سنة التدافع أم صراع الحضارات (2-2)
بقلم : د. محمد عبدالرحمن ... عضو مكتب الإرشاد
محتويات
رؤية الإمام البنا لواقع الحضارة الإسلامية والنهوض بها
يوجز الإمام الشهيد رؤيته فى هذا المسار التاريخى، بما نشير إليه فى تلك النقاط السريعة:-
1. الحضارة الإسلامية هى الحضارة الحقيقية الشاملة للمادة والروح معاً والتى تتسق وتنسجم مع ناموس الكون وفطرة الإنسان وترتقى به الرقى الحقيقى فى كل جوانبه.
2. وتقوم تلك الحضارة على منهج ربانى هو الإسلام يؤهلها لقيادة الإنسانية وأستاذية الأمم والعالم كله... وهذه الخيرية لأمة الإسلام { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ..} [ آل عمران : 110] مشروطة باتباع منهج الله وأداء رسالة الإسلام، فهى خيرية دعوة ومنهج وليست خيرية جنس أو قوم أو عصبية .
يقول الإمام الشهيد :" قرر الإسلام سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها للأمم فى آيات كثيرة من القرآن .. ثم أوجب على الأمة المحافظة على هذه السيادة وأمرها بإعداد العدة واستكمال القوة حتى يسير الحق محفوفاً بجلال السلطة كما هو مشرق بأنوار الهداية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [ الأنفال: 60] ( رسالة مؤتمر طلبة الإخوان )
هذه هى الرسالة والمهمة التى صارت إليها أمة الإسلام، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسادت بحضارتها الإسلامية الدنيا كلها .
3. ويحذر الإمام من الانحراف فى أداء هذه الأستاذية : " ولم يغفل التحذير من سورة النصر، ونشوة الاغترار، وما تجلبه من مجانبة للعدالة وهضم للحقوق فحذر المسلمين من العدوان على أية حال " ( رسالة مؤتمر طلبة الإخوان )
4. ثم يوضح الإمام أنه نتيجة : للبعد عن الدين وجوهره، وعدم الأخذ بأسباب القوة تسللت عوامل الضعف والتحلل فى كيان الأمة الإسلامية: "
1- من انتشار الخلافات السياسية والعصبية،
2- وتنازع الرياسة والجاه،
3- والخلافات المذهبية والدينية،
4-والانصراف عن الدين كعقائد وروح وحياة،
5- وكذلك الانغماس فى الترف والنعيم والشهوات،
6- وغرور الحكام واستبدادهم،
7- الانخداع بوسائل الخصوم والمنافقين،
8- وإهمال العلوم العملية والمعارف الكونية. " ( رسالة بين الأمس واليوم باختصار)
5. ثم جاءت – وحال الأمة هكذا – محاولات الأعداء للقضاء على الأمة الإسلامية، ويوضح الإمام أيضاً جذور هذا العداء وتلك الحرب على أمة الإسلام. " .. أخذت هذه العوامل تعمل فى كيان الدولة الإسلامية، والأمة الإسلامية عملها، وظنت الأمم الموتورة أنه قد سنحت الفرصة، لتأخذ بثأرها وتقضى على هذه الدولة الإسلامية التى فتحت بلادها من قبل وغيرت معالم أوضاعها فى كل شئون الحياة." (رسالة بين الأمس واليوم).
