النجاة بالحب والحرية!

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
النجاة بالحب والحرية!

21-04-2013

قراءة في المجموعة القصصية (هان الود) للقاص عصام عبد الحميد

بقلم: د. خالد فهمي

مدخل: النجاة بالحب و الحرية، هل هذا ممكن؟

د.خالد فهمى

في تاريخ العرب الأدبى مراحل كاملة كان الحب عنوانا شبه تام على عدد من منجزات الشعراء، وهو بعض ما نلمحه في شعر الغزل العذرى، حيث ظهر العنوان بشكل مثير للدهشة، ومثل ظاهرة استغرقتها نظريات تفسيرية توزعت على الدينى والسياسى والحضارى، ولمعت في تاريخ هذه الظاهرة الشعرية أسماء لامعة، وحكايات آسرة، وتجذرت تقنيات فريدة على مستوى بناء القصيدة ومعجمها !ّ

وبهذا السطر التاريخى أصبحنا نمتلك بعض إجابة عن السؤال المحير الصعب الذى طفر في افتتاح هذا المدخل.

وجرت مياه كثيرة غامرة تحت الجسر في الاتجاه نفسه، وتجلت مذاهب أدبية جارفة تعلى من قيم الحب والحرية، وتأكدت مع مرور الأيام، وما تزال أهميتها تتأكد، ولاسيما في زمان الإنسان العربى المعاصر، بعد كثير من ممارسات اغتيال الحب والحرية.

وهذه المجموعة القصصية للصديق العزيز الأستاذ / عصام عبدالحميد(:هان الود) تفتح الباب واسعا أمام طرح السؤال من جديد.

تضم هذه المجموعة أربع قصص متفاوتة الحجم، وهى:

أ-هان الود.
ب-ميرين
ج- فراشات تائهة.
د- الناب الأزرق

وهى مجموعة تلح على فكرة أساسية مركزية تتلخص فيما يمكن أن نعبر عنه بإمكان تحقيق مسارات النجاة للإنسانية بالحب و الحرية.

وهذه المجموعة تنضم مع أخوات كثيرات لها لتدعم فكرة عودة الرومانسية الجديدة في الجغرافية العربية المعاصرة.

وحنين أدباء التيارات الإسلامية، ولاسيما أدباء الإخوان المسلمين له ما يسوغه، ويغرى بتفهمه وقبوله، بسبب من أشياء كثيرة تتعلق بطبيعة الفكرة الإسلامية التي تشكل رؤيتهم للكون التي يشغل الوجدان فيها موقعا مركزيا وتأسيسيا، تحكمها ظروف خاصة في تكوينهم ضغطتهم، وألهبت بسبب من غربة الروح، ومخاصمة المناخ الثقافى والفكرى والسياسى لحركتهم مما جعل شوقهم للحب والحرية جارفا وعنيفا.

(2)النجاة بالحب والحرية: مقال في خطاب الموضوع!

يطرح عصام عبدالحميد على امتداد قصصه الأربعة مسألة ثقافية عميقة تتعاطى قيمة الحب والحرية من منظور منتم محكوم بنوع ثقافة إسلامية تحاول أن تتذرع بقدر ظاهر من التسامح تقدير النوازع الإنسانية، وتفهم دوافعها.

وعصام عبدالحميد وهو يطرح هذه المسألة يستهدف مجموعة من الغايات الفكرية والأخلاقية بشكل فنى وجمالى،ليعيد التذكير بواحد من أصول النظر إلى الأدب والقص بوجه خاص، وهو الدائر حول التزكية والتطهير والارتقاء على اختلاف المراحل الزمنية التي ظهرت فيها هذه المصطلحات.

والمجموعة القصصية تلمس من وجهة نظر صاحبها، ولاسيما مع تمثل تكوينه الثقافى والوجدانى أبعاد التشوه الذى أصاب النفس المصرية والعربية والمسلمة في العصر الحديث بسبب من ظروف كثيرة ترد جميعا من الغربة عن تجليات الفكرة الإسلامية النقية.

