حصلت النقابة على استقلالها-فمتى تُحقق الصحافة المصرية حريتها؟!
حقَّق الصحفيون في مصر مفاجأةً جديدة؛ باختيارهم الأستاذ "جلال عارف"- الناصرى الاتجاه- نقيبًا لهم بفارق أصوات كبيرة عن منافِسه الأستاذ "صلاح منتصر"، ولم يكتفوا بذلك، بل اختاروا مجلسًا للإدارة العريقة غالبيته من المعارضة الإسلامية- "الإخوان المسلمون" والناصريون (8 من 12)-، وبذلك نستطيع القول بأنه وبعد مُضيّ أكثر من عشرين عامًا حققت نقابة الصحفيين حدثًا هامًا واستقلالاً حقيقيًا عن السيطرة الحكومية، نقيبًا ومجلسًا، وقد أثار ذلك سؤالاً أكثر أهمية وهو هل يمكن إذن أن تصبح الصحافة المصرية أكثر حرية وأشد استقلالية؟! لا يُنكر أحد أن هناك نسبةَ حرية تتمتع بها الصحافة المصرية- قياسًا على بلاد المنطقة العربية والعالم الثالث- لكنها وإذا قارناها بمقاييس الصحافة الحرة في العالم تتراجع إلى ذيل قائمة الصحافة الحرة، ويصبح الحديث حول مجرد التنفيس عن البخار المكتوم.
ويكفي كمّ التعليقات حول الانتخابات الأخيرة (30/7) لمجلس إدارة نقابة الصحفيين؛ للتدليل على حجْم المفاجأة، مما يعنى أن ما حدث كان اختراقًا هامًا لجدار الحصار الحكومي على الصحفيين أنفسهم، فما بالُكم بالصحافة كمهنة ومؤسسة اجتماعية لها دور هام وكبير.
كانت الانتخابات الأخيرة دليلاً آخر على فشل القانون الشاذ المسمَّى بضمانات الديمقراطية في النقابات المهنية رقم 100 لسنة 1993م، والذي سعَى النظام من خلاله لحصار المجتمع المدني والجماعات الأهلية، ممثلة في أقوى أجنحتها وهي النقابات المهنية، وذلك بذريعة منْع سيطرة التيار الإسلامي "الإخوان المسلمون" على مجالس إدارة تلك النقابات، بعد أن حقق طوال عِقد كامل "1984م – 1993م" نجاحات ملموسة في هذا القطاع الهام من المجتمع، تمثّلت في:
1- زيادة الإقبال على التصويت في الانتخابات النقابية أضعافًا مضاعفة (في نقابة الأطباء كانت النسبة أكثر من 10 أمثال).
2- انتظام الجمعيات العمومية للنقابات المهنية لأول مرة في تاريخها.
3- استقلالية النقابات على التوجهات الحكومية في مجال السياسات الداخلية والخاصة بالمهن المختلفة، وطرح رؤى تخالف ما تذهب إليه الحكومة.
4- المشاركة الواسعة للنقابات في الهمّ الوطنى العام، وتبني مواقف ضد الضغوط الخارجية، مثل قضايا حرب الخليج الثانية ورفْض المشاركة فيها بقوات مصرية، والتطبيع مع العدو الصهيوني، ومنعه بقرارات للجمعيات العمومية، وأخيرًا تبنّي مقاطعة بضائع الدول التي تضطَّهد وتحارب الشعوب العربية والإسلامية، مثل البضائع الصهيونية والأمريكية.
5- تحقيق قدر كبير من الاستقلالية المالية للنقابات بعيدًا عن الدعم الحكومي بتبنّي سياسة راشدة لتنمية موارد النقابات ذاتيًا، وبرفْع الاشتراكات للأعضاء، وفرْض رسومٍ على الخدمات النقابية، وتوفير مزيد من الخدمات عن طريق معارِض السلع المعمرة ومشاريع الإسكان وغيرها.
6- توفير الخدمات الضرورية لأعضاء المهن، خاصةً في مجالات:
أ- العلاج الصحي عن طريق مشاريع التأمين الصحي النقابي.
