حزب الله: من "حرب الأمة" إلى "حرب الزواريب"
بقلم : فادي شامية
بعيداً عن الحب أو البغض الأعميين، فإن المراقب المحايد لأداء حزب الله السياسي في الفترة الأخيرة، ولا سيما بعد حرب تموز، تستوقفه جملة أخطاء فادحة أضرت بشعبية وصورة هذا الحزب، بعد أن راكم بدماء وتضحيات أبنائه وقادته صورة تكاد تكون مقدسة خلال سنوات مقاومته الباسلة والمشرفة في مواجهة العدو الصهيوني.
الوضع في لبنان اليوم من أخطر ما يكون، وتكاد تكون حادثة أمنية واحدة، أو جريمة اغتيال أو تفجير جديدة كافية لتفجّر بركان الغضب الملتهب في صدور كل اللبنانيين، وحزب الله مسؤول كما بقية الفرقاء المتصارعين، لكن مسؤوليته أكبر منهم جميعاً، ليس لأنه يفترض أن يختلف عنهم فكرياً ومسلكياً، بل لأنه تجاهل نصائح الأخصام والأصدقاء، بضرورة تجنب الشارع واعتماد التفاوض سبيلاً للحل، لكن الأهم في مسيرة حزب الله السياسية حجم الأخطاء المرتكبة منذ أن قرر علناً الدخول معترك الحياة السياسية الداخلية، وفيما يلي أهمها:
1- تحويل بوصلة الصراع نحو الداخل: بالأساس فإن أهمية حزب الله وقوة شعبيته نابعة من كونه حالة مقاومة ضد الاحتلال، "شيعية" هذه المقاومة تزيد من أهميتها في حاضر وماضي الأمة وليس العكس، وقطعاً فإن مناصري حزب الله ومحبيه في الخارج هم أكثر منهم في الداخل، لكن هذه الشعبية الخارجية الهائلة لا يمكن صرفها داخل بلد "طوائفي" كلبنان، كما لا يمكن استعمالها في صراعات الحزب الداخلية، ويستحيل أن تخرج الجماهير العربية لتؤيد الحزب وترفع صور أمينه العام لنصرته على "أعدائه" الداخليين، كما يستحيل أن تتعاطف مع "التغذية الراجعة" لقوته العسكرية في الداخل، ولا شك أن كل صراع داخلي يدخل أو ينجر إليه الحزب سيلطخ سمعته، ويهشم صورته في الخارج قبل الداخل، وما يخوضه حزب الله اليوم في لبنان معركة في الداخل بامتياز، مهما حاول ربطها بالصراع مع العدو الإسرائيلي، بل إن هذا الربط بحد ذاته يزيد من ضعف موقفه لأنه خطاب استعداء للآخرين، وخسرانٌ لتعاطف محبيهم، وعليه فإن حزب الله اليوم يحرق نفسه بتحوله من صناعة "حرب الأمة" إلى النزول إلى مستوى "حرب الزواريب"، وبتغيير مسار مقاومته من مزارع شبعا إلى القصر الحكومي، وهذا هو بالضبط الخطأ القاتل الذي ارتكبته المقاومة الفلسطينية عندما جعلت لفلسطين ممراً إجبارياً من جونية، فسقطت وأسقطت معها لبنان في حرب أهلية.
2- الالتصاق بالقوى الإقليمية المتصارعة: الصراع الإقليمي في المنطقة حقيقة مسلّم بها من حزب الله قبل غيره، لكن ما يدأب الحزب على التأكيد عليه أنه يعمل بأجندة لبنانية صرف، إنما للأسف الشديد فإن الواقع يكذب هذا الأمر، فأكثر اللبنانيين لم يفهموا بعد "مصادفتي" الاستقالة من مجلس الوزراء عند طرح المحكمة الدولية إلا من باب "دفع الفواتير" للحلفاء، وإلا فالمفروض أن يعمل حزب الله بأقسى ما يستطيع لقيام هذه المحكمة طالما أنه يتهم إسرائيل بعمليات الاغتيال في لبنان، كما لم يفهم معظم اللبنانيين، بمن فيهم المتظاهرون أمام القصر الحكومي الآن، كيف تحوّل الرئيس فؤاد السنيورة من "مقاوم سياسي" إلى "عميل أميركي"، وكيف تآمر على المقاومة رغم موافقتها على القرار 1701 واعتبار هذا القرار جزءاً من الانتصار الذي فرضته بالدم، لم يفهم الناس بعد كيف أصبح ميشال عون، "أبو القرار 1559"، مقاوماً، وكيف صار إميل لحود ناطقاً باسم الدستورية والشرعية والميثاقية، وهو الذي انتُهِك الدستور لأجله مرتين، وفرض التمديد له بالإكراه، لم يفهم اللبنانيون هذه الأمور وأشباهها إلا في إطار الهامش الضيق بين حزب الله والقوى التي تدعمه، لدرجة أن بعض المحسوبين على الحزب بات يجاهر بذلك، تحت عنوان "التحالف مع محور الممانعة"، لكن الخطر في الموضوع أن معارضي الحزب باتوا يعتبرونه ميليشيا تأتمر بأوامر خارجية، ويصلها من هذا الخارج المال والسلاح خارج إطار الدولة، وخطورة هذا التصنيف إذا ما ساد في التعاطي معه، أنه سينزع عنه الشرعية وسيحمّله أوزار مواقف كل من سوريا وإيران وصراعاتهما الإقليمية والداخلية، وسيجعل بقية اللبنانيين يتعاملون معه كجسم غريب مهما بلغ من القوة أو تدثّر مناصروه بالأعلام اللبنانية.
