وبين المرحلة التالية التي قررت السياسة الأمريكية فيها توسيع نشاط مخابراتها ليمتد إلي الوسائل الانقلابية والميكافيلية . ويشرح كوبلاند ذلك معبرًَا عن وجهة نظره في صفحة 21 فيقول :
" هناك حدود لما تفعله حكومة بلد ديمقراطي في شئونها الداخلية – ولكن لا توجد حدود لما نستطيع أن نعمله " في البلاد الأخرى " – أو علي الأصح ، فإن حكومتنا عندما تقرر ماذا سنفعل بالنسبة لبلد آخر ، فإن الحدود الوحيدة لذلك العمل هي استطاعتنا له وإمكانية تنفيذه – فكل ما نستطيع أن نفعله نفعله – أما الاعتبارات الأخلاقية فإنها ظهرت فكل ما يترتب عليها هو أننا لا نسأل أنفسنا فقط " هل نستطيع أن نفعل ذلك ؟ " بل يجب أن نتساءل " هل نستطيع أن نخفيه ونهرب به ؟ " . ويقول كوبلاند : إن اللجنة قررت أن " المشكلة المصرية " كانت قد حظيت بالأولوية علي ما سواها ، وأن اللجنة رأت وجوب تدخل الولايات المتحدة في " هذه المشكلة " بسرعة . وسمي هذا التدخل في مصر : " العملية الكبرى " .
• لماذا اختارت اللجنة مصر لتنفيذ العملية الكبرى ؟
يتجاهل كوبلاند عامدًا السبب الحقيقي مع أنه قد ذكره من قبل وهو " نجاح الشعب المصري والحركة الفدائية المصرية في إلغاء معاهدة عام 1936 ، ووقوف الشعب والحكومة الوفدية ، وخضوع الملك للإدارة الشعبية " . ومع أن كوبلاند تجاهل هذا السبب فإن كتابًا في نفس الموضوع ظهر قبل كتابه هو كتاب " هيئة المخابرات المركزية الأمريكية " الذي ألفه " أندرو كوللي " تكلم بكل صراحة ووضوح في صفحة 68 عن اتفاق بريطانيا مع أمريكا علي إبعاد فاروق بعد 26 يناير 1952 – مما يفهم منه أن مبدأ التدخل الأمريكي كان متفقاً عليه من قبل ، وأن حريق القاهرة جعل الدولتين تتفقان علي أن يصل التدخل حد تغيير نظام الحكم الملكي أو إقصاء فاروق علي الأقل . ومع تجاهل كوبلاند لكل هذا فإننا نسايره فنجده يقول في صفحة 49 : " إن اختيار مصر لأنها بلد يتمتع بأولوية ممتازة بسبب مزاياها الخاصة ، وبسبب نفوذها في الدول العربية الأخرى لدرجة تجعل كل اتجاه للتحسن فيها مؤثرًا في العالم العربي " ثم يقول : " ومن ناحية أخري أي ناحية " تنفيذ العملية " كان من المعتقد أن ذلك سهل ، ليس فقط بسبب طبيعة شعبها وطبيعة ساستها ، بل أيضًا بسبب أن عندنا منفذين مشهود لهم بالمهارة ، يعرفون البلاد معرفة جيدة ، ومن بينهم " كيرميت روزفلت " نفسه رئيس اللجنة " .
• هل كانت هناك جهود بذلها روزفلت في مصر من قبل ؟
يقول كوبلاند إن روزفلت كانت له اتصالات في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية ، وأنه اتصل بالملك فاروق إذ ذاك ، وأن فاروق كان يميل إليه . ويقول في صفحة 51 : " إن الملك فاروق قد توفر لديه ميل إلي روزفلت خلال الحرب أثناء الأزمة التي أجبره فيها الانجليز بقوة السلاح علي إبعاد العناصر التي تعطف علي " المحور " من الحكم ، وأن يضع مكانها أشخاصًا تختارهم بريطانيا (يقصد أزمة 4 فبراير 1942) . " في تلك الفترة كان فاروق يحترق غيظًا في قصره ، ولا حول له ولا قوة . وكان روزفلت يزوره يوميًا تقريبًا ليهدئه ويوحي إليه بأنه بعد انتهاء الحرب يحتمل أن توضع خطة جديدة لتتمتع مصر بسيادتها الكاملة ، وليكون فاروق أول حاكم لمصر المتحررة بعد ألفي عام " . ويعلق الدكتور محمد صادق تعليقاتً له دلالاته علي عبارة " بعد ألفي عام " التي جاءت في كلام روزفلت لفاروق حيث يقول في تعليقه : لا ندري من أين جاء روزفلت بهذا الرقم ؟ وأهم ما فيه أنه يفترض أن مصر لم تكن مستقلة طوال العصور الإسلامية كلها (2000 سنة) حتى إن عبد الناصر رددها في خطبة له في عهد قريب سنة 1966 في عيد الجلاء إذ قال : " منذ أكثر من ألفي عام ووطننا يحكمه الغرباء – أي المسلمون – والحلم الضائع لأبنائه أن يعود وطنهم إليهم .. وبعد عام واحد من هذه الخطبة وقعت الهزيمة والنكسة سنة 1967 .
ثم نرجع إلي السياق فنقول : إن كوبلاند لا يذكر لنا شيئًا عن اتصالات روزفلت أو غيره من خبراء المخابرات الأمريكية مع فاروق أثناء أزمة القنال قبل نهاية عام 1951 – وإنما ينقلنا مباشرة من عام 1942 إلي عام 1952 فيقول في صفحة 52 :
" بقي روزفلت في القاهرة الشهرين الأولين من عام 1952 (يناير وفبراير 1952) ثم يقول ما ملخصه أن روزفلت حاول مع فاروق تنظيم " ثورة سلمية " بإجراء حملة تطهير في الأجهزة الحكومية ، ولكن فاروق أبعد العناصر المعروفة بفسادها ثم وضع بدلاً منها رجالاً أكثر منهم فسادًَا اختارهم هو " . ثم يقول كوبلاند في نفس الصفحة بعد ذلك : " في شهر مايو 1952 رفع روزفلت يديه علامة علي اليأس من فاروق . ووافق علي رأي سفير أميركا في ذلك الوقت " جيفرسون كافري " وهو أن الجيش وحده هو الذي يستطيع أن يواجه الوضع " الفاسد " وإقامة حكومة تستطيع الدول الغربية أن تتفاهم معها " .
يقول الدكتور محمد صادق : هنا فقط ، وبصفة عارضة ، وعلي لسان السفير الأمريكي في القاهرة ، اضطر كوبلاند إلي ذكر المشكلة الرئيسية التي تفادي ذكرها طوال الوقت وهي مشكلة " التفاهم مع الدول الغربية " . ومعني هذا أن عناد فاروق وإصراره الذي ذكره كوبلاند لم يكن خاصًا بموضوع الرشوة والفساد كما يحاول أن يوهمنا بل امتد العناد إلي أكثر من ذلك هو موضوع " التفاهم مع الدول الغربية " . الأهم من ذلك أن هذا العناد من جانب فاروق ومن جانب جميع السياسيين التقليديين لم يكن اختيارًا منهم وإنما فرض عليهم فرضًا من التيار الشعبي الجارف المعادي للغرب – فلابد من وسيلة لتحطيم هذه " المقاومة الشعبية " وكان رأي كافري أن الجيش هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بهذه المهمة . لكن هذه الفكرة لم تكن مرتجلة ، ولا بنت ساعتها .. لقد سبقتها دراسات وأبحاث في أوساط الجيش ، واتصالات بمجموعة من الضباط الذين أظهروا استعدادهم للتفاهم .
• ما سبب استعجال المخابرات الأمريكية لحل مشكلة " التفاهم مع الدول الغربية " ؟
يقول " أندرو توللي " الذي أشرنا إليه من قبل وكتابه " هيئة المخابرات الأمريكية " الذي نشر عام 1962 وطبع عدة طبعات . يقول في صفحة 86 : " وصلت موجة العداء للغرب إلي أقصاها في أكتوبر عام 1951 عندما أعلنت حكومة البريطانيين (حكومة الوفد برياسة مصطفي النحاس) إلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا ، وطرد البريطانيين من القنال والسودان المصري الانجليزي . وفي يناير عام 1952 (26 يناير) قامت مظاهرات عنيفة ضد الغرب وضد بريطانيا ، وسارت وسط القاهرة . وأحرقت فندق شبرد المعروف ، وكذلك أحرقت ممتلكات مصرية وأجنبية أخري ، ولقد كان من الظاهر أن فاروق شجع هذه المظاهرات ، ولكن عندما خرجت عن السيطرة ، وتحولت إلي نهب ممتلكات أصدقائه (الغربيين) استدعي الجيش لإعادة النظام .. والراجح أن هذا هو الوقت الذي قررت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا ضرورة التخلص من فاروق " .
أما تحول موجة العداء للغرب إلي ثورة شعبية فقد أشار إليه كوبلاند نفسه في كتابه صفحة 54 حيث يوضح أن خطورة هذه الثورة الشعبية كانت ترجع إلي أن المسيطر عليها هم الإخوان المسلمون فيقول :
" إن الحركتين الثوريتين في ذلك الوقت هما " الإخوان المسلمون " و " الحزب الشيوعي " كانتا تعتقدان أن الشعب المصري بما فيه الفلاحون والعمال والموظفون في المدن ، بل وذوو المهن الحرة أيضًا – كان قد وصل سخطه إلي درجة الغليان ،وأنه يمكن أن ينفجر إذا وجد التوجيه الصحيح " يقول الدكتور محمد صادق : إن صاحب " لعبة الشعوب " مُصِرّ علي أن لا يشير إلي الجهة التي تهددها هذه " الثورة الشعبية " ولكن يتضح مما ذكره سلفه " توللي " أن الثورة كانت موجهة ضد الغرب عمومًا ، وضد بريطانيا ومصالحها خاصة وإسرائيل من ورائها . فما هو العلاج الذي كانت تفكر فيه السياسة الأمريكية لمواجهة هذه " الثورة الشعبية " ؟! .
• اتفاق المخابرات الأمريكية مع " الناصريين " :
يقول كوبلاند في صفحة 53 : " كان روزفلت غير واثق من " الانقلابات العسكرية " بعد أن رأي ما أدت إليه في سوريا من فوضى . ولكنه " وافق : علي أن يقابل الضباط الذين قدمتهم له " المخابرات المركزية الأمريكية " علي اعتبار أنهم زعماء التنظيم السري العسكري الذي يدبر " انقلابًا عسكريًا " إنه فعل ذلك في مارس عام 1952 أي قبل أربعة شهور قبل " الانقلاب الناصري " . إن عبد الناصر قد علم (بأي طريق ؟) بالمحاولات الاستطلاعية التي قامت بها المخابرات الأمريكية لمنظمته ، وكان علي استعداد للاتصال ، ودبر الأمر لكي يجد روزفلت في طريقه عددًا من الضباط البعيدين عن مركز الحركة ليصرفهم كما يشاء ، والذي يثق في أنه يمكن أن يعتمد علي أنهم سوف يقولون " ما يجب قوله ويحتفظون بأسرار الضباط الأحرار " – لقد تمت ثلاث لقاءات . وكان يحضر ثالثها أقرب المقربين لعبد الناصر . وقد توصل روزفلت مع هذا الضابط الذي كان يتكلم باسم عبد الناصر شخصيًا إلي " اتفاق " واسع النطاق يستحق أن نذكره : هناك ثلاث مسائل عامة تم الاتفاق عليها فورًا . وهي .. " .
يقول الدكتور محمد صادق : لقد استطرد كوبلاند في شرحه لنقاط الاتفاق الذي تم بين روزفلت وبين جماعة عبد الناصر في شهر مارس 1952 بإفاضة وإسهاب مسود بها ست صفحات من مؤلفه (من صفحة 54-59) نكتفي هنا بتخليصها فنقول :
علي حد قول كوبلاند كانت النقطة الأولي هي : أن جماهير الشعب المصري لا يمكن أن تثور بسبب الحالة الاقتصادية .
أما النقطة الثانية : فهي أن المصريين لنم يثوروا لأي سبب من الأسباب ، وبالتالي فلا داعي لتخوف الأمريكيين من ازدياد نفوذ الحركة الثورية للإخوان المسلمين ، ولن تكون هناك ثورة شعبية ديمقراطية في مصر .
أما النقطة الثالثة : التي تمهد لها وتؤدي إليها النقطتان السابقتان فهي ما يلي (ص 55 وما بعدها) : " أخيرًا اتفق علي أنه في مستقبل العلاقات بين الحكومة المصرية " الجديدة " (الطبقة الجديدة) سيكون استعمال عبارات " إعادة الحياة الديمقراطية " أو " إقامة حكم نيابي صحيح " – مثل هذه العبارات ستكون مقصورة علي البيانات التي يطلع عليها الرأي العام – أما فيما بيننا فسوف يوجد تفاهم سري بأن الشروط اللازمة لقيام حكم ديمقراطي لم تتوفر ولن تتوفر لسنين عديدة " .
بعد هذه النقاط الثلاث العامة التي تم الاتفاق عليها – يشير كوبلاند إلي أن هناك " نقاطًا أخري " يدعي أنه لم يتفق عليها صراحة ، ولكنه كانت موضوع " تفاهم متبادل بين الطرفين " .
أول هذه النقاط " الخاصة " وأهمها في نظر كوبلاند هي : موقف عبد الناصر من إسرائيل – ويليها الموضوع الشائك وهو موضوع " القومية العربية " ثم " مرونة " موقفهم تجاه البريطانيين – وعندما يصل كوبلاند إلي هذه النقطة الأخيرة ، وهي موقف الضباط الأحرار من البريطانيين ومدي مرونته ، يختم حديثه بهذه العبارات (ص58 ، 59) : " لقد فهم روزفلت هذه النقطة . وعندما عاد من القاهرة إلي واشنطن شهرين قبل الانقلاب (أي في شهر مايو) قدم تقريره إلي دين أتشيسون وزير الخارجية . والنقطة التي فهمها روزفلت هي أن هؤلاء الضباط وإن كانوا يكرهون الانجليز إلا أنهم يحترمونهم احترامًا شديدًا ، فعداؤهم للانجليز ليس عميقاً ولا ثابتًا ولا دائمًا كعدائهم للكبار المصريين من ضباط وسياسيين " . يقول الدكتور محمد صادق : معني ذلك أن تحليل موقف الضباط من الانجليز كان نقطة حاسمة في إقناع روزفلت بأن الانقلاب العسكري بواسطة هذه الجماعة من الضباط هو أفضل وسيلة للوصول إلي اتفاق بين مصر وبريطانيا – وقد أشار لذلك روزفلت في تقريره كما أورده كوبلاند في صفحة 59 : " هؤلاء الضباط الذين سيقودون الانقلاب .. سيزدادون تعقلاً ومرونة في "المفاوضات " متى وصلوا للحكم " .
• ماذا في الاتفاق عن إسرائيل ؟
يقول كوبلاند في صفحة 56 : " إن عبد الناصر قرر لروزفلت بكل صراحة أنه هو وزملاؤه الضباط رغم ما لحقهم من مهانة الهزيمة علي يد الإسرائيليين – لا أنه أكد أن حقدهم موجه إلي رؤسائهم ، ثم إلي العرب الآخرين ، ثم إلي البريطانيين ، ثم إلي الإسرائيليين ، بهذا الترتيب " . ويعقب كوبلاند علي ذلك قائلاً في نفس الصفحة : " نتيجة لمحادثات روزفلت مع شخصيات مدنية كبيرة في مصر بما فيهم الملك فاروق – فإنه وصل إلي نتيجة أقنعته بالاتفاق مع عبد الناصر " . وعندما أورد كوبلاند خلاصة تقرير روزفلت الذي قدمه لوزير الخارجية عقب عودته لواشنطن اكتفي بما يعتقد أنه يهم وزارة الخارجية في الدرجة الأولي وهو" موقفهم من إسرائيل " فأكد كوبلاند في البند رقم (6) الذي أورده في صفحة 59 ما يلي :
" (6) فيما يخص كل هذه اللقاءات التآمرية (هذه هي كلمات كوبلاند) السابقة علي الانقلاب .. ففيما يخص " العدو " الذي يخشونه فلن يكون إسرائيل ، بل الطبقات العليا في مصر ، والانجليز .. " .