ب- التضامن الاجتماعي عن طريق صناديق التكافل.
جـ- مشاريع الإسكان الاقتصادي.
د- تنمية المشروعات الصغيرة للأعضاء.
هـ- المساعدة في مجالات البحث العلمي.
و- التدريب وتنمية المهارات، خاصةً في المجالات الحديثة.
لهذه الأسباب وغيرها من القدرة التنظيمية الحالية ونَقاء الذِّمم وطهارة اليد، إضافةً إلى نُبل المقصد، وسموّ الغاية، والتفاني في الخدمة العامة، والانتشار الواسع، فضلاً عن اندراج العمل النقابي في إطار منظومات اجتماعية أوسع للتيار الإسلامي.
كانت أصعب النقابات- في نظر خصوم التيار الإسلامي- على الاختراق هما نقابتي المحامين والصحفيين.
الأُولى بحكم الاتجاه الليبرالي الذي صبغها لفترات طويلة ممثلاً في حزب الوفد، والثانية بحكم غلبة الفكر اليساري والناصري على جموع الصحفيين في مصر والحصار المحكم على أي صحافة إسلامية؛ مما يقلل القاعدة الانتخابية للتيار الإسلامي.
وعندما نجح الإخوان في تحقيق فوز تاريخي في انتخابات المحامين1992م، واستطاعوا تشكيل هيئة مكتب النقابة وضمان أغلبية في مجلسها: كان صدور القانون 100 لسنة 1993م لعرقلة هذا النمو والانتشار؛ لأن ذلك كان جرس إنذار وها نحن نشهد اليوم- وبعد عشر سنوات على صدور هذا القانون العجيب- الفشل المتكرر لهذا القانون في تحقيق الأهداف الحكومية.
فعندما جربت الحكومة تطبيق القانون في نقابة الصيادلة عقب صدوره فوجئت بالنجاح الكبير للإخوان والقائمة والمتحالفة معهم: أولاً في انعقاد الجمعية العمومية التي يشترط القانون فيها حضور 50% + 1، وثانيًا في نجاح القائمة الإخوانية.
وعندما استجاب الإخوان للقوى الوطنية وتبنّوا سياسة "المشاركة" وقرَّروا أن يطرحوا على بقية التيارات الانضمام في قائمة قومية ووطنية واحدة كان رد فعل الحكومة الأعجب وهو إلقاء القبض على كل القيادات النقابية الإخوانية في القضية الشهيرة "النقابات المهنية"، ومحاكمتهم عسكريًا، وسجنهم لمدة من 3-5 سنوات ولم يفرج عنهم إلا مؤخرًا، بمعنى ¾ المدة في بارقة أمل لتعاطٍ إيجابي من النظام، ومع ذلك تمت انتخابات نقابة المحامين 2001م، وكانت المفاجأة في ظل هذه الأجواء المحمومة، نجاح النقيب الناصري الأستاذ "سامح عاشور"، وفشل النقيب المدعوم من الحكومة والحزب الوطني الأستاذ "رجائي عطية"، ونجاح كل القائمة الوطنية التي ضمَّت غالبية إخوانية وحزبية من تيارات مختلفة ومتنوعة.
وعاد الإخوان لإدارة النقابة العريقة التي كانت فرضت عليها الحراسة لمدة ست سنوات تقريبًا. وها نحن نشهد الفشل الذريع لهذا القانون وللسياسة الحزبية الحكومية في التعاطي مع النقابات المهنية، فيفشل المرشح نقيبًا للصحفيين الذي جاء لحل الخلافات بين رؤساء المؤسسات الصحفية الذين ينتمون جميعًا للحزب الحاكم، وكان لافتًا للنظر أن تنشر "الأهرام" نتيجة الانتخابات بهذا العنوان المثير للدهشة على صفحتها الأولى والداخلية (عارف نقيبًا بـ1785 صوتًا، منهم 280 من الأهرام، و"منتصر" يحصل على 1415 صوتًا، منهم 663 من الأهرام)، وكان رئيس مجلس إدارتها ورئيس تحريرها الأستاذ "إبراهيم نافع"- نقيب الصحفيين السابق- يبرئ نفسه، وهو الذي منعته خلافات الحزب الداخلية، وصراعات رموزه وتياراته، وحسد زملائه من رؤساء المؤسسات من الترشيح للموقع، خاصةً بعد صدور أحكام قضائية متضاربة وآخرها يمنعه من الترشيح؛ لأنه شغل الموقع لدورَتين متتالتين فاسْتجاب لنصائِح مخلصة بعدم تعريْض النقابة لمشاكل قانونية قد تضفي بها في النهاية إلى نفق الحراسة المظلم.
