حتى لا ننسي (الجزء الأول)

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
حتى لا ننسى
لماذا أمر عبد الناصر بإطلاق الرصاص على الإخوان داخل ليمان طره 1957م؟

كتاب:مذبحة الإخوان في ليمان طرة

بقلم:جابر رزق

تمهيد

مذبحة طرة لمن لا يعرفها هى مذبحة قام بها عبد الناصر ونظامه ضد السجناء العزل في سجن ليمان طره في 1 يونيو 1957م بعدما قام الإخوان في الأردن بإفشال محاولة عبد الناصر بالانقلاب على الملكية الأردنية والملك حسين فعاد عبد الناصر لينتقم من الإخوان السجناء في السجون المصرية فكانت مذبحة طرة مقدمة لعدد من المذابح التي لم تكتمل.

فقد أراد القيام بمذبحة في سجن قنا لكن شجاعة الضابط دومة والتي وقف أمام اللواء إسماعيل همت مهددا أنه لن يحدث للمساجين شئ، مما دفعه للانتقال لسجن الواحات لتنفيذ المؤامرة لكن أصيب بشرخ في عظام الساق فعادوا به مسرعين لمعالجته.

يقول أ.جابر رزق

نجحت أجهزة عبد الناصر في تدبير حادث المنشية ونفذته بحذق ومهارة عملا بنصيحة «الخبير الأمريكي في الدعاية والإعلام» كما سماه حسن التهامي في مجلة روز اليوسف حين كتب عن الحادث

وقال عنه:

«كان أشهر خبراء العالم وقتها في الدعاية وكان قد حضر إلى مصر وكان من بين مقترحاته غير العادية والتي لم تتمش مع مفهومنا وقت اقتراحها هو اختلاق محاولة لإطلاق الرصاص على عبد الناصر ونجاته منها فإن هذا الحادث بمنطق العاطفة والشعور الشعبي لابد وأن يزيد شعبية عبد الناصر لتأهيله للحكم الجماهيري العاطفي أكثر من أي حملة دعائية منظمة توصله إلى القيادة الشعبية من أقرب الطرق العاطفية بالنسبة لنا كان مرادفة هذا الحادث لهذه الفكرة وحدوثها بعد الاقتراح بشهور قليلة جدا مثار دهشة كنا فسرناها وقتها توارد أفكار عجيبة ومصادفة غير عادية» انتهى كلام حسن التهامي وهو واحد من أقرب رجال عبد الناصر في تلك السنوات!!

والحقيقة في ظني أن الخبير الأمريكي هذا لم يكن خبيرا في الدعاية كما يقول حسن التهامي وإنما كان واحدا من رجال المخابرات الأمريكية الذين خططوا وأعدوا ونفذوا «العملية الكبرى» في مصر

وهذا ما اعترف به مايلز كوبلاند رجل المخابرات الأمريكية والصديق الشخصي لجمال عبد الناصر في كتابه «لعبة الأمم» حين قال:

«ومن ناحية تنفيذ العملية يقصد ثورة يوليو!! كان من المعتقد أن ذلك سهل ليس فقط بسب طبيعة شعبها وطبيعة ساستها بل أيضا بسبب أن عندنا منفذين مشهود لهم بالمهارة يعرفون البلاد معرفة جيدة ومن بينهم روزفلت نفسه رئيس اللجنة»

ولقد حققت «مسرحية المنشية» النتائج التي تصورها خبير الدعاية الأمريكي في رأي حسن التهامي.. ورجل المخابرات الأمريكية في رأينا وكنت نقطة التحول الخطيرة في التاريخ لا أقول في تاريخ عبد الناصر

كما قال عبد اللطيف البغدادي في مذكراته الجزء الأول ص 190 معلقا على نتائج الحادث:

«وقد نال جمال عبد الناصر عطف الشعب وإعجابه على أثر هذا الحادث وكانت هذه هي نقطة تحول لصالحه! وبعد أن كانت أغلبية الشعب تنظر إليه نظرة عدم ارتياح منذ أزمة محمد نجيب إلا أنه بعد هذا الحادث انقلب الوضع ونال إعجابهم وتقديرهم؛
ولقد عاد جمال إلى القاهرة في اليوم التالي للحادث من الإسكندرية بالقطار واستقبلته جماهير الشعب في محطات السكك الحديدية المختلفة استقبال الأبطال كما استقبل في القاهرة استقبالا شعبيا حافلا وكانت هذه الخطوة يقصد حادث المنشية من الإخوان سببا في حل جمعيتهم وإلقاء القبض على الأستاذ الهضيبي أمين الدعوة وعدد من زعمائها والكثير من أعضائها وخاصة أعضاء المنظمة السرية الخاصة بهم».

نعم.. لقد كان حادث المنشية هو نقطة التحول الخطيرة كما سبق أن قلت لا في تاريخ عبد الناصر بل في تاريخ مصر والمنطقة كلها لأنه كان إعلانا بميلاد «البطل» الذي ستسلم له الجماهير مقادها فيقوها حيث يراد بها.. وقد كان!!

لقد اتخذ جمال عبد الناصر بتخطيط من المخابرات الأمريكية الحادث مبررا للقضاء على جماعة الإخوان المسلمين لأنهم في نظرهم العقبة الكئود أمام مخططهم في المنطقة فأقام مذبحة السجن الحربي الأولي بعد أقل من ساعتين من الحادث لأن الأمر كان معدًا من قبل ولقد استمرت التحقيقات أو قل «انتزاع الاعترافات» من الإخوان ومحاكمتهم عاملا كاملا!!

وعلق على أعواد المشانق ستة من الإخوان في مقدمتهم أربع من قيادات الجماعة على رأسهم القاضي الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة، والشيخ محمد فرغلي قائد الإخوان في حرب فلسطين ونائب الشهيد يوسف طلعت ..

بالإضافة إلى الذين أرهقت أرواحهم تحت وسائل التعذيب الجهنمية أثناء التحقيقات.. وزج في غياهب السجون ما يقرب من ألف من خيرة أفراد الجماعة أصدرت محاكم عبد الناصر العسكرية عليهم أحكاما بالإعدام خفف إلى المؤبد (25 سنة أشغال شاقة مؤبد) وأحكامًا أخرى قل حكم فيها هو الأشغال الشاقة خمس سنوات.

وكانت هذه الضراوة والقسوة والوحشية التي واجه بها عبد الناصر للإخوان في السجن الحربي.. وتحت السياط، وعلى أعواد المشانق والمبالغة في إصدار الأحكام بالسجن مددا تتراوح بين 25 سنة و 5 سنوات أشغال شاقة والضغط والتضييق وتكدير حياة المسجونين بكل الوسائل ليلا ونهارًا في السجون المدنية وإرهاب أهالي الإخوان خارج السجون والضغط على الزوجات والأبناء والآباء والأمهات وإرغام زوجات الإخوان على طلب الطلاق من أزواجهن ومحاولات الانحراف بمن يستطيعون الانحراف به من أهالي الإخوان خارج السجون كل هذا وسيلة ليس هدفا في ذاته .. كان وسلة لتدمير الإيمان في قلوب الإخوان «بدعوتهم» والانفضاض عن جماعتهم!!

وهذا هو الثمن .. أو بعض الثمن الذي قدمه جمال عبد الناصر للأمريكان في مقابل كفالته ودعمه وتصفية كل القوى التي تقف عقبة في طريق خلق شخصية (الزعيم) وإفراده بالسلطة والزعامة!!

وكان عبد الناصر يظن أن هذا الهد سهل ميسور، ويعتقد أنه لن يبقى من الإخوان من يتحمل هذه الضراوة ويبقى على استمساكه بدعوته وتمسكه بجماعته... ولكن خاب ظن عبد الناصر وباءت جهوده كلها بالفشل فالإرهاب الذي وصل إلى ما هو أفظع من الموت!!

لم يمنع الإخوان من مواصلة الجهاد والعمل للدعوة والاستمساك بالجماعة حتى في أشد أيام الإرهاب وليس أدل على ذلك من أنه رغم محاكمة كثير من الإخوان الذين لم يمكنوا أجهزة عبد الناصر من القبض عليهم وإصدار أحكام غيابية عليهم؛

إلا أن هؤلاء الإخوان لم يتقاعسوا ولم يتوقفوا عن العمل للدعوة الشهيد محمد يوسف هواش عندما ذهبوا للقبض عليه واختفى الشهيد هواش ولكنه أخذ ينظم من بقي من الإخوان خارج السجون وأخذ يقودهم هو واستطاعت أجهزة الأمن أن تكتشف نشاط هواش الجديد فألقت القبض على التشكيل وتمكن هواش من الإفلات للمرة الثانية من أجهزة عبد الناصر ..

