صادق عبد الله عبد الماجد : كلمة وفاء (مختارات) بقلم هاشم الإمام

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
صادق عبد الله عبد الماجد : كلمة وفاء (مختارات) بقلم هاشم الإمام


لو ُقدّر لي أن أكتب كتاباً على غرار كتاب مايكل هارت ، أترجم فيه لمائة شخصيّة سودانيّة ممّن تركوا أثراً إيجابيّاً فيمن أدركوهم أو خلفوهم من الأجيال ، لجعلت الأستاذ الشيخ صادق عبدالله عبد الماجد - فسح الله له في عمره ، وبارك له فيه - على رأسهم ، فقد آتاه الله محابّ القلوب ، و جمع فيه من خصال الخير ما لو قسّم على كثير من أهل الأرض لوسعهم .

ولعلّ أبرز هذه الخصال ، وأظهر تلك الخلال : صدق اللهجة ، والحياء ، والبساطة والوفاء ، وحسن الخلق ، والسخاء ، فمعارف الأستاذ – وهم العدد الوفير والجمّ الغفير – على اختلاف أعمارهم ، وتباين أفكارهم ، وتفرّق آرائهم ، مجمعون على اجتماع هذه المزايا فيه ، لذلك لم يجرؤ حتّى خصومه السياسيّون أن يتهموه بشيء ممّا كانوا لا يتورّعون أن يتّهموا به رموز الحركة الإ سلاميّة وقادتها الآخرين ، لطهارة يده ، وعفّة لسانه ، وصفاء سريرته ، وترفّعه عن سفساف الأمور، وبعده في خصومته عن الفجور .

لمّا انشقت الحركة الإسلامية كان الشيخ صادق من قادة التيار المناويء للدكتور التّرابي ولكن رغم ذلك لم يجرؤ أحد من شيعة التّرابي ، وفيهم الغلاة والمتطرفون ، أن ينالوا منه، أو يذكروه بسوء ، تلميحاً أو تصريحاً ؛ لما وقر في نفوسهم أنّه إنّما دفعه إلى هذا الموقف صدقه مع نفسه والآخرين ، ووفاؤه لجماعة الإخوان المسلمين الذين انتمى إليهم ايّام طلبه للعلم في أرض الكنانة حيث بايع الإمام حسن البنا، منشيء هذا الجماعة ورأسها ، وعاش وسط كبار دعاتها وقادتها ، وتأسّى بهم ، وتربّى على أيديهم ، وأخذ عنهم طرائق التفكير ، ووسائل الدّعوة ، فكيف يتنكّر لهذا الماضي المشرق المحفور في وجدانه ، فيستبدل باسم " الإخوان المسلمين " اسماً آخر ! وإن زعم الزّاعمون أنّ الزّمان قد تجاوزه ، أو أنّ المرحلة تقتضي تفكيك التنظيم ، وفكّه من أسر النّخبة المتعلّمة ، والتّرخّص في شروط الانتماء إليه ، لتلتحق به طبقات النّاس جميعاً ، وتتغلغل فيهم رؤاه الفكريّة ، وما كان له أن يخون تلك الصّحبة الخيّرة والأخوّة العالقة بأسباب السماء ، فتنبتّ صلته بإخوانه في التنظيم العالمي بدعوى خصوصيّة العمل السياسي والدّعوي ، واختلاف وسائله من قطر إلى آخر ، فالانتماء إلى التنظيم العالمي لا ينافي هذه الخصوصيّة ، ولا يمنع مراعاتها ، ولكن فكرة الانتماء القومي الضيّق التي سادت في المشرق العربي ، تسرّبت إلى حملة الفكر الإسلامي ، فشكّلت بعض طرائق تفكيرهم ومناهجهم في التغيير . على أنّ ذلك لم يكن وحده سبب المفارقة ، فإنّ للشيخ صادق ومن انشق معه رأياً في منهج التّرابي السياسي ، وآرائه الفقهيّة ، وقناعاته العقديّة ، التي تخالف ما كان عليه سلف هذه الامة .