• شعور الضباط الناصريين نحو الشعب المصري :
في صفحة 54 يقول كوبلاند : " إن المتحدث باسم جماعة الناصريين ، في لقائهم مع مندوب المخابرات الأمريكية روزفلت ، مضي يقول : إن أغلبية المصريين عاشت عيشة الكفاف آلاف السنين . ويمكن أن تستمر علي ذلك ألف سنة أخري . إنهم لا توجد عندهم دوافع للثورة . وليست عندهم دوافع تحركهم للطموح نحو التمتع بحياة أفضل حتى بعد الثورة . ويعمل علي ذلك كوبلاند في صفحة 58 فيقول :
" وهناك انحراف فكري يتميز به ناصر وضباطه – وتميز به النموذج المصري من الحكام وأعوانهم علي العموم – فبينما يتكلمون بأعلى صوت ضد " العدو " الأجنبي (كالبريطانيين في هذه الحالة) نجد أن العداء الحقيقي المملوء بالمغزى والمعاني والذي يحركهم ويدفعهم للعمل هو العداء الذي يكنونه لأبناء شعبهم " . يقول الدكتور محمد صادق تعقيبًا علي ذلك : إننا لا نظن أن الأمريكيين قد صدقوا ما قاله لهم هؤلاء الضباط عن الشعب المصري ، أو أن ذلك شجعهم علي الاستخفاف والاستهتار بمقاومته ، بل علي العكس من ذلك ، فإن الذي استحق منهم الاستخفاف للتحقير هم هؤلاء الضباط الأحرار " المتزلفين لهم الساعين إلي استجداء تأييدهم ومساعدتهم وتدخلهم في شئون شعبهم – ويكفي لبيان درجة استخفاف الأمريكيين بهم أن نورد وصف كوبلاند لهم علي لسان الكولونيل " ميد " صفحة 65 الذي كتب إلي روزفلت يقول عنهم ما يلي :
" هؤلاء الصبيان " يظنون أنفسهم عصابة " روبن هود " المرحة – ويعجبهم أن يوصفوا بأنهم " أبطال الثورة " – إنهم لا تهمهم السياسة – ومن حسن حظنا وحظ عبد الناصر أنه يحتاجون إلي من يعلمهم كيف يفكرون وماذا يفعلون " .
ويواصل الدكتور محمد صادق تعليقه فيقول : هذا هو النوع الذي يشهر بأمته ، ويحقر تاريخها ومجدها . و هو الذي يصلح " للتعاون " مع القوى الأجنبية ذات المطامع والأهداف المناهضة لمطامح أمتهم وآمالها – وهذا يفسر لنا إسراع روزفلت إلي " الاتفاق " معهم وإصرار كوبلاند علي قوله بأن هذا النوع هو أحسن نوع من الحكام لمصالح الغرب .
• تحويل أنظار الشعب عن أعدائه الحقيقيين :
يقول الدكتور محمد صادق : إن وصول الطبقة الجديدة " الضباط الناصريين " للحكم معناه فتح الباب أمام معارك داخلية تحول أنظار الشعب عن المعارك الحقيقية – وبذلك تتم عملية " التحويل " . إن عملية " التحويل " ستجعل الشعب ينسي الانجليز المرابطين في القتال ، والإسرائيليين الذين وراءهم يحتلون فلسطين . وبدلاً من محاربة هؤلاء الأعداء الخارجين سوف تسير الجماهير تحت لواء " الطبقة الجديدة " في حروب داخلية ضد أعداء داخليين وهميين أو حقيقيين بحجة محاربة الفساد والرشوة أو الرجعية أو أي حجة أخري .
• خلاصة نتائج تجارب المخابرات الأمريكية في سوريا :
لقد أطال كوبلاند في دراسة أسباب فشل حسني الزعيم وفشل العمليات المحدودة التي قاموا بها في سوريا – ليستخلص منها الشروط التي يجب أن تتوفر في " اللاعب " أي الحاكم الذي يعتبره مثاليًا من وجهة نظر المصالح الأمريكية – والذي يجب أن يبحثوا عنه للقيام بـ " العملية الكبرى " التي كانوا ينوون الإقدام عليها . ويثير المؤلف (كوبلاند) إلي الدروس التي استقادوها من ذلك فيقول في صفحة 45 :
" ولعلنا نستوعب جميع الدروس التي كان يجب أن نتعلمها من تجربة حسني الزعيم – ومع ذلك فبالرجوع بذاكرتنا إلي الوراء نجد أن النتائج التي اتضحت منها بشكل كاف هي : .. وعقب ذلك يشير إلي ثلاث نتائج هي في الحقيقة الخصائص الأساسية المميزة للنظام " الناصري " وملخصها ما يلي :
1 – لا يكفي وقوع الانقلاب وتغير الحكومة ، بل الأهم هو بقاء الحكم الانقلابي إلي النهاية رغم إرادة الشعب ومعارضته .
2 – لابد من وجود " مجموعة " أو " طبقة " حاكمة وليس شخصًا فقط ، لأن هذا أضمن لاستمرار " النظام " المفروض .
3 – أن يكون لدي الحاكم صفات تبعد عنه تهمة عميلاً لنا ، بأن يتصرف بأسلوب لا يساير مصالحنا وأهواءنا بصورة كاملة ، ولا مانع من أن نتحمل منه " مبادرات سيئة ضدنا " متى كان وجوده في الحكم ضروريًا لحماية مصالحنا الأساسية ، وكانت هذه المبادرات ضرورية لبقائه في الحكم . وفي صفحة 44 يوضح كوبلاند أن وجود المجموعة أو الطبقة الحاكمة ليس معناه عدم وجود زعيم ، بل علي العكس من ذلك يجب أن يجمع الزعيم حوله جماعة أو طبقة " لا تستطيع أن تعيش بدونه " بأي حال من الأحوال فيقول :
" إن حسني الزعيم لم يتعلم نظريات " الزعامة الحديثة " وهي أن مهمة الزعيم الرئيسية هي أن يوجد الظروف التي تجعل معاونيه وأتباعه لا يجدون أمامهم أي حل بديل إلا التمسك به والتثبت ببقائه .. " .
ويقول في صفحة 50 : " وهكذا تبين لنا (أي للجنة) أنه إلي جانب دراسة احتمالات وجود زعيم محتمل – يجب أيضًا أن تدرس المجموعات المتعاونة المتدرجة التي تعمل تحت أمره – الطبقة الممتازة التي تليه ، ثم الطبقة التي تحتها ، والطبقة التي في القاعدة – لتتأكد من أنهم جميعًا يمكن أن يكونوا معًا كتلة واحدة منسجمة يربط بينها وحدة المصالح ووحدة الأغراض – " .
ثم تبين بعد ذلك أن أحسن طريقة لجعل هذه المجموعة متماسكة هو وجود خطر مشترك علي حد ما قاله الفيلسوف الانجليزي " برتراندرسل " – ولم تقصر اللجنة في دراسة ما هو " الخطر المشترك " الذي يجب أن يستغل لبقاء هذه المجموعة المتعاونة متماسكة تربط بينها وحدة المصالح ووحدة الهدف – ومن الغريب الذي سيدهش له الكثيرون أنه يؤكد أن اللجنة انتهت إلي أنه لا مفر من استخدام قضية النزاع العربي الإسرائيلي لهذا الغرض فيقول في نفس صفحة 50 ما يلي :
" في هذا الجزء من العالم ، لابد من تطبيق ملاحظات الفيلسوف " برتراندرسل " وهي " أنا وجود خطر مشترك " – هو أسهل طريقة لإيجاد التجانس والوحدة " – في خارج مصر يستعمل القادة العرب الخوف من إسرائيل لإيجاد نوع من الوحدة الوطنية في بلادهم . ونحن لم نجد طريقة تتفادى بها استعمال نفس الوسيلة في مصر (بعد الانقلاب المرتقب) بشرط أن يكون ذلك في نطاق الحد الأدنى تتفادى خطر إثارة العواطف التي يمكن أن تخرج عن سيطرة الحكام . وكان احتمال هذا الخطر يظهر ضئيلاً نظرًا لفداحة الهزيمة التي أصابت الجيش المصري أمام القوات الإسرائيلية في حرب عام 1948 – ومن ناحية أخري لم نكن هناك فرصة محتملة لإمكان إيجاد زعيم لا يستغل الخطر الإسرائيلي .. " .
• الاتفاق مع المخابرات الأمريكية قبل الانقلاب يشمل برنامج السياسة الداخلية :
ذكر كوبلاند عددًا من النقاط التي تم الاتفاق عليها والتي تكون في نظر الطرفين برنامج السياسة الداخلية الذي وافقت عليه أمريكا لكي يسير بمقتضاه الحكم العسكري بعد تنفيذ الانقلاب . وهذه هي أهمها – بعبارات كوبلاند نفسه :
1 – " إن حكومة الولايات المتحدة سوف تقبل خلع الملك فاروق ، وربما إلغاء الملكية تمامًا – ومع ذلك فلا مانع من أن تقدم احتجاجًا معتدلاً لإرضاء ذوي النفوس الطيبة . وسيكون من المناسب أن يظهر السفير كافري بعض الاهتمام لتأمين سلامة شخص الملك فاروق (صفحة 59) .
2 – " بعد تنفيذ الانقلاب بإجراء حكومتنا (الأمريكية) عن أية محاولة – فيما عدا المحاولات الكلامية – لإقناع الحكام الانقلابين بإجراء انتخابات أو بإقامة حكومة دستورية وما أشبه ذلك – وسوف تقوم علاقاتها مع الحكومة الجديدة (العسكرية) علي أساس أن النظم الديمقراطية يجب أن تبدأ من نقطة الصفر " (صفحة 59) .
3 – " تم الاتفاق علي أنه في مستقبل العلاقات بين الحكومة المصرية الجديدة (يعد الانقلاب) وبين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية فإن استعمال عبارات " إعادة الحياة النيابية " أو " إقامة حكم نيابي صحيح " سوف يكون مقصورًا علي البيانات التي تعلن للرأي العام – أما فيما بيننا فسيكون هناك تفاهم " سري " بأن شروط الحكم الديمقراطي لم تتوفر وأنها لن توجد لسنوات طويلة " (صفحة 55) .
4 – " ستكون مهمة الحكومة الجديدة هي إيجاد هذه الظروف وهي :
أ – محو الأمية وإيجاد طبقة مثقفة .
ب – إيجاد طبقة متوسطة مستقرة وواسعة .
ج – إشعار الجماهير بأن هذه الحكومة منهم – وأنها لم تفرض من جانب الفرنسيين ولا الأتراك ولا البريطانيين ولا الطبقة العليا في مصر .
د – تجسيم القيم والأهداف " المحلية " حتى يمكن إيجاد نظم ديمقراطية من نوع خاص (كالاتحاد الاشتراكي) مثلاً وتنميتها بدلاً من النظم المماثلة للديمقراطية الأمريكية أو البريطانية " (صفحة 55) .
5 – إن الثورة الشعبية التي تنبأت بها وزارة الخارجية الأمريكية والتي يسعي لها بجد الإخوان المسلمين – أو الشيوعيون – يجب استبعادها (صفحة 59) .
يقول الدكتور محمد صادق معقبًا علي بنود هذا الاتفاق :
ظاهر أن محور هذا البرنامج وهدفه (الموضح في الفقرة (5) .. هو استبعاد الثورة الشعبية التي إن نجحت ستكون نتيجتها حكمًا ديمقراطيًا نيابيًا – وقد أوضحت الفقرة (4) أن الحكم الديمقراطي المماثل للديمقراطية الأمريكية والغربية مستبعد بصفة نهائية في المستقبل القريب والمستقبل البعيد – وبدلاً من ذلك سوف يكتفي في المستقبل (بعد سنوات طويلة حسب الفقرة (3) بنوع آخر سموه " ديمقراطية " من نوع خاص (الفقرة 4/4 كالديمقراطيات الشعبية .
• من أسباب اختيار المخابرات الأمريكية لعبد الناصر :
قبل أن يقدم لنا كوبلاند في كتابه ملخص التقرير الذي قدمه روزفلت في عام 1952 إلي وزارة الخارجية الأمريكية عن نتائج اتصالاته ولقاءاته في مصر – قدم لها التقرير بالكلمة الآتية (صفحة 61) :
" إن التقرير المكتوب عن رحلة روزفلت إلي مصر وضع بأسلوب لا يفزع بعض لجان " الكونجرس " التي قد تكلف بالتحقيق في المستقبل . ولهذا لم يكن فيه تفسير صريح كامل لما بذلناه من مجهودات لكي نجد " زعيمًا " يقتله تعطشه الشفهية التي قدمها روزفلت فكانت أكثر صراحة – إذ قال للمسئولين : إن شخصًا ما يتحرق في تطلعه للسلطة ، وليس في حاجة للدبلوماسيين السريين الأمريكيين لتحريضه أو إلهاب حماسته للاستيلاء عليها " .
ثم يقول في صفحتي 59 ، 50 :
" إن سبب فشل حسني الزعيم أنه لم يكن يريد الحكم إلا من الحكم من أجل مظاهره . وكان يكفيه أن نناديه بصاحب الفخامة لكي نفعل ما تريده ويبقي عميلاً لنا .. إن هذا لم يكن يكفي لنجاح خطتنا ، لأننا نريد أن نوصل للحكم شخصًا لديه عقدة حب السلطة التي تدفعه ذاتيًا لكي يرتكب كل شيء ، ويعمل كل شيء ليبقي في السلطة بحكم حبه لها – ولا نكون نحن مسئولون عما يفعله ويرتكبه في سبيل بقائه في الحكم . كنا نريد شخصًا يكون سعيه للسلطة أقل مظهرية – لأننا كنا متأكدين بأننا متى ساعدنا مثل هذا الشخص للوصول للحكم ، فسوف نتخلص من كل مسئولية أدبية تزعج أنفسنا بسبب عقدة حب السلطة لديه – ومع ذلك فقد نضطر في يوم من الأيام طبعًا أن نفعل ذلك (أي نظهر الانزعاج) لأسباب تكتيكية (مثل تهدئة الرأي العام الأمريكي) .. " .
وفي الفصل الأخير من كتابه يؤكد كوبلاند في الصفحة 232 " أن عبد الناصر هو من ذلك النوع الذي يهتم بسلطته الشخصية ، وإلا لما وصل للحكم ولما تمسك به " . ثم تبين لنا أول النتائج التي يؤدي إليها هذا التعطش للسلطة ، وهي الاعتماد علي قاعدة البطش وصرف أموال كثيرة علي أجهزة البطش والعنف فيقول في نفس الصفحة :
" من المنطقي أن هذا النوع من القادة يجعل حكمه قائمًا علي قاعدة البطش والعنف . وهذه القاعدة الباطشة تحتاج إلي جهاز بيروقراطي وجيش تتجاوز تكاليفه طاقة مصر في الظروف العادية . وهذه النفقات الباهظة تجعله أكثر احتجاجًا إلي العون الخارجي " .
• موقف الحكومة الأمريكية من قوانين البطش والاضطهاد الناصرية :
يقول كوبلاند في صفحة 79 : " لا شك في أن الصحافة الأجنبية في خارج مصر انتقدت أساليب الحكم الناصري ، وكثير من السفارات الغربية أبدت في تقاريرها ظهور ما سموه (دكتاتورية عسكرية فاشستية في مصر) علي حد تعبير بعضهم . أما السفارة الأمريكية فكان لها رأي آخر يختلف عن السفارات الغربية الأخرى ، فإنها وإن وجهت بعض الانتقادات ، فلم يكن سبب ذلك بغضها لهذه الاعتقالات والمصادرات والحراسات والقيود علي الصحافة – كلا – بل بسبب الطريقة غير المناسبة التي فسرت بها الحكومة المصرية هذه الإجراءات للرأي العام – أي بسبب سوء الدعاية بمعني أدق .. " . ثم يتحدث – في صدد البطش – عن الشرطة المصرية فيقول في صفحة 80 :
" بالنسبة لوزارة الداخلية ، فإن رجال الأمن المصريين هم كرجال الأمن في غير مصر من البلاد ، ليسوا من أحسن طبقات الشعب – وإنما من الطبقة التي تلتحق عادة بإدارة الشرطة – لقد قال لي أحد كبار رؤسائهم مرة : إننا نسير علي اعتبار أن الناس جميعًا يخضعون للحكومة ، طالما فهموا أننا سوف نحطم رأس كل من يخرج علي طاعتها . " ربما يجئ يوم يستطيع فيه بعض الناس أن يجدوا طريقة تجعل ضباط الأمن أكثر تهذيبًا ورقيًا من ذلك – ولكن من المؤكد أن هذه الطريقة لم تكون موجودة في ذلك الوقت ولا معروفة لدي عبد الناصر ولا لدي مستشاريه الأمريكيين " . وفي صدد تعداد أنواع التعاون الأمريكي الناصري في توفير أحدث الأساليب البطش والإرهاب يقول كوبلاند في صفحة 82 :
" إن حكام مصر اشتروا أجهزة آلية ضخمة للرقابة . واشتروا مجموعة كاملة من الأجهزة الإلكترونية من أحدث ما وصلت إليه صناعة التجسس ومقاومة التجسس الأمريكي ، حتى إنه في عام 1960 أصبحت لديهم مسجلات سريعة وسهلة التركيب موضوعة تقريبًا في جميع غرف الفنادق أو يسجلوا المحادثات التي تجري في الشوارع من مسافة بعيدة ، فضلاً عن آلات تصوير بعيدة المدى تستطيع أن تصور في ظلام الليل وكانت هذه المعدات من الكثرة لدرجة أن رجال مصلحة السياحة بسبب ضرورات عملية اكتفوا باستعمالها في حالات جون أخري " . وفي صفحة 89 يعرض لرأي المراقبين الغربيين في أساليب البطش الناصرية ثم يعقب عليه برأيه الشخصي باعتباره المسئول الأمريكي لتوجيه عبد الناصر فيقول :
" لقد كان بغيضًا للمراقبين الغربيين أن يروا الملكية تصادر أو توضع تحت حراسة بهذه الطريقة المرتجلة ، وأن يروا الأفراد يسجنون ويعتقلون بناء علي مجرد الشكوك والظنون ، والصحافة مقيدة والمراسلين الصحفيين الأجانب يعاملون بخشونة في بعض الأحيان " . " ولكن من الناحية الأخرى ، ومهما تكن الصورة التي عرضت بها أساليب البطش الناصرية علي العالم الخارجي ، فإن أعمال البطش الناصرية لم تنفذ بطريقة عشوائية ، وإنما رسمت وحسب حسابها بكل برود (يظهر أن المؤلف يتكلم باعتباره قد اشترك بنفسه في عملية الحساب أو عملية التخطيط إلي جانب بعض المستشارين الآخرين) ومعني هذا أنه كان ضحيتها عناصر وأشخاص قليلون (لم يذكر العدد) ومن السهل تمييزهم (يقصد المعارضين للحكم العسكري) عن عامة الشعب . " إن عبد الناصر يبرز تصرفاته الدكتاتورية بحجة المحافظة علي نفسه وحب البقاء في الحكم ، وهي تشبه الحجة التي استعملها الإسرائيليون للقضاء علي الطوائف غير اليهودية في بلادهم " . ثم يزيد هذا الموقف إيضاحًا فيقول في صفحة 90 :
رغم أن الرسميين الغربيين الذين يكرهون عبد الناصر طالما رفعوا أصواتهم من وقت لآخر ليصفوه بالدكتاتورية والفاشية – رغم هذا – فالواقع الذي حدث هو أن الحكومة الأمريكية وإلي حد ما الحكومة البريطانية كانا يرقبان بكل انتباه عبد الناصر وهو يبني قوته الباطشة (ضد أبناء وطنه) ويتغافلون عن ذلك .
