عملية السلام": هدف أم وسيلة للحل سلمي؟
بقلم : د. وحيد عبد المجيد
لا دلالة لقرار مجلس الأمن الجديد 1850 بشأن العملية السلمية الفلسطينية -الإسرائيلية إلا تكريس المنهج الذي يحل هذه العملية محل السلام الذي يفترض أن تستهدفه.
فكل ما يتضمنه القرار يدخل في إطار تأكيد أهمية عملية السلام واستمرار المفاوضات التي أطلقها مؤتمر أنابوليس في نوفمبر 2007 .
وعندما يكون الترحيب الوارد فيه بعقد مؤتمر دولي آخر في موسكو خلال العام المقبل جزءاً من هذا السياق، فقد لا يتجاوز الأمر إعادة إنتاج مؤتمر أنابوليس.
وإذا كانت قرارات مجلس الأمن بشأن الصراع العربي -الإسرائيلي افتقدت الجدوى، على مدى تاريخ هذا الصراع، فلم يعد تجاهل إسرائيل هذه القرارات هو السبب الوحيد لذلك، رغم أنه يكفي لإحباط أي جهد يُبذل في هذا الاتجاه.
وإذا كانت حكومة إيهود باراك (1999 -2001) وحكومة إيهود أولمرت الحالية أصرتا على شروط مستحيلة للحل السلمي، فما بالنا بالحكومة القادمة التي ترجح استطلاعات الرأي أن يقودها حزب "الليكود" الذي حقق متطرفوه الأكثر تشدداً نصراً جديداً في الانتخابات الداخلية الأخيرة لاختيار قائمته لانتخابات الكنيست في فبراير المقبل؟!
هدف الحل السلمي للقضية الفلسطينية تم اختزاله في "عملية سلمية"... والجميع الآن يعتبرون وجود عملية سلام بديلاً للسلام نفسه حتى إشعار آخر.
ففضلاً عن العقبة الإسرائيلية، أضاف الانقسام الفلسطيني سبباً آخر لا يقل أهمية لعدم جدوى القرارات الدولية، وأدى إلى إضفاء طابع شكلي على أي تحرك سلمي، بما في ذلك التحركات العربية.
وينطبق ذلك على رسالة جامعة الدول العربية إلى الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما قبل أيام على إصدار القرار 1850.
فهذه الرسالة التي بعث بها الأمين العام للجامعة ووزير الخارجية السعودي بصفته رئيساً للدورة الحالية للمجلس الوزاري العربي، هي نوع من خطاب التذكير والرجاء والتمني.
تذكير بأن الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش أطلق وعداً لإنشاء دولة فلسطينية في موعد غايته نهاية العام الجاري، ورجاء وتمنٍ بأن يتبنى أوباما وإدارته هذا الوعد ويسعى إلى تنفيذه خلال العام المقبل.
غير أن واقع الحال هو أن أقصى ما تتمناه الدول العربية، التي تخشى على قضية فلسطين من أن تندثر، هو مجرد استمرار "عملية السلام" بغض النظر عن النتائج التي تترتب عليها.
ويعني ذلك أن هدف الحل السلمي لهذه القضية اختُزل في عملية سلمية تعطي أملاً ما، حتى إذا كان زائفاً، في إمكان الوصول إلى هذا الحل.
والأرجح أن هذا هو أيضاً أقصى ما يطمح إليه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي زار واشنطن قبل أيام للقاء وداعي مع بوش.
كان عنوان اللقاء هو مراجعة ملف المفاوضات الفلسطينية -الإسرائيلية التي أطلقها مؤتمر أنابوليس، قبل تسليمه إلى الرئيس المنتخب.
فغاية ما يتمناه عباس وأنصاره هو أن تستمر هذه المفاوضات حتى لا يضعف موقفهم أكثر في مواجهة حركة حماس التي ما كان لدورها أن يتصاعد ونفوذها أن يتسع إلا لشعور عدد متزايد من الفلسطينيين بعدم جدوى المفاوضات.
وهكذا، يبدو أن الجميع، يتجهون إلى اعتبار وجود عملية سلام بديلاً عن السلام نفسه حتى إشعار آخر.
فإلى جانب العرب، والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، كان هذا هو المنهج الذي اعتمدته حكومة أولمرت التي لم يكن التفاوض مع الفلسطينيين خياراً مفضلاً لرئيسها، بسبب حدة الخلاف في داخلها.
وسيجد بنيامين نتانياهو هذا المنهج ملائماً له إذا أسفرت انتخابات الكنيست عن تقدم حزب "الليكود" بما يؤهله لتشكيل الحكومة القادمة.
وقد تابعناه وهو يسارع إلى طمأنة المجتمع الدولي قبل أيام بأن الحضور الكثيف للجناح الأكثر تشدداً في قائمة حزبه الانتخابية لن يحول دون استمرار "عملية السلام".
أما إدارة بوش، فقد ارتاحت إلى اعتماد عملية السلام هدفاً، وليست وسيلة بالضرورة إلى السلام منذ أن فرض عليها الفشل في العراق، وآثاره الوخيمة على دورها في المنطقة، أن تسعى للتعويض على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية.
فقد حرصت على استئناف هذه العملية تحت عنوان جديد هو "صيغة أنابوليس"، بعد أن انهارت "صيغة أوسلو"، بغض النظر عن إمكان التوصل إلى اتفاق.
