بناء نموذج ديمقراطي إسلامي (1)
بقلم: د. عصام العريان
قد يستغرب البعض من الجمع بين الديمقراطية والإسلام في العنوان؛ حيث يروج بعض المفكرين العلمانيين حاليًّا الشيوعيين سابقًا، أو الليبراليين الآن الماركسيين فيما مضى، لمقولةٍ يؤكدون عليها بإلحاحٍ وهي أن العلمانية شرط مسبق لإقامة أي نموذج ديمقراطي.
يساعد بعض الناشطين الإسلاميين الرافضين للديمقراطية من حيث المبدأ لآراء يجتهدون فيها في تفسير آليات وثقافة الديمقراطية من الأصل أو بسبب ممارسات برلمانية مثل الدعوة إلى إباحة الشذوذ الجنسي أو الزواج المثلي، وهي تمثل شرائح ثقافية في المجتمع، فالعيب ليس في آليات الطرح الديمقراطي، ولكن في الثقافة الشائعة في المجتمعات، فمن الطبيعي أن يتم طرح المشكلات المجتمعية في البرلمانات وفق أولويات تلك المجتمعات، فضلاً عن أنه من الخطأ عقد مقارنة بين دين سماوي مقدس كالإسلام وبين اجتهادٍ بشري في إدارة المجتمعات وحل الخلافات وإدارة شئون الحكم كالديمقراطية.
هناك بعض المفكرين والناشطين الإسلاميين أيضًا مَن يقف مترددًا إزاء الممارسات الديمقراطية بسبب الارتباك الذي يسود الحياة السياسية في بلاد المسلمين، ففي البلاد العربية تغيب أسس ومبادئ الديمقراطية السليمة، فنشهد انقلابات عسكرية على نتائج الانتخابات النزيهة كما حدث في الجزائر، وهناك عقبات يتم وضعها في وجه الحكومة التي تسلَّمت السلطة المنقوصة بعد انتخابات نزيهة أخرى في فلسطين انتهت بمحاولة انقلابٍ تقوم به الأجهزة الأمنية ضد الحكومة المنتخبة، والتي تحظى بثقة المجلس التشريعي فإذا صححت الحكومة عبر آليات عسكرية خارج نطاق الأجهزة الرسمية هذا الوضع الشاذ أصبحت هي المتهمة بالانقلاب على الشرعية في حالةٍ لا تعكس أي ممارسات ديمقراطية من الأطراف المشاركة والاتهامات متبادلة بين الجميع، والأخطاء والخطايا شارك فيها الجميع، والسبب الرئيسي هنا هو الاحتلال الصهيوني والراعي الأمريكي الذي يريد ديمقراطية "تفصيل" لا تأتي إلا بمَن يستسلم للاحتلال ويوافق على شروط الرباعية الأمريكية.
مما يفاقم موقف الإسلاميين المسالمين الراغبين في المشاركة السياسية ويزيد الارتباك هو المشهد السياسي الذي لا يستقر على حالٍ في معظم البلاد العربية التي تعرف دساتير مكتوبة "غير محترمة ولا يتم تطبيقها" وتجرى فيها انتخابات دورية "لا تعرف النزاهة إليها سبيلاً" تتأرجح حسب رأي الحاكم الفرد فتارةً تكون شبه نزيهةٍ من أجل معرفة الأوزان النسبية للقوى السياسية أو استخدام نجاح فئات إسلامية أو قومية معارضة للسياسة الأمريكية وكفزاعة للخارج وأحيانًا للداخل أيضًا.
جاءت الانتخابات التركية الأخيرة لتزيد الأمر ارتباكًا لدى الأطراف التي تمانع في فرضية "الديمقراطية الإسلامية" كنموذجٍ بشري يمكن إضافته إلى النماذج الديمقراطية التي اجتهد البشر في إرسائها عبر تجارب طويلة في الحكم.
ها هو شعب مسلم "99% مسلمون" يجري انتخابات نزيهة تمامًا بنسبة مشاركة تزيد على 75% يفوز فيها حزب إسلامي "لم يخلع عنه صفة الإسلامية إصراره على وصف نفسه بأنه محافظ يميني"، وهو في الحكم، فيجدد له الناخبون بنسبة فوز زادت من شعبيته من 34% إلى 47.6% ووضعته في سدة الحكم منفردًا من جديدٍ بحجمٍ من المقاعد لم يقل كثيرًا عن نصيبه السابق ووسط أجواء مشحونة متوترة تتقاذف فيها الاتهامات ضد الحزب الإسلامي "العدالة والتنمية" بأنه يقوض أسس العلمانية التركية ويخفي أجندة إسلامية يريد فرضها على المجتمع التركي، وخرجت مظاهرات مليونية في أكبر المدن التركية: إستانبول وأنقرة وأزمير ضد الحزب وتوجهاته فإذا بالرد الحاسم يأتي في صناديق الانتخابات.
ساهم في حالة الارتباك تأكيد قادة الحزب على احترامهم للدستور التركي وعلمانية الدولة ومؤسسة الجيش التي تحمي الدستور والعلمانية.
قال العلمانيون: ألم نقل لكم إن العلمانية شرطٌ لنجاح الديمقراطية، ولولا إعلان حزب العدالة والتنمية المستمر وتأكيداته والتزامه القوي بالعلمانية لما نجحت التجربة الديمقراطية في بلدٍ مسلمٍ كتركيا.