• تقرير إيخلبرجر اليهودي الأمريكي الذي اعتمده عبد الناصر دستورًا له :
استقدمت الحكومة الأمريكية الخبير " إيخلبرجر " ليشير علي عبد الناصر في كيفية " التجاوز " عن النظام النيابي (إلا ما يلزمه للتمويه) وكيفية إقامة دكتاتورية عسكرية ، لذلك اهتم هذا الخبير أول كل شيء بتوجيه عبد الناصر وجماعته إلي عدم المسالمة مع القوى الداخلية في مصر ، وإلي عدم الاعتدال في السياسة الداخلية ، وإلي وجوب الاعتماد علي قوة رادعة باطشة يكون الجيش أول أداة لها .. وكون الجيش عاملاً أساسيًا في سياسة البطش التي يتبعها الحكم الثورة معناه أن لا يكون صالحًا للحرب والدفاع عن الوطن . وقد أوضح كوبلاند أنه كان من المتفق عليه دائمًا بينهم وبين عبد الناصر أن الجيش المصري يعد فقط لأغراض داخلية – لا للحرب – وفي ذلك يقول في صفحة 85 :
" فيما يخص الموقف الأمريكي نحو استخدام عبد الناصر الجيش كقوة باطشة يجب أن نذكر ما يلي :
من أول يوم عندما كان عبد الناصر يطلب مساعدات عسكرية لم يكن هناك احتمال لأن يستعمل الجيش في أغراض عسكرية تقليدية ، ولم يكن الموضوع متعلقاً بمواد عسكرية كبيرة ، إن الموضوع أن نظامه يعتمد علي العسكريين لحمايته ، وأنه يعتقد أن الجيش إذا كان في حالة سيئة فإنه سيفقد ولاءه له " . وفي صفحتي 74 ، 75 يقول : " إن الظهور بمظهر " الاعتدال والمسالمة " من جانب عبد الناصر لم يكن سببه أنه لم يكن يعرف هدفه (أي الدكتاتورية) ولم يكن معناه أنه سيتخلي عن الدكتاتورية أو أنه سيتجه نحو نظام ديمقراطي ، كما ظن في ذلك الوقت كثير من المراقبين الغربيين – بل سبب التردد أنه لم يكن يعرف كيف يصل إلي هدفه وهو " تجاوز النظام النيابي " وبعد أن يعرض كوبلاند تقرير إيخلبرجر يقول في صفحة 77 :
" لقد كانت نقطة الانطلاق (في السياسة الناصرية) هي ضرورة وجود قاعدة للبطش(أي الدكتاتورية والإرهاب) حسب الخطوط التي رسمت لذلك في تقرير إيخلبرجر " . وفي صفحة 91 يقول كوبلاند : " يجب أن نذكر دائمًا في تعاملنا مع عبد الناصر أن قاعدة " البطش الداخلي " هي أهم شيء عنده . و لذلك لا نعجب إذا رأينا أنه – بعد أكبر هزيمة ساحقة في التاريخ العسكري الحديث – يجلس عبد الناصر وأعوانه لا ليبحثوا كيف ينقذون مصر ويبنونها ، بل ليبحثوا كيف يستعدون سيطرتهم علي الجيش . وسيبقي هذا هو الشغل الشاغل الأول لهم .. " . ثم يختتم الفصل الذي خصصه في كتابه لتبرير إرهاب عبد الناصر بقوله في صفحة 176 : " إننا – نحن الأمريكيين – نستفيد من نفوذ عبد الناصر لتنفيذ بعض مشروعاتنا مثل مشروع " أريك جونستون " الخاص بمياه نهر الأردن ، وهو مشروع لا ينمكن تنفيذه – كما يقول جونستون نفسه – لا بنفوذ من هذا النوع " الناصري " ومثال آخر : محاولاتنا المتكررة لجعل عبد الناصر يتولي زعامة " تهدئة التوتر " بين العرب وإسرائيل .. وإن حكومتنا قد بدأت عملية (علي الأقل) تضمنت تأييدنا لزعامة عبد الناصر لتمكينه من تنفيذ ذلك " . ويظهر أن هذا – في نظر كوبلاند – هو فصل الخطاب ، فمن أجل إسرائيل ومصلحة إسرائيل يباح كل شيء ويستباح كل شيء حتى " الإرهاب " .
• القاعدة الغوغائية لنظام عبد الناصر :
في ختام الفصل السادس من كتابه يقول كوبلاند :
" إن استعمال عبد الناصر للعناصر المكونة لقاعدته الغوغائية مثل الدعاية والإعلام ، والحزب و التنظيم السياسي ، والتضخم الحكومي – إنما يقصد بها إبقاء زعامته . وإذا كنا سنري في الفصل التالي كيف اتجه إلي " البونابرتية " إلا أن وجهة النظر الناصرية هذه كانت وستبقي أحسن شيء لخدمة أهدافنا ، طالما عملنا حسابنا للاستفادة من محاولاته للاحتفاظ بالتأييد الشعبي وتأثير ذلك علي تحركاته في لعبة الشعوب " .
• صفقة الأسلحة السوفيتية كنموذج " للعبة الشعوب " :
يقول كوبلاند في صفحة 46 : " إن الزعيم أو الزعماء الذين يستطيعون القيام بانقلاب للاستيلاء علي الحكم ، ويريدون أن يضمنوا البقاء فيه والقيام بدور " إيجابي " (من وجهة النظر الأجنبية طبعًا) يتحتم عليهم أن يكونوا من " نوع " يبعد عنهم شبهة كونهم عملاء لنا ، ويبعدهم عن التصرف بطريقة توافق مزاجنا بصفة كاملة . وبالاختصار ، فإننا عندما نساعد زعيما للوصول إلي الحكم لكي يحقق لنا " الخير " الذي نتطلع إليه يجب أن نستعد لمواجهة بعد المبادرات " السيئة " ضدنا التي يضطر إليها من أجل بقائه في الحكم بعد وصوله إليه . وإن الجهاز السياسي الذي يكون تحت سيطرته إذا كان طبيعيًا (يجب أن يكون كذلك ليضمن البقاء) سوف يكون بداخله عناصر معادية لمصالحنا . " إن النقطة الأساسية في هذا الكتاب هي أن " إستراتيجيتنا " علي الأقل في علاقتنا بالدول غير الغربية ، يجب أن تفترض أن مائدة " اللعب " عليها عدد من اللاعبين ، الذين يتحتم عليهم ألا يكونوا دائمًا علي مزاجنا ، ومع ذلك نكسب منهم بواسطة تكتيك مختلف عما نستعمله مع خصومنا في اللعبة ، مثل السوفييت والصينيين – وكذلك يختلف عما نستعمله مع أصدقائنا الذين نلعب معهم " لعبة تعاون " . " .
يقول الدكتور محمد صادق .. ولكي نعطي القارئ صورة عن كيفية حبك مثل هذه المبادرات المسرحية وكيفية إخراجها بتعاون الطرفين الذين يتقاسمان أدوارهما حتى تؤدي إلي غرضها " الديماجوجي " المطلوب (زيادة شعبية الحاكم الناصري) بموافقة القوي الأجنبية وتواطئها وتشجيعها ومساعدتها – ننقل له قصة " صفقة الأسلحة السوفيتية " التي عقدها عبد الناصر في سبتمبر 1955 ، واستغلت أحسن استغلال في الإعلام في داخل مصر وخارجها في جميع أنحاء العالم لإظهار عبد الناصر أنه أكثر زعماء آسيا وأفريقيا استقلالاً ، وأكثرهم جرأة وتحديًا للسياسة الأمريكية . ولكن الجماهير لا تعرف أن سبب هذه الجرأة وهذا الإقدام هو حصوله مقدمًا علي موافقة أمريكا وتأييدها لهذه العملية . بل إن الكاتب " كوبلاند " يشرح لنا كيف أن الأمريكيين قاموا بالدور الرئيسي في إخراج هذه العملية بهذه الصورة لمصلحتهم هم أولاً ، وعبد الناصر معهم .
ونستعرض الآن الكيفية التي أخرجت بها " المبادرة المسرحية " وعرضت عرضًا مثيرًا بتدبير المخابرات الأمريكية حسبما أوضح لنا المؤلف " كوبلاند " بإسهاب وتفصيل في كتابه :
1 – أول شيء يكشفه لنا " كوبلاند " أن المخابرات الأمريكية كانت علي علم بالمفاوضات الجارية بين عبد الناصر وبين موسكو لعقد هذه الصفقة ، وذلك قبل شهر أغسطس عام 1955 . إنه يقول لنا إنه وصل واشنطن عائدًا من مصر في أواخر أغسطس (صفحة 132) ، و هناك اطلع بوزارة الخارجية علي برقية من السفير " بايرود " عن العرض السوفيتي تضمنت ما يلي حسب روايته : " إننا الأمريكيين " يحسن أن نراجع أفكارنا عن إعطاء الروس مساعدات عسكرية لمصر – إننا إذا لم نقدم بعض المساعدات العسكرية بسرعة ، فإن عبد الناصر سوف يقبلا عرضًا روسيًا ذكرت المخابرات الأمريكية أنهم قدموه له .. وأنه إذا حدث ذلك فإنه يعتقد أن النفوذ الروسي سيزداد في المنطقة كما حدث فعلاً بعد ذلك (صفحة 133) .
ويقول كوبلاند تعليقاً علي هذه المسألة إنه رغم أهميتها فإنها لم تكن مثيرة لعله يقصد أنها لم تكن مفاجأة له أو لوزارة الخارجية – صفحة 133) وإن الموضوع عرض علي اللجنة التي كان يشترك فيها ، وأخذ طريقًا روتينيًا لا يشير إلي أي اهتمام من جانبهم له (صفحة 133) . معني ذلك أن الأمريكيين أهملوا الموضوع ولم يفكروا قط في منع المفاوضات بين عبد الناصر والروس ، ولم يطلبوا منه عدم الاستمرار فيها طول هذه المدة – من أغسطس إلي منتصف سبتمبر .
2 – الأمر الثاني الذي كشفه أن عبد الناصر نفسه قبل أن يتمم الصفقة ، وقبل أن يوقعها بعث لهم " يستأذنهم " في ذلك ويطلب من روزفلت يريد أن يعترض علي ذلك فإنه يرحب بهذا الاعتراض " .
3 – إن هذا " الاستئذان " لم يحدث أي اضطراب أو مناقشات أو دراسات ، كأن الأمر كان مدروسًا وكان الجواب حاضرًا معدًا – إذ قرر روزفلت وكوبلاند أن يسافرا إلي القاهرة ، وسافرا فعلاً في اليوم التالي لوصول رسالة عبد الناصر .
4 – إن الجواب الذي حمله الاثنان إلي عبد الناصر كان مفاجأة له – لأنه لم يكن لديهم أي اعتراض .. وهكذا قال (صفحة 133) :
" استقبلنا في المطار أحد أعوان عبد الناصر وأخذنا رأسًا إلي مسكنه في الطابق الأعلى من مبني مجلس قيادة الثورة ، فوجدناه في انتظارنا علي غاية السرور ، وكان يتوقع أن يناقشه روزفلت ويسمع حججه ، ولكنه فوجئ لأن روزفلت بدلاً من أن يناقشه ويحاول أن يقنعه بالعدول عن الصفقة ، لم يعترض عليها " .
5 – إن السبب الذي ذكره روزفلت لتأييد إتمام الصفقة يتضمن شقين : أولهما أن يستفيد عبد الناصر من الشعبية الناتجة عنها ، أما الثاني فهو المقابل الخفي له وه إعلانه بأنه علي استعداد للقيام بمجهود " مشترك " مع إسرائيل لإقامة سلك دائم في المنطقة .. وهذه هي عبارته (صفحة 133) : " قال روزفلت : إذا كانت الصفقة بهذه الضخامة فقد تزعج البعض (من الأمريكيين والغربيين) ، ولكنها علي العموم ستجعل منك بطلاً عظيمًا 0 فلماذا لا تستفيد (أنت) من هذه الشعبية المفاجئة لتقوم بعمل يليق بسياسي محنك (لصالحنا نحن) ، إنه لن يقلل من شعبيتك شيئًا إذا قلت علي سبيل المثال : - " لقد حصلنا علي هذه الأسلحة لأغراض دفاعية فقط ، وإذا أراد الإسرائيليون أن ينضموا إلينا في مجهود مشترك لقيام سلم دائم في المنطقة فسيجدونني علي استعداد لذلك " .. أو شيئًا من " هذا القبيل " .
6 – طبعًا لم يقل لنا المؤلف " كوبلاند " شيئًا عن موقف إسرائيل ، ولكننا نفترض أن الإجابة التي فاجأ بها روزفلت عبد الناصر لا يمكن أن تكون قد أعدت إلا بعد مشاورات مع إسرائيل قطعًا أن يتجه عبد الناصر والعرب إلي التسلح من الكتلة الشرقية لتستأثر هي وحدها بالتزود بالأسلحة من الدول الغربية – وهذا هو التعليل الوحيد لموافقة المخابرات الأمريكية علي الصفقة ومواجهتها بهذا البرود وعدم إيذاء آي محاولة لإيقافها أو الاعتراض عليها ، بل إن إعداد الخطة للاستفادة منها وتوزيع الفائدة بينهم وبين صديقهم عبد الناصر وصديقتهم إسرائيل فينال هو الشهرة ، وينالوا هم خطوة عملية للصلح مع إسرائيل ، وتنال إسرائيل أمريكية تفرض بها الصلح عند الضرورة بطرقتها الخاصة .
7 – لقد ربط روزفلت بين تطمين إسرائيل ، وبين فرصة الحصول علي شعبية مفاجئة ، ثم ربط بين الأمرين وبين ناحية ثالثة هي تدعيم مركز عبد الناصر في أوساط الدول المحايدة أو الدول الأسيوية والأفريقية – لإتمام دوره الذي بدأه في باندونج .. هكذا قال لنا (صفحة 133 الفقرة الأخيرة) :
" لقد ناقشنا الفكرة (التي عرضها روزفلت وهي تطمين إسرائيل بإعلان الاستعداد للسلم الدائم ..) حتى منتصف الليل ، ورأينا أن يكون " تصريح " عبد الناصر بهذا الصدد بأسلوب سياسي راق يكسبه هتاف الجميع ، ليس فقط الثوريين بل المحافظين أيضًا من أبناء وطنه بل من البلاد الأخرى وخاصة الكتلة الشرقية – ثم يتبع ذلك بتزعم حملة تدعو للحياد في السياسة الدولية تكون مؤيدة من جميع الجهات (الغربية والشرقية وغير المنحازة) " .