ويقول أيضاً " .. وإنهم إن تفرقوا فى مطامعهم واختلفوا فى منازعهم، فهناك سبيل واحد اتفقوا عليه وأقسموا ليُنفذنَّه، هو القضاء على الإسلام والمسلمين، وهى إحن صليبية وسياسة رجعية تدفعهم إلى أعمال هى إلى الوحشية والجنون أقرب .. لا تخدعوا أنفسكم أيها المسلمون وحسبكم غفلة وحسن ظن بالأيام، فقد وصف الله لكم القوم فى كتابه فقال تعالى : { وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } [ البقرة 217]
وقال نبيه صلى الله عليه وسلم ما هو أصرح من ذلك وهم لا يرضيهم منكم إلا الردة وإلا الاستعباد، وبعد كل هذا لهم معكم حقد قديم ينتقمون منكم به " (من مقالة الإمام الشهيد عام 1931: واجب العالم الإسلامى أمام ما نزل به )
6. ونجحت الأمم الأوروبية فى هذه المرحلة، ونشرت حضارتها المادية . يقول الإمام : " وقد عمل الأوروبيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها الفتاكة، جميع البلاد الإسلامية التى امتدت إليها أيديهم .. مع حرصهم الشديد على أن يحتجزون دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة من العلوم والمعارف الصناعية والنظم النافعة وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعى إحكاماً شديداً، واستعانوا بدهائهم السياسى، وسلطانهم العسكرى، حتى تم لهم ما أرادوا وتمكنوا بعد ذلك من أن يغيروا قواعد الحكم والقضاء والتعليم، وأن يصبغوا النظم السياسية والتشريعية .. والثقافية بصبغتهم الخاصة فى أقوى بلاد الإسلام" (رسالة بين الأمس واليوم)
ويقول رحمه الله أيضاً :
" ولكن هذه الحضارة الغربية قد غزتنا غزواً قوياً عنيفاً بـ: العلم، والمال، وبالسياسة، والترف، والمتعة، واللهو، وضروب الحياة الناعمة العابثة المغرية .. واندفعنا نغير أوضاعنا الحيوية ونصبغ معظمها بالصبغة الأوروبية، وحصرنا سلطان الإسلام فى حياتنا على القلوب والمحاريب، وفصلنا عنه شؤون الحياة العملية .. وهذه الحياة الغربية بما تحتويه من مباهج ومفاتن، وبما لها من مظاهر القوة المادية تحاول أن تسيطر وتهيمن على ما بقى لنا من شئوننا الحيوية" ( من رسالة دعوتنا فى طور جديد)
7. ونتيجة تلك الحرب يتراءى للراصد مدى التفوق والسيطرة المادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية مما يعتقد معه أن المعركة انتهت لصالحهم، لكن هناك أمر أساسى وهام لم تُحسم حوله المعركة هو الشخصية الإسلامية ومدى صلاحيتها و استعدادها لأن تنهض من جديد وأن تمتلئ بالإسلام وتعيد مجده وحضارته وإن مظاهر هذا البعث بما تشمله من حركات وطنية وإسلامية قد بدأت.
لهذا تدور المعركة بقوة حالياً لتدمير هذه الشخصية الإسلامية وإفراغها من مضمونها وصنع نموذج خاضع لهم مشوه فى رؤيته وأفكاره وفى همته وإيمانه برسالته فيذوب فى شخصيتهم وحضارتهم الغربية، وكلهم أمل فى أن ينجحوا مثلما نجحوا مع الهنود الحمر ومع اليابانيين وغيرهم وبالتالى ندرك أهمية هذه المعركة الفاصلة التى تدور حول الأجيال الحالية والقادمة لأمة الإسلام وكيفية تربيتها وصياغتها الصبغة الإسلامية المتكاملة.
يقول الإمام البنا : "ونستطيع بعد ذلك أن نقول: إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية قد انتصرت فى هذا الصراع الاجتماعى على الحضارة الإسلامية بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً" فى أرض الإسلام نفسه وفى حرب ضروس ميدانها نفوس المسلمين وأرواحهم و عقائدهم وعقولهم، كما انتصرت فى الميدان السياسي والعسكرى، ولا عجب فى هذا، فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ والقوة قوة فيها جميعاً، والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [ آل عمران: 140] ( رسالة بين الأمس واليوم)
ورغم شدة الهجمة، فإن مبادئ الإسلام ما زالت قائمة : " وإن كانت مبادئ الإسلام وتعاليمه ظلت قوية فى ذاتها، فياضة بالخصب والحياة جذابة أخاذة بروعتها وجمالها، وستظل كذلك، لأنها الحق، ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملة فاضلة بغيرها، ولأنها من صنع الله وفى حياطته {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر: 9]، { وَيَأْبَى اللَّـهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ التوبة : 32] ( رسالة دعوتنا فى طور جديد)
8. وأصبح واجباً علينا استرداد دورنا، وإقامة نهضتنا وحضارتنا، يقول الإمام : "وهكذا أيها الإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات، وان يشرق نور دعوتكم فى ثنايا هذا الظلام وأن يهيئكم الهً لإعلاء كلمته، وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج: 40] ( رسالة دعوتنا فى طور جديد)
ويقول أيضاً : " وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه أغاليط الماضى ونتجرع مرارتها، وأن يكون علينا رأب الصدع، وجبر الكسر وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا، واسترداد عزتنا ومجدنا وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا" . ( رسالة هل نحن قوم عمليون)
9. " لهذا يدعو الإخوان المسلمون إلى أن يكون الأساس الذى تعتمد عليه نهضتنا : توحيد مظاهر الحياة العملية فى الأمة على أساس الإسلام وقواعده" (رسالة دعوتنا فى طور جديد)
وأن علي الأمة طريقاً طويلاً من الجهاد لتحقيق هذه الغاية: " وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف، وصراع قوى شديد بين الحق والباطل، بين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس للأمة عدة فى هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة، والعزيمة القوية الصادقة والسخاء بالتضحيات، والإقدام عند الملمات، وبغير ذلك تغلب على أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها" ( رسالة هل نحن قوم عمليون .. )
ويقول أيضاً : " إن تكوين الأمم وتربية الشعوب يحتاج من الأمة إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل فى عدة أمور :
- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.
- ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.
- وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.
- ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصمه من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.
وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً " ( رسالة إلى أى شيء ندعو الناس)
ويقول: " بهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل فى تأييد الله إياها، أحياها الراعى الأول صلى الله عليه وسلم فى قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله" ( رسالة دعوتنا فى طور جديد ).
10. " ثم بين الله تبارك وتعالى أن المؤمن فى سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه وماله، فليس له فيها شيء، وإنما هى وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس: { إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [ التوبة: 111]، ومن ذلك نرى أن المسلم يجعل دنياه وقفاً على دعوته، ليكسب آخرته جزاء تضحيته، ومن هنا كان الفاتح المسلم أستاذاّ يتصف بكل ما يجب أن يتحلى به الأستاذ من: نور وهداية ورحمة ورأفة، وكان الفتح الإسلامى فتح تدين وتحضير وإرشاد وتعليم، وأين هذا مما يقوم به الاستعمار الغربى الآن ؟! " {رسالة إلى أى شيء ندعو الناس)
سنة التدافع
المنهج الإسلامى وما ينبنى عليه من حضارة إسلامية، لا يحمل فى مبادئه الاعتداء على الآخرين أو الغلبة والقهر لأحد، أو سيطرة جنس على آخر أو إشعال الصراع والحرب، وإنما الأصل أن الأمة الإسلامية صاحبة رسالة تشرحها وتوضحها دعوة وتطبيقاً لكل العالم، وهى دعوة إيجابية تواجه كل صور الظلم والاستبداد لتزيله من حياة البشر أياً كان، وكذلك تواجه المعوقات التى تمنع وصول دعوتها للعالمين وتزيلها حتى لو لزم الأمر استخدام القوة.
اما الصور والنماذج الأخرى من الدول والإمبراطوريات أو الأشكال المختلفة من الحضارات الإنسانية الخارجة عن نطاق رسالة الإسلام فكان منهجها قائم على السيطرة والصراع وعصبية الجنس والحروب وكان منهجها تجاه حضارة الإسلام أو من يمثلها هو الحرب والإقصاء ومحاولة القضاء عليها.
وهذا الأمر حقيقة تاريخية وواقع تحدثت عنه آيات القرآنية ورأينها فى قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم عندما جاءتهم دعوة الإسلام، ولهذا كان على أمة الإسلام أن تدفع هذا العدوان وتدفع هذا الظلم، وأن يكون لها موقفاً فاصلاً حاسماً مع الباطل، تراعى فى ذلك مبادئ وقيم رسالتها، وتحذر كل صور الظلم وتجتهد فى إقامة الحق والعدل. { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّـهِ كَثِيرًا } [ الحج : 40]، { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 41] لهذا كانت هناك " سنة التدافع" التى قررها الله فى الأرض وأصبحت تكليفاً لكل المؤمنين جهاداً خالصاً فى سبيله أن يدفعوا عدوان الباطل ويتصدوا له مهما كانت إمكانياتهم وأن الله على نصرهم لقدير.
وهذا العدوان من الباطل ليس خيالاً أو توهماً وإنما هو أمر واقع وسلوك ضمنى ينبع من الطبيعة البشرية، ومن المنهج الذى تدين به ومن الاعتراض على دعوة الإٍسلام، وبدون هذا التدافع البشرى المؤيد بالرعاية الربانية، لكان حال الأرض إلى الفساد والهلاك وغلبة الباطل عليها.