الشيخ صادق رجل بسيط في مظهره ومطعمه ومشربه ومسكنه ، كريم لا يبخل بما عنده ولا يتكلّف ما ليس عنده ، بيته عامر بالضيوف يلقاهم هاشّاً باشاً ، يقسّم الحديث بينهم حتّى ليظنّ من يلقاه بوجهه منهم أنّه المعنيّ بحديثه دون سائر جلسائه .

أذكر أنّني كنت أجلس معه مرّة في بيت أسرته بودنوباوي ، وأنا طالب في المرحلة الجامعيّة ، فدخل علينا الدكتور حسن الترابي ، وكان على موعد معه لزيارته ، فما خصّه بقرىً غير ما أقراني به ، ولا أحسست أنّه يهتمّ به أكثر منّي ، أو يستعجل انصرافي ، ولو فعل ما عوتب على ما فعل ، فما جئته على موعد ، ولا أنا ممّن يؤبه له ، ولكن هذا صادق ، وهذه أخلاقه ، وأخلاق المرء لا تتجزّأ .

كنت أختلف على حيّ ودنوباوي ( شارع الدّومة ) لزيارة أخوالي في العطلة الصيفيّة ، وكان يعجبني أن أجلس مع أقراني من شباب ودنوباوي في الشارع نلعب الكرة ونحكي غرائب القصص ، وقد وجدتهم يدخلون بيت أسرة الشيخ صادق ( ود النّاظر ) بلا استئذان يشربون من ماء البرّادة التي في الصّالة ثمّ يخرجون ، فصرت أفعل مايفعلون ، ولاحظ صادق أنّني لست من أهل الحيّ ، فاقترب منّي بلطيف حديثه حتّى استأنست به ، وقويت علاقتي به فصرت أوثر بيته على بيت أخوالي ، وربما قضيت معه الأيّام ذوات العدد ، وأخوالي يظنون أنّي قد ذهبت إلى الصُّفُر ( قريتي/ غرب شندي ) أو عدت إلى" مدني " حيث تعيش أسرتي ، وازدادت هذه العلاقة متانة حين قدمت إلى أم درمان للدراسة في جامعتها الإسلاميّة ، ثمّ أوهنت الأيّام وطول الغربة عن الوطن هذه العلاقة وأضعفتها حتّى كادت أن تذهبها ، فلقد زرته قبل ثلاثة أعوام في منزله بشمبات في معيّة أخي الكريم ، والكاتب العظيم نقيب الصحفيين الأستاذ النجيب آدم قمرالدين، ثمّ زرته العام الماضي في مركز الإخوان المسلمين بالعمارات في رفقة أخي الفنان التشكيلي المثقّف عصام عبد الغفار ، فما عرفني إلا بعد أن أرهق ذاكرته بالحفر والتنقيب ، وأنّى له أن يذكرني بعد ربع قرن من الزّمان مرّت فيه على السودان من الأحداث ما يجعل الحليم حيران .

والأستاذ الصّديق عصام عبد الغفار من قُدامى الإسلاميين العُزّاب ، و من السُّمّار ومحبي ( الونسة ) ورواية القصص ، فإذا جمعك به مجلس ، أو اصطادك على الهاتف ، فوطّن نفسك على الصبر والاستماع ، فلا مطمع لك في مشاركته بكلمة واحدة ؛ لأنّ حكاياته لا يفصل بينها فاصل، ولكن إحقاقاً للحق فإنّ أكثر حديثه مفيد وممتع وتتخلله الطرف والنّكات، وعنده من الروايات التاّريخيّة الشفويّة والوثائق والصّور النّادرة ما يستحق أن يطّلع عليها النّاس ، وهو ممّن شهد بابكر بدري ، وأحد كتّابه الذين أملى عليهم مذكراته ، ؛ لذلك اقترحت عليه أن يسجّل مذكراته إن لم يكتبها.

الأستاذ عصام ينافسني في حبّ شخصين آخرين إلى جانب الأستاذ صادق هما :العالم النحرير والشّاعر المفن البروفسر الحبر يوسف نور الدائم ، والفيلسوف الاجتماعي والمؤرخ والعالم اللغوي البروفسر جعفر ميرغني ، ولكنّه أحياناً يعترف بحبّي لجعفر ميرغني أكثر منه .

