د. سيف الدين عبد الفتاح يكتب: أسياد وعبيد
(12/28/2014)
يُذّكر ابن خلدون كل من يهتم بعمران الإنسان والكيان، أن الظلم مؤذن بخراب العمران، والظلم يُمارس بأشكال كثيرة وهو ليس فقط يهدم الدولة، ويفكك مؤسساتها، بل كذلك يقوض أسس المجتمع وعناصر الثقة فيه وفي كثير من المؤسسات التي يتعامل معها، وهو ما يعني أنه بذلك يَقطَع الأواصر بين شبكة العلاقات المجتمعية، فضلا عن أنه يخرب أي علاقة سوية بين الدولة والمجتمع ويهدم كل الأركان التي تشيد هذه العلاقة وتؤسسها على أساس متين ورصين.
تبدو تلك التسريبات التي تأتي واحدا بعد الآخر لتسوغ فسادا وتقوض أسسا لمؤسسة القضاء والتدخل في عملها ومسارات الاستقلال التي دائما ما تشكل هذه المؤسسة الحيدة التامة وإرساء قواعد العدالة العامة من دون تفرقة أو تمييز بحيث يكون ذلك إقامة للعدل بأحكام القاضي إقتضاء للحقوق وانتصاف المظلوم ومحاسبة الفاسد أو المنخرف، القضاء بهذا المعنى هو ملاذ للدولة والمجتمع معا، فيرشد مسار الدولة ويشكل أحد الأدوات لمحاسبتها ورقابتها، ويشيد ويؤسس ثقة الناس الذين يفزعون إلى سند القضاء، حينما يفقدون السند وحينما يفتقدون العدل، وكان التقاضي بالنسبة لهم شأنا مهما يستطيع من خلاله أن يصل إلى حقوقه وينال مطلبه في عدل قائم وقسط دائم.
ترى في هذا التسريب أن منظومة الفساد محل إقرار من أجهزة الدولة التي صارت المؤسسة العسكرية تسير كل مؤسساتها بعد انقلاب عسكري سافر وتتدخل في شأنها فتهدم أركانها وجوهر وظائفها وأدوارها، فيصدر هذا التسريب بتوصيف دقيق لحدث لا نعلمه ولكن أتى الوصف بأن ذلك "ليس إلا رشوة" ثم يعقب ذلك بضحكة سخرية، "خلاص .. ماشي ،طيب ياحبيبى..طيب يافندم"، الفساد إذا معروف؛ الطبيعة والهوية والتكييف، ولكن إقرار ذلك أيضا مقبول بل يعد من القواعد الراسخة، وكأن أجهزة الدولة صارت تجمع وتحتوي على مجموعة من الفاسدين أصحاب التهمة والشبهة، فيجعلون هؤلاء جميعا في الصدارة وهم مكسورون حتى يسهل قيادهم والتأثير على قرارهم ومواقفهم، هم بذلك يمررون هذا الفساد حتى يحصنون الفساد الكبير والظلم الخطير، وكل ذلك في النهاية ليس إلا خرابا للمجتمع والدولة والإنسان والعمران.
وهذه الطريقة التي تصنع بها القوانين بعد أن صدعوا رؤوسنا أن لا قوانين تصدر إلا بحوارات مجتمعية ولم نر أي شيء يمكن أن يمت بصلة لهذه الدائرة التي تتعلق بحوار يرشد أو يسدد العمل القانوني في عمل ينفرد فيه المنقلب الرئيس بعملية التشريع من دون ضابط أو رابط وبلا مراقبة أو حساب، القرارات تصدر بالمئات، والقوانين تصدر بالعشرات وفي النهاية من يجرؤ على الكلام، من يجرؤ على الاحتجاج أو الاعتراض، في الحقيقة هؤلاء الذين يشكلون القانون وفق مصالحهم وأولوياتهم لا تعنى بخدمة الناس ولكن تعنى بتمرير المصالح وتقوية جانب المؤسسات التي تشكل أدوات الظلم المقيم والفساد العميم.