8 – أضاف روزفلت بأنه إذا تم ذلك فإن عبد الناصر فوق رضاء أمريكا موافقتها سيحصل منها علي مساعدات واقتصادية (صفحة 133) . " إلي جانب هذا يستمر عبد الناصر في إصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية في الداخل بمساعدة أمريكا " .
9 – اتفق علي أن يقوم الكاتب نفسه (كوبلاند) بتحضير مسودة للفقرة التي اقترحها روزفلت متضمنة التصريح الخاص بالسلم مع إسرائيل (نهاية صفحة 133 وأول صفحة 134) – وفي مساء اليوم التالي عرضت المسودة علي عبد الناصر فوافق عليها مع تغير عبارة " السلم مع إسرائيل " بأن وضع بدلها " تخفيف التوتر بين العرب وإسرائيل " (صفحة 134) .
10- إن ذلك كله كان علي درجة كبيرة من السرية والتكتم في الأوساط الأمريكية ذاتها ، حتى إن أحدًا في وزارة الخارجية لم يعلم به سوي وزير الخارجية المستر " دلاس " بل إن السفير الأميركي نفسه المستر " بايرود " لم يعلم بوصولهم ولا بما تم بينهم وبين عبد الناصر وأصحابه ، وفوجئ برؤيتهم في مساء اليوم التالي أثناء حفلة عشاء (صفحة 137) .
11- في مساء اليوم التالي أثناء اجتماعهم في مسكن عبد الناصر فوجئوا بزيارة السفير البريطاني له . وقد قص المؤلف (كوبلاند) علينا قصة هذه الزيارة ليبين لنا كيف جاء السفير وقابل عبد الناصر وخرج وهم في الغرفة المجاورة دون أن يعرف (لا هو ولا السفير الأمريكي) شيئًا عن وجودهم ولا عما تم بينهم وبين عبد الناصر – وكانوا هم يتناولون الويسكي من زجاجة من نوع " الاسكوتش " يحتفظ بها عبد الناصر عادة بمنزله للزوار الممتازين (صفحة 134) " . ويصف لنا المؤلف (كوبلاند) مشهد حضور السفير البريطاني وخروجه وهم يرقبونه ويتضاحكون ساخرين منه فيقول في (صفحة 135) :
" كنا نرقب الأنوار المضاءة تشع علي مبني السفارة البريطانية في الجانب المواجه لنا من شاطئ نهر النيل .. وشاهدنا سيارة السفير البريطاني وهي تخرج به من السفارة إلي الشارع الرئيسي (الكورنيش) ثن تعبر الجسر (قصر النيل) ونحن نتحدث مع عبد الناصر في الموقف الذي يتخذه من السفير البريطاني (عندما يسأله عن صفقة الأسلحة) الذي كان مثل سفيرنا بايرود لا يعلم بوجودنا في القاهرة (ومن باب أولي لا يعلم برأيهم في الموافقة علي الصفقة وتشجيع عبد الناصر عليها) ، ذلك أن وزير خارجيتنا المستر فوستر دلاس لم يخبر أحدًا في وزارة الخارجية (لا بسفرنا ولا بالغرض منه طبعا) ، وكذلك لم يخبر البريطانيين وكذلك لم يخبر سفيره بالقاهرة لا عن دعوة عبد الناصر لنا ولا عن أننا حضرنا إلي القاهرة بناء علي هذه الدعوة لإقناعه بإتمام الصفقة صفقة الأسلحة التي تعد خطورة جريئة تؤدي إلي افتتاح مرحلة جديدة من الصداقة (معنا أو مع إسرائيل ؟) ومن التطور الاقتصادي (لاحظ كل هذه الاحتياطات لسرية الموضوع) .. لقد كنا نبحث ماذا سوف يقول (رئيس جمهورية مصر) للسفير البريطاني في هذه الظروف (ظروف السرية المطلقة) ، فقال روزفلت لكي تكسب الوقت إلي مساء الغد (حينما يعلن نبأ الصفقة في خطبه له) قل له إن الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا . وبهذا يكون تأثيرها أقل عنفًا حيث إن التشيكيين هم مصدر رئيسي للأسلحة بالنسبة لإسرائيل .. " .
ولم تستمر زيارة السفير البريطاني أكثر من خمس دقائق ، ولكنها كانت موضوع تعليقات ونكات طول الليل بين الأصدقاء وخاصة بين المؤلف (كوبلاند) وصديقه " زكريا محيي الدين " الذي سأله أن يتصور دهشة السفير البريطاني لو علم بأنكم هنا في غرفة مجاورة للغرفة التي قابل فيها عبد الناصر ، وكيف تكون ملامحه لو أن روزفلت أو كوبلاند دخل عليهما فجأة وبيده كأس الويسكي . وقال لعبد الناصر :
عفوًا .. صديقي جمال .. لقد انتهت الصودا .. فمن أين نحصل علي مزيد منها .. !! يقول الدكتور محمد صادق :
إن الذين عاشوا ظروف هذه المسرحية وعاصروها لم يسمعوا شيئًا مما ذكره المؤلف ، ولم يعرفوا إلا ما نقلته وكالات الأنباء من أخبارها ، وهم يذكرون أن الصورة التي عرضت بها في الصحافة المصرية والصحافة الأمريكية والصحافة العالمية كانت تقنع الرأي العام ورجال السياسة في كثير من الدول بأن هذه الصفقة كانت تحديًا للسياسة الأمريكية ، وأن عبد الناصر دخل بسببها في مجابهة مع أمريكا وفي مشكلة مع العالم الغربي ، وخرج منها منتصرًا ، وبذلك أصبح بطلاً في نظر الشعوب الأفريقية والأسيوية ، وبصفة أخص الشعوب العربية التي تكره الغرب بسبب موقفه المؤيد لإسرائيل . ولم يكن ذلك كله إلا نتيجة لاستعمال أساليب التمويه والخداع وبتعاون وتواطؤ من الجانبين اللذين أقنعا العالم بأنهما علي خلاف كبير في الوقت الذي كان الاتفاق بينهما علي أتمه .
• هل كان إنشاء هيئة التحرير وأخواتها توجيهًا أمريكيًا أيضًا ؟
يسمي كوبلاند هذه الهيئات التي تنشئها الحكومة " قاعدة غوغائية " . وإذا رجعنا إلي تقرير " إيخلبرجر " سنري كيف أن هذه " القاعدة الغوغائية " إنما هي وسيلة من وسائل التمويه لتمكين النظام الدكتاتوري من استعمال الألفاظ والمصطلحات التي يستعملها النظام الديمقراطي استعمالاً زائفًا مضللاً يصرف الجماهير عن المطالبة بحقوقها الديمقراطية وحرياتها السياسية كما يمكنه من استعمال وسائل البطش والعنف وراء هذا الستار الغوغائي اللفظي . وقد ألحق كوبلاند في آخر كتابه نص تحرير إيخلبرجر فنري هذا التقرير يقول في صفحة 252 :
" كل هذه المخاطر (مخاطر وجود منافس للحاكم الثوري أو شريك في السلطة) يمكن إبعادها إذا قامت الحكومة الثورية خلال الفترة التي تتمتع فيها باحتكار السلطة والنشاط السياسي (القانوني) – باستغلال الامتيازات التي تنفرد بها دون غيرها ، لتضع الأسس لنظام دستوري " يقوم علي سيطرة الحزب الواحد – وهذا الحزب هو الذي يرث " الثورة " – ثم يرسم للحكام الناصريين كيف ينشئون مثل هذا " الحزب " ويعملهم كيف يموهون ويداهنون ويتحايلون فيقول في نفس الصفحة وما بعدها :
" في فترة حل الأحزاب وتعطيل الانتخابات ، يجب أن لا تسمي هذه " المنظمة " حزبًا سياسيًا ، ولكن يجب أن تنظم في الواقع تنظيمًا حزبيًا حقيقيًا ، فيكون لها " وحدها " مركز رئيسي ومراكز الأقاليم وفي المدن والقرى ، ويكون لها ممثلون ومسيرون إداريون ذوو سلطات سياسية وإدارية ، ويكون لها سكرتاريات من أشخاص متفرغين تدفع لهم مرتبات ، ويكون لهم مرتبات ، ويكون لها أجهزة إعلامية ومطبوعات ونشرات .. إلخ – وزيادة في التمويه يكون لهذه المنظمة غرض علني غير غرضها الحقيقي " . " إن الغرض العلني لهذه المنظمة هو خلق مجتمع " أخوي " يضم المؤيدين لأهداف " الثورة " . ولكن الغرض " الحقيقي " هو إيجاد واجهة دعائية للحكومة لكي تنشئ حزبًا سياسيًا في المستقبل باجتذاب طوائف من الشعب للنشاط السياسي الموجه من الحكومة وتدريبهم علي هذا العمل .. " .
ويواصل إيخلبرجر عرضه لأساليب إنشاء هذا الحزب الحكومي فيقول في صفحة 253 :
" كيف تصل إلي هذه الأهداف هو ارتباطها الوثيق بالحكومة " الثورية " نفسها – علي أن تبقي هذه الصلة غير رسمية – إنها ستكون فقط منظمة " تسمح " بها الحكومة ، علي أن يكون قادتها هم ذاتهم قادة الحكومة في الغالب – وعندما يكون الوضع هكذا ، فإن " جماهير " الناس الذين استفادوا من " الثورة " والذين يدينون بالولاء لقادتها ، سوف تجذبهم عضويتها " أوتوماتيكيًا " ويمكن أن يتوفر عدد من المسيرين من بين موظفي الحكومة – لأن جميع موظفي الحكومة يمكن بل يجب أن ينضموا لها ويكون ذلك شرطاً لبقائهم في الوظيفة . " وزيادة علي ذلك ، فإن السلطة الواسعة التي تتمتع بها الحكومة في الإدارة ، وفي الأشغال العامة ، يجب أن توضع في خدمة هذه المنظمة . ففي حدود صلاحيات الإدارة والسياسة " الوطنية " تصبح مراكز المنظمة " وكالات أعمال " لخدمة الأفراد والطوائف الذين لهم مصالح عند الحكومة وموظفيها ، أو يريدون الوصول إلي المسئولين (عن طريق الانضمام إلي المنظمة الحكومية) .. يجب أن يصبح واضحًا للجميع أن التعاون مع هذه المنظمة هو السبيل المؤكد لقضاء المصالح من الجهات الحكومية – علي ألا يعلن ذلك بصفة رسمية . ومقابل هذه " المصالح " تحصل المنظمة علي انضمام كثير من الأفراد ، الذين قد يبقون بدون ذلك غير مهتمين بها – ويمكنها أيضًا أن تحصل منهم بسهولة علي اشتراكات أو معاونات لها في نشاطها (كالاستخبارات مثلاً) .. " . ويشير كوبلاند إلي نتيجة تنفيذ عبد الناصر لما جاء في تقرير إيخلبرجر في هذه الناحية فيقول في صفحة 108 :
" في أوائل عام 1967 ، كان عند عبد الناصر مليون من الموظفين المدنيين تقريبًا – فضلاً عن القوات المسلحة نصف مليون ، وموظفي الشركات المؤممة – في حين أن مؤسسة " ألن المصرية لا يمكن أن تستخدم أكثر من مائتي ألف موظف (الخمس) ، وكل زيادة علي ذلك تعطل عمل الإدارة الحكومية . وهكذا فإن عبد الناصر يحصل علي مليون من الأعضاء في حزبه من طبقة الموظفين المتوسطة لتدعيم سلطته – وأغلبهم مقيم في القاهرة والإسكندرية ، مقابل ذلك يلقي بالإدارة الحكومية في الفوضى .. " .
• مدي مساعدة أمريكا عبد الناصر في الدعاية ضد الإخوان المسلمين :
لكي نعرف مدي اهتمام القوي الخارجية بمساعدة عبد الناصر في توجيه أجهزة الإعلام لتحطيم الإخوان المسلمين نرجع إلي ما قاله كوبلاند في صفحتي 83 ، 84 حيث يقول :
" إن الدعاية الحكومية قد استخدمت علي كل حال بطريقة ناجحة كوسيلة لمحاربة خصوم النظام الناصري ، وإظهارهم بصورة بغيضة تبرر استخدام العنف والبطش ضدهم . وهذا الاتجاه قد حظي بمباركة الأمريكيين وتأييدهم الكامل ، فإن السفير " كافري " عمل الترتيب اللازم مع عبد الناصر لكي تستعير الحكومة المصرية أكبر الخبراء في العالم الغربي كله للدعاية " السوداء " (أي التشهير بالخصوم) والدعاية " السمراء " أو " الرمادية " (أي التشهير بالخصوم عن طريق مدحهم والثناء عليهم) – هذا الخبير اسمه " بول لاينبرجر " .. الذي علم المصريين الذين يعملون بالإعلام الحكومي كيف يحطمون الشخصيات التي تحيطها الجماهير بالقداسة والإعجاب (مثل اللواء نجيب مثلاً) عن طريق التظاهر بالثناء عليهن – وهو أسلوب مازال المصريون إلي اليوم يستعملونه ضد خصومهم في العالم العربي " .
يقول الدكتور محمد صادق : ويظهر أن المعاونة الخارجية للنظام الناصري في هذا المجال لم تقتصر علي المساعدة " الفنية " البحتة بل إنها تجاوزت ذلك إلي حد التنسيق بين أجهزة الإعلام الناصرية التي تقوم بها هذه الأجهزة للوصول إلي هدف واحد – ضد " عدو مشترك " . ومن أطراف نماذج هذا التعاون الأمريكي الناصري في ميدان الدعاية " السوداء " والدعاية " السمراء " هو ما ذكره كوبلاند عن الدور الذي قام به الأمريكيون بواسطة مخابراتهم لمعاونة الإعلام المصري في مهاجمة " الإخوان المسلمين " والتشهير بهم .
يظهر أن مهمة التشهير بالإخوان المسلمين التي كانت تقوم بها أجهزة الإعلام الناصري بطريق الدعاية " السوداء " كانت صعبة جدًا بسبب ما كانت تتمتع به حركة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت من هالة البطولة بسبب أعماقها الفدائية ضد القواعد الانجليزية في القنال ، وضد الإسرائيليين في فلسطين قبل ذلك – فضلاً عن مقاومتهم للشيوعية – ولم تجد الدعاية الناصرية " المواد " التي تستند إليها في اتهامهم والتشهير بهم – وكوبلاند قدم لنا الدليل علي أن المخابرات الأمريكية خفت نجدة النظام الناصري في هذا الصدد . إنه يذكر لنا كيف أن " المخابرات المركزية الأمريكية " تدخلت لدي المسئولين في واشنطن وطلبت منهم أن يتصلوا بالمسئولين في إسرائيل ، لكي تتولي الدعاية الصهيونية نفسها " معاونة " الدعاية الناصرية بطريقة غير مباشرة وغير ملحوظة – باستعمال الأسلوب الذي سماه المؤلف بالدعاية " السمراء " – والتي كان أكبر خبير فيها هو " لاينبرجر " الذي استعارته الحكومة المصرية ، والذي عرفنا به المؤلف وقدم له في صفحة 84 بقوله :
" إن " بول لاينبرجر " أكبر خبير في العالم العربي للدعاية السوداء والدعاية السمراء ، وكان يعمل أثناء الحرب العالمية الثانية بأجهزة الإعلام الأمريكية . وكان يذيع باللغة الألمانية ما يظنه الألمان العاديون في مصلحة ألمانيا ، ولكن كان هدفه الحقيقي تحطيم الروح المعنوية للشعب الألماني " . والغريب أن المؤلف (كوبلاند) يؤكد أن الدعاية الشيوعية قد سبقت الأمريكيين في استعمال هذا الأسلوب ضد الإخوان المسلمين عن طريق توجيه إذاعة موسكو للثناء علي الإخوان المسلمين وذلك لمعاونة عبد الناصر علي توجيه تهمة " التحالف " مع الشيوعيين إلي الإخوان المسلمين مما يترتب عليه أن يفقدوا أنصارهم (الذين يؤيدونهم لأنهم أكبر أعداء الشيوعية) – وعند ذلك سارعت المخابرات الأمريكية ووسطت " واشنطن " لإقناع إذاعة إسرائيل بأن تدخل العملية وتقتدي بإذاعة موسكو في استعمال هذا الأسلوب بالثناء علي الإخوان وإظهارهم بأنهم أكبر قوة شعبية في مصر وأنهم سوف يحطمون الحكم الناصري بما لديهم من قوة ونفوذ – وبذلك استطاعت أجهزة الإعلام الناصرية أن تستغل دفاع الإذاعة الإسرائيلية عن الإخوان المسلمين لكي تزعزع معنويات أنصارهم (الذين يؤيدونهم هل اعتبار أنهم أكبر أعداء إسرائيل) فيفقدوهم – كما فقدوا أنصارهم يؤيدونهم لأنهم أكبر أعداء الشيوعية .