3- التحوّل نحو الحالة الطائفية: بقصد، والأرجح بدون قصد، فإن حزب الله ينحو نحو الحالة الطائفية بعدما كان مؤيدوه من كل الطوائف اللبنانية، بإمكان الجميع أن يلمس هذه الحقيقة اليوم، ليس لأن حزب الله لا يعمل جاهداً على تلوين تحركاته بألوان الطيف اللبناني، ولكن لأن الاستقطاب الطائفي الحاد لم يترك له من غير الشيعة إلا "الفتات"، حتى الحليف المسيحي القوي، ميشال عون، لم ينجح في جر المسيحيين وراء خياراته السياسية، لأنه ببساطة أخذ أصواتهم بخطاب معاكس تماماً لما يطرحه اليوم، وثمة استطلاعات غير منشورة، تشكك في أن يمثل عون أغلبية المسيحيين حالياً.
حزب الله في البعد القومي هو حزب عربي-إسلامي مقاوم، لكنه في "اللعبة الداخلية" في الوقت الراهن هو حزب شيعي كبير فقط، أداؤه السياسي يدل على ذلك، فهو نفسه يعتبر الحكومة غير دستورية لأنها لا تمثل الشيعة الذي هو ممثلهم الأول، وجمهوره "مع بعض الديكور" هو من يحاصر الموقع السني الأول وفق اتفاق الطائف، وسلاحه الحربي لا يحمله إلا مقاوموه، الشيعة بطبيعة الحال، وهو ممنوع على غيرهم منذ أيام "الوصاية السورية"، والقرارات الكبرى، الخارجية منها والداخلية، لا تقررها إلا قيادته هو دون غيره... وإذا كانت الحال هذه فمن الطبيعي أن لا ينجح بكسب تعاطف بقية الطوائف لمطلبه، اللهم إلا بعض "المتسلقين على جسده"، وهذا ما حصل بالضبط في تظاهرة الأول من كانون الأول الهائلة، والتي شكل الشيعة أغلبيتها الساحقة، ما يشير إلى نوعية وحجم التعبئة. إذاً لقد أمسك حزب الله بالقرار الشيعي وحظي بالأغلبية العظمى في طائفته، لكنه بالمقابل خسر الآخرين، فصار مثلهم مجرد "حالة طائفية".
4- استنزاف وحرق الحلفاء: في الممارسة السياسية ثمة أخطاء عديدة راكمها حزب الله في الفترة الأخيرة، فهجومه القاسي على الحكومة ورئيسها ومحاصرته السراي الكبير، استفز السنّة، وحرك شارعهم، وأحرج بعض الزعامات والتجمعات السنية المتفرقة التي باتت في مواجهة مع شارعها، وفي "استعماله" الجنرال عون، استفز الوجدان المسيحي الذي "ناضل" سنوات طويلة ضد "الوصاية السورية" دون شريك مسلم، فلما تأمّن هذا الشريك، وجد زعيمه المفترض "رأس حربة" لحلفاء سوريا في لبنان، فثار عليه ولو بصمت ستظهره أقرب فرصة انتخابية، وبتهجمه وحلفائه المستمر على وليد جنبلاط وتكبيره أحجام بعض "الصعاليك" ممن لا يمثلون منفردين لدى الدروز أية زعامة تاريخية أو حيثية شعبية رمى غالبية الدروز في حضن خصمه اللدود وليد جنبلاط، وأخيراً فإن حزب الله ومن خلال ضغطه المستمر، شعبياً وسياسياً، على حليفه الشيعي نبيه بري ودفعه لاتخاذ مواقف مغايرة مرة بعد أخرى، زج برئيس المجلس التشريعي في أتون المعركة، وخسر هامش المناورة المتبقي، بعدما صار الرجل طرفاً موصوفاً لدى الكثيرين، كما لدى الشارع.