وأخذ يشكل تنظيما آخر وكان هذا التنظيم من شباب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات .. وكان من بين هؤلاء من لا تزيد سنه عن الخامسة عشرة إلا قليلا وحتى أقطع الطريق على المضللين وأزيل الغشاوة التي صنعتها دعاية عبد الناصر ورجاله إعلامه المفترين للكذب أقول إن هذا التنظيم الأخير كان من أجل تمويل أسر المسجونين التي لا عائل لها!!

وفي هذه المرة ألقى القبض على الشهيد محمد يوسف هواش قدرا وكان أغلب إخوان «مذبحة ليمان طرة» موضوع هذا الكتيب من هذا التنظيم أي من طلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات!

انتهت عمليات القبض على الإخوان ومحاكمتهم بعد أكثر من عام ورحل من صدر عليه حكم بالسجن إلى السجون المدنية واعتقل من لم تستطع المحاكم العسكرية أن تختلق له تهمة تدينه بها واستمروا في المعتقل بالسجن الحربي وسجن القلعة ما يقرب من عامين...

وكانت حياة المسجونين لا تخلو من وسائل الضغط والتضييق والاستفزاز والتكدير .. ومر أكثر من عامين على حادث المنشية لاقى فيهما الإخوان ما لا قوة من قتل وتعذيب واعتقال وسجن وتشريد ومطاردة داخل البلاد وخارجها.. ولقد أنشئت سجون خصصت للإخوان في «الواحات» و «المحاريق» في صحراء الصعيد الغربية ولكن هذا كله لم يهن في عزائم الصادقين من الإخوان ولم يصرفهم عن دعوتهم و «جماعتهم» بل كلما اشتدت وسائل الضغط والتضييق والتعذيب ازداد الإخوان تماسكا ببعضهم البعض واستمساكا بدعوتهم وجماعتهم.

ولقد حاولت أجهزة عبد الناصر وبصفة خاصة القسم الخاص بالنشاط الإسلامي من المباحث العامة أن توجد ثغرة تنفذ منها داخل صفوف الجماعة لتمزقها واستطاعت هذه الأجهزة أن تنشر الفتنة عن طريق التلويح بالإفراج لبعض الذين لم يتحملوا صنوف الضغط الواقع على الإخوان داخل السجون وعلى أهلهم خارج السجون وصورت هذه الأجهزة لهؤلاء أن الأمر بسيط لا يعدو مجرد إرسال برقية تأييد لنظام جمال عبد الناصر !!

وكانت هذه البرقية يطلق عليها الإخوان «الزحليقة» لأن الذي رضى لنفسه أن يرسل هذه البرقية رضي أن يكتب ما هو أسوأ منها! ولكن بعض هؤلاء لم ينحدر إلى أبعد من إرسال هذه البرقية!!

وكانت فتنة بدأت أول ما بدأت في سجن الواحات الذي أنشء خصيصًا للإخوان والذي كان يصم معظم قادة الجماعة وعلى رأسهم: الأستاذ عبد العزيز عطية رحمه الله، والشيخ أحمد شريت رحمه الله .. والأستاذ عمر التلمساني رحمه الله والسيد محمد حامد أبو النصر أعضاء مكتب الإرشاد الذين ثبتهم الله على دعوتهم ومئات آخرون من الجيل الذي رباه الإمام الشهيد حسن البنا على الجندية الحقة والفدائية الخالصة

أمثال الأخوة: أحمد حسنين.. ومصطفى مشهور وكمال السنانيري عليه رحمة الله، ومحمد سليم عليه رحمة الله، ومحمد العدوي.. وصلاح شادي، ومصطفى الكومي.. وغيرهم كثيرون .. كثيرون ثبتوا على دعوتهم كالقمم الراسيات .. لم يهنوا ولم تضعف عزائمهم ولم تلن إرادتهم ولم تترنح قلوبهم ولم تنل منهم الفتنة، بل ازدادوا استمساكا بدعوتهم وحرصا على جماعتهم ف ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾.

وأرادت المباحث العامة وكان على رأس القسم الخاص بنشاط الإخوان أحمد صالح داود الذي أذله الله فطرد في أحداث 15 مايو سنة 1971 أرادت أن تنقل الفتنة إلى السجون الأخرى التي بها الإخوان وكان سجن ليمان طرة واحدا من تلك السجون وبه 180 أخا أغلبهم من الشبان صغار السن دون العشرين بقليل أو تجاوزوا العشرين بقليل فعدد كبير منهم كانوا طلاب بالمدارس الثانوية والجامعات؛

وكما سبق أن قلت أنهم من التشكيل الثالث أو الجيل الثالث من الإخوان الليمان الحاج أحمد البس وهو من الرعيل الأول الذي رباه حسن البنا إلا أنه استطاع أن يهرب من أجهزة عبد الناصر ما يقرب من عشرة أشهر واستمر يعمل مع الشهيد هواش حتى قبض عليه معه وحوكم، وحكم عليه بالإعدام الذي خفف إلى المؤبد (25 سنة أشغال شاقة مؤبدة) وكان يوجد أيضا في مستشفى الليمان الشهيد سيد قطب، والشهيد محمد يوسف هواش حيث يعالجان

كانت هذه المجموعة من الإخوان بالنسبة لجهاز المباحث العامة «كالصندوق المغلق لا يمكن النفاذ إليه لمعرفة ما فيه» هكذا كان يردد أخبث الضباط الذين صادفهم الإخوان طوال فترة سجنهم التي استمرت أكثر من عشرين عاما وهم: الضابط عبد العال سلومة، والضابط عبد اللطيف رشدي، والضباط عبد الله ماهر وهم الذين نفذوا المذبحة.

وكان الضغط والتضييق والتكدير الذي يمارسه هؤلاء المناكيد يزيد إخوان الليمان استمساكا بدعوتهم وحرصا على جماعتهم ويقوي أخوتهم ويوثق رابطتهم وكانوا لقرب سجن الليمان من القاهرة أكثر الإخوان تعرضا للخبث والكيد لأن هؤلاء الضباط المناكيد كانوا تحت سمع وبصر جهاز المباحث وكانوا يتقربون إليه بالبطش والتنكيل والضغط والتضييق والتكدير الذي يوقعونه على الإخوان.

ولكن خاب سعي جهاز المباحث وأعوانه من ضباط سجن الليمان في بذور الفتنة بين الإخوان داخل سجن الليمان، وكان الضابط عبد العال سلومة هو الذي وقع عليه الاختيار لبذر بذور هذه الفتنة ولكنه خاب وخسر ولم يجد آذانا صاغية لما يقول.. كان يأتي لمن يظن به ضعفا من الإخوان ويقول له:

لماذا لا تريد الخروج من السجن؟! أليس لكم أهل تحبهم وتخاف عليهم؟ إن الأمر بسيط لن يكلفك أكثر من برقية تأييد للرئيس في مناسبة من المناسبات!!

فكان الأخ يرد عليه قائلا:

  • فكانت هذه الإجابة تملأ قلوب الضباط المناكيد حقدًأ وتفجر غيظهم .. وتؤجج سعارهم فيزدادون ضغطا على الإخوان.

وبالطبع كانوا يبلغون المسؤولين في جهاز المباحث بهذا المجهود الفاشل الذي كانوا يؤدونه تقريبا إليهم وتنفيذًا لأوامرهم..وبالطبع أيضا كان المسؤلون في جهاز المباحث بدورهم يرفعون التقارير عن أوضاع الإخوان داخل السجون لأسيادهم الكبار أمثال صلاح الدسوقي الشيشتاوي رجل عبد الناصر وجاسوسه على زكريا محيي الدين، وأركان حرب وزارة الداخلية وقتئذ وأحد الذين غمسوا أيديهم في دماء الإخوان منذ مذبحة السجن الحربي الأولى سنة 1954 والذي أشرف على تنفيذ مذبحة ليمان طرة وزكريا محيي الدين وزير الداخلية وقت المذبحة.. وكان صلاح الدسوقي.. وزكريا محيي الدين بدورهما يرفعان لعبد الناصر التقارير عن الإخوان لأنهم يعلمون درجة اهتمام عبد الناصر وحرصه على القضاء عليهم..!!