عكست أزمة نقابة الصحفيين- قبيل الانتخابات- الأزمة الحقيقة التي يعاني منها النظام في مصر، والصراعات الداخلية بين مراكز القوى داخل الحزب، هؤلاء الذين تحولوا إلى أمراء مماليك جدد.
خبر الأهرام يُظهر بوضوح أن النقيب السابق يبرئ مؤسسته من النتائج التي أظهرت فشل الحزب الحاكم، ويلقي بالتبعة على مؤسسات أخرى لم تُظهر الانضباط الحزبي اللازم!!
هل يعالج النظام الأزمات كلها دفعة واحدة ولو بتدرُّج، فيدرِك أن أزمة النقابة هي جزء من أزمة النقابات المهنية كلّها، والتي تسبَّب فيها القانون الشَّاذ والعَجيب الذي لم يُغنِ عن الحكومة شيئًا.
وهل يدرك أنَّ أزمة النقابة المهنيَّة جزءٌ من أزمة المجتمع المدني "الأهلى" كله الذي يعاني من الاختناق؛ بسبب الإجراءات والقيود الحكومية والحزبية المتربِّصة بالقوى الحية في المجتمع والتي تمنع المبادرات الأهلية وتشل حركة الناس والهيئات في مجالات الدفاع عن حقوق الإنسان وخدمة المجتمع، وتحقيق التضامن الاجتماعي والتماسك بين طبقات المجتمع.
هل يدرك أن أزمة المجتمع الأهلى هي جزء من الانسداد السياسي الذي وصلنا إليه في مصر؛ بسبب القيود على حرية تشكيل الأحزاب والقيود على حرية إصدار الصُّحُف والحجْر على حرّية الصحافة وتدفُّق المعلومات، بل أيضًا شكليه المؤسسات الدستورية مثل البرلمان وغيرها، بل وصلنا إلى مؤسسات يجب أن ننزِّهها عن النقد، مثل القضاء، وكانت أزمة نقابة الصحفيين في أحد تجلياتها عاكسة لأزمة في أحكام القضاء التي صدرت بشأنها.
أخيرًا استطاع الصحفيون تجاوز السدود والعقبات، وحققوا نسبةَ حضورٍ عاليةً جدًا (3328 من 4332)، وانتخبوا مجلسًا جديدًا لإدارة نقابتهم، وأيدوا نقيبًا مُعارضًا وغالبيةً معارضةً كذلك. فهل يستطيع المواطنون المصريون أن يحقِّقوا حرية الوطن ومؤسساته الدستورية (البرلمان) في انتخابات حرة نزيهة؟!
وهل تستطيع نقابة الصحفيين- في ظل إدارة مجلسها الجديد- أن تُحقق بعضًا من أحلام الصحفيين أو المواطنين وهي كثيرة: منها إلغاء عقوبة الحبس ضدَّ الصحفيين، والاكتفاء بالغرامات المالية عن مخالفة القانون، وحرية إصدار الصحف، وحرية الوصول إلى المعلومات، وإذا لم يستطيعوا ذلك فعليهم على الأقل أن يجاهدوا لتحسين أحوال الصحفيين المعيشية والوظيفية، وهذا أيضًا لن يكتمل إلا إذا تحققت أحلام المواطنين المصريين!!.
- من قيادات جماعة الإخوان المسلمين
وأمين مساعد نقابة الأطباء المصرية وعضو مجلس الشعب السابق
المصدر
- مقال:حصلت النقابة على استقلالها-فمتى تُحقق الصحافة المصرية حريتها؟!إخوان اون لاين