5- تشويه "الصورة الذهنية": الذين يعرفون فكر وبنية الأحزاب الإيديولوجية الدينية يدركون حتماً أهمية "الصورة الذهنية" لهذه الأحزاب، وحزب الله في مقدمة أصحاب "الصور المشرقة" في واقعنا العربي المظلم، لكن بدلاً من المحافظة على هذا البناء الهام، "تحمّس" بعض مسؤولي الحزب الكبار واستخدموا لغة ليست لهم، كذلك تورطوا مع "جوقة الشتامين" ممن يسمون أنفسهم حلفاء، فأسفّوا في الخطاب وشتموا مراجع روحية وقيادات تاريخية، من على منصة الحزب ومن خلال وسائله الإعلامية وأمام جمهوره، وقد ورّط بعض هؤلاء الحزب بمواقف هو يعلن خلافها، كموقفه من المحكمة الدولية أو الحرب الأهلية أو القرار 1701، الأمر الذي لا يمكن للحزب أن يتنصل منه لأن هؤلاء أصغر من يسمع لهم أحد لولاه، هذا فضلاًً عن الممارسة على الأرض والتي باتت بعيدة نسبياً عن مفاهيم الطهر والقيم التي تربي التنظيمات الدينية أفرادها عليها.
6- الخلط بين التعاطي المدني الداخلي والقتال الخارجي العسكري: القسوة على العدو المجرم واجب تفرضه المواجهة، تهديده وتوعده بالنصر والانتقام مبرر مفهوم، التهويل عليه لكسر إرادته خديعة لا بأس بها، لكن استعمال هذه المفاهيم مع الخصوم السياسيين في الداخل أمر غير مقبول، نعم ليس من المقبول استخدام تقنيات "الإعلام الحربي" مع أبناء الوطن، أو استخدام ألفاظ حربية كـ "ساعة الصفر" والتهديد بالمفاجآت والوعد بالنصر على غرار ما كان يتوعد نصر الله الصهاينة، ثم يتحول كل ذلك إلى أغانٍ وشعارات للتعبئة، ليس من الجائز أيضاً شن "الغارات" على الأحياء الداخلية لبيروت، كما من غير المفهوم اعتماد منطوق المغالبة والاستقواء بمنطق الأعداد والقدرة على التحشيد مع من "يفرض" الحزب عليهم "الوحدة الوطنية" تحت طائلة الشارع... إن مقاومة الاحتلال شيء والتعامل مع الشركاء في الوطن شيء آخر، والخلط بينهما يقود بلا أدنى شك للحالة التي وصلنا إليها.
7- القراءة الخاطئة والوقوع ضحية التعبئة: كل ما سبق ينبني بالضرورة على قراءة خاطئة ومعلومات مغلوطة، قد يقع أي تنظيم سياسي بها، لكن اللافت في هذا المقام أن مناصري حزب الله وتالياً المسؤولين في الحزب نفسه، باتوا يتعاملون مع إعلامهم التعبوي على أنه يعرض حقائق الأمور مجردة من أي تضخيم أو تحكم إخباري، متغافلين مسلمات وأمور لا يصح إغفالها، وبالتالي باتوا في وضع يستحيل معه الخروج من المنازلة بلا خسائر، بعدما رفعوا السقف لحدٍ أقله إسقاط الحكومة، استناداً إلى مقارنة فاسدة مع ما جرى أيام حكومة كرامي، وهكذا صدّقت قيادة حزب الله وجمهوره أن التحرك لإسقاط الحكومة سيكون عابراً للطوائف، وأن حكومة السنيورة فاقدة للدعم الشعبي، وأن رئيس الحكومة لن يملك الوقت الكافي "ليضب أغراضه"، مثلما صدّقوا الأعداد المضخمة لأكبر "تجمع بشري شهده لبنان"، فضلاً عن تجاهل حقائق أساسية متعلقة بوضع لبنان بعد خروج الجيش السوري، وتغير نظرة معظم اللبنانيين إلى سلاحهم ودوره، فكانت النتيجة أنهم اعتمدوا الشارع وصاروا أسارى لخطاباته الحماسية، وليس من سبيل لتجنب الخسارة السياسية إلا بمزيد من الاندفاع إلى الأمام، لتكون النتيجة إما حرب أهلية وإما خروج الشيعة دون غيرهم من طوائف لبنان من مفهوم الدولة إلى مفهوم العزلة، وبين هذا وذاك خسائر فادحة داخلياً وخارجياً.
من السهل جداً وصف التحليل أعلاه، بأنه تهجم على حزب الله، أنصار الحزب كما أخصامه لهم الحق في قراءة هذه المقالة كما يريدون، لكن لا تقريع هذا الفريق هو المقصود، ولا مساندة ذلك الفريق هو الغاية، وإنما المطلوب ممن يعنيهم الأمر أن يتنبهوا من أجل حزب الله، وتالياً من أجل بلدنا الحبيب لبنان.
المصدر
- مقال:حزب الله: من "حرب الأمة" إلى "حرب الزواريب"موقع:الشبكة الدعوية