د. عصام العريان يكتب: دروس التاريخ الحديث لمصر

التاريخ هو ذاكرة الأمة ومصدر إلهامها وتجاربها الثرية، كما أن اللغة هي الوعاء الثقافي الذي يحدد هوية الأمة، ويجمع ذلك كله "الدين" الذي يحدد عقيدتها وتصوراتها للكون والإله والحياة ومصدر تشريعاتها وقوانينها.
وتاريخ مصر على مدار آلاف السنين يشهد بأنها كانت منذ قديم الزمان دولة محورية وعالمية، ومحل صراع شديد بين القوى العالمية المتسلطة والمهيمنة، ومطمع لكل زعيم عالمي يريد السيطرة والغلبة.
وكان لمصر على مدار التاريخ، قديما ووسيطا وحديثا ومعاصرا، جيش له دور ضخم خاض معارك عظيمة بدءا من "قادش" وانتهاء بـ "رمضان – أكتوبر"، مرورا بحروب لا تحصى: عين جالوت، حطين، نافارين، المورة، وفي الحجاز ونجد، وعلى مشارف الأناضول ... إلخ.
ونحن نعيش استمرار الحراك الثوري الذي بدأ يوم 25 يناير، ومهد له جهاد ونضال واسع للشعب المصري العظيم، يجدر بنا أن نستعيد ونتذكر بعض دروس التاريخ الحديث الذي بدأ مع عصر محمد علي، وبقيت آثاره معنا حتى يومنا هذا، بهدف الاستفادة والتصحيح إن لزم للمسار الثوري، وما يعقبه أو يصاحبه من مسار دستوري.
وعلى اختلاف مدارس ومناهج المؤرخين، فإننا كمصريين نرتبط في تاريخنا بالشخصيات العظيمة التي أسست لأحداث تاريخية فاصلة، مع اعتبار أن آثار هذه الشخصيات لا يلغي دور الشعب على مدار التاريخ، فهو الصانع الحقيقي لكل التطورات، وهو الذي بذل الجهود الشاقة تحت قيادة هذه الشخصيات المؤثرة.
(1) محمد علي باشا، والأسرة العلوية:
- به يبدأ تاريخ مصر الحديث، وهو الذي اجتهد لفصل مصر (مع خلفائه من أحفاده) عن الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية.
- إلا أن أهم ما يلفت الاهتمام في عصر الأسرة العلوية هو احتقار الشعب وعدم الرجوع إليه، فسرعان ما نكل محمد علي بعمر مكرم الذي نصبه حاكما، ونفذ بقلب بارد أشهر مذبحة في تاريخ مصر "مذبحة المماليك"، أيا كان النقد الذي يصيبهم، فهم الذين واجهوا الحملة الفرنسية بشجاعة وبسالة مع الشعب وشيوخ الأزهر الذين احتواهم أو أرهبهم، وقسم أراضي مصر بطريق "الالتزام" على أصفيائه وخلصائه، فنشأ بذلك نخبة جديدة من الإقطاعيين يدينون له بالولاء التام، ويخضعون لمشيئته، ويجمعون له الضرائب والمكوس والأموال.
أشهر إنجازات محمد علي هي:
- إقامة جيش مصري، ولكنه في الحقيقة اعتمد في غالبيته وقياداته على غير المصريين (سليمان باشا الفرنساوي)، وابن محمد علي (إبراهيم باشا)، وقليل من الفلاحين.
- واقتضى الجيش عدة أمور، منها إنشاء صناعات ومدارس ومعاهد لخدمة الجيش الذي يحتاج إلى تجهيزات وأطباء ... إلخ.
- وكان لا بد من توظيف الجيش، فكانت الحروب التوسعية لمحمد علي، سواء في خدمة الخلافة العثمانية في الحجاز وغيرها، أو بغرض التوسع لزيادة رقعة مملكته وسلطانه في أفريقيا والشام واليونان.
- وكانت نتيجة هذا الجيش وحروبه هي التي أدت إلى انهيار أحلام محمد علي ثم خضوع أولاده وأحفاده من بعده للتبعية الذليلة المهينة لمصر.
- فقد تحالف الجميع ضده وضد أسرته من بعده، فكان إجباره على التنازل عن عرش مصر لابنه عباس، وحصاره داخل مصر بعد هزيمته أو هزائمه المريرة في البحر والبر.
- وكان من نتيجة ذلك، السعي إلى التقارب مع الأوروبيين على حساب مصالح مصر العليا بتأسيس شركة "قناة السويس" بمساهمة أوروبيين، ثم بيع حصة مصر في عهد الخديوي إسماعيل بسبب الديون الأجنبية ورهن مصر للنفوذ الأجنبي الاقتصادي والسياسي ثم العسكري والفكري والثقافي، حتى كان الاحتلال الإنجليزي السهل، بعد أن نجح المصريون قبل محمد علي في هزيمة حملتين: الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، والإنجليزية بقيادة الجنرال فريزر.
