فن قيادة النفس البشرية (2)

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
فن قيادة النفس البشرية (2)
أ. أبو جرة سلطاني.jpg

بقلم: الشيخ أبو جرة سلطاني

مقدمات عامة.. مفاتيحها: اعرف نفسك وادعُ غيرك

لكل إنسان أربعُ قوى لا يُسخِّر منها- في المتوسط العام- سوى 10%، وأكثر الناس يعطلون بعضها مدى الحياة، وآخرون يستخدمونها استخدامًا سيئًا، فيحدث لهم ما حدث للجهات المختصة بما يُعرف بأسلحة الدمار الشامل، فلو دقَّقَت القوى العظمى حساباتها لأمرت بتفتيش كل واحد منا؛ لأن كل واحد منا يحمل حقًا "مشروعًا" نوويًّا يمكن أن يستخدمه في أية لحظة بإمكانيات بسيطة وبطُرُق بدائية- يملك أن يطورها في ظرف قياسي- إذا صمم كل واحد منا على إعادة اكتشاف ذاته على قواعد علمية دقيـقة الحساب لأهداف إستراتيجية.

ولكي أساعدك على إعادة اكتشاف ذاتك فإني أضع بين يديك "الخريطة النفسية" لكل بشَر، بصرف النظر عن ماهيته، تاركًا لك البحث عن الخطوط المكملة لها في تضاريسها الكبرى "الخاصة" بكل شخصية؛ لتدرك- منذ الوهلة الأولى- أن نفسك ليست شيئًا هينًا، وإنما الذي جعلها هينةً هو أنت؛ بإهمالك لقدراتك وإمكانياتك، وسوء استخدامك لقواك الأربع الأساسية، وأعني بها بشكل واضح ومباشر:

- قوة الروح (الجـوهرية ) المرفرفة بأشواقـها إلى سدرة المنتهى إلا إذا قُمِعت.

- قوة العقل (التفكيـرية) الموغلة بإدراكها في المجردات والملموسات إذا تحررت.

- قوة النفس (الغريزية) الغـارقة في مخاطات الشهوات والشبهات إلا إذا صامت.

- قوة الطين (الجـسدية) الهابطة إلى مهـاويها الترابية من حمإ مسنون إلا إذا رُفعت.

وهذه القوى الأربع لها جنودها وأشواخهـا، وسلطانها، وبأسها الشديد، وتجمعها جميعًا أربع حالات، هي: الطمع، والكبر، والشهوة، والشبهة.. وتتجاذبها أربعة نواسف، هي: المرض العصابي (الوسواس القصري، الاكتئاب الوهمي، القلق، اللغز، الخوف الغيبي)، ثم ناسف الشعور بالدونية (عقدة الإحساس بالتهميش، عقدة الانبهار بالآخر، عقدة الاستلاب الثقافي والفكري واللغوي، عقدة اليأس من اللحاق بالركب، عقدة استصغار الذات وتضخيم الآخر.. إلخ..)، ثم ناسف الإحساس بالإحباط والانفلات من قاطرة السير والدوران حول الذات، وانغلاق كل مساحات الأمل (في العمل، في الزواج، في السكن، في السفر، في كسب الاصدقاء أو نسج أي علاقة مع المحيط الخارجي.. إلخ)، وآخرها ناسف الانطوائية، والانكفاء حول الذات، والنظر إلى الحياة بمنظار السواد القاتم، والحكم على كل مناشط الحياة ومساعي الناس بأنها سراب وقبض الريح.

وتتوالى هذه الرباعيات بشكل مضطرد؛ حـيث تصل- حسب إحصائية طبية نظرية- إلى 19.556 حالة هي حاصل ضرب 4 في 4 على نفسها 16 مرة، وإذا كنت مستعدًّا أن أضع بين يديك صورةً مقربةً لهندستك الوراثية من الداخل لتطل على نفسك، فإني أدعوك إلى حفظ خارطة القوى الأربع سالفة الذكر وتفريعاتها؛ لتدرك أنَّك كائن أعقد من كل المفاعلات النووية، وأن فيك من المركبات ما يتجاوز كل تصور؛ ولذلك قلت في المقال السابق- في حديثي عن عموميات حول علم النفس الدعوي-: إن إدراك الجانب النفسي في فقه الأزمات (الخاصة والعامة) هو مفتاح الدعوة الحـقيقي، بل هو المفتاح الأول لولوج عالم نفسي لا نعرف عنه إلا السطوح في خريطة نفسية مخيفة.

خريطة النفس البشرية.. مفتاحها: أنت لا تعرف نفسك لذلك تظلمها فتتآمر عليك

الإنسان ذو أبعاد أربعة تتداخل مع أربعة أمزجة، وتتشابك مع أربعة أخلاط، تتوزع في شكل أربعة مستويات، تحملها أربع قوى، تتوزع على أربعة أجناس وتدور في فلك الفصول الأربعة على محاور مخلوقية (طبعية)، أربعة تنبثق عنها أربع مجموعات من النواسف (الأمراض)، يتم دفعها بأربع طرق من الكمالات (العلاجات الأساسية) وبالمنطق الرياضي 4 أس 10 (ما لا تعلمون).

هذه الرباعيات هي "جـوهر" مكونات الإنسان لأنها تتحكم فيه حقًّا، والذين يتحدثون عن البرمجة العصبية أو عن رسم الذاكرة، أو عن إعادة تشكيل العقل، وتأهيل النفس والعودة بالروح إلى فطرتها، ليسوا علماء تنظير، ولا هم هدفهم الضحك على ذقون الناس "سحرة" أو التلبس عليهم، وإنما هم علماء جادون في كل ما يقولونه بشرطَين لا بد منهما قبل "البرمجة":

- أن تكون هذه العمليات فردية (أي البرمجة العصبية الفردية) لكل فرد على حدة.