هذه هي الصورة التي يقدمها لنا المؤلف " كوبلاند " في كتابه صفحة 156 وما بعدها ننقلها للقارئ لكي يري مدي الميكافيلية التي تصل إليها أجهزة الإعلام – وأجهزة المخابرات التي توجهها – وكيف تصل إلي تنسيق الأدوار فيما بينها إذا كان العدو الذي يريدون القضاء عليه في نظرهم " عدوًا مشتركًا " وكان خطره علي مصالحهم جميعًا يبرر تعاونهم في التشهير بهم لدي أنصارهم في الرأي العام المصري والعربي) . علي عبد الناصر . وهكذا تعاون السوفيتيون والإسرائيليون (بتحريض من المخابرات الأمريكية باعترافه) علي " مدح " الإخوان المسلمين . وهي العملية التي تنتج عما يسمي بأسلوب " مدح العدو " (للقضاء عليه وتشويه سمعته لدي أنصاره ..) " وهكذا يعترف لنا المؤلف " كوبلاند " الأمريكي بأن " المخابرات المركزية " كانت تعتبر " الإخوان المسلمين " عدوًا لها 0- في حين أن معارضة الإخوان للحاكم الناصري كانت مسألة داخلية بحتة في مصر – فضلاً عن ذلك فإنها كانت تعلم أن إسرائيل أيضًا كانت تعتبرهم كذلك " عدوًا " لها ، وكذلك الشيوعيون - إنه يؤكد لنا أن المخابرات الأمريكية قامت بدور التنسيق والوساطة بين أجهزة الإعلام الناصرية والإسرائيلية في هذا الموضوع – فضلاً عن أجهزة الإعلام السوفيتية – التي لا نعرف للآن من قام بدور الوسيط بينها وبين الأجهزة المصرية .
• كيف استغلت قضية فلسطين في الديماجوجية الإعلامية ؟
يقول الدكتور محمد صادق : ليس قراؤنا بحاجة إلي من يشرح لهم كيف استغلت قضية فلسطين في الدعاية للزعيم الناصري وإظهاره بمظهر البطولة الأسطورية ، بترديد أناشيد الحرب ضد إسرائيل " ومن وراء إسرائيل " وغير ذلك وأمثاله من " الهجومات اللفظية التي يقصد بها الاستهلاك الداخلي " . ولكن الغريب الذي يتحير أمامه القراء هو ما يدعيه " كوبلاند " من أن عملية الاستغلال الديماجوجي لقضية فلسطين نوقشت ودرست في بعض الأوساط التي تخطط للسياسة الأمريكية ، وتقرر أن يسمح بها للزعيم المنتظر الذي يتعاون معهم في الخطوات العملية المؤدية إلي " الاعتدال " في الوقت الذي يكون كلامه مؤديًا إلي الإثارة والاستفزاز والتهييج لعواطف الجماهير الساذجة . ويؤكد لنا كوبلاند أن ذلك كان من ضمن المسائل التي قررتها " لجنة الخبراء " في نهاية عام 1951 ، والتي أعدت الخطوط العريضة للعملية الكبرى ، عملية الانقلاب المصري .
وقد أورد " كوبلاند " في (صفحة 130) توضيحًا لهذه السياسة رأي السفير الأمريكي في مصر " بايرود " حيث يقول للخارجية الأمريكية : " إنه يري إمداد عبد الناصر بالمساعدات العسكرية لأنه من زعماء العرب الذين يمكن للدبلوماسيين أن يتفاهموا معهم وأنه يمكن له أن يناقش معه أي موضوع بما في ذلك احتمالات الصلح مع إسرائيل .. وإنه لذلك يري ضرورة بقاء عبد الناصر في الحكم " . هذا الأسلوب الناصري يحقق للحاكم هدفه الشخصي بالبقاء في الحكم معتمدًا علي قاعدتين متعارضتين – مساعدة خارجية من أعباء قضية فلسطين ، وحماس شعبي من شعبه الذي يصدق أنه سوف يسترد له فلسطين – ولكن الأخطر من ذلك هو كما قدمنا أن القوى الخارجية لا تترك الحاكم الناصري ينفرد وحده بثمار هذه الديماجوجية الاستغلالية لقضية فلسطين ، فإن لها أهدافها الخاصة وخططها التي بنيت لاستغلال هذه الديماجوجية لصالحها فعلاً . وإن كانت هي ضدها قولاً وظاهرًا .
إن الهدف الميكافلي للقوى الخارجية من الديماجوجية الناصرية وصفه " كوبلاند " ولمح إليه دون أن يوضحه – ولكن الكتاب كله في جميع فصوله وعباراته يكشف عنه ، إن هذا الهدف لا يخرج عن تصفية النزاع العربي الإسرائيلي – ولكن علي الصورة التي يريدها الطرف الأقوى (وهو أكبر دولة علي ظهر الأرض) ، والوسيلة الميكافيلية الخطيرة لتحقيق هذا الهدف ليس مقاومة الحماس الشعبي العربي ضد إسرائيل – بل علي العكس من ذلك قد أصبحت الوسيلة هي استغلال هذا الحماس لتمكين إسرائيل وحلفاؤها ؛ لأن عملية بسيطة يمكن أن تحول هذه الاستثارة لمصلحة إسرائيل إذا ترتب عليها استفزاز الشعوب ودفعها إلي عمل أهوج يترتب عليه صدمة عنيفة " تجهض " المقاومة العربية وتقتلها . إن مما أسفرت عنه تجارب " الخبراء " في الحرب النفسية ، وفي الأسلحة السيكولوجية هو أن القضاء علي حركات المقاومة يتم بصورة أتم وأكمل عن طريق " الإجهاض " الذي ينتج عنه تحطيم معنويات الجماهير ، زعزعة إيمانها بقضاياها وعقائدها ومبادئها ، وتحطيم ثقتها بنفسها . إنه يكفي لذلك استثارتها بالوسائل الديماجوجية . واستفزازها بالأساليب الغوغائية ، ودفعها بذلك إلي العمل قبل أوانه ، أو إلي التطرف والعنف في غير موضعه ، أو في غير وقته – وبذلك يأخذ حماسها للقضية صورة ارتجالية فوضوية همجية ، تؤدي إلي نتائج وخيمة وإلي " نكسات " وكوارث ، تصبح الجماهير أمامها مهيئة نفسيًا للعملية الجراحية التي يقصد بها (استئصال " القضية " أو " العقيدة " من نفوس الجماهير) عن طريق إقناعها التدريجي بأن الخطأ ليس من جانبها ، وليس من جانب قادتها (الذين دفعوها إلي العمل قبل أوانه أو يسيرون علي خطط خاطئة فاسدة) وإنما الخطأ في أصل القضية ، والعيب في جوهر العقيدة ، وما عليها إذا كانت تريد " علاج " القضية إلا أن تتخلص منها أو تدبر ظهرها لها ، وبذلك تتم عملية " الإجهاض " وتؤدي إلي استئصال القضية ودفنها .
وهكذا نري أن استغلال الديماجوجية هو من أخطر الأسلحة المعروفة في باب " الميكافيلية " السياسية .. ومما لا شك فيه أنه إذا كان مجرد فهم هذه " العمليات " الميكافيلية صعبًا علي الشخص العادي ، فإن التخطيط لها وإعدادها وتنفيذها أصعب من ذلك ، ويحتاج من المدبر والمخطط إلي أجهزة ضخمة من الخبراء والباحثين وذوي التجربة ، التي لا تتوفر عادة إلا في أجهزة تغذيها دول عظمى أو ما يماثلها من قوى عالمية . ولا شك في أن دراسة علمية لكارثة عام 1967 هي الكفيلة بأن تثبت لنا إلي أي حد كانت الشعوب العربية ضحية مخطط ميكافيلي من هذا القبيل ..
• ماذا يقول " كوبلاند " عن كارثة 1967 ؟ :
في صفحة 11 في مقدمة كتابه يوجه هذه الأسئلة للقراء :
• ما الذي جعل المصريين والبريطانيين يتخلون عن مواقفهم المتطرفة في مشكلة قواعد السويس عام 1954 ؟
• وما الذي أسقط حكومة "مصدق " في إيران عام 1953 ؟
• وما الذي جعل " الناصريين " يتسلقون إلي القمة في الحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 ، في الوقت الذي كانت فيه جنود البحرية الأمريكية هناك ينظرون إليهم ولا يحركون ساكنًا ؟
• ولماذا امتنع عبد الناصر عن الدخول في حرب مع إسرائيل في أوقات كثيرة عندما كانت أمامه فرص للانتصار ثم يدفع بلاده إلي حرب خاسرة في مايو عام 1967 في وقت كان فيه غير مستعد لها علي الإطلاق ؟
والإجابة عما يخص عبد الناصر من هذه الأسئلة يجيب كوبلاند في صفحة 239 من كتابه فيقول : " إن عبد الناصر لا يعمل كما يظن كثيرون نتيجة استثارة أو نزوة أو أي دافع من البواعث السطحية ، إننا (نحن رجال المخابرات الأمريكية) ، قد رسمنا الطريق أمام عبد الناصر ، فسار فيه وقد تكون النتائج غير ذلك لو أنه أعد إعدادًا من نوع آخر " . إن " كوبلاند " يقول ذلك دفاعًا عن عبد الناصر أمام الأمريكيين ، وهو في سبيل هذا الدفاع لا يجد غضاضة في أن يصرح لقرائه بأن عبد الناصر لم يدفع شعبه للهزيمة والكارثة نتيجة نزوة أو استثارة عارضة ، ولا بسبب تطورات مفاجئة وغير متوقعة – بل إنه سار نحوها خطوة خطوة ، في طريق مرسوم ممهد ومعد إعدادًا محكمًا ، وأن الذي أعد الطريق وهيأه له هي جهة خارجية ، وهي رجال المخابرات الأمريكية ، وقد تكون هناك جهات أخري تعاونت معهم في ذلك – بل أن المؤلف لا يتورع عن أن يؤكد لنا أنهم لم يعدوا الطريق ويرسموه له فقط ، بل إنهم " أعدوا " عبد الناصر نفسه إعدادًا جعله يسير في هذا الطريق ، وأنهم لو كانوا " أعدوه " إعدادًا آخر لكانت النتائج غير ذلك .
ثم يومئ " كوبلاند " إلي أن " لعبة الشعوب " اقتضت آخر الأمر رفع يدها عن عبد الناصر والتنازل عنه طائعة مختارة للاتحاد السوفيتي فيقول في صفحة 232 وأوائل 233 :
" إنه ، في النهاية ، بعد أن يكون المحللون الدقيقون في واشنطن ولندن وموسكو أيضًا قد فهموا كل ذلك المسلم المنطقي (الذي يسير عليه عبد الناصر) ، وتكون بقية العالم قد تعبت منه – فإن إحدى الدول العظمى علي الأقل ، التي كانت تتنافس علي رضائه ، توقف هذه المنافسة وتقول : " يمكن لغيري من الآخرين أن يحظي به " . عند ذلك يصبح بإمكان الطرف الآخر أن يستولي عليه بثمن رخيص " . ثم في صفحة 235 يوضح لنا كوبلاند بصراحة أن الطرف الذي تخلي عن المنافسة وأوقفها هو أمريكا ، وإن الذي استولي علي عبد الناصر بثمن بخس هو الاتحاد السوفيتي فيقول : " في هذه المرة (أوائل عام 1967) ، علي كل حال ، كان من الواضح أن " الجمهورية العربية المتحدة " قد وصلت إلي قاع الهاوية (أصبحت مفلسة فعليا) ، ونظرًا لأن الغرب لا يقدم أي مساعدة ، وكان الاتحاد السوفيتي يعلم بأنه لم تعد هناك منافسة من جانب الغرب ، فقد اكتفي بتقديم مبالغ ضئيلة تافهة ، بالقدر الذي يراه هو (أي الاتحاد السوفيتي) مناسبًا
• رأي " كوبلاند " في عبد الناصر أهو مدح أم ذم ؟
بعد حرب يونيه 1967 أو كارثة 1967 وفي صدد تقييم الربح والخسارة في نتائجها نري " كوبلاند " يصر علي أن عبد الناصر لم يخسر هذه الحرب التي وصفها هو نفسه من قبل في صفحة 91 من كتابه بأنها " أشنع هزيمة عسكرية في العصر الحديث " ولكنه مع ذلك يصر علي القول بأن الانتصار الإسرائيلي لم يكن انتصارًا علي عبد الناصر لأنه لم يخسر بل إنه ربح وبنص عبارته وتفسيراته في صفحة 238 يقول :
" بحسب هذا التعريف ، فإن أي شخص يراقب النزاع العربي الإسرائيلي بعد هذه الحرب (أي حرب يونيه 1967) لابد أن يوافق علي أن الإسرائيليين لم " يربحوا " حرب الأيام الستة ضد عبد الناصر ، لأنه بعد أن انتهي كل شيء (بعد أن خسر العرب كل شيء) ظهر عبد الناصر وقد قويت شوكته كحاكم لمصر بصورة أكبر ، وبدرجة أقوي مما لو كان قد تفادى الكارثة " . ثم يوضح كوبلاند رأيه هذا ويذهب إلي أبعد من ذلك فيقول بعد ذلك في نفس الصفحة : " هذا هو جوابنا للسؤال الذي يتبادر إلي الذهن : ماذا لو أن عبد الناصر واجه ظروفاً مماثلة (لحرب يونيه عام 1967) في المستقبل : فماذا يفعل ؟ .. إن جوابي علي هذا السؤال واضح وضوحًا تامًا لكل من يقرأ هذا الكتاب بعناية " .
وصدق كوبلاند فعلاً فقد وضح هذا الجواب توضيحًا تامًا في صفحة 67 من كتابه حيث قال : " من حين لآخر ، وخلال سنوات عديدة ، كان هناك من يسألني السؤال الآتي : إذا واجه عبد الناصر ظروفاً تحتم عليه أن يختار بين التخلي عن سلطته من أجل إنقاذ بلاده ، وبين أن يدفعها إلي الدمار من أجل أن يبقي هو في الحكم ، فأي الطريقين يختار ؟ " إن جوابي هو أنه في التعامل مع عبد الناصر ، ومع أي حاكم لديه ما نعرفه لدي عبد الناصر من حب السلطة من أجل السلطة ذاتها ، فإننا يجب أن نفترض أنه سيجعل أي شيء من أجل البقاء في الحكم ، حتى ولو كان معني ذلك خراب مصر الاقتصادي ، أو حرباً خاسرة مستمرة مع إسرائيل .. " . النمـوذج النـاصـري
بعد أن نقلنا إلي القراء من كتاب " لعبة الشعوب " لمايلز كوبلاند فقرات ذات دلالات معينة نحب أن نلفت الأنظار إلي هذا العنوان " النموذج الناصري " الذي أولاه المؤلف عناية خاصة – لأنه أساس كتابه – فجعله في الصفحات الأولي من الكتاب .. غير أننا – ولنفس السبب ولنفس درجة الأهمية والخطورة – رأينا أن نجعله في خاتمة ما ننقله من فقرات : ذلك أن أهميته بالنسبة لنا نحن – العرب والمسلمين – تأتي من كوننا قد أصبحنا حقل تجارب لصناع السياسة الأمريكية الخلفية .. وقد جربوا فينا أول تجربة وثبت لهم نجاحها ، فهم إذن مواصلون خططهم معنا لاسيما والأرض بعد التجربة الأولي قد مهدت ولم تعد تحتاج منهم إلي جهد كبير .. كان إذن لابد من تحذير بعد أن كشف مايلز كوبلاند – مضطرًا بعد اكتشاف هذه الخطط لمنافسيهم الروس علي يد الجاسوس فلبي – كيف بحثوا عن شخصية ذات صفات معينة حتى وجدوها في عبد الناصر ، وكيف مهدوا له الطريق إلي الحكم ، و كيف رسموا له الطريق ووجهوه إليه طريقاً انتهي إلي تثبيت أركان حكمه وإلي تحقيق جميع مصالح أمريكا وإلي وصول مصر إلي الدمار التام في كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .. وإذا كان كوبلاند والأمريكيون لا يقيسون شيئًا إلا بالمادة فإننا نورد وصفاً دقيقاً للحالة الاقتصادية التي انتهت إليها مصر مما ذكره كوبلاند في صفحة 235 من كتابه إذ يقول :
" في أول تلك السنة (1967) درس فريق من الخبراء العاملين بالمؤسسة التي كنت أعمل بها أهم المصادر الرسمية عن رصيد مصر من العملة الصعبة ومن الذهب الذي كانت تملكه في عام 1952 قبل الانقلاب العسكري . ثم أضافت إليه مجموع المساعدات الخارجية المالية (من قروض وهبات) التي حصلت عليها الحكومة ، وكذلك أضافت إليها مجموع ما حصلت عليه البلاد من صادراتها منذ منتصف عام 1952 إلي نهاية عام 1966 – ومن مجموع ذلك كله خصمت النفقات . " وقد أظهرت النتيجة أن العجز في تجارة مصر الذي كان يقارب أربعمائة مليون دولار سنويًا قد استهلك كل هذا المبالغ ، بما في ذلك القروض التي أصبحت الحكومة عاجزة عن سدادها. وعلي حسب قول الأستاذ " لاكور " لقد وصل احتياطي مصر من الذهب إلي أربعين مليونًا فقط ، ومن العملة الصعبة إلي ست وأربعين مليونًا من الدولارات . ولكن أي شخص يبحث في القاهرة لا يمكن أن يعثر علي هذه الملايين في مارس عام 1967 ولا يمكنه أن يعثر علي أكثر من مليونين أو ثلاثة ملايين من الدولارات يمكن استخدامها للمشتريات الضرورية العاجلة .
