حديث من القلب إلى الإخوان المسلمين (10)
(10-09-2009)
محتويات
الأخ المسلم وسلامة الصدر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فأهلاً ومرحبًا بكم في هذه العاطفة التي تجمعنا في "حديث من القلب"، وأسأل اللهَ أن تدوم هذه العاطفة، وأن يستمر هذا التواصل القلبي الذي هو جوهرُ أُخُوَّتنا وأُسُّ دعوتنا، وإن من أعظم الأخلاق التي تَمَيَّز بها الإسلام، والتي يهتمُّ بتعميقها الإخوان المسلمون؛ سلامة الصدر ونقاء السريرة من الأضغان والأحقاد الذي هو من أهم أخلاق أهل الجنة ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)﴾ (الحجر).
والذي لا سبيلَ إلى النجاة عند الله إلا به ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ (الشعراء)، والذي يكون سببًا في صحبتنا للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة إن شاء الله، فقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنسَ بنَ مالك رضي الله عنه فقال: "يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِىَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ فَافْعَلْ.. يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ" (الترمذي).
لذلك فالمؤمنون يدعون ربَّهم أن يوفِّقَهم لسلامة الصدر ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)﴾ (الحشر).
ولهذا حرص الإخوان في تربيتهم على تحقيق هذا المعنى، واعتبر الإمام حسن البنا رحمه الله أن أقل الحب سلامة الصدر، فقال: "أول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقلُّ الحب سلامةُ الصدر، وأعلاه مرتبةُ الإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾ (الحشر)".
سلامة الصدر سمة أهل الإيمان
لذلك أيها الإخوان فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف المؤمن بسلامة الصدر، فقال: "الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ" (أبو داود والترمذي).. يريد أن المؤمنَ المحمودَ مطبوعٌ على الخير، غافلٌ عن الشر والمكر، لا يبحث عنه ولا يشتغل به، وحين سُئل صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ" (ابن ماجه).
وليست سلامةُ الصدر من المؤمن غفلةً وجهلاً، ولكنها كرمٌ وحسنُ خلق؛ وذلك لأنه يعلم أن ذلك سبيلُ الفلاح، فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا، وَلِسَانَهُ صَادِقًا، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً" (أحمد).
وحين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات رجلاً يطلع على الناس من أهل الجنة، وتبعه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ولم يرَه يعمل من الطاعات أكثر مما يعمل عامة الناس، وتعجَّب من ذلك، قال الرجل: "مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلاَ أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ"، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ" (أحمد).
ولما بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سَلام رضي الله عنه بأنه من أهل الجنة، قالوا له: أخبرنا بأوثق عملك في نفسك ترجو به؟ قال: "إِنِّي لَضَعِيفٌ، وَإِنَّ أَوْثَقَ مَا أَرْجُو بِهِ سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي" (ابن أبي الدنيا في الصمت).
ودخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض، ووجهه يتهلل، فسألوه عن ذلك؟ قال: "مَا مِنْ عَمَلِ شَيْءٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنَ اثْنَتَيْنِ؛ أَمَّا إِحْدَاهُمَا: فَكُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْنِينِي، وَأَمَّا الْأُخْرَى: فَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا" (الجامع لابن وهب).
ويدرك الإخوان المسلمون أن سلامةَ الصدر للمسلمين تثمر طيبَ النفس وسماحةَ الوجه وإرادةَ الخير لكل أحدٍ والشفقةَ والمودةَ وحسنَ الظن، وفي هذا راحةُ القلب والتحبُّبُ إلى الخلق، ولهذا يحرصون عليه ويدعون الأمةَ إليه.
عواقب عدم سلامة الصدر
فإذا انتفت سلامةُ الصدر حلَّ خُلُقُ الشحناءِ والحقد، الذي يمنع المغفرةَ والرحمة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" (مسلم).
ويدرك الإخوان أنَّ شيوعَ المكر وعدمَ سلامة الصدر؛ كفيلٌ بوقوع العذاب على الأمة ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)﴾ (النحل).
من علامات سلامة الصدر عدم إساءة الظن بالأخِ المسلم
من التوجيهات العمرية: "ضع أمرَ أخيك على أحسنِه ما لم يأتِكَ ما يغلبُك، ولا تظنَّنَّ بكلمةٍ خرجتْ من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً"، وقال بعض السلف: "إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذرًا فقل: لعلَّ لأخي عذرًا لا أعلمه".
قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله:
- "مَهْمَا رَأَيْتَ إنْسَانًا يُسِيءُ الظَّنَّ بِالنَّاسِ طَالِبًا لِلْعُيُوبِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ خَبِيثٌ فِي الْبَاطِنِ، وَأَنَّ مَا يَرَى فِي غَيْرِهِ هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يَطْلُبُ الْمَعَاذِيرَ، وَالْمُنَافِقُ يَطْلُبُ الْعُيُوبَ، وَالْمُؤْمِنُ سَلِيمُ الصَّدْرِ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ".
ولشدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بسلامة الصدر للمسلمين كان يرفض أن يأتيه أحد بخبر يُغَيِّر صدرَه على أحد من أصحابه فيقول: "لاَ يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ" (أبو داود والترمذي).
فليت من يتصيَّدون الأخطاءَ، ويفرحون بالعثرات، ويلتمسون للبرآء العيب بسوء الظن؛ يفقهون هذا المنهج، فيحسنون الظن بالإخوان، ويتجنبون التأويل السيئ لبعض ما يصدر عنهم، مما لم يخطر ببال أحد منهم على الإطلاق.
بسلامة الصدر بلغ الموفَّقون والمصلحون ما بلغوا من درجات القرب من الله، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة، وكان أفضلُهم أسلمَهم صدرًا، و"ما فاق أبو بكرٍ رضي الله عنه أصحابَ محمد رضوان الله عنهم أجمعين بصومٍ ولا صلاةٍ، ولكن بشيء كان في قلبه".. فأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله سلامةُ الصدر.
فاجتهدوا في إصلاح قلوبكم، وأقبلوا على الأمة بدعوتكم، متسلِّحين بسلامة الصدر وحب الخير لأمتكم؛ حتى يفتح الله بكم ولكم قلوب العباد وأقطار البلاد، والله مولاكم، وهو نعم المولى ونعم النصير.. والله أكبر ولله الحمد.
وإلى لقاء آخر مع "حديث من القلب" أستودعكم الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.