وبمناسبة المذكرات فقد سألت الأستاذ عن نشر مذكراته فما أجابني بما يشفي ، وإن لم يفعل فقد ظلم الشعب السوداني عامّة ، والمنتمين إلى الحركة الإسلاميّة خاصّة ؛ لأنّه شاهد عصره ، شهد أهمّ الأحداث في تاريخ السودان الحديث ، وشهد مولد الحركة الإسلاميّة ، وكان من مؤسّسيها ، وكذلك إن لم يفعل فقد ظلم محبي التاّريخ وعشاق الأدب ، وحرمهم من متعة قراءة التّاريخ بلغة الأدب .

وممّا كنت أتعجّب منه ويعجبني في الشيخ صادق صبره على ضيوفه الذين لا ينقطعون حتّى منتصف الليل ، ووداعه لآخرهم بمثل الحفاوة التي استقبل بها أوّلهم ، وهي صفة فارقة ومزيّة أحسب أنّها تميّزه على أقرانه من الساسة والمتصدّين للعمل العام .

للشيخ صادق فراسة ومعرفة بالنّاس ولكنّه لا يرى إلا جوانب الخير فيهم، وهو من أشدّ النّاس حرصاً على مشاعر جلسائه يحدّثهم في اهتماماتهم ولا يميل إلى المناصحة الباردة ، ممّا يجعل جليسه يشاركه في الحوارغير هيّاب، ومجلسه تجد فيه الطلاب ، والاساتذة ، والموظفين ، والعمّال ، وجيرانه ، وناخبي دائرته ، وكلّ يجد في بعض حديثه ما يهمه ويمتعه ، ولا غرو فقد آتاه الله إلى جانب حسن الخلق حسن البيان ، والقدرة على إيصال أفكاره بأوجز عبارة ، وأيسر كلام ، ولكل مقام مقال .

كان الأستاذ صادق كثيراً ما يسمعني الشعر أو يحدثني في الأدب لظنّه أنّ ذلك ممّا يعجبني ، وأذكر أنّني قابلته في جدّة في منتصف السبعينيّات ، فأخذني إلى شاطيء البحرالأحمر، وهناك أنشدني قصيدة إيليا أبو ماضي التي مطلعها :

قد سألت البحر يوماً هل انا يابحر منك

وما فعل ذلك إلا ليؤنسني ، ويدخل المسرّة في قلبي ، رغم علمه بما في القصيدة من هنّات عقديّة .

الأستاذ صادق من جيل الحركة الوطنيّة العظام الذين كانوا يحرصون على تجويد لغتهم العربيّة ، والاطّلاع على آدابها ولا سيّما الشعر، يستوي في ذلك من درس الآداب أو العلوم التطبيقيّة أو القانون ، وكان صادق ممّن درسوا القانون في مصر ولكنّه أعلم بلغة العرب ومذاهبها في القول من كثير ممّن درسوا في كليّات الآداب .

الأستاذ صادق صاحب قلم جريء وأسلوب متميّز ومن رواد الصّحافة الإسلاميّة في السودان ، فهو يكتب منذ الخمسينيّات ، وعموده الصّحفي ( ما قلّ ودلّ )يطابق عنوانه حقيقته ، ويكشف عن خبرة في الكتابة الصّحفيّة ، وقدرة بلاغيّة ، وقديماً قيل : البلاغة هي الإيجاز .

رغم أنّ الأستاذ يملك من المؤهلات العلميّة والمواهب الكلاميّة التي تجعل منه محامياً ضليعاً أو قاضياً مميّزاً إلا أنّه آثر مهنة التدريس على مهنة القانون ، فعمل معلّماً في مدرسة الأحفاد ، وأحسب أنّ الورع ورقة الحاشية وراء زهده في المهن القانونيّة كما أنّ التدريس مهنة أبيه ، وقد أحسنت السلطات المحليّة إذ سمّت الشارع الذي يفتح عليه بيت أسرته من الناحية الغربيّة باسم أبيه ( شارع النّاظر ) .

ليست هذه سيرة شخصيّة للأستاذ الشيخ صادق عبدالله عبد الماجد - وإن كنت أطمع أن يجدني أهلاً لكتابتها فيأذن لي في ذلك – ولكنها كلمة وفاء ، و دين له عليّ أردت أن أردّ

بعضه .

نقلا عن موقع سودانيز أونلاين

المصدر