ولا يمكن أن يتصور أي إنسان يعرف جمال عبد الناصر وتسلطه وجمع مقاليد الأمور كلها في يده.. أن ضابط سجن الليمان سواء مدير الليمان اللواء سيد والي .. أو الضباط المناكيد عبد العال سلومة وعبد اللطيف رشدي .. وعبد الله ماهر أن يصنعوا هذه المذبحة من عندياتهم!!

بل لا يمكن أن يتصور إنسان أن زكريا محيي الدين وزير الداخلية .. أو صلاح الدسوقي الشيشتاوي أركان حرب الوزارة يستطيعان أن يصدرا أمرا بإطلاق الرصاص على الإخوان المسلمين العزل داخل سجن الليمان لتكون أبشع مذبحة في القرن العشرين... وأخس صورة لغدر جمال عبد الناصر ونذالة معاونيه!!

إنني لا أتصور أن زكريا محيي الدين كان يستطيع أن يصدر أمرا بإطلاق الرصاص على هؤلاء العزل من الإخوان داخل زنازينهم دون أمر من جمال عبد الناصر شخصيًا لا لأن زكريا محيي الدين أقل إجراما من جمال عبد الناصر ولكن لأن جمال عبد الناصر استطاع بمعاونة الأمريكان أن ينفرد بكل السلطة وكل الذين بقوا بجانبه في السلطة كانوا إمعات وخدما له وكلاب حراسة لنظامه ينفذون أوامره هو ويحققون رغباته وكل ما يتصورون أنه يرضيه!!

إنني لا أقلل من إجرام زكريا محيي الدين في التنكيل بالإخوان ولا من إجرام صلاح الدسوقي الشيشتاوي ولا من إجرام مدير الليمان، ولا من إجرام الضباط المناكيد الذين نفذوا المذبحة ولا من إجرام كل من اشترك في إطلاق رصاصة على الإخوان في هذه المذبحة، ولكنني أريد أن أدحض أقوال الذين يفترون الكذب ويشهدون الزور دفاعا عن جمال عبد الناصر وتبرئة له من الجرائم التي وقعت في عهده الأسود ويرتدون أن يلصقوها في الأجهزة التي كانت تنفذ أوامره وتدين له بالولاء والطاعة..

إن جمال عبد الناصر هو المجرم الأول لأن كل من دونه: ابتداء من زكريا محيي الدين، وصلاح الدسوقي الشيشتاوي إلى جنود الكتيبة الذين أطلقوا الرصاص على الإخوان العزل داخل زنازين الليمان ما هم إلا كلاب حراسة كما قلت وأدوات تنفيذ لما كان يأمر به هذا الطاغية العميل!!

الشاهد الأول: عطية محمد عقل

هذا هو الشاهد الأول .. الذي يروي لنا أحداث مذبحة الليمان.. ساعة ساعة ويوما يوماً....

اسمه: عطية محمد عقل.. من حي شبراً... يعمل الآن مدرسا بمدارس منارة الإيمان بالرياض المملكة العربية السعودية.. ألقي القبض عليه يوم 23 أغسطس سنة 1955... وعاش مذبحة السجن الحربي الأول بعد تمثيلية المنشية... ثم قدم للمحاكمة بالتهمة التقليدية التي اخترعت للإخوان: «أدار تنظيما إرهابيا ..يهدف إلى قلب نظام الكم وتغيير دستور الدولة بالقوة»!!وحكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، وكان أحد شهود المذبحة.. من السجن الحربي .. إلى ليمان طرة

يقول عطية محمد عقل:

لا تزال ساعة إطلاق الرصاص الرهيبة محفورة في ذاكرتي... ولا تزال صورة تساقط الشهداء من إخواني ماثلة أمام عيني .. ولا تزال أصوات حشرجة الموت لبعض الإخوان باقية في أذني!!
لن أنسى صورة أخي الشهيد محمد عفيفي الذي كان لا يزال طالبا صغيرا في الثانوي والذي كان يقيم معي في زنزانة واحدة ولن أنسى لحظة إطلاق الرصاص عليه حين قفز أمامي ليحميني من الرصاص ويتلقاه عني فيسقط مضرجا في دمه الزكي!!
ولن أنسى صوت الشهيد أحمد قرقر حين قال بصوت عال:
اللهم أجعلني أول الشهداء..!!لم أترك الأخ عطية محمد عقل يسترسل ولكني أردت أن أسمع القصة من أولها حسب ترتيب أحداثها زمنيا، والجو العام الذي وقعت فيه المذبحة ..فقلت له:
إرو لي من البداية ... منذب وطئت أقدامك سجن الليمان.. كيف سارت بك الحياة.. وبمن معك هناك؟!.. وكيف تطورت الأحداث حتى وقعت المذبحة؟؟

فقال بعد مذبحة التحقيقات في السجن الحربي.. وبعد مهزلة المحاكمات أمام ما أطلقوا عليه «محكمة الشعب» .. وبعد صدور الأحكام على وعلى من معي من الإخوان الذين ألقي القبض عليهم في نفس الفترة التي ألقى علي القبض فيها.. رحلنا إلى ليمان طرة..فلما وصلنا إلى هناك ودا من سبقونا من الإخوان الذين قدموا للمحاكمة عقب «تمثيلية المنشية» والإخوان الذين جاءوا بعدهم ولم يرحلوا إلى سجن الواحات.

بلغ عددنا في الليمان بعد وصولنا 183 أخا أغلبهم من الشبان الذين تتراوح أعمارهم دون الثلاثين بل ودون العشرين. وكان عدد كبير منهم لا يزالون طلابا في المدارس الثانوية وفي السنوات الأولى من الدراسة الجامعية.

بسرعة شديدة ائتلفت قلوبنا، وجمعت بيننا عاطفة حب قوية تمثلنا الإخوة الإسلامية في واقعنا وعشنا حياة إسلامية حقة... متعاونين ومتكافلين .. ما يملكه البعض منا من مال يصرف منه على الجميع دون تفرقة ودون أثرة.. لا مجال للاختلاف ولا للمنازعة، كل شيء يتفاهم عليه، ونصل فيه إلى قرار يحقق المصلحة للجميع أصبحنا مجموعة متماسكا قويا .. ومترابطة أقوى ما يكون الترابط ومتحابة أكمل ما يكون الحب.. صلبة.. ومتلاحمة تماماً.. «كالبنيان المرصوص».. و «كالجسد الواحد...» و «كاليدين تغسل إحداهما الأخرى»!! وبتعبير أجهزة عبد الناصر وقتئذ «كالصندوق المغلق الذي لا ينفذ إليه ليعرف ما بداخله»!!

زاد من تماسك هذه المجموعة وصلابتها وتلاحمها الضغوط العنيفة التي كانت تقع علينا من إدارة الليمان.. ومن ضباطه وسجانته!!وكان ضباط الليمان.. والسجانة، ينظرون إلينا على أننا أناس متوحشون من يقترب منا لا ينجو من أذانا!! هكذا فهموا من أسيادهم الذين اختاروهم دون غيرهم من الضباط والسجانة لتميزهم في الشر عن غيرهم.. وحرضهم على إرضاء هؤلاء المسئولين..

ومن خلال تلك النظرة .. كان الضباط والسجانة يعاملوننا وكثيرا ما صرحوا لنا بحقيقة ما انطوت عليه صدورهم من حقد وكراهية.. وإن كانت معاملتهم لنا أسطع برهان على هذا الحقد وتلك الكراهية!!

كنا نتواصى بالصبر، وضبط النفس، وحكمة التصرف أمام كل ما نتعرض له من معاملة المسئولين في الليمان، وبصفة خاصة مع هؤلاء الضباط الذين كشفت الأحداث لنا عن مدى حقدهم وكراهيتهم لنا وخبث كيدهم وسوء مكرهم بنا وأخص بالذكر: الضباط: عبد العال سلومة.. وعبد الله ماهر.

وعبد اللطيف رشدي.. وهم في نفس الوقت الذين نفذوا المؤامرة كما سيأتي بعد.. أحيانا كان الضباط والسجانة يريدون أن يعاملونا بالأسلوب اللاإنساني الذي كانوا يعاملون به المساجين يريدون أن يعاملونا بالأسلوب اللا إنساني الذي كانوا يعاملون به المساجين الآخرين من المجرمين نزلاء الليمان ولكننا كنا لا نسمح لهم بذلك ولكن في غير عنف أو انفعال ولكننا كنا نناقشهم ونحاجهم بلائحة السجون وكان هذا الأسلوب كثيرا ما يحرجهم ويوقفهم عند حدهم...