- أن يتم الفحص الدقيق للخريطة الجينية (الكلرموزمية) لكل فرد قبل "البرمجة" بدقة.

أعطيك مثالاً على القوى الأربع التي ذكرتها سابقًا؛ لتدرك "قيمتك" في الحياة، وتتيقن أن أعقد جهاز وُجد على وجه الأرض هو الإنسان، وأن كل المخترعات والمكتشفات لا تساوي شيئًا أمام الإنسان الذي ما زلت أكرر أنه لا يستخدم من قواه مجتمعةً إلا10% كمعدل عام للبشرية جمعاء، أما إنسان العالم الثالث فالمعدلات باعثة على الخجل، خاصةً إذا تعلق الأمر بقوة الروح وقوة الفكر، أما النفس والجسد (في جوانبها السلبية) فالمعدلات عالية وبغير ضوابط إنسانية ولا أخلاقية ولا حتى قانونية!! فهو بحق "إنسان سائب".

ولكي نقرب الفهم نفترض- مجرد افتراض- أن هناك إنسانًا يعيش بقوة واحدة فقط، معطلاً- عن عمد- بقية القوى تمامًا، كما تتـعطل المحركات الثلاثة (مثلاً) لطائرة ما، وتقطع ما بقي لها من رحلة بمحرك واحد، فما الذي يحدث لرحلة الطائرة..؟! ومن باب أولى ما الذي يحدث للإنسان؟!

- الافتراض الأول: هو افتراض إنسان يعيش بالروح فقط، فالرباعيات التي يدور فيها هي الهواء، الصفراء، الروحانية، البياض، الربيع والجمادية، فالهواء هو في كل مكان، ولكنه لا يبرح مكانه، وبالصفراء هو فوق كل الناس، وليس عنده شيء مما يملك الناس، (فهو أغنى الأغنياء مع شدة فقره، وهو ملك الملوك البشرية مع أنه جالس في بيته، وهو الناظر إلى صراع الناس على المادة نظرة الرجل إلى تهاوش الأطفال على اللعب.. إلخ)،

وهو بروحانيته يرى ما لا يرى الناس، ويسمع ما لا يسمعون، ويُدرك قبل أن يدركوا، فهو جالس في غرفـة التحكم، وهو ببياضه شديد الحساسية من بقية الألوان، لا سيما (الأسود)؛ لذلك لا يخالط الناس، ولا "يخوض" مع الخائضين، ولا يرى في دنيا الناس ما يغريه بمخالطتهم.. فعالمه داخل نفسه.

وهو في ربيعه يعيش داخل جنة نفسه، فيشم أريح الأزهار، وهي ليست موجودةً في الواقع، ويتخير أطايب الثمار والناس لا يرونها، وينظم القصائد في بدائع المروج وفي زقزقات العصافير وخرير مياه الأنهار وبديع صنع الخالق، ولا شيء من هذه الجماليات موجودة إلا في "جنة النفس" التي هي السعادة الحقيقية بغير أزواق، ولا ديكورات يراها الناس حقيقة، ويراها الروحاني قشورًا، فإذا أدرك هذه المقامات دخل في صفاء الكمال، وتجاوز عقبات الحل إلى إشراقات الحلول، فإذا توازن استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وإذا اختل توازُنه اجتث من فوق الأرض ما له من قرار كما يقول أقطاب الصوفية.

والتوازن هنا في قوة الروح، معناه الوقوف عند عتبة "فدنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى"، ودليل ذلك ظهور فراشة ترى وتنظر بنور الله، وتخترق بعض حجب الغيب.. وهذا مقام لا نتحدث عنه؛ لأنه "مخصص" لمن نهى النفس عن الهوى (شهوة وشبهة).

- الافتراض الثاني: وهو نقيض الافتراض الأول.. إنسان يعيش بقوة طينية فقط؛ فهو جسدي، شهواني، سوداوي، خريفي، حيواني، ترابي، فبجسده يهبط إلى مواقع "عرق الجسد" ليعمل نائمًا ويقبض أو يدفع قائمًا، وبشهوانيته يشطب الحواجز الثلاثة (فلا حرامَ عنده، ولا عيبَ ولا ممنوع) فلا يؤمن- أمام صراخ نزواته الشهوانية- بدين يحرم، ولا بأخلاق تعيب عليه الإسراف في الفعل، ولا بدولة تنظم نزوات الناس بقانون رادع، وهو بسوداويته لا يرى في الدنيا إلا لحظة لذة ورعشة هوان، فهو عدو كل بياض، وحرب على كل فضيلة تقف في طريق شهواته ونزواته ومتعه حتى لو تعلقت بالمحارم، وهو في خريفه يعيش تساقط أوراق كل الأشجار من حوله، واصفرارها وتحطمها في نفسه، فكل حياته خريف يودع بانتظار شتاء يدفعنَّ بقايا "أوراق الحياة الساقطة".

وهو بحيوانيته غريزي الطبع، فساد وشبق عبر عنها الشاعر الجاهلي بقوله: "ولولا ثلاث هن من عيشة الفـتى" وقصته معروفة بتشبيه نفسه بالبعير الأجرب، فكم في مجتمعاتنا إبل جرباء؛ لأنها اختارت نمط الحياة الغريزية، وسخرت قواها الجسدية في هذا "النضال"، فكانت نهاية بعضهم رعشة، والذين هم في الانتظار ما زالوا سجناء السلوك الحيواني الجاذب باتجاه الطين. وهل تشرف "قبضة" طين بغير "نفخة" روح..؟!

المصدر

قالب:روابط أبو جرة سلطاني