وها هي "دولة الترحيلات" تحاول أن تسوي وتمرر موضوع "سيارة الترحيلات" التي تعتبر فضيحة كبرى وإجرام لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن نحمله بما يعبر عن استخفاف بحرمة النفوس، إن صورة هؤلاء في هذا الحدث المشؤم إنما تعبر عن خلايا سرطانية لفساد الدولة وإنهيار مؤسساتها حينما تقوم كل تلك المؤسسات بعمل لا يهمها فيه حرمة لروح الإنسان أو كيانه، ولا يعتبرون أن الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه، وأن حرمة نفسه أشد على الله من حرمة الكعبة المشرفة، ولكن هؤلاء يواصلون استهانتهم ويقررون أن مسيرة الظلم هي القائمة وأنها طريقة دائمة، يقومون بها من غير أي خجل أو حياء أو خوف من حساب أو عقاب، إن الاستهانة بأرواح الناس إلى الدرجة التي يطلق فيها مدير مكتب وزير الدفاع آنذاك الحاكم الفعلي للبلاد وهو يتذكر وهو يطللب منه تمرير تشريعين، فيتحدث معه عن موضوع يتعلق بسيارة الترحيلات، يسمي ذلك الموضوع بكل استفزاز وفجاجة "الموضوع بتاع الحاجة وثلاثين واحد".
الإنسان وفق هذا التعبير صار شيئا أو سقط متاع، يعبر عنه بلفظ تحقيرى فى لغة العامة "حاجة.."، وهو بذلك لا يهتم بالعدد فإن عموم الناس أعدادهم كثيرة بحيث أن قتل وخنق وحرق سبعة وثلاثين منهم ليس بالأمر الذي يستأهل الاهتمام، وهو أمر يتعلق بعقلية الظالم حينما تجعل من الظلم سياسة طبيعية تمارسها في حق عموم الناس، فإن ماتوا أو قتلوا، فلا قيمة لهم، إنهم في النهاية "حاجة" لا قيمة لهم إنهم مصنفون وفق تصور هؤلاء بأنهم من العبيد، لا وزن لهم ولا قدر لهم عندهم، ويجعلون كل هؤلاء مجرد أرقام وليست نفوسا عظم الله قدرها وجعل لها حرمة "ملعون من هدمها".
وحينما يذكر هذا الجهبذ القانوني والمستشار ومساعد وزير الدفاع بهذا الموضوع فإن مدخله في ذلك أن ضابطا برتبة النقيب "ابن أحد الأسياد" هو أحد المتهمين في مثل هذا العمل الجبان والمجرم، هذا هو مجال اهتمام من يحكموننا، دائرة الأسياد التي لا تخطيء وإن أخطأت لا تحاسب، وإن حوسبت شكلا لا تعاقب، وفي حقيقة الأمر فإن هذا التعبير الذي يتعلق بالنفس التي تحولت إلى مجرد شيء حقير لا وزن له ولا قيمة له ولا حساب له، بينما من اقترف الجرم يُلتمس له المخارج، إنها تصريحات مباشرة من المنقلب الرئيس ومن وزير الداخلية ومساعديه ومدراء الأمن بل وتحريض من بعض هؤلاء المشايخ الذين احترفوا أن يقدموا الفتاوى للسلطان بما فيها فتاوى القتل والضرب في المليان ، ماذا يفعل هؤلاء سوى أن مدير المكتب الذي يمثل وزير الدفاع آنذاك يتحدث عن هذا النقيب المسمى "إسلام" .."شوف حاجة لازم نعمله حاجة .. الواد هيموت" هكذا يلتمس لأولاد الأسياد كل مخرج حتى لو أجرموا.