كانت أحكام كل الإخوان في الليمان.. الأشغال الشاقة مع السجن لمد تتراوح بين العشر سنوات والخمس وعشرين سنة.. لذلك كنا نطلع الجبل مثل بقية المساجين . وكانت تفرض علينا «مقطوعية» أو «طريحة» لابد أن ننجزها تتمثل في تكسير، ونقل وتشوين عدد معين من الأمثار من الحجر وكنا ننجز ما يفرض علينا .. ولك أن تتصور مقدار ما يكلفنا هذا العمل الشاق وخاصة أن أغلبنا لم تكن لهم أية صلة بتكسير الأحجار أو حملها فأغلبنا كانوا طلابا.. وموظفين والقليل النادر بيننا من العمال والفلاحين.

ويزداد الأمر قسوة على أنفسنا من خروجنا إلى الجبل لأن فرص الاحتكاك بين الضباط والسجانة وبيننا كانت أكثر في الجبل، وكان ذلك يتطلب منا صبرا وضبطا للنفس وحكمة في التصرف أكبر مما لو كنا دخل الليمان لأننا كنا نحذ من الوقوع في صدام مع الضباط أو السجانة في الجبل أو يصطنع مثل هذا الصدام ليكون مبررا لإطلاق الرصاص علينا هناك وما أسهل تلفيق التهم لأمثالنا!!

لم يكن سجننا هو منتهى مراد جمال عبد الناصر وأجهزته، ولكن الهدف الكبير الذي عملوا له على مدى الربع قرن الأخير هو القضاء على هذه الجماعة ... أقصد جماعة الإخوان.. فلفقوا التهم، ودبروا المؤامرات واختلفوا الحوادث من أجل إيجاد المبرر لهم أمام الشعب فيما يفعلوه في الإخوان..

والسجن حقق لهم أمرين:

الأمر الأول: أنهم أوقفوا انتشار «الدعوة» في ظنهم في أفراد جدد بما أشاعوه في الشعب من الإرهاب عن طريق صور التعذيب الوحشية التي سربتها أجهزة الأمن بهذا القصد
والأمر الثاني: الذي حققه لهم سجننا أنهم أرادوا أن يدمرونا كإخوان أو بمعني آخر أرادوا أن يجروا لنا عملية «غسيل مخ» حتى يستأصلوا الدعوة من أنفسنا فالذي لم يقضوا عليه تحت السياط ووسائل التعذيب الجهنمية التي كانوا يستخدمونها أثناء التحقيق، والذي لم يقضوا عليه على أعواد المشانق أرادوا أن يقضوا عليه تحت السياط ووسائل التعذيب الجهنمية التي كانوا يستخدمونها أثناء التحقيق، والذي لم يقضوا عليه على أعواد المشانق أرادوا أن يقضوا على الدعوة في نفسه لذلك كانت حياتنا في السجن لا تعرف معنى للأمن أو الاستقرار !! وكانوا يتخذون من الوسائل ما يجعلنا دائما في قلق وتوتر...

وكان من بين وسائل الضغط النفسي علينا في الليمان عملية التفتيش المستمر لنا، فكانت تتم بصورة استفزازية ترهق نفوسنا وتزداد هذه العملية استفزازا وتعنتا عندما يكون أحد الضباط الثلاثة الذين حدثتك عنهم من قبل عبد العال سلومة.. وعبد الله ماهر. .وعبد اللطيف رشدي هو الذي يشرف على العملية فكانوا كثيرا ما يأخذون ملابسنا الداخلية بحجة أنها ممنوعة، أو يصادرون بعض الأطعمة التي يجدونها عندنا وأحضرت إلينا أناء الزيارات بل لقد وصلت صورة استفزازنا إلى درجة حرق ملابسنا أمام أعيننا!!

والقصد الأساسي من عملية التفتيش هذه التي كانت تتم أحيانا يوميا هو تكدير صفونا واستفزازنا واستثارتنا وارهاقنا نفسيا. وكادت إحدى عمليات التفتيش هذه أن تكون سببًا لمذبحة مثل مذبحة الليمان لولا شخصية مدير الليمان وقتئذ اللواء حسن سيد أحمد الذي حال دون وقوع المذبحة..

وكان ذلك في فبراير سنة 1956 فوجئنا في أحد الأيام بالضباط عبد اللطيف رشدي يقود عملية تفتيش لنا بصورة غاية في الاستفزاز لدرجة أنه كان يستخدم يديه في دفع الإخوان أمامه من داخل الزنازين إلى خارجها، وأخذ يلقي كل شيء تقع عليه عيناه في حوش العنبر .

فلما رأى الإخوان منه ذلك أخذوا يناقشونه ويراجعونه في أسلوبه المتعنت المستفز فأراد تصعيد المناقشة إلى ما هو أسوأ ثم أوقف عملية التفتيش وأرسل أحد السجانة إلى إدارة السجن ليبلغ مدير الليمان أن الإخوان عاملين ثورة في العنبر وطلب قوة من حاملي الشوم من السجانة لتأديب الإخوان!!

وفعلا جاءت قوة من السجانة تحمل الشوم يصاحبها بعض الضباط .. لكن مدير الليمان وقتئذ اللواء حسن سيد أحمد كان من النوع الذي يميل إلى التفاهم وكانت أي شكوى من الإخوان يتحراها بنفسه ويتحقق من صحتها .. فحال بين وقوع المذبحة التي أراد أن يوقعها بنا الضباط بعد أراد أن يوقعها بنا الضباط عبد اللطيف رشدي، فالتقى المدير بنا وسأل عن حقيقة ما حدث وشرح له الإخوان تصرف الضابط عبد اللطيف رشدي مما جعل مدير الليمان يعقد اجتماعا للضباط ويؤنبهم على سوء معاملتهم لنا...

ولما علمت المباحث العامة، وكانت هي المسئولة عن شئون الإخوان بتصرف المدير وموقفه منالم ترض عن ذلك وأرسلت وزارة الداخلية التي كان على رأسها زكريا محيي الدين تعليمات تطلب من مدير الليمان إيقاع الجزاء على مجموعة من الإخوان كعملية ردع لنا...

فرد عليهم المدير قائلا:

إن وضع الإخوان في الليمان وضع شاذ وخاطئ لأن الليمان للمجرمين.. والإخوان ليسوا مجرمين إنما هم أصحاب رأي معارض للحكومة فقط!!..

ولم يرض المسئولون في وزارة الداخلية عن المدير وأصروا على إيقاع الجزاء بجلد عدد من الإخوان.. وتم لهم ما أرادوا فأخذوا أحد عشر أخا وأدخلوهم التأديب وجلدوهم ولم يقف الأمر عند ذلك بل أعقب هذا التضييق علينا أكثر.

ونقل هذا المدير اللواء حسن سيد أحمد وجيء بالمدير الجديد اللواء سيد والي الذي نفذ مذبحة الليمان بعد ذلك بعام تقريباً.تلك هي الظروف .. التي كنا نعيش فيها سنوات ما قبل المذبحة أما عن الأسباب التي جعلت جمال عبد الناصر.. ووزير داخليته زكريا محيي الدين .. وأركان حرب وزارته وقتئذ صلاح الدسوقي الشيشتاوي ..

وجهاز المباحث العامة المسئول عن الإخوان وكان من أبرز رجاله أحمد صالح داود والأخيران هما اللذان أشرفا على تنفيذ المذبحة بناء على أوامر من جمال عبد الناصر شخصيًا وزكريا محيي الدين فقد قيل الكثير وسوف أذكر لك كل ما قيل.. في عام 1956 أمم جمال عبد الناصر قناة السويس؛

وكان الإخوان داخل الليمان يتابعون الأحداث السياسية ويحاولون فهم ما يجري على مسرح السياسة محليا وعربيا وعالميا، فلم يكن يمر حدث ذو بال إلا ويفكرون فيه ويبحثون عن أسبابه ودوافعه ونتائجه والقوى صاحبة المصلحة الحقيقية فيه.. وكان تأميم القناة حدث تاريخي له تأثيره الكبير في مجرى الأحداث.

