سيف عبدالفتاح يكتب:الشريعة والمشروع
(11/1/2015)
بين الشريعة والمشروع صلة مكينة عنوانها ضرورات الاجتهاد، فالاجتهاد خصيصة بنيانية في كيان الشريعة.
إن التأصيل إذا لم يلحق بتفعيل وتشغيل ظللنا على أهميته تلك نراوح في المكان لا نمارس عملية الاجتهاد الحقيقي، فإن معرفة المتحصل من عمل الشاطبي في موافقاته (المقاصد الكلية العامة) والوعي بأصوله وعمله وهدفه، هذا الوعي التأصيلي يحتاج مع الأصل وصل ابتنائي قادر على استنباط الأصول وتفريعاتها، والأصول ومولداتها، والجذر وفروعه وثمره وأوراقه، وعناصر شبكيته ونسج خيوطه في إطار جامع يشد بعضه بعضًا.
كل ذلك في سياق منظومي فتكتمل حلقة أخرى من عناصر الاجتهاد المقاصدي ألا وهو (الاجتهاد المنظومي) بكل مقتضياته وتكويناته وغاياته، الذي يقوم على قاعدة ممكنة تحرك معاني العلاقات والتشبيكات، ضمن منظومة تتساند في عناصرها، تتماسك في بنائها، تتكامل في معانيها، تتكافل في مغازيها، تتواصل فيما بين أسسها وقوائمها.
التفكير المنظومي في الشريعة تراتب وأولويات، حقائق وموازين، قدرات وإمكانيات، أشكال وعلاقات، وهو بهذا المعنى يقدم قواعد التصاعد والتنازل في سلم تراتبي يضمن فاعلية عناصره، وتمكين أسسه وقوائمه، والتفكير المنظومي نسق وتنسيق وسياق، يقوم بعملية تنظيم للمفردات فيضعها كل في موضعه، ضمن عدل النظام وتراتبه، فكل موضوع بقدر، في موضعه متسقًا ببصيرة وعمق نظر، والتفكير المنظومي معمار وهندسة، حينما يتكامل البناء فإنه يكون عصيًا على الهدم أو النقض، كما أنه في تماسكه لا يقبل التفسيخ المتعسف أو المصطنع، فإذا فرغنا من كافة التفكير المنظومي واتفقنا على ما يولده من رؤية وتصور وإدراك، استقر ذلك في الفهم والفعل وصار فقهًا عميقًا لا بد أن يُكتب ويُدرس ويُعلم ويُدرب عليه ألا وهو أصول الفقه المنظومي الجامع والضام والكاشف والفارق المميز، والواصل في سياق متوالية من المنظومات تصون ولا تبدد، تجتهد وتجدد، تؤصل ولا تقلد، تيسر ولا تشدد، توسع الأفق والمجال رحبا يتمدد، تقارب وتسدد، وتمارس كل ذلك في تنوع وتعدد، وهي بذلك موصولة بالتراث تقف على مناهجه أكثر مما تذكر المسائل المتعلقة به وتردد.
هذا الفقه المنظومي هو القراءة الواعية البصيرة المتراكمة، الرافعة الدافعة، الحاضنة الحافظة، تقرأ الشريعة كالجملة الواحدة، فتفيض الشريعة بما تحوي، وتستكنه مكامنها فتعطي، وتجمع وتنضم وتتفاعل عناصرها فتقوى وتشد من بعضها بعضًا، العنصر في الشريعة كالبنيان يشد بعضه بعضًا، العلاقة بين الكلي والجزئي وبين الأصل والفرع عمليات منهجية تتضمن حقيقة تسكين الجزئي في كلييه وعقد الصلة والنسب بين الأصل والفرع ضمن عملية تسكين وتنسيب، يُرد فيه الفرع إلى الأصل ردًا جميلًا رحيمًا، مستقرًا ومكينًا من دون افتعال أو انفعال أو اصطناع أو تعسف وعسف، ومن ثم فهي منظومة بيان ومنظومية أفعال تصل النظرية بالتطبيق، والعلم بالعمل، والفكر بالحركة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
وهي لا تنظر إلى منظومة الآخرة كمنظومة منفصلة عن منظومة الحياة، وإنما هي منظومة الحياة الآخرة (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدنيا)، وكما في كثير من كتب التراث فإن (الدنيا مزرعة الآخرة) الآخرة المحرك الدائم للإنسان وعيًا وسعيًا في حياته ودنياه ومعاشه.
ويكون هذا الوصل في سياقات ما أمر الله به أن يوصل ضمن كدح إنساني حضاري متواصل يحركه الاختبار الدائم والابتلاء المستمر حتى الفتنة العظيمة معمل ابتلاء تتدرب فيه النفوس على أن تكون سامية راقية عزيزة "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون".