- وانتهى حكم أسرة محمد علي بحركة الجيش الذي أسسه هو نفسه، وبسبب النفوذ الأجنبي الذي مهد له ابنه وحفيداه (سعيد وإسماعيل) وبسبب الاستبداد الذي أنشأه بحكمه الفردي وجبروته، وبسبب الظلم والفساد الذي نشر الفقر والجهل والمرض في ربوع مصر العظيمة.
(2) أحمد عرابي باشا : (الثورة العرابية) بداية الحزب العسكري:
- قاد هذا الزعيم المصري الذي مات مغضوبا عليه مظلوما وظالما بعد نفيه لسنوات، حركة من أجل إصلاح الجيش والحياة الدستورية النيابية، والدفاع عن حقوق الفلاحين من شعب مصر، إلا أنها باءت بهزيمة نكراء واحتلال أجنبي إنجليزي دام 70 سنة.
- وكانت هذه أول محاولة لإصلاح الجيش وإنصاف المصريين بعد أن تحول الجيش إلى مجرد ديكور ليس له دور، فلم يخض معارك حقيقية بعد انهزامه في عهد محمد علي، وفرض عليه تقليص الجنود والمعدات، وكان الشعب مغيبا رغم إصدار ما يشبه الدستور في عهد "إسماعيل"، وتولية "توفيق".
- شارك عرابي في حركته (الثورة العرابية) أسماء بارزة، مثل الشيخ محمد عبده، والأديب عبد الله النديم، إلا أن سوء التقدير والخيانة وعدم الاستعداد جعل النهاية سريعة، ودب الندم في نفس محمد عبده، لدرجة النكوص عن المشاركة في أي نشاط سياسي، والاكتفاء بالسعي لإصلاح ما يمكن إصلاحه في الأزهر. وكانت تلك أيضا أول محاولة جادة لإصلاح مناهج التعليم والإفتاء في المؤسسة الدينية الأزهرية.
إ:لا أن أبرز ما قام به محمد عبده (رحمه الله) هو تربية جيل جديد من القيادات السياسية والفكرية والاقتصادية، تنوعت مشاربهم واهتماماتهم، مثل: سعد زغلول باشا، وقاسم أمين، وطلعت حرب ... إلخ.
كان نصيب عرابي قول أمير الشعراء "شوقي":
صغار في الذهاب وفي الإياب ... أهذا كل مجدك يا عرابي؟!!
(3) مصطفى كامل والحزب الوطني (الجامعة الإسلامية):
- من أبرز زعماء مصر الذين ظلمهم المؤرخون والكتاب، بسبب أنه مات مبكرا في سن الشباب، وأنه كان يرفع شعار الجامعة الإسلامية، والولاء للدولة العثمانية، وأن الحزب الذي أسسه حاربه الاحتلال الإنجليزي والأسرة العلوية الحاكمة، وبقية التيارات التي نشأت في فلك الفكر الليبرالي الحديث المتغربون، وهؤلاء الوطنيون الذين قبلوا بمبدأ الحلول الوسط وفاوضوا الاحتلال، في حين كان شعار الزعيم مصطفى كامل والحزب الوطني هو: "لا مفاوضات إلا بعد الجلاء". وخلَّد ذكره فقط شعراء مصر العظام بقصائد لا تزال من غُرر الشعر العربي.
- وتضاءل نفوذ الحزب الذي يعتبر أحد أقدم التحارب الحزبية إن لم يكن أولها؛ لأن حزب الثورة العرابية تفكك واندثر، ولم ندرك من رجاله إلا هؤلاء الذين تماهوا للأسف الشديد مع انقلاب يوليو، وبسبب كراهيتهم الشديدة لحزب الوفد الذي ورث زعامة مصطفى كامل وحزبه في الساحة الشعبية.
ركز مصطفى كامل على استجداء العون الأجنبي الأوروبي ضد الاحتلال، فلم ينجح، ومات شابا. __________________________
(*) أهم الأخطاء التي صاحبت تلك المسيرة الطويلة، كانت:
1- استدعاء التدخل الأجنبي ومحاولة اللعب على تناقضات الدول الكبرى.
2- إهمال الدور الشعبي، وعدم التركيز على تربية الشعب وتهيئته لإصلاح شامل ومسيرة طويلة وشاقة.
3- التركيز على الأشخاص، مما جعل تاريخ مصر طوال قرنين من الزمان هو تاريخ شخصيات بعضها عظيم وبعضها لا يستحق أية مكانة في التاريخ.
4- عدم وجود عمل مؤسسي حقيقي له برنامج واضح محدد للنهوض بالبلاد، وتوصيل الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والمرافق لكل مواطن.
5- بروز دور الجيش منذ محمد علي مرورا بعرابي، مما أدى إلى إهماله بعد الاحتلال، حتى عاد ليحتل المشهد كله في حركة الجيش عام 1952 التي تحولت إنقلاب ثم ثورة اجتماعية.
المصدر
- مقال:د. عصام العريان يكتب: دروس التاريخ الحديث لمصر موقع: إخوان الدقهلية