أخذ الإخوان يناقشون الموضوع وأعد البعض دراسات وأبحاثا فيه وناقشوا الآثار التي سيحدثها والفوائد والأخطار التي يمكن أن تقع بسببه ومدى مواءمة تأميم القناة مع الظروف المحلية والدولية وقتئذ وخرجوا من تلك المناقشات والدراسات والأبحاث بوجهة نظر شاملة لعملية تأميم القناة هذه وأجروا مقارنة بين ترك القناة على حالها حتى تنتهي امتيازها في سنة 1969 وبين تأميمها في ذلك العام.. وكتبوا مذكرة بوجهة نظرهم وأرسلوها للحكومة من باب «الدين النصيحة»!!

ولم يتلق الإخوان أي رد على مذكرتهم هذه والتي كانت تحمل وجهة نظر مخالفة لوجهة نظر عبد الناصر!!ووقع العدوان الثلاثي على مصر بسبب تأميم القناة.. وانهزم الجيش المصري.. وخسر أسلحته الروسية التي قصمت ظهر الاقتصاد المصري واحتلت إسرائيل سيناء ودمرت إنجلترا وفرنسا بورسعيد ودخلت الجيوش الإنجليزية والفرنسية منطقة القناة مرة أخرى ..

ولكن أمريكا ألقت بثقلها كله إلى جانب عبد الناصر فبدلت هزيمته نصرا مزيفًا!! وأرغمت جيوش إنجلترا وفرنسا على الجلاء وأرضت إسرائيل بشرم الشيخ وأرغمتها على الانسحاب من سيناء لتحتلها بعد هزيمة عبد الناصر في سنة 1967!!

في بداية العدوان جاءت الأوامر من حكومة عبد الناصر إلى إدارة الليمان بنقلنا من العنبر الذي كنا نقيم فيه مع بعضنا إلى عنبر آخر من عنابر المساجين العاديين ومع ذلك عندما اشتد العدوان تقدمنا بطلب إلى إدارة الليمان نطلب منها رفعة إلى حكومة جمال عبد الناصر نطلب فيه السماح لنا بالتطوع للقتال ضد المعتدين..

وتعهدنا بأن يعود إلى الليمان كل من يبقى منا على قيد الحياة بعد أداء الواجب في صد المعتدين، واقترحنا تشكيل كتيبة من الإخوان المسجونين تحت قيادة خاصة، وقدمنا كشوفا بأسمائنا جميعًا وقامت إدارة الليمان بتوصيل هذه الكشوف إلى حكومة جمال عبد الناصر وأجهزته..

وبعد أيام جمعنا الضباط عبد العال سلومة ليبلغنا رد حكومة عبد الناصر على طلبنا .. قال سلومة لنا:

لقد رفعنا رغبتكم للمسئولين وقد ردوا علينا بقولهم إن البلد لا تزال بها رجال يستطيعون الدفاع عنها!! ولسنا في حاجة لمساجين يدافعون عن البلد... أو كلاما بهذا المعنى كان عبد العال سلومة يحرص على إيذاء مشاعرنا من أتيح له ذلك فكان يختار من الكلام أقساه وألذعه!!

استمر العدوان.. واشتد ضرب الطائرات الإنجليزية والفرنسية للمدنيين حتى ضرب سجن «أبو زعبل» وأخذت الطائرات الإنجليزية والفرنسية تجوب القاهرة وألقت بالمنشورات لتحذر أهالي منطقة حلوان من البقاء فيها لأنها سوف تضربها بالقنابل .. فلما وصلت الأمور إلى هذا الحد من الخطورة، رأينا الضابط عبد العال سلومة يحضر إلينا ويبلغنا أن إشارة وصلت من المسئولين تبلغنا أنهم استجابوا لرغبتنا في التطوع لقتال المعتدين...

استقبلنا هذا الكلام بفرح شديد ولم ننم ليلتنا وقضيناها في ذكر وصلاة استعدادا للقتال فلعل الواحد منا يستشهد وقد أخبرونا أن العربات ستحضر ليلا لتنقلنا إلى ميدان القتال.. ولكن لم يحدث شيء ولما سألنا لماذا ؟ قالوا: أوقف القتال...

وكما سبق أن قلت تدخلت أمريكا وأرغمت جيوش الإنجليز والفرنسيين على الجلاء وانسحبت إسرائيل مكتفية «بشرم الشيخ» .. وتحولت الهزيمة إلى نصر مزيف . وصورت أجهزة الإعلام المحلية والعربية والعالمية عبد الناصر في صورة الزعيم الذي انتصر على ثلاث دول!!وولد البطل .. الذي يقود أمة العرب إلى حيث تريد القوى العالمية صاحبة المصلحة الحقيقة في المنطقة !!

وانعكس هذا كله علينا داخل السجن.. فوجئنا بتوتر شديد وسوء معاملة واشتدت موجة التفتيش في العنبر .. حدث ذلك دون أدنى خطأ من جانبنا وحتى يبرروا معاملتهم الجديدة قالوا إننا عندما طلبنا من الحكومة أن تسمح بتطوعنا للقتال اشترطنا شروطا كتشكيل كتيبة بنا وليس من حقنا أن نشترط!!

استمرت هذه المعاملة السيئة لنا عبد ذلك، وكان خروجنا إلى الجبل يعطي فرصة كبيرة للضباط والسجانة للاحتكاك بنا.. وكنا نضبط أعصابنا قدر ما نستطيع ونضع نصب أعيننا أننا ما دمنا نخرج إلى الجبل فنحن معرضون لإطلاق النار علينا واتهامنا بالتمرد أو محاولة الهرب وكان هذا التفكير يجعلنا نصبر على كل ما نتعرض له من احتكاك أو استفزاز.

في هذا الجو المكفر بالتوتر صدر قرار من مصلحة السجون من مصلحة ينص على أن كل من قضي في العمل بالجبل أربعة وعشرين شهرا من حقه أن يعفى من العمل في الجبل ويعمل في الورش الداخلية بالليمان وطبقت إدارة الليمان القرار على المسجونين العاديين؛

وانتظرنا تطبيقه علينا ولكن إدارة الليمان لم تفعل فتقدمنا بطلبات تطلب مساواتنا بالمساجين العاديين في تطبيق القرار وإعفاء من قضي منا المدة التي نص عليها القرار في الجبل .. ولكن الإدارة تحججت بأنها سترسل إلى الوزارة لتسأل .. وبعد أيام جاءتنا الإجابة بأن القرار استثنى كل من حوكم أمام محكمة الشعب!!

وكان عدم تطبيق هذا القرار علينا دفع ضباط السجن وسجانته إلى مزيد من الكيد الخبيث لنا فأسرفوا في التعنت معنا وسوء المعاملة لنا إلى حد لا يتصور وصل منعنا من الصلاة جماعة في حوش العنبر وكنا قد تعودنا لفترة طويلة بعد عودتنا من الجبل أن نغتسل ونغير ملابسنا ثم نصلي العصر جماعة في حوش العنبر وكان يشاركنا في الصلاة عدد كبير من المساجين العاديين ممن تاب الله عليهم..

وبعد الصلاة يقف أحد الإخوان ليلقي درسا أو يشرح حديثا أو آية من كتاب الله.. فحرمنا من صلاة العصر جماعة بل لقد منعونا من الصلاة في طرقة الدور الذي نسكنه وأذكر أن أحد ضباط العنبر رأى أحد الإخوان يصلي في الطرقة أمام زنزانته فانتزع السجادة التي كان يصلي عليها من تحت أقدامه وكاد أن يوقعه!!

كانت هذه الضغوط علينا سببا في قوة تماسكنا وترابطنا وتلاحمنا فلم تجد أساليب الضباط عبد العال سلومة في بذر بذور الفتنة فيما بيننا وكانت أجهزة عبد الناصر قد لجأت إلى أسلوب غاية في الخبث وهو تمزيق الجماعة داخل السجون عن طريق إغراء البعض والتلويح لهم بالإفراج إذا هم أرسلوا يؤيدون نظام عبد الناصر .. وقد نجح هذا الأسلوب إلى حد ما في هذه الفترة في سجن الواحات وأصبح المسجونون من الإخوان هناك فريقين: فريق أيد النظام طمعًا في الإفراج . .

وفريق لم يؤيد النظام وانتظر الفرج من الله سبحانه بعد قصم ظهر الطاغية.. وكانت هذه الأجهزة عن طريق ضباطها في السجون تذكي نار هذه الفتنة وكان عبد العال سلومة هو الذي وقع عليه الاختيار ليبذر بذور هذه الفتنة في مجموعة الليمان ولكنه خاب وخسر خسرانا مبينا ولم يجد آذانا صاغية لما يقول كان يأتي لمن يظن به ضعفا من الإخوان ويقول له:

  • لماذا لا تريد الخروج من السجن ؟؟ أليس لك أهل تخاف عليهم وتحبهم..؟! إن الأمر بسيط لم يكلفك أكثر من برقية تأييد في مناسبة من المناسبات!!