فما كانت إلا استجابة فورية من ذلك الجهبذ القانوني المتعهد بكل شئون القضاء، وإضفاء كل غطاء داخل إطار القانون وخارج إطار القانون، يتلاعبون بكل شيء فيقول "هكلم القاضي" ،فيؤكد عليه الآخر الذي يمثل هذه السلطة العسكرية والتي يدعي رئيسها أنه لا يتدخل في القضاء ولا يؤثر عليه فمن يؤثر إذا حينما يتحدث هذا الجهبذ "هكلم القاضي"، فيرد عليه الآخر في تمثيلية ومسرحية هزلية لمحاكمة عبثية يقول "شوف له شهود من زملائه" الأمر هنا يتعلق بالتحكم في القضاء وتوجيهه وتزوير الشهود وتلفيق بصدد حادثة عرف بها القاصي والداني، ها هي المؤسسات التي تتعلق بالدولة، مؤسسة عسكرية حاكمة، ومؤسسة قضاء قاضية، ومؤسسة أمنية يُخرّج لها التخريجات حتى لو أجرمت، ألا تدرون أن تلك هي المؤسسات الثلاث التي قال عنها أنها "الدولة" مضيفا إليها "إعلام الإفك" الذي يمرر هذه الأكاذيب ويضفي الغطاء على كل تزوير أو تلفيق.
هكذا في مشهد التسريب ترى الأبطال يتمثلون في المجرمين، يحكمون ويتحكمون، من يزورون ويمررون الجرائم ليس فقط لأن هؤلاء من طبقة الأسياد، أما الآخرون فيُعتقلون ويُكدسون في سيارة الترحيلات ويطلقون عليهم الغاز فيُخنقون ويُحرقون ويُستشهدون، لا وزن لهم، إنهم في عرفهم أشياء "حاجة وثلاثين" ليس إلا، وهذه المؤسسات التي وثقنا فيها وقلنا أنها أعمدة الدولة إذا بها تقوض كل شيء لإقرار كل فساد ورشوة، وتأثير لتمرير الظلم، وإملاء على قضاة، وشهادات زور، كل ذلك ليس إلا مشهدا يعبر عن واقع مر كشف عنه الستار هذا الانقلاب الذي صار يعمل ما يعمل ليس في الخفاء ولكنه يتبجح بكل ذلك، ثم يقولون أن كل منتقد لهم إنهم يقوضون الدولة إنهم يفككونها، يا هؤلاء لو عرفتم لماذا قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير؟، لأنها في حقيقة الأمر تثور على دولة الأسياد الفسدة المزورون، وتحرر كل هؤلاء المُعتَبرين عبيدا فيطالبون بعيش كريم، وكرامة إنسانية، وحرية أساسية، وعدالة اجتماعية، هل عرفتم الآن أن ثورة يناير لن تترك الميادين حتى تنتهي دولة أسياد مزيفين وتقيم دولة العدل والحق المبين؟
إن آلة الظلم تتحكم، وتصور دولة الأسياد والعبيد يتمكن، والمؤسسات صارت في خدمة الأسياد وتسهم في تبرير وتزوير حتى وإن قُتل المواطنين الذين يعتبرونهم من طبقة العبيد، هل عرفتم الآن لماذا القاضي الأول لهذه القضية والذي أعلن عن تنحيه لأسباب تخصه؟، وهل عرفتم الآن سياسات طبخ القضايا في "مطبخ مرفق العدالة"، ليكون هناك حكما أوليا ثم حكما استئنافيا أفرز في النهاية خروج هؤلاء من سجنهم لأن أولاد الأسياد لا يحبسون ولا يحاسبون، قالوها من قبل، وأكدوا عليها، والآن وجب علينا أن نعى أصل القضية التى ترتبط بمستقبل مصر السياسي، ومؤسساتها، وعلاقة الدولة بالمجتمع، وعلاقة الإنسان والمواطن والمحكوم بحكامه الذين لا يقيمون له وزنا ولا يعتبرون أن له حقا.
المصدر
- مقال:د. سيف الدين عبد الفتاح يكتب: أسياد وعبيد موقع: الشرقية أون لاين