فى(هان الود) يظهر ملمح من ملامح هذا التشوه في تعالى الارتباط بالمال فوق قيم البر بالأب، صحيح أن المال جزء أصيل في التركيبية الإنسانية، وصحيح كذلك أن كثيرا من ملامح تشوه البنية الأخلاقية للإنسان ترد من سبيله لكن عطاء هذا الأب(مصطفى) لبناته من جانب وتنامى غربة الإسلام عن ميادين التربية والثقافة والتعليم أسهمت في تنامى روح التشوه في المنظومة الأخلاقية الواردة من مقامات الارتباط بالمال.

إن خطر هذه المسألة ماثل في تمددها تأثيرها على البنية الفكرية لشخصيات بعض قصص المجموعة وبخاصة(هان الود) التي تمثل مركز هذه المجموعة وأساسها،

فلقد نطقت بعض شخصياتها بكلام خطير عبر عن الزواج في بعض مقاطع النص بكلمات من معجم التدنيس ّ تقول ناهد إحدى بناته اللائي وقفن معارضات زواج مصطفى بعد وفاة زوجه/أمهن:" وحين سمعت لفظ الزواج كانت قد أعطت الإشارة بإطلاق قذائفها بلا رحمة ناسفة كل الاعتبارات التي يمكن أن تقال في هذا الموضع من الحياة...المفاجأة عقدت لسانه، تحجرت عيناه من الدهشة شعر في لحظة أنه كائن جمادى بلا شعور،

كانت تتكلم بصوت عال بكلمات مرتبة كأنها قد أعددتها، سهام مسمومة صوبتها نحوه بدقة متناهية، أخذت تطلق حممها في كل اتجاه: احترم سنك الكبير، ماذا سيقول الناس عن العجوز المراهق المتصابى؟ لن تدنس البيت امرأة عاشت فيه أمها".

ومع تأمل نقطة التشوه التي ظهرت في نقطة مهمة من جغرافية الحوار ختاما لفقرة كاملة من رد ناهد،وبعض النظر عن استعمال ضمير الغائب في ( أمها) الذى كان من الأولى أن يكون (أمى)! يمكننا أن ندرك خطر أثر تمدد المال وإصابته للمنظومات العقلية والفكرية والإيمانية عند الإنسان المسلم المعاصر.

وقضية الحب في قصص عصام عبد الحميد تسعى دائما إلى التجسد المادى في صورة الزواج بما هو الترجمة المنطقية للعلاقات الطاهرة بين الرجل والمرأة في التصور الإسلامى، وهى العلاقة القادرة بشكل حقيقى عن مشاعر الحب بين أى قلبين ينتفضان في رجل وامرأة، وهو الأمر المستقر المدعوم بما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم من قوله: ليس أفضل من الزواج للمتحابين.

هذه القضية التي ظهرت فأراحت مصطفى ومنى، وخلصتهما من عذابات القلب، ورزقتهما السعادة التي كانت غائبة عنهما،وتحولت العلاقة الزوجية بحياتهما إلى ينبوع يتدفق بالإنسانية والاستقرار والسكينة والرحمة وهى المفردات المركزية التي يلح التصور الإسلامى على إنزالها مقاصد الزواج.

ويطمح عصام عبدالحميد إلى أن يكون الزواج لقاء بين روحين متناغمين ولقاء بين جسدين، يخلق متعة وإحساسا جديدا بالحياة، ويخلق نوع كرامة جديد يستمده كل طرف من طرفى العلاقة من الآخر بما يظهره من كريم العشرة والقدرة على التواصل والتحاور والتفاهم.

لقد بدا زواج مصطفى ومنى مثالا طامحا نحو الزواج بمفهومه المراد، ومنحهما القدرة على الإقناع بمقاومة التشوه الذى تركه المال في بعض النفوس.

ولكن الأمر بدا على خلاف ذلك في قصة(ميرين) حيث ظهر زواج ميرين من الرجل الشرقى وقد لفه الإخفاق من كل جانب، على الرغم من اعتراف القصة بتحقق المتعة الجسدية، لكن الزواج ليس لقاء جسدين فحسب، إن مسألة الزواج بما هى المعبر الحقيقى لجلال الحب عليها أن تتنبه إلى أن الإنسان روح وجسد، وأن اجتزاء الإنسان في أية قضية هو حكم نهائى بالإخفاق فيها.