فكان الأخ يرد عليه قائلا:

  • كانت هذه الإجابة تملأ قلب سلومة خيبة وغيظا وتكشف مدى استمساك هذه المجموعة من الإخوان في الليمان بجماعتهم ودعوتهم!!
  • وكان ذلك سببا في مزيد من الضغوط والتضييق علينا.

وصل الأمر بأجهزة عبد الناصر في الضغط والتضييق إلى طلب كشف بأسماء كل الذين يقومون بزيارة كل منا في السجن وصورا فوتوغرافية لهم واشترطوا ذلك حتى تتم الزيارة ولكننا رفضنا ذلك واستنكرنا هذا الطلب وقلنا لهم:

  • لن نعطيكم صور نسائنا: من الزوجات.. والأمهات.. والأخوات.. والبنات!!

فردت علينا هذه الأجهزة عن طريق إدارة الليمان:

  • إذ لم تقدموا هذه الكشوف والصور فلن يسمح لكم بالزيارة...

فأرسل كل منا إلى أهله يطلب مهم عدم زيارته.وأمام إصرارنا ورفضنا لهذا الأمر أحبط كيد هذه الأجهزة وخاب مسعاهم معنا!!

الذي أريد أن أصل إليه من خلال وصفي للجو والظروف التي كنا نعيش فيها داخل الليمان قبل المذبحة من ضغوط واستفزازات وكيد خبيث ومكر سيء كان الهدف منه كما سبق أن قلت هو جعل الحياة داخل السجن غير محتملة فيكون ذلك سببا لأن ينفض الإخوان عن دعوتهم وجماعتهم وتنجح عملية «غسيل مخهم»!! التي كانت تبدأ بإرسال برقية تأييد في مناسبة من المناسبات .. وتنتهي بالتجسس وكتابة التقارير عن الآخرين!!

وظني أن أجهزة عبد الناصر داخل الليمان وخارجه قد يئست من مجموعة الإخوان في الليمان تماما وفشلت أساليب ضغطها في صرفنا عن جماعتنا ودعوتنا وتمزيق صفنا وتفرقنا فلم تجد أمامها إلا هذا الأسلوب الهمجى الذي تمت به المذبحة...

المذبحة

قبل يوم المذبحة بأيام ثلاثة جاءت زيارة لمجموعة إخوان شبرا وكنت واحدا من المطلوبين للزيارة فخرجنا للزيارة وكان معنا الأخ عبد الغفار السيد وكانت أخيه قد أحضرت له معها بعض الطعام وأرادت أن تعطيه له كما تعودت خلال الزيارات الأخرى.. لكن.. فجأة ظهر الضابط عبد الله ماهر في مكان الزيارة .. وبطريقة استفزازية أحسسنا أنه جاء لينفذ أمر معينا.. صرخ بصوت مستفز وبغلظة شديدة:

ممنوع أخذ أي شيء من الزوار...

في نفس الوقت كانت أخت الأخ عبد الغفار السيد تعطي أخيها ما أحضرته له من طعام كالعادة فإذا بالضابط عبد الله ماهر يجذب عبد الغفار بشدة من أمام أخته حتى لا يأخذ منها ما تريد أن تعطيه من طعام وكاد عبد الغفار يقع على الأرض.. فاستند على الضابط عبد الله ماهر فاعتبر عبد الله ماهر استناد عبد الغفار عليه إهانة واعتداء عليه.!!

فأنهى الزيارة .. وهاج وماج. .وأرغى وأزبد.... وجرى إلى إدارة الليمان ... قال:

إن الإخوان اعتدوا علي!!

وكأن الأمر كان مبيتاً جاءة قوة من السجانة وحاصرتنا وساقونا إلى عنبر التأديب.. كان تصرفهم هذا تصرف أناس يريدون أن يلفقوا لنا شيئا يجعلوه مبررا لما يريدون أن يفعلوه بنا .. أجلسونا القرفصاء أمام عنبر التأديب وكتبوا أسماءنا ..

وقالوا:

كل من أخذ شيئا من أهله أثناء الزيارة يرفع يده.. وفي شجاعة وصدق رفع كل من أخذ شيئا من أهله يده .. لأن الأمر عادي وليس فيه أي جرم!!فساقوا المجموعة التي رفعت أيديها إلى داخل عنبر التأديب بعد أن وضعوا في أيدي كل منهم القيد الحديدي من الخلف وهو وضع لا إنساني بالمرة، لأن الإنسان في هذا الوضع لا يستطيع أن يؤدي لنفسه أبسط الأشياء ولا يمكنه أن يستريح على أي وضع كان!!

أما الإخوة الآخرون وكنت واحدا منهم فأعادونا إلى العنبر الذي نقيم فيه، وسألنا الإخوة عن بقية الإخوان الذين خرجوا معنا إلى الزيارة فروينا لهم ما حدث.ذهب البعض إلى ضابط العنبر وكان عبد العال سلومة هو المسئول عن العنبر فأخبرهم أن الإخوان سيعودون بعد ساعة.

كان ذلك يوم الأربعاء 29 مايو 1957 انتظرنا حتى نهاية اليوم وحتى تمام السجن فلم يعد أحد وقضينا ليلتنا نفكر في هؤلاء الإخوان وكيف قضوا ليلتهم في هذا الوضع اللاإنساني.

في الصباح طلبنا من عبد العال سلومة أن يسمح لبعضنا بالذهاب إلى مدير الليمان من أجل التفاهم معه في شأن هؤلاء الإخوان.. ولكن عبد العال سلومة رفض.مرت ساعات نهار الخميس بطيئة ونحن نفكر في طريقة ننهي بها هذا الوضع الذي لا مبرر له من قبلنا والذي اصطنعه الضابط عبد الله ماهر اصطناعا ولكننا لم نصل لحل.

ومضي هذا اليوم مثل سابقه.. وجاء يوم الجمعة 31 مايو وبالطبع كان يوم عطلة لغالبية ضباط الإدارة ولم نمكن من الاتصال بأحد وبقي الوضع على ما هو عليه.. الإخوان في التأديب لا ندري ماذا فعل بهم ونحن في العنبر عاجزين عن فعل أي شيء ..

في نهاية يوم الجمعة فوجئنا بأن جمع الإخوان المرضى المقيمين في مستشفى الليمان يعودون إلى العنبر حتى الذين كانت جراحاتهم لم تطب بعد والإخوان الذين كانوا تحت الملاحظة الطبية أخرجوا من الملاحظة الطبية.. أكثر من هذا أن الإخوان القادمين من السجون الأخرى للعلاج في مستشفى الليمان أخرجوا هم أيضا من المستشفى وأحضروا إلى العنبر ونبه على الجميع أنهم سيخرجون إلى الجبل غدا السبت أول يونيو سنة 1957.

كان الأمر غريبا ومريبًا ومثيرًا ومستفزا فأحسسنا أن هناك أمرا يدبر وأن خروجنا إلى الجبل إنما سيكون فرصة للتنكيل بنا .. أحسسنا بالخطر يحدق بنا وبدأنا نفكر في درء هذا الخطر الذي لاحت بوادره. فكرنا هل نخرج إلى الجبل كالمعتاد أم نعتصم بالزنازين ونطلب النيابة للتحقيق ونطلب حماية أرواحنا..؟!

وكنا نعلم أن لائحة السجون تعاقب الممتنع عن الخروج إلى الجبل أول مرة ب 12 جلدة !! وهذه أول مرة لنا نمتنع فيها عن الخروج إلى الجبل.قلنا إن الجلد أهون من إطلاق الرصاص علينا في الجبل أو حتى الضرب بالشوم.!!

التقينا جميعا على الاعتصام بالزنازين وطلب النيابة لسماع أقوالنا.. واتفقنا على صورة التنفيذ. أن يكتب كل واحد منا ورقة قول فيها «استشعر الخطر على حياتي ولست آمنا على نفسي إذا خرجت إلى الجبل ..لدي أقوال هامة أطلب النيابة لسماع هذه الأقوال».

في الصباح .. فتحت علنيا الزنازين.. ونادوا علينا بالاستعداد للخروج للجبل.. كل واحد منا نفذ ما اتفقنا عليه جميعًا كتب الورقة وسلمها لضابط العنبر عبد العال سلومة، كي يسلمها لمدير الليمان.