وهذا التدافع والجهاد له سنن وقوانين يجب على أهل الحق التزامها والتمسك بها وقد وضحتها كذلك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعرف هذا بسنن التمكين فى الأرض.
ونظرة الإسلام فى تعامل دولته وأمته مع الدول والأمم الأخرى تقوم أساساً على :
1) الدعوة وإبلاغ رسالة الإسلام للجميع.
2) تشجيع التعاون والتعارف فيما فيه خير الإنسانية وفق قيم العدل والمعانى السامية، وبما يحقق سعادة وسلام الإنسانية .
3) المعاملة بالمثل، فمن اعتدى عليها واجهته وردت عدوانه، ومن سالمها سالمته، بما يحفظ لأمتها العزة والكرامة.
والحضارة الإسلامية يتسع صدرها لكل شعوب العالم وحضاراته وقيمه الخاصة به، وحقه فى أن يعتز كل منها بقوميته دون اعتداء على الآخرين. وهى تزن رصيد وتراث وحضارات هذه الأمم بميزان الإسلام وقيمه، فما وافق منها مبادئ الإسلام أقرته، وما خالفها أوضحت رأيها فيه، وهى تأخذ بالنافع المفيد مما فيه عمران الأرض والكون وتستفيد من خبرات الآخرين، وتصبغه بالصبغة الإسلامية، وتوجهه التوجيه النافع الصالح لها وللبشرية.
وأمة الإسلام تدرك سُنّة التدافع فى الكون، وأنه لابد للحق من دعاة يحملونه وأمة تتبناه وتقر مبادئه، وتؤمن له الحرية والحماية وتدفع الاعتداء والظلم فى الأرض.
صراع الحضارات، والمقصود من الحوار
نحدد أولا ما المقصود بهذا الصراع، وما هى أبعاده؟
فهناك مثلاً صراع المبادئ والقيم، وإذا كان هذا أمر وارد بين اجتهادات البشر فالأصل فيه هو الحوار والجدال ولكن بعض الدول تتبنى منطق السيف والقهر لإظهار وسيطرة مبادئها وإرغام الناس عليها.
وإذا نقلنا الحديث عن الإسلام بقيمه ومبادئه وعن النماذج البشرية الأخرى بقيمها المنحرفة عنه، فالأصل عند الإسلام هو {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ } [ النحل: 16] وما كان الجهاد والسيف إلا لدفع الاعتداء، أو لإزالة الظلم والمعوقات التى تحول بين الإنسان ووصول دعوة الإسلام إليه، ولتأييد وحماية حركة الدعوة ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
لكن الواقع التاريخى أن الباطل وقيمه المنحرفة عن قيم الإسلام، لا يحتمل هذه المواجهة الفكرية ولا يصمد أمامها فكان يلجأ للعنف والتعذيب والقتل والنفى لمواجهة هذه الدعوة .
إن الحضارة والفلسفة الغربية ما زالت تقوم على فكرة صراع الحضارات واستهدافها، إخضاع وقهر الدول والحضارات الأخرى وسيطرة الجنس الغربى على العالم كله، بل ومع طبيعتها تلك يوجد صراعات أخرى داخلية فيما بينها لا تكف عنها حيث هناك من يستفيد من آلة الحرب، ويستغل هذه الفلسفة، وقد يأخذ الصراع صوراً أقل حدة من الحرب المباشرة إلى صراع المشروعات وتقاطع المصالح.
والإسلام يرحب بأى دعوة للحوار لعرض مبادئه وقيمه وإظهار سموها، فهى من عند رب العالمين، وكذلك يرحب أن نتعاون فى إطار القيم المشتركة المتفق عليها وما فيه من صالح العدل ورقى البشرية وقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستجابة لمبادئ حلف الفضول الذى فيه نصرة للضعيف ومنع للظلم.
لكن أن يكون معنى الحوار وهدفه أن يتنازل الإسلام قليلاً عن بعض مبادئه لنلتقى فى منتصف الطريق، فهذا خروج على الحق وخروج على رسالة الإسلام وليس بحوار وتعاون، أو أن تكون الدعوة إلى الحوار وإشاعة الودّ فى ناحية، ومن ناحية أخرى يقوم بالظلم والاضطهاد والاغتصاب لحقوق المسلمين وبلادهم ولا يحرك ساكناً تجاه ذلك، فهذه دعوة للتخاذل والتسليم، وازدواجية فى المقاييس والمواقف، ولعب بالعقول واستهزاء بالحقوق.