وتعانقت قضية الحب بما هى أصل اللوحة في القصص الأربعة مع قضية الحرية فظهرت بجوارها داعمة تقرر أن الحب الحقيقى في حاجة إلى ظهير وداعم ذلك أن النفس المحبة تحتاج إلى الحرية لتعينها على التحليق، ومقاومة أصنام الأعراف والتقاليد، وأصنام التشوهات التي أصابت النفس المسلمة المعاصرة فسجنتها في سجون متنوعة.

لقد جاءت خدمة قضيتي الحب والحرية في قصص عصام عبدالحميد في مجموعته (هان الود) وقد ارتدت ثياب التصور الإسلامى الحريص على الطهر والتعالي الأخلاقي، وهو ما ظهر في طلب الزواج في هان الود وميرين، وهو ما ظهر كذلك في الأحكام القيمية التي طالت بطلة قصته(فراشات تائهة) التي دفعت ممارسات الفضائيات، ووصمتها بكل قبح، وطالت بطلة قصة الناب الأزرق التي سمحت لنفسها أن ترافق رجلا/ حيوانا.

وطلب الطهر مسألة مركزية في المجموعة القصصية، وهى غاية نبيلة ومعروفة في برامج غايات الآداب منذ زمان موغل في القدم .

وإن كان لابد من كلمة في اتجاه تقييم الموضوع في (هان الود) فإن ثمة اتفاقا على أن أى موضوع يصلح قضية للعمل الأدبي، فليس هناك موضوع ممنوعا أو محرما، ومع هذا الإقرار فإن ثمة اتفاقا أيضا يقضى بأنه لابد من تحقيق الاقتناع الفني والجمالي والعقلي والوجداني بهذا الموضوع أو ذاك لقد بدت موضوعات القصص الأربعة طبيعية ؛ لأنها في الحقيقة تجليات مختلفة لموضوع واحد.

ومع ذلك فقد بدت درجة الإقناع متفاوتة من قصة لأخرى، فعلى حين بدا الصراع الذى ولده بعد مصطفى عن منى منطقيا لم يزل إلا بعد لقائهما، وبدت التضحية بالمال في سبيل هذا اللقاء مقنعا وإن بدا لم يؤازره معاناة على مستوي التقنية القصصية مقنعة بالتخلى عنه ولاسيما أن المال يقع من النفس الإنسانية منزلة غير خافية،

أقول على حين بدا الأمر مقنعا في (هان الود) تصاغر هذا الاقتناع في (فراشات تائهة)، وتصاغر بدرجة أعلى في (الناب الأزرق) ؛ لأنه ليس واقعيا أن تقبل أي بنت أن تركب مع أي رجل مجهول بلا مسوغ من الاضطرار .

لكن الأمر على الإجمال جيد، تجعل عصام عبدالحميد واحدًا من قصاصين قلائل يفرد جهده في خدمة تطهير العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة عن وعى معرفي وذاتي بطبيعة هذه العلاقة وبقيمة هذه العلاقة، وبالمخاطر التي تهدد هذه العلاقة ابتداء واستمرارًا،

إن عصام عبد الحميد حاول أن يقرر أن نجاة الإنسان المسلم المعاصر طريقها الحب الطاهر والحرية المسئولة.

(3)هان الود مجموعة تسعى نحو تجاوز الانغلاق الفني!

إن أول انطباع نقدى يخرج به قارئ مجموعة عصام عبد الحميد (هان الود ) هو أن أدباء الحركة الإسلامية ولاسيما أدباء الإخوان المسلمين يملكون القدرة على تجاوز الانغلاق الفنى الذى عاشوا فيه زمنا طويلا، لأسباب كثيرة كان بعضها سبيلا فنيا ممهدة لتوصيل رسائل الأدب، وسبيلا لفك شفرات النصوص وتيسيرها بين يدي القراء.

ومسألة تجاوز الانغلاق الفني لدى الإسلاميين في هذه المجموعة مدعومة من جانبي بعدد من الأدلة، أرجو بيانها فيما يلي:

أولاً: اتساع آفاق التناص

لقد بدا عصام عبد الحميد بعنوان قصته الأولى والمركزية في المجموعة، وهي قصة (هان الود) متناصًا مع واحدة من عيون الأغنيات الرومانسية المصرية، صحيح أن ذلك بدًا احتمالاً لم يحسن أي نوع من توظيف عتبات النصوص، وهو ملمح موفق في البناء والتقنية، وأسهم في إنجاح استثماره تأخير الكشف عنه، حيث ظهر هذا الكشف في المقطع العاشر؛ أي قبل نهاية القصة التي جاءت في اثني عشر مقطعًا يقول: "قفزت منى صارخة بهستريا غير مصدقة ما سمعته، وانطلق صوت عبدالوهاب الفخم يشدو بأغنيته الشجية (قالوا لي هان الود عليه، ونسيك/ وفات قلبك وحداني).

وأنا لا أحب أن ينظر إلى نمط التناص هنا نظرة ساذجة، تفوت القيمة الحقيقية التي يعكسها، لقد احتاج أدباء التيار الإسلامي زمنًا طويلاً لكي يصلوا إلى هذا المستوى الثقافي، لا في بعده المادى، وإنما بعده المعنوي الذي يبرهن على قدر كبير من تجاوز الانغلاق، وقبول التنوع الثقافى الذى يعكس قابلية الانسجام في الجماعة الوطنية المصرية.

ثانيًا: اتساع استثمار الأعلام سيميائيًّا

إن قراءة عدد كبير من منجز المبدعين الإسلاميين في المجال القصصى يلمح تنميطا في استثمار أسماء الأعلام الشخصية والمكانية، لاعتبارات أيدولوجية وفنية وقرائية تتعلق بإرادة الوصول إلى المتلقين بمضامين العمل الفنى .

وهو الأمر الذى نلمسه في النسبة الإحصائية المرتفعة لاستعمال اسم العلم (وفاء) مثلا في أعمال عدد كبير من هؤلاء القصاصين، وكذلك في استعمال اسم العلم (الأندلس).

وهذان الاسمان تعيينا ظهرا هنا ظهورا مثيرا للانتباه، في هان الود، وفى ميرين بما يجعل الملاحظة صحيحة إلى حد بعيد، وتعكس الوعى بقيمتهما فنيا وجماليا وأيدولوجيا.

وهو ملمح انغلاقى بامتياز فنيا، ولكن فحص بقية قوائم أسماء الأعلام يلمح نوع تطور في الاستثمار والتوظيف، يمكن ملاحظته فيما يلى: مصطفى( صفصافة) وهو نمط تحول مهم في التعامل مع أسماء أعلام الرجال بعد شعور مزيف لكنه شائع يؤخر رتبة تدليل أسماء الرجال.

ب-ناهد وهو اسم علم وظف هنا توظيفا دلاليا جيدا، ولاسيما إذا عرفنا أن بعض دلالات الجذر اللغوى( ن/ه/د)يدور حول معانى الارتفاع والإشراف والمكافحة، حتى صح قديما استعمال المناهدة في الحروف لما يعانيه المحاربون في مواجهة بعضهم بعضا وتأمل ملامح صورة ناهد، وتصرفها نحو أبيها في مواجهة إرادته الطالبة للزواج من منى بسمح بالحكم على اختيار هذا الاسم بالنجاح والتوفيق.

كما جاء استعمال اسم ميرين بطلة القصة التي تحمل اسمها دلالات فنية تحكم لعصام عبدالحميد بامتلاك القدرة على تجاوز الانغلاق الفني ومبرهن على القدرة على توسيع النموذج الجمالي في العقل المسلم المعاصر الذى يمكنه بعد وقت وجهد إيجابى أن الآخر ويتعاطى معه، ويدخل معه في علاقات حميمية ولاسيما إذا عرفنا أن الاسم (ميرين) ينحدر من أصول لاتينية انسرب في لغات أوروبية كثيرة، يدور معناه حول البحرى، بما يجعلها حورية بحرية!

ثالثًا- التحول نحو آفاق تجديدية في البناء الفني، وأدواته

من جانب ثالث بدا عصام عبدالحميد متجاوزًا للتقليدي، أو محاولاً إعطاءنا فرصة لقراءته بعيدا عن الأجواء التقليدية التي يتحرك في أروقتها غالبا مبدعو الحالة الإسلامية.

لقد استعمل عصام في تكوين عالمه القصصى أدوات شديدة العصرية بدءا من الهاتف المحمول الذي يظهر منذ أول سطر من سطور مجموعته" أضاءت شاشة المحمول معلنة بموسيقا حالمة عن وصول رسالة"!