هذا "الفقه العمراني" والاجتهاد المرتبط به موصول بـ "علوم الأمة" أو "علوم العمران" تتكافل حيث يجب، وتتكامل وتتداعى وتتساند حيث وجب هذا الفقه في هندسة الفروع والتخصصات عمل متراكم، هذا الاجتهاد العمراني يتواءم مع حركة هذه العلوم وتكاملها، ذلك أن شجرة المعارف والتخصصات تعبر عن شجرة واحدة ذات فروع متنوعة ومتعددة، تعطي من ثمرها ولكل من تكويناتها وظائفها المخصوصة التي تجعل الشجرة مكينة الجذور طيبة الثمار، علوم اجتماع وإنسان ينتظم بها العمران في عمارة هذا الاجتماع الانساني بكل ما يحفز تكوينه وتماسكه وبنائه والوصول به إلى غاياته ومقاصده، علوم اجتماع وإنسان وشريعة تنظم بينها الأمة فتجعلها قبلتها وبوصلتها ووجهتها لا تنقطع عنها ولا تمتنع عن معاني الفاعلية فيها والارتقاء بها والنهوض بكيانها وتجديد عمارتها وعمرانها.
علوم بعضها من بعض من مشكاة واحدة تنشد إلى أصول واحدة ومقاصد حافظة وحاضنة ومرجعية كلية لا تقبل التجزيء أو التشطير أو التفسيخ، هذا هو معنى العمران المنتج للحضارة بكل عناصرها وأعمدتها وتنوعها فتحفظه وترعاه متجنبه أي عوامل تتسرب إليه فتفسده أو تقضي عليه بالخراب، وتظل أصول مجالات المقاصد تشكل إمكانية لأعمدة العمران البشري الحضاري وأصول يقام عليها العمران، وهي في ذات الوقت تشكل معايير لتصنيف العلوم وتربطها بها ( علوم الدين / النفس / النسل / العقل / المال /..).
هذا التصنيف للعلوم المختلفة إنما يتطلب نوعًا من الاجتهاد العمراني يقدم أعمدة وهندسة وأساسات البنيان باقتدار، ثم يعلو العمران ما أراد على أساس مكين وتفكير وتدبير رصين، يُبنى عليه فلا يتهدم، ويبتنى عليه فيشتد، ويراكم فوقه فيعلو سامقًا لا تطاولًا في البنيان، وإنما تمكنًا في هندسة وعمارة وعمران. حافظًا لأصل الكيان، ممكنًا في المكان، مؤسسًا في العمران، جامعًا في كل ذلك أصول البناء والبنيان، هادفًا إلى حياة طيبة في مواجهة المعيشة الضنك في معاش الإنسان، فإن تنزيل أصول المقاصد الكلية العامة من أول درجات هذا الفقه العمراني الهندسي في الفروع بل هو بمثابة الأعمدة والعمران المؤسسة لكل هندسة بنيان مراعية أصول الأمن والأمان.
هذا التنزيل في تفعيله وتفاعله يحرك النموذج المقاصدي في "أفق" متجدد، ومساحة "متمايزة" يتحرك الإنسان فيه مؤصلًا وموصلًا في آن لا ينسى أصل "الأصل" في "الوصل" الذي يتحرك على قاعدة أنه لا وصل إلا بأصل وأساس وتأصيل.
ومن هنا يكون البناء وفق أصول مرعية ووصل واتصال وتواصل ووصول إلى غاية ومقصد، فإنه من معاني الشريعة بل وأصلها مورد الماء الذي لا ينضب، ومن الواجب ألا يهدر أو ينحرف عن مصبه، وأن يتحرك كل من ارتبط به مصلحة ومنفعة لصيانته وحمايته واستثماره وتعظيم منفعته، وتقديم عطاءاته وتكثير وتعظيم فائدته، فكيف نشرع بالتعامل مع شريعة الماء ومواردها: صيانة وحفظًا، رعاية وتفقدًا، حماية وأمنًا، اجتهادًا وتجددًا، تفاعلًا وتفعيلًا وتشغيلًا، فإن لم تعط هذه الشرعة "ظاهرًا" في ناسها والمتبعين لها والمرتبطين بمواردها، فإن هذا ليس من تقصيرها أو تصورها، بل تصور هؤلاء الذين كانوا، وربما ما زالوا "قوما بورًا"، ففقدوا الأصل حينما افتقدوا فن الوصل والاتصال بالشريعة والوصول بطريقها المستقيم، اجتهاد مستمر يقوم بوظائفه في حماية الناس وتحقيق أمنهم وسكنهم وسكينتهم.