عندئذ أغلقوا علينا الزنازين بعد أن سلم كل الإخوان أوراقهم بعد فترة قصيرة من الوقت نادوا على أربعة من الإخوان هم: الحاج أحمد البس، الحاج عبد الرزاق أمان الدين وحسن دوح وعبد الحميد خطابي.. .فخرجوا من العنبر ولم يعودوا وقلنا إنهم أخذوهم إلى عنبر التأديب ...

بعد فترة من خروج هؤلاء الإخوان سمعنا صوت المفتاح يفتح زنزانة ويخرج من فيها ويسوقونهم إلى حوش العنبر ثم يفتحوا زنزانة أخرى ويفعلون بما فيها ما فعلوه بمن قبلهم فتحوا حوالي خمس زنزانات ثم بدأوا يخرجون هؤلاء الإخوان خمسة خمسة خارج العنبر أحد هؤلاء الإخوان اسمه مرسي صادق لمح السجانة خارج العنبر يسلسلون الإخوان بالقيود الحديدية في سلسلة ففكر سريعا ونهض وصعد إلى الدور الذي نحن فيه بسرعة وخطف من السجان المفتاح وفتح جميع الزنازين وأبلغ الإخوان ما رأى من سلسلة الإخوان الذين أخرجوا خارج العنبر...

أزددنا يقينا بأن هناك أمرا يدبر.. للتنكيل بنا وربما بإبادتنا في الجبل..فشلت خطة إخراجنا مسلسلين إلى الجبل بعد فتح الزنازين كلها علينا.. وخرج الإخوان من الزنازين ووقفوا في طرقة الدور... أما بقية المساجين العاديين في العنابر الأخرى فقد خرجوا إلى الجبل في الموعد المحدد.

بعد فترة حضر إلينا مدير الليمان اللواء سيد والي وسألنا.لماذا لا تخرجون إلى الجبل!؟

فأجبناه:

نحن لسنا ممتنعين عن الخروج إلى الجبل.. ولكننا نستشعر الخطر على حياتنا إذا ما خرجنا إلى الجبل وقد تأكد الأمر لدينا بعد إخراج إخواننا المرضى من المستشفى، وإخراج الإخوان من تحت الملاحظة الطبية وإحضار إخوان السجون الأخرى الذين حضروا للعلاج ومطالبة الجميع بالخروج إلى الجبل وزاد يقيننا بأن هناك خطرا يتهددنا لما رأينا محاولة إخراجنا إلى الجبل مسلسلين ومقيدين بالقيود الحديدية!! إننا معتصمون بزنازيننا حتى تحضر النيابة لتسمع أقوالنا وتحمينا من الخطر الذي يهددنا!!

فقال مدير الليمان:

:لابد من الخروج إلى الجبل أولا.. ثم تأتيكم النيابة بعد ذلك فقلنا:

  • نحن نفضل أن تقتلونا هنا داخل زنازيننا من أن تقتلونا هناك في الجبل أنكم هنا لن تستطيعوا أن تلفقوا لنا من التهم ما يمكن أن تلفقوه لنا في الجبل..!!

في الوقت الذي حضر فيه المدير إلينا يطلب منا الخروج إلى الجبل كانت «الكتيبة» تعد بالذخيرة والسلاح.

حان وقت أذان الظهر وخرج مدير الليمان من العنبر وبدأ الإخوان يستعدون للصلاة وقلنا إن أقصى ما يمكن أن تتجاوزه إدارة الليمان هو ضربنا بالشوم لأن القانون يمنع مجرد دخول سلاح داخل العنبر وأن هذه العملية لن تتم قبل عودة السجانة من الجبل وجمعنا الإخوان في نصف الزنازين الداخلية وتركنا النصف الثاني الواقع في مقدمة العنبر خاليا من الإخوان حتى لا يصطادنا السجانة في مقدمة العنبر؛

كما أن الطرقة ضيقة لا تسمح بحركة أكثر من اثنين وبذلك لن تتمكن القوة كلها من اقتحام الزنازين كلها مرة واحدة صلينا الظهر .. وخرجنا نقف في الطرقة أمام الزنازين ننتظر ماذا سيحدث...

وحدث ما توقعنا .. وأكثر مما كنا نتوقع رأينا عددا كبيرا من جنود الكتيبة يصعدون إلى الدور الرابع فوقنا .. ورأينا آخرين يأخذون وضع الاستعداد في الدور الثاني، وصعدت مجموعة ثالثة إلى الدور الذي نحن فيه.. تقدم عدد من السجانة يحملون الشوم ومن خلفهم كان هناك مجموعة من الجنود يحملون السلاح وبدأت المذبحة ..

وأعطيت إشارة البدء وأطلق علينا الرصاص من أربعة أماكن: من الدور الذي فقونا ومن الدور الذي أسفل منا ومن المجموعة التي معنا في نفس الدور .. ومن مجموعة رابعة كانت تقف على السور الخارجي للعنبر وكانت ساعة رهيبة لا تنسى سمع الإخوان صوت الرصاص..

فقال أحد الإخوان يطمئن الإخوان:

  • فشنك فشنك.. لا تخافوا!!
لم يكمل الأخ عبارته حتى جاءته رصاصة فسقط شهيدا وأذكر أن اسمه سعد.. كان من إمبابة .. وسقط غيره.. وتيقنا أن «الضرب في المليان» وليس الرصاص فشنك، وأسرع الإخوان إلى داخل الزنازين يحتمون بها من الرصاص المنهمر عليهم من كل جانب ..

دخلت أنا الزنزانة التي بجوار المخزن فكان الرصاص يأتينا من شراعة باب الزنزانة ومن شباك الزنزانة ومخترقا باب الزنزانة نفسه.. وقفنا في ركن بعيد عن مرمى الرصاص ووقف أحد الإخوان في مواجهة الباب فجاءته رصاصة فلقي مصرعه في التو أمام أعيننا وجاءتني أنا رصاصة في كعبي ولم أشعر إلا بالدماء تنزف من كعبي...

استمر إطلاق الرصاص فترة من الزمن ليست قصيرة ثم توقف إطلاق الرصاص.. وبعد مضي وقت قليل فتح بابا المخزن.. وهو عبارة عن حجرة كبيرة وبها عدد أكبر من أي زنزانة أخرى بعد فتح باب المخزن الذي يقع بجوارنا سمعنا إطلاق الرصاص على من فيه وأعقبه ضرب الشوم وسمعنا أصوات نزع وحشرجة موت خفتت وتلاشت!! لقد قتل أغلب من في المخزن.. وأصيب البعض بالجراح التي جعلتهم على حافة الموت.

توقعنا بعد انتهائهم من هذا المخزن أن يدخلوا علينا زنزانتنا لأنها تجاوز هذا المخزن لكنهم ذهبوا إلى المخزن الآخر المقابل للمخزن الأول ولكنهم لم يستطيعوا فتح الباب لأن طلقا ناريا سمكر القفل .. وأرادوا أن يفتحوه فأطلقوا على القفل بعض الطلقات فزاد انغلاقه فذهبوا إلى الزنزانة المقابلة لزنزانتنا وأجهزوا على كل من فيها ثم صدر الأمر بانسحاب جميع القوة... وانقطع إطلاق الرصاص وخيم صوت الموت على العنبر.. ولم نعد نسمع غير حشرجات الموت ودعوات وتضرعات الجرحى...

وجاء الليل .. وصعد آخرون يسألون عن القتلى وجدوهم على الأرض خارج الزنازين ثم دخلوا زنازين النصف الأول من العنبر التي كنا قد أخليناها قبل بدء المذبحة وألقوا بالجرادل في الحوش وبكل الأشياء اليت يمكن أن ستخدم في الضرب وأرادوا بذلك أن يصوروا الأمر كأنه صدام بين الإخوان وبين السجانة...

ثم صعد أحد الضباط يأل عن الجرحى لإسعافهم في المستشفى، وفعلا أخرج من العنبر الذين أصيبوا وبعضهم كان يجر من رجله داخل الزنزانة إلى طرقة العنبر ثم على السلالم حتى يصلوا به إلى حوش العنبر!! وفي الطريق خارج العنبر وحتى باب المستشفى كان هناك بعض السجانة يستقبلون الجرحى بالشوم والمدى ويخلصون عليهم.!!