إن الحوار لابد أن يقوم على أسس واضحة من الحق والعدل الذى لا يتجزأ ومن الموقف الواضح العملى من أى ظلم واعتداء.
وهناك صورة من الصراع ليس من أجل القيم والمبادئ ولكن من أجل المصالح والسلطان وامتلاك القوة، وهذا نراه كثيراً بين الدول وبعضها البعض، وإذا كان فى حق أمة الإسلام فقد جمع الأمر بين النموذجين صراع الباطل ضد القيم والحضارة الإسلامية، وصراع دولة للهيمنة والسيطرة على بلاد المسلمين ومقدراتهم.
فكيف يكون الحوار بين أمة الإسلام وهذه الدول المعتدية عليها، إنه لابد أولاً من أن توقف عدوانها أو تمتنع عن مساندة هذا العدوان، وأن ترد كل ما أخذته وتعوض عما اقترفته ثم يأتى بعد ذلك الحوار والتفاهم لإقرار العلاقات وصور التعاون، أما حوار السيطرة والقهر والظلم فهذا مرفوض فى كل منطق ويأباه كل حر.
فهذه الحرب من ناحيتهم هى صراع وعدوان ومن ناحية الأمة الإسلامية هو دفع ورد للعدوان فموقف الأمة الإسلامية من صراع الحضارات أنه صراع مصطنع من حملة الباطل وقوى الظلم والاستبداد، وهى تدعو إلى استبداله بالاتفاق على القيم والمثل الإنسانية وأن تكون حضارة الإنسان منطلقها الإيمان والأخلاق وألا نعبد إلا الله، وأن تقوم حضارة الإسلام التى تحمل نموذج الهداية المستمد من الشريعة الربانية بدورها فى الدعوة والوصول بالإنسانية إلى الرقى الحضارى الإيمانى.
خاتمة
والقوى التى تواجه الأمة الإسلامية فى هذا الصراع أو ذلك التدافع فصّل لنا القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعتها ومراحله، وأنه محاولة لمواجهة نور الحق، ومنهج الإسلام ومن يحمله، وأنه لا محالة سيكون الباطل مهزوماً بوعد الله وقدره لكن علينا أن نأخذ نحن بأسباب الثبات والنصر التى قدرها الله إذا أردنا أن نكون من أهل الحق بصدق { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء : 81] لكن هذا الصراع العنيف لا يجعل أمة الإسلام تشتط أو تتجاوز أو تظلم وتعتدى { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ المائدة : 8]
ويأتى هذا التدافع فيميز الله به الخبيث من الطيب، ومن خلاله تترسخ قيم الحق والعدل فى مواجهة قيم الباطل فى الأرض .. يبدأ الصراع وأهل الحق قلة مستضعفة قليلة فى الوسائل والإمكانيات، وتتحمل الكثير من الجهد والتضحيات، ويجرى عليهم اختبار الزمن وتمر عليهم أنواع الفتن والابتلاءات ، لكى يتم تمحيص الإيمان وتحقيق الصدق والتجرد الكامل لله ، ومع استفراغ الجهد البشرى تتأخر عنهم النتيجة ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ )(البقرة: من الآية214) (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا )(يوسف: من الآية110) فيكون عليهم الثبات والصبر ، متعلقة قلوبهم بالله وليس بالنتيجة أو بمدة معينة فيأتيهم نصر الله بالأسباب التى يقدرها وفى التوقيت والصورة التى تقتضيها حكمته فلا يظن أحد منهم أنه حقق النصر بفضل مجهوده البشرى أو نتيجة لخطته المحكمة ، وعلى الجانب الآخر تجد أمامها أهل الباطل كثرة متفوقة فى كل الوسائل المادية، ويبذلون أقصى الجهد عندهم، ورغم هذا لا ينجحون فى القضاء على الحق أو ينتصرون فى النهاية ليدركوا أن هزيمتهم لم تكن للتقصير فى الجهد الذى بذلوه وإنما لأنهم باطل فى ذاته وأن ترك الله لهم إلى حين هو إمهال لهم ليريهم قدرة الله ومشيئته المطلقة وتدبيره المحكم .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [ الأنفال: 36]