ومن هنا فإن هذا العمل الموزون في طبيعته وآلياته ومقاصده من حركة اجتهادية عمرانية هندسية تعلم فن إلحاق الفرع بالأصل والجزئي بالكلي في إطار فقه منظومي، يعرف للأصل معناه ومغزاه، ويعرف للفرع مبناه ومعناه فتأتي الفروع على شاكلة الأصل من مورده ولكنها تختلف وتتمايز رغم أنها تُسقي بماء واحد ومن شرعة ماء واحدة ممتدة لا مقطوعة ولا ممنوعة في أدائها أو عطائها أو مسيرتها ومسارها.. إنه "الفقه المنظومي" الذي يحرك طاقات الوصل مع الأصل في عمل مستمر ومستقر.
وبين الأصل والوصل والاتصال والتوصيل والتشبيك والوسائط الواصلة يأتي الاجتهاد العملياتي، فيرى الأمور في ثوبها العملياتي ناهضًا بتفكير يصل بين المسائل والوسائل، والمقال والمثال، والحال والمحال، وإدراك معاني الاضطراد والاستقرار والاستمرار والتجدد والتعدد ومراعاة التمدد والتعقد. فتأتي العمليات خطوات ومراحل، وخطة ووسائل، وقدرة وبدائل يصل الأداة بالأداء، والآلية بالتسيير، والإجراء بالتطبيق، والحركة بالتدبر والتدبير، والوسط بالوسائط، فتقدم العملية موصولة بـ "متصل" يبدأ بالتأسيس وينتهي بالغاية وصلًا للمرجعية بالرجعي، مرجعية الأساس ورجعي الاستقبال.
وتتحرك العملية بمنظومة من المسائل، ونسق من الوسائل، يتحرك صوب تعديل المائل، وإزالة الحائل، وتمهيد الطرق للسير والمسيرة والمسير الهائل، والوعي بالقابليات والقابل، وموافقة المقال للمقول والقائل ووصل بين الحشد والوعي، واتصال بين الوعي والسعي، فترشد الحركة والممارسة وتستثمر التأصيل والمدارسة، وتحرك عناصر المؤسسية والمداومة (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) فالنوع القليل المتراكم خير من المنقطع الكثير المتناثر، والعمليات صنوف وأنواع بين التهيئة والإعداد والاستعداد وبين الإرادة والفعل والعزم، ومن أراد الاستعداد طلب الاستمداد رغبة في الوصول والقبول والعمليات والممارسات، وأبنية ومؤسسات وقواعد وإجراءات ووسائل وآليات، وإمكانات وقدرات ومسهلات وعقبات (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة)، وأحوال وضغوطات وتغيير وتجديد وفقه مآلات.. فكل ذلك عملية من المهد إلى اللحد، ومن الميلاد إلى المنية مسيرة الحياة الموصولة بين الزرع في دنيا الناس وصولًا لرضا الآخرة، فيصير اليوم الآخر المحرك الدائم للإنسان والإنسانية.
وهي عمل موصول بين قيام القيامة، وقيام بالعمل والسعي، إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.. بين الغرس الدائم وتفريع العمليات واتصالها بالمقاصد والغايات اجتهاد الوقت من فروض الوقت ومن الحكمة الذهبية التراثية أنه "لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة وفقه البيان من أنواع الفقه المغيبة أو الغائبة"، ولا فقه بيان إلا بأصول و"بينات" وبين البيان والبينات وصل واتصال وأصل بجذر اللغة وكأن بوظيفة البيان من الوعي بالبينات الواضحات، وهذه سورة "البينة" تحرك كل عناصر البينة في الإيمان والاعتقاد والفكر والنظر والتدبر والعمل، والحركة والسلوك في أنساق تتحرك صوب معاني الشريعة التي هي:
حكمة كلها في باب المعرفة، وعدل كله في باب القيم، ورحمة كلها في كل أبواب السلوك، ومصلحة كلها في باب الغايات والمقاصد، على ما يؤكد ابن القيم بين معاني هذه الشريعة الموضحة لأنساقها يأتي الاجتهاد الواصل بين الواجب والواقع، فلابد من أن يعطي الواجب حقه من الواقع، ولا بد من أن يعطي الواقع حقه من الواجب فيتبادلان العطاء والصلة بحبل من الله وحبل من الناس، إنها علاقة أكيدة بين الشريعة والمشروع التي تحرك كل مساحات وساحات الاجتهاد. والتي سنأتي على تفصيلها في مقالات لاحقة.
المصدر
- مقال:سيف عبدالفتاح يكتب:الشريعة والمشروع موقع: الشرقية أون لاين