لقد رأى الضابط قدمي تنزف من الطلقة التي أصبت بها في كعب رجلي وقال ل: اذهب إلى المستشفى لتسعف فقلت له: أنا لا أشعر بأي ألم ولست في حاجة إلى إسعاف فأصر على خروجي وذهابي للمستشفى فخرجت وأثناء سيري في الطرقة في اتجاه السلم التفت خلفي فرأيت أحد السجانة رافعا «الشومة»ويهم أن يهوي بها على رأسي ولا التفاتي إليه لفعل ولما رأى الضابط ما كان سيفعله بي السجان ناداني وأعادني إلى الزنزانة.

إن كثيرين من الذين نقلوا إلى المستشفى لإسعافهم أجهزوا عليهم قبل أن يصلوا إلى المستشفى أو تركوا ينزفون إلى أن فاضت أرواحهم!!

بعد أن سحبوا جثث الشهداء داخل الزنازين وأرسلوا الجرحى إلى المستشفى جاءت قوة من السجانة بقيادة عبد العال سلومة فتحت الزنازين زنزانة زنزانة وأخرجت أفراد كل زنزانة وجردتهم من جميع ملابسهم التي عليهم وأعطت كل واحد منهم بدلة ممزقة لا تكاد تستر عورتهم لبسوها على اللحم وجردوا لزنازين م كل شي ولم يبقوا إلا على «البرش» لكل واحد وبطانية وتركونا حفاة لا نرتدي غير هذه البلدة تمت هذه العملية بين صفعات السجانة وسخريتهم بنا.

أخيرا جاءت النيابة للتحقيق وكان الوقت ليلا دخلت العنبر لتعاين مسرح الجريمة بعد أن صور الأمر على أنه معركة بيننا وبين السجانة وأقاموا الدليل على ذلك بالجرادل التي كانت ملقاة بحوش العنبر والأواني الحديدية الأخرى التي قالوا أننا كنا نضربهم بها!!

ثم طلبنا واحدا واحدا لسماع أقوالنا أمام النيابة، وكان هناك في الطريق إلى مكتب التحقيق كمين يتلقى الأخ الذاهب إلى التحقيق ويعطيه (طريحة) من الضرب بالشوم والسياط والصفعات ويهدد بالمزيد من الضرب في العودة حتى يرهب فلا يقول الحقيقة..

ولكننا قلنا الحقيقة كما رأيناها وكما حدثت وأدانت النيابة إدارة السجن ولم تنطل عليها الخدعة ولم تقبل أن الحادث كان معركة بين الإخوان والسجانة ولم تعجب نتيجة التحقيق المسؤولين في وزارة الداخلية فنحوا وكلاء النيابة هؤلاء وجاءوا بوكلاء نيابة آخرين وأعيد التحقيق معنا ولم يكن أسلوب تحقيقهم معنا أسلوب وكلاء نيابة لأنهم كانوا يعنفوننا.. ويوجهون إلينا الشتائم ويومها قيل إن وكلاء النيابة هؤلاء ليسوا إلا ضباط مباحث انتحلوا شخصيات وكلاء النيابة.!!

بقينا في الليمان بعد المذبحة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع بدأت إجراءات ترحيلنا .. إلى أين !؟ لا نعرف !! واستمر تعذيبنا طوال هذه الأيام الثلاثة أغلقوا علينا الزنازين طول الوقت،وكانوا يأخذوننا مجموعة .. مجموعة، ويضربوننا بقسوة ووحشية واستمرت هذه العملية حتى يوم الترحيل..

وفي مساء اليوم الرابع ساقونا إلى عنبر التأديب وأجلسونا القرفصاء وبقينا على هذا الوضع حتى الساعة الواحدة صباحا حيث وصلت السيارات التي رحلنا فيها سلسلونا مجموعات كل مجموعة مع بعضهم وشحنونا في السيارات بطريقة لا إنسانية وأغلقوا أبواب السيارات علينا وانطلقت بنا إلى جهة لا نعلمها ومن حولنا حراسة شديدة أخيرا وصلنا إلى سجن القناطر واستقبلنا استقبالا رهيبا ظننا لضراوة وقسوة مستقبلينا أنهم جاءوا بنا إلى هنا ليخلصوا علينا رأينا شخصيات كبار المسؤولين في وزارة الداخلية.. وقيل إن زكريا محيي الدين كان حاضر استقبالنا!!..

كان الضرب ينهال علينا ابتداء من دخولنا من الباب الخارجي وحتى أغلقت علينا الزنازين.. كان الهول شديدًا جردونا من ملابسنا أو شبه الملابس التي كنا نرتديها وأعطونا ملابس غيرها أشد منها قذارة وقضينا أكثر من أربعة أشهر داخل الزنازين لم نر فيها الشمس إلا من خلال شراعات الزنازين ولا نخرج من الزنزانة إلا إلى دورة المياه وفي شكل طابور تعذيب..

كان السجانة يأمروننا بالجري في طرقة الدور أمام الزنازين وأثناء الجري كانوا يلهبون أجسادنا بالكرابيج أو بالشوم وندور دورة أو دورتين على هذا الوضع ثم نذهب إلى الدورة لنفرغ جردل البول نملأ زمزمية ماء الشرب ونغسل «قروان» كل ذلك نفعله والضرب ينهال علينا ولا يتوقف حتى نعود إلى الزنزانة من جديد لتغلق علينا.

وبقينا بنفس الملابس القذرة مدة أسبوع أخرجونا إلى الحمام وأصر عبد العال سلومة الذي نقل معنا إلى سجن القناطر على أن نخلع ملابسنا في الدور الثاني حيث نقيم ونهبط السلم عراة كما ولدتنا أمهاتنا وكان إذا رأى أحدا منا يستر عورته يلهب ظهره بالكرباج!! وكان عبد العال سلومة يعلم جيدا مدى ما يسببه لنا هذا الوضع من آلام نفسية!!

استمرت هذه الحالة السيئة حتى أصيب بعضنا بكثير من الأمراض حتى زارنا طبيب السجن ذات يوم وكان اسمه مصطفى النحاس فلما رأى ما نحن عليه من تدهور صحتنا وتفشي الأمراض بيننا كتب تقريرا إلى إدارة السجن يحذرهم فيه من خطورة حالتنا وأنه إذا لم يتدارك الأمر سريعا سوف تزداد حالتنا سوءا وقرر لكثير الإخوان غذاء طبيا وصرف للبعض منا مراتب وأوصى بإخراجنا في طوابير خارج الزنازين يوميا صباحا ومساء.

وبقيت مجموعتنا على صلابتها وترابطها حتى هذا الوقت ولم تثمر كل وسائل الضغط التي مورست معنا بل زادتنا تماسكا وترابطا ولكن أجهزة عبد الناصر التي كانت تبذل كل جهودها لفتنة الإخوان عن دعوتهم وتخليهم عن جماعتهم استطاعت مع بعض جرحى المذبحة الذين نقلتهم إلى مستشفى القصر العيني لعلاجهم والانفراد بهم أن تستميل هؤلاء وأن تعرف منهم معلومات عن أفراد مجموعة الليمان هذه..

ففوجئنا ذات يوم بمن ينادي على معظم الإخوان الذين كان محكوما عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة وبالأشغال الشاقة المؤقته (15 سنة) ورحلوهم إلى سجن الواحات.. وبعد أيام أخر نادوا على ثلاثين آخرين منا ونقلونا إلى عنبر آخر أطلقوا عليه عنبر (ب) وكنت واحدا من هؤلاء الثلاثين وسكنونا مع المساجين العاديين واختاروا لكل اثنين منا ثلاثة من المساجين المعروفين بإجرامهم وشدة شغبهم.. أطلقوا على المجموعة هذه المعارضين, وبقية الإخوان وصفوهم بأنهم المؤيدون!!

وبذلك مزقوا بأيديهم المجموعة إلى فئات ثلاث فئة رحلت إلى الواحات وفئة نقلت إلى عنبر المساجين لمزيد من الضغط عليهم.. والفئة الثالثة وصفوها بالتأييد وبدأت الفتنة.. فتنة التأييد من أجل الخروج من السجن... وهذا موضوع آخر.. غير موضوع مذبحة ليمان طرة!!

وفي الحلقة القادمة ان شاء الله نستكمل شهادة الشهود الذين حضروا هذه المذبحة

للمزيد عن مذبحة طرة

كتب متعلقة

ملفات ومقالات متعلقة

متعلقات أخرى

شهداء مذبحة طره

تابع شهداء مذبحة طره

وصلات فيديو