وقال الإسلاميون المترددون: إن سر نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات والسماح له بالاستمرار قد يكون في صفقةٍ عقدها الحزب مع أمريكا وأوروبا لحماية مصالح الغرب، وكذلك عدم اتخاذ موقف حاد وحازم ضد العلاقة مع العدو الصهيوني، كما يكمن أيضًا في تحلله من المبادئ الإسلامية وعدم حمل الهوية الإسلامية وتبني تطبيق الشريعة الإسلامية كاملة.
ويقف حزب العدالة والتنمية وحيدًا بين سندان العلمانيين ومطرقة الإسلاميين، ولا يريد أحد أن يتفهَّم الموقف على حقيقته وطبيعته.
لا يهتم الحزب كثيرًا بالرد على هؤلاء أو تبرير موافقة لأولئك، بل يمضي قدمًا في بناء شعبيته وإنجاز تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ستعيد تأسيس الجمهورية التركية من جديد بإجماع شعبي وتوافق وطني ضد نخبة ضيقة من قادة المؤسسة العسكرية وقيادة حزب الشعب الأتاتوركي، وها هي تُعيد اكتشاف نفسها من جديد.
أجندة الحزب مختلفة تمامًا عمَّا يظنه هؤلاء ويتشكك فيه أولئك، فقد ورث تركةً عريضةً منذ قرابة أربعين سنةً منذ تأسيس حزب "النظام الوطني" وحتى حزب "السعادة" الذي تقاسم معه تركة "الفضيلة" "والرفاة"، وهذه التركة أكسبته تجارب عريضة، فقادته- خاصةً أردوغان وجول- تربوا في هذه المدرسة الأربكانية وعرفوا العقبات التي في طريقهم وقرروا تغيير خطة العمل وتحديد أولويات جديدة لترويض المؤسسة العسكرية والمزيد من الحوار مع النخب العلمانية وقادة الرأي المتشككين والتوجه إلى الشعب لتحقيق آماله وأحلامه في حياة طيبة نظيفة من الفساد والإفساد والتحلل والانحلال بالمزيد من العمل والإنتاج وحل المشكلات الاقتصادية المستعصية لكسبِ المزيد من ثقة الشعب.
قرر الحزب التوجه نحو أوروبا- وهو يعلم أنه لن يحظى بالقبول كأمةٍ وشعبٍ وليس كحزب وحكومة، من أجل فرض الإصلاحات الدستورية والسياسية وترسيخ الديمقراطية وتحقيق حل عاجل للمشكلة الكردية بغطاء أوروبي ضد التوجه العسكري للجيش الذي يحاول إنهاء التمرد بالقوى المسلحة؛ مما أزهق أرواح أكثر من 30 ألف تركي حتى اليوم؟
خفف الحزب من توجهات الزعيم السابق أربكان نحو الدول الإسلامية والشرق وتحدى الجيش والعلمانيين، ونجح في إشراك العديد من الشخصيات السياسية من خارج "المدرسة" إلى بنية الحزب بما فيها مجموعة كبيرة من النساء ورشحهن في البرلمان وكسب بذلك ثقة الكتلة العائمة المترددة بين الناخبين فقد أيَّد حزب الرفاه في آخر انتخابات عام 1997م حوالي 18% وأيَّد العدالة والتنمية عام 2002م 34% واليوم يؤيده 47.6% هذه الزيادة المطردة جاءت من خارج الإطار الملتزم من قديم، وهو باقٍ مع الحزب بدليل أن الذين أيَّدوا حزب "السعادة" "والفضيلة" في الانتخابات الأخيرة لم يزيدوا على 2.5% خلال الانتخابات الدورية الأخيرة، مما يؤكد بقاء القاعدة الشعبية المؤيدة لأربكان مع العدالة وعدم تحولها إلى أي طرفٍ آخر ما زالت أمام الحزب تحديات كبيرة وشوط بعيد في بلد صعب المراس، بموقعه الجغرافي، وتاريخه الحضاري، وتفاعله السياسي مع أوروبا، وخلفيته الإسلامية وقدراته الاقتصادية.
نعود إلى النموذج الديمقراطي الإسلامي، وهنا قد يعترض البعض بأن الديمقراطية هي الديمقراطية، هذا صحيح، إن هناك ديمقراطيةً واحدة بأسسٍ مشتركةٍ يتم تطبيقها في بلاد مختلفة لها ثقافات متعددة، حتى في الغرب نفسه يتم تطبيق الديمقراطية بأشكال مختلفة في أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وسويسرا، وكذلك هناك مجتمعات أسيوية تطبق الأسس الديمقراطية بتنويعاتٍ مختلفةٍ في الهند واليابان، وأخيرًا الصين التي تخطو بخطواتٍ وئيدةٍ نحو التحول الديمقراطي.
وهناك بلاد إسلامية بدأت التطبيق الديمقراطي وما زالت تخطو الخطوات الأولى في ترسيخ المبادئ والأسس والآليات الديمقراطية على تفاوت فيما بينها: ماليزيا وإندونيسيا وتركيا وباكستان وإيران.
وفي العالم العربي كانت مصر هي الأحق بالتحول الديمقراطي لتسامح أهلها وغناء تجربتها منذ عهد الخديوي إسماعيل، وتجربتها الثرية في العصر الليبرالي تحت الاحتلال الإنجليزي والحركة الإسلامية القوية بها التي تقبل منذ عام 1938م بأسس النظام الديمقراطي الدستوري النيابي.
إلى أين وصلنا اليوم؟ ولماذا؟ وكيف نستعيد عافيتنا الديمقراطية؟
هذا حديث آخر..
المصدر
- مقال:بناء نموذج ديمقراطي إسلامي (1)إخوان أون لاين