" لقد كانت هناك مصانع مغلقة بسبب عدم توفر قطع غيار لا تتكلف أكثر من بضعة آلاف من الدولارات . وكانت شركة الخطوط الجوية العربية المتحدة التي هي مورد رئيسي للعملة الصعبة لديها في بعض الأحيان أربع طائرات من طائراتها " الكوميت " (التي لا يزيد عددها عن سبع فقط) معطلة بسبب عدم توفر المال اللازم لشراء قطع غياراتها... وحتى لو باعت الحكومة كل ما لديها من ذهب فإنه لم يكن يكفي الاستيراد المطلوب في العادة لمدة شهر واحد . إن التقرير ربع السنوي للسفارة الأميركية قد تنبأ بأنه خلال مدة لا تزيد علي سنة ستكون مصر في حالة إفلاس فعلي .. " . هذا هو وصف الحالة التي انتهت إليها مصر في أوائل عام 1967 والتي واجهت بها الحرب مع إسرائيل فغي يونيه 1967 تلك الحرب التي أدت إلي أعظم كارثة في التاريخ الحديث كما يقرر ذلك كوبلاند الذي كشف لنا في كتابه عن أنها كانت تضمن " لعبة الشعوب " التي أعدوها وأعدوا عبد الناصر لها في " مركز اللعب " في الطابق الثاني عشر في إحدى ناطحات السحاب بواشنطن – ولم يقصر كوبلاند وهو " إجهاض " المقاومة العربية وقتلها . وتهيئة الجماهير لحالة نفسية يسهل معها إجراء عملية استئصال " القضية " من نفوسهم . والذي نحذر منه هو أن السياسة الأمريكية الخلفية كما يسميها كوبلاند حين عثرت في بحثها علي " جمال عبد الناصر " لم تكن تبحث عن عبد الناصر بالذات ، وإنما كانت تبحث عن شخصية ذات صفات معينة وجدتها هذه المرة في جمال عبد الناصر ولكنها دائبة البحث عن أشخاص آخرين تتوفر فيهم هذه الصفات ، وقد كان كوبلاند حريصًا في الصفحات الأولي من كتابه علي إبراز هذا المعني ، وتثبيته في أدمغة القراء فيقول في صفحة 26 :
" لابد أن أبعد كل فكرة بأن هذا الكتاب عن " عبد الناصر " – إنها مرحلة تاريخية تفتح الباب لدروس عامة في لعلاقة بين الولايات المتحدة وبين " نوع خاص " من الزعماء غير الغربيين ، اعتقد أنهم سيزداد نفوذهم في العلاقات الدولية في المستقبل " . ورغم أنني تكلمت كثيرًا عن " عبد الناصر " إلا أنني حاولت التركيز علي نواحي سلوكه التي يتوقع أن تصدر من زعماء آسيويين وأفريقيين آخرين – لدرجة أنني اعتبرت أن هناك " نموذجًا ناصريًا " من حكام .. " . ويقول في صفحة 21 مؤكدًا نفس المعني :
" إن صورة هذا النموذج ارتسمت لديه هو وزملاؤه من رجال المخابرات الأمريكية من خلال تجاربهم في سوريا وغيرها من البلاد العربية في الفترة من عام 1947 إلي 1951 ، أي قبل أن يلتفوا بعبد الناصر وقبل أن يعرفوه ، إنهم افترضوا أنهم حددوا أصول النظام الناصري ، ووضعوا خصائصه وشروطه وخططوا له ورسموا صورة الحاكم الذي يلعب دوره قبل الانقلاب الناصري " ثم يقول : " إن عبد الناصر لو لم يوجد ، فإن لعبتنا كان يختتم عليها أن تخلقه خلقاً ليوجد لديها " النوع " الضروري من الحكام الذي تحتاجه طبيعة " اللعبة " اليوم أو غدًا " . يقول الدكتور محمد صادق في تقديمه التعليق علي كتاب " لعبة الشعوب " :
إن الدراسة التي نقدمها للقارئ تساعد القارئ العربي علي أن يستقرئ الحوادث الماضية ، والأحداث المقبلة كذلك ، ليعرف نوع " المصالح " التي استلزمت " النموذج " الناصري في نظر كوبلاند ، وليعرف من خلال اهتمام الكاتب الأمريكي وحماسته ، إن كانت هذه " المصالح " التي تحركه هي مصالح المصريين أو العرب أو المسلمين – أم أنها مصالح " جهات خري " . إن تحديد هذه " المصالح " يفسر لنا السبب في حرص كوبلاند علي التمييز بين الشخص والنموذج . ذلك أن المصالح التي تهمه في بلاشك مصالح بعيدة المدى ، واسعة النطاق ، متعددة الأهداف ، إنها تتجاوز حياة الأشخاص أياً كانوا ، سواء حياة عبد الناصر أو حياة كوبلاند وروزفلت أو أي إنسان آخر .. إن الأشخاص أيًا كانوا ، سواء حياة عبد الناصر أو حياة كوبلاند وروزفلت أو أي إنسان آخر .. إن الأشخاص والحكام كغيرهم يمكن أن يموتوا ، أما النموذج الذي تحتاج له المصالح التي يتحدث عنها كوبلاند فهو باق ما بقيت هذه المصالح . وعلي ذلك يؤكد لنا المؤلف الأمريكي أن الذين رسموا " النموذج " الناصري كانوا يعرفون هذا الأمر ويحسبون حسابه مقدمًا . فهو يروي لنا أن روزفلت في تقريره لوزارة الخارجية الأمريكية بعد عودته من مصر قبل الانقلاب العسكري بأربعة أشهر قال : إن " الشخص " الذي اتفقوا معه – يقصد عبد الناصر – إذا لم يحقق لهم أهدافهم ، فلسوف يكون هناك آخرون من نفس " النموذج " .
فالتفرقة بين النموذج الثابت والأشخاص الذين يتغيرون كانت واضحة في ذهن روزفلت قبل الانقلاب الناصري . وكان واضحًا أيضًا أن " النموذج " سيطبق لا في مصر وحدها ، بل في دول أخري كثيرة . وعلي ذلك فإن القارئ سيري أن الغرض هو الكشف عن نموذج وعن خطة وعن أسلوب دعا إليه كوبلاند في كتابه وأعلن أنه تكرر وسوف يتكرر في مصر وفي غير مصر . وإن ما قاله كوبلاند يفسر لنا كثيرًا مما لاحظناه عقب وفاة عبد الناصر ، ففي الوقت الذي كانت جماهير غفيرة من المصريين والعرب ذاهلة أمام رهبة الموت ، حائرة أمام القدر المفاجئ – عجب الكثيرون مما رأوه في موقف القوى الخارجية التي لم يبد عليها أعراض الدهشة أو المفاجأة لقد كانت هناك جهات تتصرف بمنتهي الدقة والإحكام ، وتعمل بكل اطمئنان ، تنفيذًا لخطط أعدت من قبل . وكانت هناك جهات تقف بكل هدوء ويردد موقف المترقب الذي لا يري في الوفاة إلا أنها نهاية فصل من فصول اللعبة سيتبعه فصل آخر مكمل له , وأن المسرح خلا من لاعب لكي يحل محله لاعب أو لاعبون آخرون ،وكأن الستار قد أسدل علي مشهد لكي يرتفع بعد ذلك عن مشهد آخر . ولكن عملاء هذه الجهات كلها سارعوا فوضعوا أنفسهم في مقدمة مواكب البكاء والرثاء ، يرددون الأناشيد والألحان والشعارات ، إلا أن أناشيدهم وشعاراتهم وألحانهم كانت تدور حول أسطورة البقاء والخلود للنموذج " المقدس " قائلين إن " الرجل " هو الذي مات ، أما " النظام والنموذج " فهو " حي لا يموت " .
إن هذا النوع من الرثاء ليس إلا جزءًا من " اللعبة " وأسلوباً من أساليب الميكافيلية الخادعة الماكرة ، إنهم يتخذون رثاء الميت وسيلة لإعطاء الدروس لمن يريدون أن يخلفوه ، إنهم يذكرون للأحياء أهدافهم هم بأسلوب مدح الميت والإشادة به لينسبوها إليه ، فيصدق الطامعون والطامحون في وراثته بأن هذا هو الطريق الذي يجب أن يسيروا فيه ليحصلوا منهم كما حصل هو علي شهادات " عالمية " بالبطولة والشهرة والخلود . واكتفي بهذا القدر مما نقلته من تعليق الدكتور محمد صادق مما جاء في تقديمه كتابه لأقول : إن النسخة التي أعيرت إليّ من كتاب الدكتور محمد صادق " الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية خلال عشرين عامًا 1947 – 1967 دراسة وتحليل حول كتاب " لعبة الشعوب " .. هذه النسخة نظرت فوجدت أنها الطبعة الأولي لهذا الكتاب وقد أرخ طبعها في عام 1971 .
وأصدق القارئ القول فأقول إنني لم أعن بالبحث وراء معرفة تاريخ طبع هذه النسخة إلا بعد أن قرأت ما كتبه الدكتور محمد صادق في مقدمة الكتاب مما نقلت منه هذه الفقرات للقراء .. لأن هذا التحليل الذي تضمنته المقدمة يوحي لقارئه بأن كاتبه قد كتبه بعد عاش أحداث ما بعد أكتوبر 1973 إلي ما بعد أكتوبر 1981 . وإني إذ أهنئ الكاتب علي نفاذ بصيرته ، براعة تحليله ، وصدق تنبؤاته ، استنباطه أعماق الأحداث وسبقها .. أرجو أن نكون قد أفدنا أعظم فائدة من هذه الدراسة العميقة المستوعبة وهذا التحليل البارع الدقيق ..
الفصل الثاني : شاهد علي العهد
ذكرت في مقدمة هذا الجزء من المذكرات أنني تركت الحديث عن التعذيب إلي مظانه التي تخصصت في الحديث عنه ونقل وقائعه وصارت بين أيدي القراء ، وقد وصل بعضها إلي القضاء الذي أصدر حكمه بدمغ هذا العهد بأبشع الجرائم ضد الإنسانية .. ولكنني رأيت قبل أن أنهي الحديث عن هذا العهد أن أنقل إلي القراء الكرام أنموذجاً واحدًا من نماذج التعذيب ليكون شاهدًا ناطقاً حيًا علي هذا العهد البغيض .. وقد نقلت هذا الأنموذج من كتاب " الموتى يتكلمون " للأستاذ الصحفي سامي جوهر رحمه الله يقول في صفحة 65 وما بعدها :
ولعل أصدق صورة لألوان التعذيب هي التي يرويها واحد ممن تعرضوا لها .. وفي الصفحات القادمة يروي العقيد متقاعد نصر الدين محمد الإمام كيفية تعذيبه حتى يعترف أنه وتسعة من زملائه كانوا يدبرون انقلاباً لنظام الحكم .. وكان نصر واحدًا من المتهمين فيما أسموه مؤامرة مدرسة المشاة . وزملاءه في الاتهام هم العقداء طه إبراهيم وبهي الدين مرتضي وعلي إبراهيم أبو ليمون ومصطفي كمال المساح وفاروق جمعة مناف وجمال الإتربي وإبراهيم الجندي والمقدم مهندس عادل المنياوي والملازم أول عبد الملك ميخائيل غطاس .. والمتهم الأخير وهو مسيحي وضع لإبعاد الشبهة عن حقيقة تدبير السوفييت للإطاحة ببقية المتهمين .. فقد كان المتهمون التسعة من المعروفين بشدة تمسكهم بتعاليم الدين ، وتأدية الصلاة في مواعيدها حتى وهم في مكاتبهم .. وكان ذلك يثير الخبراء السوفييت الذين انتشروا في مختلف وحدات الجيش بحجة تدريب قواتنا علي السلاح السوفيتي . واستطاع هؤلاء الخبراء السوفييت أن يحركوا أعوانهم في مكتب المشير وفي سكرتارية عبد الناصر ضد تلك المجموعة ، وخاصة بعد أن كان بعضهم بدأ يناقش حرب اليمن ، وهل من يموت يعتبر شهيدًَا أم لا ؛ لأنها حرب ليست لنشر العقيدة الإسلامية ، وإنما حرب يقاتل فيها المسلم أخاه المسلم ..
وكانت تلك هي الحقيقة التي كان يتناقش فيها المهتمون عندما فوجئوا بالقبض عليهم بتهمة تدبير انقلاب عسكري للإطاحة بالحكم .. ويروي العقيد نصر الدين محمد الإمام تفاصيل القبض عليه .. قال إنه فوجئ برجال المباحث الجنائية العسكرية يقتحمون مسكنه برياسة تلميذ له هو الرائد حسن كفافي .. كان الوقت بعد منتصف الليل .. أيقظوا أطفاله وزوجته وأمه المريضة التي لقيت ربها بعد ذلك بأسبوعين .. حبسوا الجميع في غرفة .. وبدأوا يفتشون مسكنه .. وعثر حسن كفافي علي مبلغ ألف وخمسمائة جنيه كان نصر قد ادخرها لشراء تاكسي يعاونه إيراده في مجابهة تكاليف المعيشة .. وأخذ حسن لنفسه المبلغ مدعيًا أنه سيعيده عندما يتأكد من مصدره .. وطبعًا اختفي المبلغ إلي الأبد .. وبعد أن مزقوا المراتب بالمطاوي بحثاً عن أدلة ، ولم يجدوا شيئًا اصطحبوه إلي السجن الحربي .
ويقول العقيد متقاعد نصر الدين محمد الإمام :
ولم أكن أعلم لماذا قبضوا عليّ .. حاولت أن أسأل حسن كفافي عن السرور وراء ذلك لم يجبني بشيء إلا بأنه تلقي الأوامر بذلك .. لم يجيبني بشيء إلا بأنه تلقي الأوامر بذلك ، وأن زملاءه تلقوا أوامر مماثلة للقبض علي آخرين من الضباط .. حاولت أن أعرف منه أسماء زملائي الذين قبض عليهم ولكنه لم يكن يعرف شيئًا . ودخلت السجن الحربي .. كنت أرتدي ملابسي المدنية . وقبل أن يغلق باب السجن . وجدت مايسترو التعذيب في السجن صفوت الروبي .. وكان برتبة رقيب أول ثم رقي في خلال عام 1966 ترقية استثنائية إلي رتبة مساعد .. وفي عام 1967 رقي ترقية استثنائية إلي رتبة الملازم لمهارته في تعذيب من يوقعه سوء حظه ويدخل السجن الحربي .. كان صفوت يقف ممسكًا بكرباج وحوله ثلاثة أشبه بعمالقة القرون الوسطي .. ولكل منهم اسم مستعار .. أحدهم يطلقون عليه " الديزل " والثاني " سامبو " والثالث " الأسود " .. وانهال الأربعة عليّ بالكرابيج .. وكنت كلما جريت ناحية واجهني أحدهم بكرباجه .. أحاطوا بي في شبه دائرة .. وسقطت من شدة الإعياء بعد أن تلقيت ما يزيد علي مائتي كرباج .
وأسعفوني .. وكان الذي يقوم بعمليات الإسعاف العقيد طبيب حاليًا ماجد حمادة وكان برتبة الرائد .. ثم حملوني إلي زنزانة مظلمة تمامًا .. ليس بها أي منفذ ضوء .. وألقوني داخلها .. وارتميت علي الأرض ورفعت عيني إلي سقف الزنزانة وصرخت " يارب " . وفتح باب الزنزانة بعنف ودخل " الديزل " وانهال علي جسدي المكوم في ركن الزنزانة بالكرباج وهو يردد " مستنكرًا " إنت بتقول يارب .. يا ابن .. هنا مفيش ربنا .. وإن جه حنحطه جنبك في الزنزانة . ثم أمرني بالجلوس القرفصاء ووجهي إلي الحائط وأن أرفع ذراعي إلي أعلي .. وامتثلت لأوامره . ولا أعرف كم من الوقت مضي عليّ وأنا في هذا الوضع .. ولكنني أفقت علي الكرابيج تلهب جسدي ، يبدو أنني من شدة الإرهاق غلبني النعاس فارتميت علي جانبي . وأمرني صفوت الروبي أن أخلع ملابسي .. وتوقفت عند ملابسي الداخلية وانهالوا عليّ بالكرابيج .. وأصبحت عاريًا تمامًا .. وألقوا إلي بأفرول أزرق ممزق به آثار دماء ممن سبقوني في ارتدائه .. واقتادوني إلي خارج الزنزانة إلي الفناء .. وعلي غرفة مدير السجن قال لي صفوت :
- حتقابل دلوقت شخصية كبيرة .. عايزك تجيب قدامه كل اللي في بطنك .. ماتخبيش حاجة ووجدتني وأنا العقيد أقول للرقيب أول : حاضر يا بك ..