وحين تعتمد إدارة أوباما بدورها هذا المنهج، وفق ما هو متوقع، لن يكون فيه جديد، ليس فقط لأنه بات قاسماً مشتركاً بين معظم الأطراف، ولكن أيضاً لأنه ينسجم مع الاتجاه الرئيسي للسياسة الأميركية منذ مؤتمر مدريد عام 1991 .
فما أن انفض ذلك المؤتمر، وبدأت المفاوضات الثنائية في ثلاثة مسارات متوازية، تحولت إلى أربعة لانفصال المسار الأردني الفلسطيني الذي بدأ واحداً ثم تحول إلى اثنين، حتى نأت الإدارة الأميركية بنفسها عن هذه المفاوضات.
فقد فضلت، كقاعدة عامة، أن تتيح الفرصة لإسرائيل لاستثمار الخلل في ميزان القوى واستغلال التناقضات العربية لمصلحتها.
ولعلنا لم ننس أن رسالة التطمينات التي بعث بها وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق شامير في 18 أكتوبر 1991 نصت على أن "الولايات المتحدة تؤمن بأنه لا يمكن لأي طرف خارجي التدخل لفرض حلول لا تقبلها الأطراف المتفاوضة".
وحافظت إدارة كلينتون الأولى على سياسة "عدم التدخل"، وأصبحت القاعدة هي عدم التدخل إلا لإنقاذ المفاوضات من انهيار محقق، والسعي لضمان استمرارها أو استئنافها إذا أوقفت بسبب شدة الخلاف على المائدة.
لذلك لم يكن صدفة أن "الاختراق" الوحيد، أو ما بدا أنه كذلك، في عهد هذه الإدارة تحقق في مفاوضات فلسطينية -إسرائيلية ثنائية سرية في أوسلو.
فلم يكن للولايات المتحدة أي دور في تلك المفاوضات التي لم تعرف عنها إلا في مرحلتها الأخيرة وفق معظم الشهادات.
وبعد توقيع اتفاق أوسلو، حافظت إدارة كلينتون الأولى على سياسة عدم التدخل في مفاوضات تنفيذه، رغم صعوبتها.
وتخصص دينيس روس، وزملاؤه في الخارجية الأميركية، في السعي إلى إطفاء أو محاولة إخماد الحرائق بعد اندلاعها.
وواصلت إدارة كلينتون الثانية المنهج نفسه حتى عامها الأخير، عندما اعتقد كلينتون أن ثمة فرصة كبيرة لتحقيق اختراق عظيم يتيح له الحصول على جائزة نوبل للسلام. فكانت هذه هي المرة الثانية التي مد فيها رئيس أميركي أصابعه لتمسك بتفاصيل المفاوضات، بعد أن فعلها جيمي كارتر قبل ذلك بنحو 22 عاماً، في المكان نفسه وهو منتجع كامب ديفيد.
وعندما فشلت المفاوضات النهائية التي رعاها كلينتون، جاء بوش الابن وقد قرر عدم مد أصابعه في الأزمة التي أشعلها فشل سلفه وغذاَّها جموح أريل شارون بزيارته المسلحة إلى المسجد الأقصى في 28 سبتمبر 2000 .
لذلك رأت إدارة بوش الأولى أنه ليس فى الإمكان أبدع مما فعلته إدارة كلينتون الثانية، وأخفقت فيه.
فاستبعدت تماماً خيار العمل لاستئناف عملية السلام.
ورغم أن التاريخ لا يكرر نفسه، كان بوش قد تولى الرئاسة قبل أقل من شهرين على انتخابات إسرائيلية فاز فيها حزب "الليكود" وشكل أثرها شارون الحكومة في سيناريو قريب للغاية من ذلك الذي تتشكل معالمه الآن.
فالانتخابات الإسرائيلية ستجرى بعد شهر تقريباً على دخول أوباما البيت الأبيض، واحتمال فوز "الليكود" هو الأرجح حتى الآن.
ولكن إذا كان بوش قد نفض يديه تماماً من عملية السلام طوال ست سنوات، فالأرجح أن أوباما لن يفعل مثله، وإنما سيواصل العملية التي طالبته جامعة الدول العربية بالحفاظ عليها، مثلما فعل كلينتون حين دخل البيت الأبيض في يناير 1993 ، حيث وجد عملية سلام جارية.
لذلك ستستأنف المفاوضات عقب تنصيب إدارة أوباما.
ربما تتأخر أسابيع أو شهورا قليلة.
وقد تسبب الانتخابات الإسرائيلية في فبراير المقبل صدمة تؤخر استئناف المفاوضات، وعندئذ سيكون نتانياهو في حاجة إلى بعض الوقت لترتيب أموره قبل استئناف المفاوضات.
لكنها ستُستأنف في النهاية، وسيكون الفريق الفلسطيني المفاوض جاهزاً كعادته، لكن مع فريق إسرائيلي جديد، وتحت رعاية سيدة أميركية أخرى هي هيلاري كلينتون .
وسيبدأ، على هذا النحو، فصل جديد في عملية السلام التي قد تحتاج، والحال هكذا، إلى خشبة مسرح أكثر من مائدة مفاوضات.
المصدر
- مقال:عملية السلام": هدف أم وسيلة للحل سلمي؟المركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات