بناء نموذج ديمقراطي إسلامي (2)

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
بناء نموذج ديمقراطي إسلامي (2)
10-10-2007

بقلم: د. عصام العريان

التطور التاريخي

إذا نظرنا إلى الدول الديمقراطية في العالم اليوم سنجد أن هناك ثقافاتٍ مختلفة وحضارات متنوعة أصبحت تبني نماذج ديمقراطية مختلفة في الشكل وإن كانت متفقةً في الأسس والقواعد.

عرف العالم الديمقراطية في صورتها البدائية في "أثينا" التي طبَّقت الديمقراطية المباشرة التي استبعدت النساء والأرقاء والتي كانت أقرب في روحها إلى مبدأ الشورى العامة في المجتمعات، ثم جاء الرومان ليضفوا الشكل القانوني على الديمقراطية وتطورت إلى أن انتهت إلى حكم الأباطرة الذين أحكموا سيطرتهم على مجلس الشيوخ "السناتو" ودخلت أوروبا مع سقوط الإمبراطورية الرومانية في العصور الوسطى، التي امتزج فيها حكم البابوبات مع سيطرة الأباطرة وأمراء الإقطاع حتى تخلَّصت أوروبا بعد عصور التنوير والثورة الفرنسية من الجميع بثورات دموية أحيانًا وهادئة حينًا حتى انتهينا إلى نماذج ديمقراطية متعددة في حضارة أوروبية غربية أصبح المرجع الأعلى فيها لما يُسمَّى بالقانون الطبيعي الذي هو مزيجٌ من التقاليد اليهودية والمسيحية وتقاليد رومانية ويونانية (هيلينية) وآراء لمفكرين أثروا وأثَّروا عبر التاريخ الأوروبي وتراكم خبرات القرون الثلاثة الأخيرة خاصةً عبر الأطلنطي في أمريكا.

اليوم الديمقراطية الغربية ليست نموذجًا واحدًا، بل هي تطبيقات مختلفة لمبدأ مستقر واحد وهو إدارة الاختلاف في المجتمع وتسيير شئون الحكم والمجتمع بطريقة سلمية.

انتقلت التجربة الأوروبية إلى بقية دول العالم خاصةً التي خضعت بصورةٍ أو أخرى للاحتلال الغربي، وكانت ثقافاتها بسيطةً أو مرنةً تجاه الثقافات الأخرى الوافدة، بينما عرفت دول أمريكا اللاتينية محاولات ديمقراطية فشلت في النهاية لأسباب اقتصادية استعمارية رغم أن القارة كلها تقريبًا تدين بالمسيحية الكاثوليكية نتيجة التبشير الذي اقترن بالاستعمار الإسباني والبرتغالي والبريطاني.

وقد عاشت مجتمعات أخرى غير مسيحية تجارب ديمقراطية ناجحة أشهرها الهند واليابان، بينما تعثَّرت التجربة الديمقراطية في باكستان الإسلامية 100% التي انفصلت عن الهند إبَّان الاستقلال عام 1948م، مما دفع البعض إلى القول بأن السبب هو ثقافي في الأساس، وأرجع ذلك إلى الثقافة الإسلامية التي لا تقبل بالديمقراطية رغم التنوع الكبير في المجتمع الهندي بين هندوس وسيخ ومسلمين والتنوع الشديد داخل الهندوس في المعتقدات والتقاليد والعادات واتساع شبه القارة الهندية جغرافيًّا واختلاف المناخ بين أقاليمها ووجود حكم الولايات، وهناك مَن يؤكد أن الاستعمار البريطاني هو الذي ساهم في نجاح التجربة في الهند بينما فاقم أسباب الفشل في باكستان،

وهناك مَن يقول: إن الأفضل لمسلمي الهند كان البقاء في دولةٍ موحدةٍ مع الهنود جميعًا والعمل من أجل تحقيق نهضةٍ شاملةٍ تُحقق المساواة بين الجميع في ظلِّ ديمقراطيةٍ حقيقية، وكان المسلمون سيشكلون الآن قرابة الـ45% من سكان الهند الموحدة، وكان من المفترض أن تأثيرهم السياسي سيكون أقوى بكثيرٍ من وجودهم الحالي كأقلية أو انفصالهم في دولتهم الإسلامية التي انفصلت عام 1970م، إلى دولتين تغرقان في المشاكل، تحتفل الأصل اليوم بيوم الاستقلال الـ60 بينما ستحتفل الأخرى بيوم ميلادها عندما يحين يوم ذكرى الانفصال عن باكستان لتؤسس بنجلاديش بعد حرب انفصالية دامية، (15 أغسطس 1947م كان ذكرى التأسيس).

حدثت تجارب سياسية ديمقراطية في البلاد الإسلامية منذ أكثر من قرنين من الزمان، تعثر معظمها لأسباب ومشاكل متعددة.

أهم هذه التجارب هو ما تمَّ في السلطة العثمانية دولة آخر خلافة إسلامية فيما عُرف تاريخيًّا بـ"التنظيمات" في عهد السلطان محمود الثاني الذي تولى الحكم عام 1808م، وشكل أول مجلس نيابي مجلس أعيان الولايات ومجلس الدولة، وباءت كل تلك المحاولات بالفشل، وكانت بضغوطٍ أجنبيةٍ نتيجة انفتاح السلطنة على البلاد الأوروبية ونمو حركة التجارة الخارجية ووجود جاليات أجنبية تحتاج إلى نظامس مدني يحقق لها الأمن والأمان وحرية التجارة.

ثم تعثَّرت التجربة في الدولة العثمانية حتى انكسرت الدولة في حروبها مع روسيا بعد أن تراجعت من قبل داخل أوروبا وانكفأت على نفسها.

وفي أواخر العهد العثماني بدأت الضغوط من جديد تحت اسم "المشروطية" أي "الدستور" الذي صدر عام 1876م، في عهد آخر الخلفاء "عبد الحميد الثاني" وكانت معركة سياسية قادها "مدحت باشا" الذي لُقِّب بأبي الدستور، وكانت الخاتمة هي انهيار الخلافة والسلطنة بعد الهزيمة المرة في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) التي خاضتها الدولة العثمانية بجانب ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا، واحتلت اليونان جزءًا كبيرًا من الأراضي التركية نفسها فقاد مصطفى كمال (الغازي) معارك التحرير وكسبها مما أكسبه هو مكانة هائلة في الدولة كلها مكَّنته من إلغاء الخلافة والسلطنة في خطوةٍ تاريخيةٍ غير مسبوقة.

"عادت أغاني العرس رجع نواح" كما قال شوقي أمير الشعراء حتى بالنسبة إلى التطور الديمقراطي في الدولة العثمانية التي أصبحت منذ ذلك التاريخ الجمهورية التركية، فقد أقام مصطفى كمال الذي أصبح لقبه "أتاتورك" نظامًا ديكتاتوريًّا يقوده حزب واحد هو حزب الشعب الجمهوري حتى منتصف القرن السابق تقريبًا عندما بدأت التجربة الديمقراطية منتصف القرن الماضي وفاز فيها الحزب المعارض بزعامة "عدنان مندريس" والذي كرر الفوز في سابقة تاريخية فاستمر في الحكم حتى عام 1960م، وكان جزاؤه هو الإعدام شنقًا بعد انقلاب المؤسسة العسكرية على الديمقراطية.

سارت الديمقراطية التركية على عصا عرجاء واستمر تدخل الجيش في السياسة وحدثت انقلابات أخرى كان آخرها إجبار الجيش لنجم الدين أربكان بالخروج من رئاسة الوزراء والحكومة عام 1997م.

اليوم تمر التجربة الديمقراطية التركية بمرحلةٍ حاسمةٍ في ظل أوضاع عديدة، فقد كرر حزب العدالة والتنمية نفس ما فعله حزب "عدنان مندريس" في خمسينيات القرن الماضي، ويد الجيش مغلولة لأسباب كثيرة، والتجربة التركية عاشت حتى الآن أكثر من نصف قرن واكتسبت خبرات كثيرة وجرب الشعب التركي النخب السياسية المختلفة، وعيون المسلمين في العالم، بل أنظار العالم كله تتطلع إلى استمرار بناء نموذج ديمقراطي في بلد مسلم من أكبر بلاد المسلمين رغم إلحاح الجيش وحزب الشعب الأتاتوركي على العلمانية المتطرفة ومحاولة طمس الهوية الإسلامية لشعبٍ مسلمٍ عريق.

التجارب التاريخية لبناء نموذجٍ ديمقراطيٍّ إسلاميٍّ حديث في بلاد أخرى أشهرها مصر في عهد الخديوي إسماعيل الذي أنشأ مجلس شورى النواب عام 1866 كهيئة نيابية تشترك في الحكم وتمثل الشعب إلى حد كبير والتي تعثرت بخلعه من الخديوية وعزله ونفيه إلى الخارج عام 1879م ودخول القوات البريطانية المحتلة عام 1882م وتعطل محاولات النهضة ثم بزوغ تجربة ليبرالية ديمقراطية في ظل الاحتلال العسكري وسيطرة القصر الملكي الذي أطاح بورثة إسماعيل لصالح فرع جديد من عائلة محمد علي باشا الكبير ولم تثمر تلك التجربة إلا نزاعات مستمرة بين حزب الأغلبية الشعبية "الوفد" بزعامة سعد زغلول باشا وخليفته مصطفى النحاس باشا والقصر الملكي في عهد فؤاد الأول ثم فاروق الأول وانتهت بانقلابٍ عسكري عام 1952م تحول إلى ثورة اجتماعية ما زلنا نعيش آثارها حتى اليوم.

عطلت الثورة الحياة النيابية بحجة إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وبحجة إقامة دستور جديد وتغيير الطبقية الاجتماعية وإزالة الفوارق بين الطبقات وعلاج الأسباب التي أدَّت إلى تعثر الحياة الديمقراطية في ظل العهد الملكي.

ما زلنا حتى يومنا هذا بعد 55 عامًا على الثورة والانقلاب ننتظر تحقيق حلم الحياة الديمقراطية في مصر المحروسة، وما زال أمام بناء نموذجٍ ديمقراطي إسلامي في أكبر بلدٍ عربي وأحد أهم 5 بلاد مسلمة في العالم؛ شوط أو أشواط يجب أن نتخطاها.

كان من البلاد الأخرى التي حاولت إقامة نموذج ديمقراطي إسلامي "تونس" منذ عهد الباي محمد الصادق الذي أصدر دستورًا سنة 1861م وكان سابقة في تاريخ الدولة العثمانية حتى عصف به الغزو الفرنسي 1881م، ثم في عهد الجمهورية وحاولت علمنة من نوع مختلف عن علمنة تركيا المتطرفة في عهد بورقيبة، لكن الإصرار على الاستحواذ على السلطة- كما في مصر- وهو ما يهدم أي أساس لبناء ديمقراطي كان السبب في سياسة الإقصاء المستمر لكل القوى الحية من الأحزاب السياسية والقوى الشعبية.

تعثرت التجارب الديمقراطية في البلاد الإسلامية خاصةً البلاد العربية، بينما بدأت موجة جديدة لبناء نظم شبه ديمقراطية في بلاد أخرى بعضها ينطق العربية، وبعضها لكنته أعجمية.

هناك تجارب في بلاد ملكية تحاول بناء ملكيات دستورية كالبحرين والأردن والكويت، والمغرب، وبدايات خجولة في السعودية.

وهناك تجارب واعدة في ماليزيا وإندونيسيا ومتعثرة في إيران بسبب البعد المذهبي الضيق. وهناك أمل يراود المسلمين في العالم لتطور ديمقراطي حقيقي فيتركيا يحقق المصالحة بين الهوية الإسلامية للأمة التركية وبين النظام الديمقراطي الذي يستفيد بتجارب الأمم الأخرى خاصةً في أوروبا وأمريكا.

إلا أن المشكلات التي تواجه بناء نموذج ديمقراطي إسلامي ليست مجرد الاستحواذ بالسلطة أو التدخل الخارجي أو فساد النخب السياسية، بل هناك مشكلات أعمق تتعلق بالثقافة السائدة في البلاد الإسلامية حول فكرة المعارضة والخروج على الحاكم، وفكرة تداول السلطة سلميًّا، وفكرة المواطنة وحقوق الأقليات، وفكرة المؤسسية في بناء الدولة الحديثة، وفكرة الدولة الوطنية نفسها في ظل أمة إسلامية عالمية، وفكرة حقوق الإنسان، خاصةً حرية الإعلام وحرية النقد والرأي، وغيرها..

وهذا حديث آخر يحتاج إلى شرح جديد..

المصدر