ودخلت الغرفة .. وكان شمس بدران يتصدر الغرفة جالسًا وراء مكتب .. وعن يمينه مختار صالح رئيس المخابرات الحربية ،وعن يساره سعد زغلول عبد الكريم مدير المباحث الجنائية العسكرية ، وإلي جواره جلال الديب نائب الأحكام .. بادرني شمس قائلاً :
- أتكلم يا نصر عن كل حاجة .. زملاءك اعترفوا ومتحاولش تنكر ..
وتساءلت بصدق :
عن إيه يا فندم أتكلم .. أما معرفش حاجة .. أنا مخلص لبلدي وجيشي .. أنا .. ولم أكمل جملتي فقد شعرت بثقل جبل يسقط فوق رأسي فارتميت علي الأرض .. وفي ثوان كنت معلقاًِ من يديّ وقدمي .. رأسي إلي أسفل وقدمي إلي أعلي .. أشبه بالذبيحة في محل الجزار .. وصوت شمس بدران يأمر قائلاً :
-ألف ..
وانهالت الكرابيج علي قدمي .. وصوت بعد واحد .. اثنين .. وأغمي عليّ ولم أسمع شيئًَا بعد رقم 279 .. وعندما أفقت وجدت نفسي ملقي في نفس الزنزانة وأمامي الدكتور ماجد حمادة يضمد جرحي .. وبقيت في الزنزانة ثاني يوم .. بدون طعام أو شراب حتى الليل .. عندما فتح باب الزنزانة مرة أخري كنت في حالة من الإنهاك والانهيار التام .. وسحبوني إلي خارجها .. إلي فناء السجن حيث يوجد تمثال كبير لجندي ممسكًا بندقيته .. وحول التمثال علي شكل دائرة ستة جنود .. ثلاثة منهم ممسكون بالكرابيج وثلاثة ممسكون بسلاسل مقيد بها ثلاثة من كلاب الحرب .. والكلب منهم في حجم الحمار الصغير وفي منتهي الشراسة .. وأمرني صفوت أن أجري حول التمثال .. وحاولت أن أنفذ الأمر ولكن قدمي لم يستجيبا للأمر .. كانتا متورمتين .. وبدأت أمشي بخطوة سريعة .. وعندما أصل في دورتي إلي أحد الجنود الممسكين بالكرابيج يلهب ظهري أو صدري أو وجهي بكرباجه ، وعندما أصل إلي أحد الممسكين بالكلاب يطلق كلبه لينهش في جسدي بعد أن مزق ما بقي من الأفرول الأزرق . وبعد عدة جولات حول التمثال سقطت من شدة الإعياء فأطلقوا الكلاب لتنهش في جسدي ..ولم أشعر بشيء .
وعندما فتحت عيني .. ولا أعرف بعد كم من الأيام أو الساعات .. وجدت أنني لست بمفردي في الزنزانة .. وضعوا معي كلب " عنتر " وهو كلب أعرج من أشرس الكلاب وموجود حاليًا في معرض الطب البيطري بالعباسية .. ولكن قدرة الله سبحانه وتعالي حولت ذلك الكلب الشرس .. كلبًا وديعًا جداً معي .. بل كان أشد رحمة بي من الإنسان في السجن الحربي .
ويصمت العقيد نصر الإمام للحظة وقد اختنق صوته بالبكاء .. وهو يتذكر تلك الأيام الحالكة السواد ليست في حياته فحسب بل وفي حياة الأمة بأكملها ويقول :
شعر الكلب ما أقاسيه وكان يأتي يتمسح في جسدي . يلعق بلسانه جراحي .. وعندما كان يفتح باب الزنزانة لتقديم وجبات الطعام له وكانت في الصباح أنية بها لبن ، وفي الظهر آنية بها شوربة بجوارها لحم نيئ .. وفي المساء .. وكان يشرب من الآنية بعض اللبن ثم يدفعها بأرجله ناحيتي .. وكنت أشرب ما تبقي منه من لبن .. ومرت الأيام وأنا علي تلك الحال .. ثم اصطحبوني إلي التحقيق مرة أخري .. وقبل أن أدخل غرفة التحقيق سألني صفوت الروبي تعرف عفت ؟ قلت له : إن هذا اسم زوجتي . فقال لي ناصحًا : إنهم احضروها وسيهتكون عرضها إن لم ترح شمس بك وتوافقه وتحكي له كل شيء ..
ولم أصدق أن النذالة تبلغ بهم تلك الدرجة .. ودخلت غرفة التحقيق وقد قررت أن استغل بطولتي السابقة في المصارعة في إحداث عاهة لأي شخص يقترب مني محاولاً تعذيبي .. وكنت قد استرددت بعض قواي في الأيام السابقة التي تركوني فيها داخل الزنزانة مع الكلب عنتر .. وبدأ شمس بدران يسألني عن صلتي بالعقيد إبراهيم طه .. وقلت له إنني لم أره منذ عام وكان من تلاميذي في مدرسة المشاة .. ولم تعجب إجابتي شمس .. فانهال بالشتائم .. وفي لحظات وجدت نفسي ملقي فوق الأرض .. وفي لحظات معلقاً كالذبيحة والكرابيج تنهال عليّ حتى فقدت الوعي .. وأفقت بعد يوم أو أيام .. لأجد نفسي في نفس الزنزانة .. والكلب عنتر يلعق بلسانه جراحي .. ثم أخذوني إلي الخارج .. ووقف خلفي العسكري سعد درويش – وهو حاليًا عسكري مطافي بشركة الغزل والنسيج بكفر الدوار ومحبوس علي ذمة قضايا التعذيب .. وكان سعد يقوم بنفس دور " العسكري الأسود " الذي استخدمه إبراهيم عبد الهادي أحد رؤساء وزراء مصر .. وسأل سعد :
- هل اعتديت عليها يا سعد ؟ وجاب سعد : لسه يا فندم .
- ورد صفوت : طيب خده .
ودفعني سعد أمامه .. فارتميت علي يد صفوت الروبي أقبلها معلنًا استعدادي أن أقول أي شيء .. وأمره صفوت أن يتركني .. وأخذني إلي غرفة التحقيق .. وسألني شمس :
- إيه الاتفاق اللي تم بينك وبين محمد نجيب ؟
- وأجبته صادقاً : محمد نجيب لم أره منذ عام 1959 .. رأيته مصادفة آخر مرة وكانت معه حراسة في محل يشتري أطباقاً .. ورد شمس : أنت كذاب .. أنتم كنتم حتجيبوه رئيس للجمهورية لما تنجح حركتكم مع الإخوان المسلمين ..
- وأجبته صادقاً : أنا مليش دعوة بالإخوان أو بمحمد نجيب .
- ووقف شمس ثائرًا وتقدم منه صفوت سائلاً : اعمل له مولد يا فندم ؟ وأجاب شمس باقتضاب : طيب ..
وفي ثوان كنت معلقاً كالذبيحة .. ثم وضعوا بين أصابع قدمي ورق كرتون .. واعتقدت أن الرحمة نزلت في قلوبهم وأرادوا إبعاد أصابعي عن بعضها حتى لا تحتك الجروح التي بها .. ولكني فوجئت بهم يشعلون النار في الكرتون وتحترق أصابعي بالنار وهم ينهالون عليّ ضربًا بالكرابيج .. حتى فقدت الوعي .. وعندما أفقت .. بعد يوم أو أيام لا أدري .. وجدت نفسي في الزنزانة ، وشعر الحراس بأنني أتحرك .. وجاء لي صفوت الروبي واقتادوني إلي الخارج ، وأعلمني أنه صدر الحكم بإعدامي رميًا بالرصاص .. ولكن شمس بك قرر أن أدفن حيًا .. وفعلاً اقتادوني إلي حفرة كبيرة وألقوا بي بداخلها ، ثم بدأوا يهيلون الرمال فوقي حتى غطتني تمامًَا ما عدا رأسي .. وأغمضت عيني بعد أن ردتت الشهادتين .. وفجأة دوي صوت أعتقد أنه صوت شمس بدران أو حمزة البسيوني يأمر بإخراجي .. ووقفت أمام حمزة البسيوني وشمس بدران .. وقال حمزة : إزاي نبعته لربنا وفي في جسمه حته سليمة ؟ وقاموا بخلع ملابسي .. ووقفت عاريًا تمامًا .. وكانت أثار السياط والجروح تغطي كل صدري وظهري وقدمي .. ونظر حمزة البسيوني إلي عضوي التناسلي وأشار ضاحكًا ده لسه سليم ليه ؟ احرقوه .. وعلي الفور أحضروا سيجارة مشتعلة وبدأوا يحرقون العضو التناسلي في عدة مواضع ثم قيدوني وبدأ حمزة البسيوني بنفسه بواسطة آلة في يده ينزع أظافر أصابعي العشرين .. أصابع يدي ورجلي .. ونقلوني هذه المرة إلي المستشفي .. مستشفي السجن ، وعندما أفقت وجدت ذراعي وفيها " إبرة الجلوكوز " وجاءني جلال الديب نائب الأحكام – الذي استطاع الهرب هو الآخر حاليًا إلي الخارج .. ونصحني أن اعترف بكل شيء .. وطلبت منه أن يكتب أي شيء وأنا مستعد للتوقيع عليه ..
وتحسنت معاملتي .. وأحضروا لي طعامًا فاخر .. ولكنني لم أكن أستطيع أن أمضغ أي طعام لتورم شفتي وتهشم أسناني .. وكانوا يساعدونني في وضع كوب العصير في ناحية من فمي لأرتشف نقطة أو اثنتين وأتوقف من شدة الآلام عندما أحرك شفتي .. ثم جاءني جلال الديب بإقرار يتضمن قصة خيالية عن مؤامرة كنا ندبرها للقيام بانقلاب عسكري للإطاحة بالرئيس السابق .. ووقعت علي الإقرار .. ودخلنا السجن .. حتى جاءت النكسة وصدر قرار جمهوري بالعفو عنا وشطب القضية وكأنها لم تكن وأفرج عنا .. ولكننا عدنا إلي السجن مرة أخري بعد 43 يومًا حتى أفرج عنا في أيام السادات .
ولما كان الأنموذج الذي نقلناه إلي القراء اختص بتعذيب رجل عسكري ، وخشية أن يظن القراء أن هذا اللون من التعذيب كان من نصيب العسكريين وحدهم ، رأينا أن نورد أنموذجًا آخر يتناول التعذيب فيه أحد المدنيين ، وننقله هذه المرة من كتاب " محاكمات الدجوى " للأستاذ شوكت التوني من صفحة 392 وما بعدها ، يتكلم فيه الأستاذ محمد شمس الدين الشناوي المحامي عن الطريقة التي عذب بها في عام 1965 ، 1966 فيقول :
" خلعت ملابسي أمام شمس بدران وبحجرته التي كان يجلس فيها والتي كانت مخصصة من قبل لجلاد السجن الحربي حمزة البسيوني ثم تركها لما ل بدران بهذه السجون لطبخ التحقيقات والقضايا " .
وبهذه المناسبة فهناك أمر مهما كان سيئًا فهو ظريف ، فقد كان المتبع في خلع الملابس من يراد استنطاقه أن تخلع ملابسه قهرًا بتمزيقها .. ولكن عين الجلاد صفوت الروبي قد زاغت في القميص الذي كنت أرتديه ، فإذا به يمنع الجندي المكلف بتمزيق الملابس ويقوم هو بنفسه بفك الزراير برفق وأناة – وهذا شرف كبير لم يحظ به أحد – ثم وضعه في جانب الغرفة بعيدًا عن الدم والأعين ثم استصفاه لنفسه غنيمة سائغة .. ولم يكن ذلك غريبًا علينا فقد كانت دماؤنا وأموالنا وحريتنا مباحة لهم دون معقب ولا اعتراض . وبدأ التحقيق بأن قيدت يداي ورجلاي ثم مرر قضيب الحديد فوق يدي المقيدتين وتحت ركبتي ،ورفعت من قضيب الحديد ، وأسندت نهايتاه علي ظهري كرسيين وضعا وسط غرفة " التحقيق " . وكان رأسي مدلي إلي الخلف وعيناي إلي أعلي ، وتم السؤال وأنا علي هذا الوضع . وكان أول سؤال وجهه شمس بدران إليّ هو الآتي :
- أنا الآن بالسجن الحربي ولست بالمباحث العامة أو النيابة العامة ، وليس هنا قانون أو حقوق ، ونحن نفعل ما نشاء دون رقيب ، ومطلوب منك أن تقدر ذلك وتقول كل ما تعرفه .
- فأجبته بأنني لا أعرف ما يسأل عنه ، فإذا كان عنده سؤال محدد فأنا مستعد للإجابة عليه .. فانهال عليّ بالسباب الفاجر والقول البذئ ، ثم وجه كلامه إلي صفوت وقال : يا صفوت ده من العتاولة ومصروف له ألف كرباج .
فإذا بهذا الجلاد وأعوانه ينهالون عليّ بالسياط في وحشة وإجرام وأنا معلق علي الوضع الذي ذكرته كالذبيحة في حانوت الجزار لا أملك إلا أن أدعو الله أن يلهمني الصبر ، ويثبتني علي الحق ، وأن ينتقم من الظلمة .. ولما استمر الجلد وسال الدم وتهتك اللحم وتناثر ، لم أتمالك نفسي فانطلقت بسب بدران وسيده ، ووصفتهما بالكفر والجحود ، بأنهما حطب جهنم خالدين فيها .. وظللت أردد ذلك حتى غبت عن الوعي ، ولما أفقت بعد برهة صغيرة وجدتني ثانية داخل الغرفة ليكرر نفس السؤال : " قل ما تعرف عن أي شخص وعن أي شيء " . ولما أعجت عليه نفس الجواب : اسأل عن أي شيء وأنا أجيب .. تكرر نفس الجلد بالسياط ،وزاد عليه الكي بالنار ، وإطفاء السجاير حول عنقي ، ورأسي مدلاة إلي الخلف ثم كان صفوت ينتزع اللحم المتهتك من جسمي نتيجة ضرب السياط ويجمعه ثم يفتح فمي عنوة ويضع فيه هذا اللحم ويقول : دق لحمك النجس .. ولما يعمل أسياخ الحديد المحمي والسجاير في جسمي يقول : شم رائحة الكباب فأنت جائع ..
وهكذا استمر الحال حتى فقدت الوعي أكثر من مرة ، ووصلنا إلي مطالع الفجر ، فإذا به ينهض واقفاً لينصرف حتى ينال قسطًَا من الراحة ليستأنف نشاطه الإجرامي في " التحقيق " في اليوم التالي .. وكان آخر أمر وجهه إلي صفوت : خليه معلق حتى الصباح لحين حضوري . وبعد انصرافه هو وكاتبا التحقيق جلال الديب ومصطفي الجنزوري نائبا الأحكام اللذان كانا يجلسان معه في نفس غرفته مكتبين جانبيين .. حضر شخص أسمر ضخم الجثة أجش الصوت وقال لصفوت : ما هذا الذي تفعلونه .. ألا تدري من هذا .. دا راجل كبير وله مكانته فكيف تعمل معه ذلك ؟ فقال له : هذه أوامر سيادة العميد شمس وقد أمرني أن لا أنزله حتى يحضر في الصباح .. فقال له ذلك الشخص – الذي علمت فيه أنه سعد عبد الكريم مدير المباحث الجنائية العسكرية – نزله وأنا المسئول أمام سيادة العميد وسأضمن أنه سيقول كل ما يطلب منه في الصباح .. وأنزلت من التعليقة وألقيت علي الأرض حيث كانت قواي خائرة ورجلاي ممزقة متهتكة .. وأمكر سعد عبد الكريم بإحضار كوب من عصير الليمون من البوفيه المجاور لحجرته ، شربته وأنا لا أحس بالحياة .. وإذا بهذا الكوب كأنه أكسير الحياة ، فقد كان كالسحر ، سري في جسدي سريان الروح ، وكنت أحس باسترداد الحياة مع كل رشفة من هذا الكوب .. ولازلت أذكر هذه اللحظة حتى اليوم وما أظن أنني سأنساها ما حييت فقد كان ألذ كوب مشروب في حياتي ..
عودة إلي الحياة : ثم حملت بعد ذلك إلي حجرة كانت تعرف باسم مخزن رقم 2 ، كنت غادرتها مع العشاء ماشيًا علي رجلي حافي القدمين – وهذه هي الأوامر – ثم عدت إليها مع الفجر محمولاً علي محفة بين الحياة والموت . وقد علمت بعد ذلك من طبيب كان معنا في نفس الغرفة – بعد انقضاء هذه الفترة بثماني سنوات أنني أصبت بصدمة عصبية في تلك الليلة وأنني أسلمت الروح وأنه أسبل عيني وجذب الغطاء علي وجهي في الساعة السابعة صباحًا .. وفي تلك اللحظة ألهمه الله أن يطلب من بعض الإخوان أن يحملوني من رجلي لتكون رأسي إلي أسفل ، وليقوم هو ببعض إسعافات لتنشيط القلب ، فإذا بي لحظات أستعيد الحياة وأفتح عيني . وكان هذا الطبيب هو الدكتور فؤاد عبد المجيد الذي يعمل بمستشفي كفر الشيخ .. ولما سألني منذ مدة قريبة أثناء زيارته لي في شهر رمضان 1973 إن كنت أذكر ذلك فنفيت له علمي حيث لم أشعر بشيء من ذلك علي الإطلاق ولم يخبرني به أحد حتى هذه اللحظة . وقد حضر طبيب السجن الحربي كما هي العادة – وهو الرائد ماجد حمادة – ولما رأي حالتي بدا عليه التأثر الشديد وكتب لي حقن " ويفرين " ولأول مرة أسمع هذا الاسم ، وقد كانت هذه الحقن خير ضمان لعدم تلوث الجراح ولعدم حصول مضاعفات في هذا المكان القذر الذي كنا نعيش فيه فجزاه الله عني خيرًا .
ثم تركت ملقي مع غيري في هذا المكان أعاني من الجراح والضيق حيث كان المكان الذي يتسع لخمسة يوضع به ثلاثون مثخنون بالجراح يثنون مما بهم من سوء المعاملة والجوع والعطش ورائحة القيح والصديد والبول والبراز وجرادل الكوتش في الجو القائظ فقد كانت لها رائحة لا يمكن أن توصف أو تعرف لغير من شم رائحتها المنتنة . وانتهت " التحقيقات " التي كان يجريها بدران وأعوانه في شهر أكتوبر 1965 أي أنها استمرت أربعة أشهر كاملة – وذكرت الصحف المأجورة أن التحقيقات انتهت وأن المتهمين سيقدمون إلي محاكم خاصة تشكل لذلك – وصدر قرار جمهوري بتشكيل أربع دوائر جنايات أمن دولة عليا ، الأولي يرأسها الفريق الأول الدجوى ، والثلاثة برياسة علي جمال الدين التميمي . وقد علمت أن " التحقيق " ال1ذي أجري ثبت منه عدم صحة رواية عبد الفتاح الشريف ، وبذلك فلن يعاد الكلام بشأنه ، وخصوصًا وأن التحقيق كان قد انتهي وانقض سامره . ولكنني كنت واهمًا في ذلك ؛ فإن الحقد والضغينة التي ملأت قلب شمس بدران علي الشيخ محمد الأودن جعلته يصمم علي قتله وافتعال الأقوال التي يستند عليها لتنفيذ جريمته ضد هذا الشيخ الفاني الذي كان يبلغ الثمانين من عمره في ذلك الوقت .
وفي حوالي الساعة 10 مساءً يوم 6/12/1965 إذا بباب الزنزانة رقم 55 التي كنت بها يفتح مزلاجه الضخم فيحدث صريرًا تقشعر له الأبدان ، ثم يقف جندي كريه الصورة والصوت ينادي علي " الواد شمس الدين الشناوي " .. ثم أخذني خارج السجن الكبير إلي الحوش الذي نصبت فيه خيام النيابة ، وكانت جراحي لا تزال ناغزة ، وعليها ضمادات عليها الدم والصديد ، لم أكن أستطيع أن ألبس الحذاء لتضخم قدمي وتهتك لحمهما ووجود الضمادات عليهما فخرجت حافي القدمين أتحسس الأرض ولا أستطيع أن أطأها إلا همسًا ،ولم أكن أستطيع الجري كما تقضي بذلك تعليمات بدران حيث يمتنع علي أي شخص يسير إلا بالخطوة السريعة وكأننا مجندون في عنفوان الشباب – وكان سني حينئذ 43 سنة وأعاني من الآلام والجروح والجوع والعطش مما أنقص وزني أكثر من ثلاثين كيلوجرام .. فكان الجندي ينهال عليّ بالسوط لعجزي عن الجري .
وأدخلت إحدى الخيام المنصوبة بحوش السجن الحربي فوجدت شابًا في مقتبل العمر يجلس إلي مكتب متواضع وأخبرني أنه وجيه قناوي وكيل نيابة أمن الدولة ، وقد أكرمني وقدم إليّ مشروبًا ثم بدأ يسألني في بلاغ تقدم به شمس بدران ضدي وأطلعني علي البلاغ وكان يتضمن أنني اصطحبت محمد عبد الفتاح شريف إلي منزل الشيخ محمد الأودن – فقلت له : وما الجريمة في ذلك .؟ لا جريمة ولكنه أصر علي أن يحقق معك .. فقلت له : طالما أنك غير مقتنع بوجود جريمة وأرغمت علي الحضور والتحقيق ، فمعني ذلك أنك إذا قررت حفظ التحقيق وأصر بدران علي تقديمي للمحاكمة فإنه ينفذ كلامه .. ولكن السيد المحقق تحسس عندئذ لإنفاذ رأي النيابة .. وبعد إتمام الاستجواب أخبرني أنه سيكتب مذكرة بحفظ التحقيق ويطلب الإفراج عني فورًا .. ولكنني أوضحت له أن الأمر ليس بهذه السهولة التي يظنها .. وأصر علي قوله وقال : سوف تري .. وعدت إلي مكاني بالزنزانة رقم 55 .
وبعد خمسة عشر يومًا وفي صباح يوم 21/12/1965 حضر إليّ صف الضابط " سمير المسئول عن السجن الكبير " وقال : أنت مطلوب لإتمام إجراءات الإفراج عنك . ولما ذهبت إلي المكاتب وجدت عددًا من المعتقلين منهم أولاد الشيخ محمد الأودن الأربعة وتجري مراسم الإفراج ومنها حلق اللحى التي طالت حتى وصلت إلي الوسط واستلام الأمانات وكتابة إقرارات بأننا لم نعذب وليست بنا آثار تعذيب .. وهلم جرا . وأثناء إتمام الإجراءات حضر شمس بدران وكان ذلك حوالي الساعة العاشرة صباحًا ، ونظر إلينا ثم وجه الكلام إليّ " رايح فين يا ولد " فقلت له : بيقولوا مروحين .. فقال " هاته " .. وذهب إلي مكتبه وقال لي : إذا كنت تريد أن تخرج مثلهم فعليك أن تقول ما أطلبه منك عن الشيخ الأودن ثم تخرج .. فقلت له : مادام ذلك لم يحصل فلن أقوله .. فكرر كلامه وكررت ردي .. فاستدعي الأخ محمد عبد الفتاح الشريف وقال له إنه يطلب إليه أن يذكر رواية ضدي وضد الشيخ الأودن .. ولما قال له إن ذلك لم يحصل ، قال : أنا لم أسألك إن كان حصل أم لا إنما أطلب منك أن تقول ذلك وإلا أعدنا عليك كرة التعذيب ..ثم أذن له بالانصراف .
وقال لي : لابد أن تقول هذه الأقوال عن الأودن حتى تخرج .. ولما رفضت اتصل تليفونيًا بجمال عبد الناصر واستأذنه في عدم الإفراج عني ووعده أنه سيحصل مني في تلك الليلة علي اعترافات تدين الأودن – ففوضه في ذلك وأمر بأن أجلس علي باب الغرفة ووجهي للحائط للحين عودته مساءً ، وسيعرف إن كنت سأوافق أنم أقول ما يطلب .. وقضيت اليوم كله هكذا جالسًا علي الأرض ووجهي إلي الحائط في انتظار حضوره مساءً .. وقد حضر في حالة غير طبيعية ، أدخلت إليه فقال : " شاورت عقلك عشان تقول ما طلبت منك ، وتذهب إلي بيتك .. فقلت له : ليس عندي ما أقوله . فأمر صفوت الروبي بإحضار العدة وهي الحبال والسياط وقضيب الحديد وأمره أن يقوم بعمله ففعل وكان بالحجرة مع بدران جلال الديب ومصطفي الجنزوري نائبا الأحكام – وباشر صفوت ومن معه من الجنود عملهم بالقيد والتعليق والجلد في وحشية لا مثيل لها ، وكنت في هذه الحالة أدعو الله أن يثبتني وأن يعينني عليهم أو أن يريحني بالموت .. واستجاب الله الدعاء ، فلم أكن أحس بما يفعلون إلا قليلاً .. وزاد من غيظ بدران وحقده فأمر بإحضار الكلاب الشرسة المدربة ؛ فلم آبه لذلك ولم أحفل به ؛ فقد كان ما أنا فيه أشد من نهش الكلاب ، كنت صادق النية في لقاء الله ؛ فأراني هذا الجبار بدران في صورة فأر صغير لا يرهب ولا يخيف ، وأراني الله من آياته في تلك الليلة أشياء كثيرة لا أستطيع وصفها ولا التعبير عنها .
وكان بدران يرغب في أن يسمع عبد الناصر بالأقوال التي تدين الشيخ الأودن فأحضر معه شخصًا يحمل في كتفه جهاز تسجيل ، وقرب المايك من فمي ليسجل ، لكنه لم يسجل إلا أزيز السياط واللعنات التي كنت أصبها عليهم ؛ فتغضب وطرد حامل جهاز التسجيل من الغرفة ، ووقع في حرج شديد ؛ نظرًا لأنه رأي إصراري علي موقفي رغم إشرافي علي الموت وكان يقول : " أقول للراجل إيه وأودي وشي فين " وكان ذلك يزيده ضراوة وشراسة ، ويزيد الجلادين قسوة ووحشية .. وبعد مدة من العذاب والنزيف غبت عن الوعي ولم أعد أحس شيئًا وكانوا يفوقونني بالكي بالنار ، وإطفاء السجاير في جسدي ،والإلقاء بي في حوض الماء القذر الموجود أمام غرفة بدران ، فإذا أفقت بدأت المساومات والوعود والأماني التي لم تمكن لتثنيني عن موقفي ، وعزمت صادقاً في تلك الليلة أن ألقي ربي لأتخلص من عذابهم ولا افتري علي هذا الشيخ الكبير الصالح الشيخ الأودن . وكان الليل قد فات منتصفه ، ورأي بدران أن لا فائدة ترجي من التعذيب ، فإذا به ينهض واقفًا في عصبية وغيظ ، ويقذف بسلسلة مفاتيحه الذهبية ، وينهال بالسباب والشتائم البذئ ويردد " كسفتني يا ابن .. أقول للرجل إيه بعد ما وعدته .. " ثم قال لجلال الديب ومصطفي الجنزوري : كلموا معاه .. يا يقول ما يطلب منه يا يموت ونخلص منه ، ثم انصرف غاضبًا حانقاً أو لعله كان نادمًا علي هذا الوعد الذي بذله لسيده دون أن يستشيرني فيه . ولو استشارني لما أشرت عليه بذلك إذ الموت أهون بكثير مما يدعونني إليه .. وكيف لا وهو يدعوني إلي شهادة الزور يقتل بها رجلاً فاضلاً وشيخًا كبيرًا . وكان يحضرني في ذلك الوقت الحديث الشريف " شاهداك قاتلاك " .
وبعد أن انصرف بدران غاضبًا ألان لي الديب والجنزوري القول وأظهرا لي العطف والشفقة وقالا : ارحم نفسك مما أنت فيه ونحن نعرف مكانتك وقدرك ، ولكننا لا نملك إلا تنفيذ الأوامر ،وهذه أوامر عليا سمعتها بنفسك فأرحنا وأنقذ نفسك حرصًا علي حياتك ومصالح أسرتك .. ولما تمسكت بموقفي إذا بهذا الود واللين ينقلب إلي قسوة وضراوة ،وإذا بهما يقومان بما طلب منهما بهمة ونشاط فيأمران صفوت بإتمام المأمورية حتى الرضوخ أو القتل .. وكأنهم جميعًا أصيبوا بجنون القسوة ، وكأنما عز عليهم أن لا يستطيعوا إملاء رغبتهم الأثيمة علي شخص ضعيف أعزل خائر القوة ، متهتك اللحم ، يقف وقد غطي دمه أرض الغرفة حتى استحالت بركة حمراء قانية .
ولما استمر الضرب والنزيف ، فقدت كل أثر الحياة ، وخفتت أنفاسي ، وهدأت نفسي ،واستمروا في الضرب علي الجثة الهامدة التي هي جثتي .. وقد دعا ذلك أحد من العيادة أن يسرع إلي طبيب السجن الذي تصادف وجوده بالسجن في أواخر الليل لحكمة يعلمها الله وتخفي علي الناس ، فما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلاً – وأخبر هذا الجندي الرائد طبيب ماجد حمادة أنهم يضربون شخصًا مات منذ وقت طويل .. فحضر الطبيب وجس النبض والقلب وأنا معلق ثم قال لهم : ما تصنعون ؟ إنكم تضربون جثة والضرب في الميت حرام .. قالوا له : هذه هي الأوامر .. فقال : انزلوه وسأحاول إسعافه لإعادة الحياة إليه إن استطعت .. ففعلوا .. وقال لهم الطبيب .. احملوه إلي مستشفي السجن وكانت المسافة بين غرفة بدران وبين المستشفي حوالي نصف كيلومتر فإذا بصفوت يأمر الجنود أن يجروني علي الأرض حتى المستشفي . فثار الطبيب وأمر صفوت بإحضار السيارة الجيب لنقلي إلي المستشفي . فقال صفوت : السواق غير موجود يا فندم .. فطلب الطبيب من جندي العيادة إحضار النقالة والجنود لنقلي عليها .. وتم ذلك ،ووضعت علي سرير المستشفي ، وظل الطبيب إلي جانبي يحاول إعادة الحياة بالحقن والأدوية والتدفئة حتى أفقت وفتحت عيني في الصباح فقال لي : الحمد لله علي السلامة . فقلت له : لماذا تقول لي ذلك ؟ قال : لأنك عدت من سفر بعيد ..
ولست أدري إن كان الطبيب يذكر ذلك أم أن طول العهد وكثرة ما شاهد من أحداث وأشخاص قد أنساه .. ولما أفقت قلت للطبيب : أريد أن أعود إلي زنزانتي بالسجن الكبير . فلما استفهم عن سبب ذلك أخبرته أنني أريد أن أكون مع إخواني بها يساعدونني علي حاجتي ويسهرون علي صحتي .. وقد كانت العيادة مقسمة إلي زنازين كل واحدة لا تتسع إلا لشخص واحد .. وكنت لا أستطيع الحركة أو الكلام بسهولة . ولكن الطبيب رأي أن يستبقيني في العيادة لأنه علم أن التحقيق معي لم ينته بعد . وطالما بقيت في العيادة فإنه سيخبرهم أن حالتي لا تسمح بالتعذيب مرة أخري .
وفي الصباح حضر مصطفي الجنزوري ، وفتح باب الزنزانة بالمستشفي وسألني إذا كنت قد غيرت رأيي أم لازلت مصرًا عليه . ولوح لي أن الدولة من مصلحتها أن تتخلص من هذا الرجل المجرم (الأودن) وأنني إذا ساعدتها في ذلك فإنها ستكافئني وهي لا تنسي من يخدمها .. فقلت له إنني عاجز عن خدمة دولتكم ، وحسبي ما أنا فيه .. وقلت له : قل لبدران الذي أرسلك إنني لم أمت ولن أموت إلا بإذن الله ..
فلوح بتهديد من نوع جديد .. وقال فيه ناس ميهمهومش الضرب ولكن فيه طرق أخري تنفع معاهم .. وفهمت ما يرمي إليه ، فقد كان يريد أن يفهمني أنهم سيحضرون زوجتي لإكراهي علي ما يطلبون .. ولما كنت قد وطنت نفسي صادقاً علي الموت ، فلم يفزعني هذا التهديد واعتبرته لونًا من البلاء المبين الذي كتب علينا .. وقد طمأنني ربي بأمور رأيتها زادتني إيمانًا ويقينًا بأن الله معي ولن يخذلني ولن يتخلي عني أبدًا .
وفي اليوم التالي أحضر سيدة ووقف يكلمها أمام باب زنزانتي بالمستشفي والباب مغلق ،وهو يتكلم بصوته الأجش وهي تتكلم بصوت خافت حتى لا أستطيع أن أميز الصوت .. ثم أمر جنديًا باصطحابها إلي سجن رقم 4 .. وفعلاً أخذها الجندي خارج المستشفي .. فساورني القلق ،وأردت أن استقصي الأمر فأرسلت أحد جنود العيادة ليراها ويصفها لي ، فذهب ووصفها لي فوجدتها سيدة أخري ساقتها الأقدار إلي براثن هؤلاء الوحوش فأراد أن يوهمني أنها زوجتي . ولكن الله من ورائهم محيط .
- * *