وظهر الكمبيوتر بتقنيات تواصيلية غاية في التحديث (نت/ كاميرا/ شات)، فضلا عن أدوات عصرية من مثل: السيارات، ودور المسنين، وقيمة هذه الأدوات ليس في ذاتها وإنما في القيم الفكرية التي تمنحها للقارئ، وما تعكسه من إدراك حقيقي يبرهن على أن المبدع المنتمى منفتح على المنجز الحضاري المعاصر لا يخاصمه، ولا يمنعه، ولا يتخذ موقفا رافضا، ومحاصرا له، بما يجعله إنسانا عصريا بامتياز.

ب- كما راوح عصام عبد الحميد في توظيف تقنيات القص حيث بدا وفيا لنمط بناء القصة المستقر الذي يسعى في خطى تدريجية من البدء، ثم التصعيد وصولا إلى نقطة التأزيم climax وصولا إلى نقطة النهاية end أو لحظة التنوير التي امتدت على ثلاثة مقاطع (10؛11؛12) وهو امتداد حلق نوعا من اللذة المعنوية والمادية المعوضة المقصودة، لكى يتجاوز عن طريقها فقرات الألم والعذاب التي سبقت لقاء مصطفى بمنى مثلا في: هان الود وعلى الرغم من المشكلات الفنية التي تحيط باستعمال النهاية المغلقة، فإن النهاية المغلقة هنا جاءت طبيعية ومنطقية ومحققة لأفق التلقى بسبب من تضاعف مساحة العذاب الذى اجتاح نفس مصطفى ومنى مما رشح لقبول النهاية المغلقة بلقائهما وزواجهما ؛ لأن القارئ الذى توحد مع النص أصابه من عذاباتهما وآلامهما الكثير مما تحتم معه ضرورة القضاء على هذه الآلام والعذابات باستعمال هذه النهاية المحددة.

ثم ترك عصام هذه التقنية وتوجه نحو توظيف النهايات المفتوحة في بقية القصص بدرجات متفاوتة ليخلق حالة من توحد المتلقي مع قضاياها وموضوعاتها.

وقد قامت اللغة بعبء إضافي في هذا السياق لتقنعنا بجدوى النهايات المفتوحة لتغذية شعور المتلقين المتنوع، وضمان كسب أكبر نسبة منهم، يقول في (فراشات تائهة): "لم يبق أمام عيني الواهنتين إلا الضوء الصغير في آخر النفق، أتمنى مع كل عجزي أن أصل إليه، نورا كان أم نارا، فهل تمدين يدك إلى ؟" بهذا السؤال غير المجاب عنه تحقق باللغة انفتاح النهاية.

من جانب آخر فقد بدت هوية السارد حاكمة في هذا الميدان حيث حاول أن يقنعنا بقدراته المتنوعة، فاستثمر تقنيات كثيرة في بناء قصص مجموعته، فمن الوصف و الحوار في (هان الود) إلى تقنية استعمال الرسائل أو الخطاب ) في (ميرين) و(وفراشات تائهة) بدا عصام عبدالحميد حريصًا على أن يقول هنا إنه يملك حلولاً على مستوى البناء أو المعمار الفني، وقد حاول القصاص لمرة واحدة تحتاج إلى بعض الوقت لتنضج تقنية الإيهام بالحاشية التي صنعها في آخر قصة (ميرين) بما يجعلها واقعًا حقيقيًّا.

ج- تحقق الرومانسية الفني

ومن جهة أخيرة بدا عصام واعيا بطبيعة الرومانسية الجديدة المنتمية التي يطلق رسائله الفكرية من خلالها.

وما يدهش في الأمر هو استثمار الجغرافيا بشكل فني هادئ، حيث ظهرت الأماكن التي احتضنت القصص رومانسية بامتياز، وإن في أسبانيا بكل صورها العالقة في الوجدان المسلم المعاصر، حنينا تاريخيا، وجمالا طبيعيا، وإن في رأس البر ببعض تفصيلاتها الواردة من الخبرة الذاتية.

ووفق عصام إلى حد بعيد في استعمال المعجم الرومانسي، حتى بدا في كثير من المقاطع كما لو كان شاعرا، وموسيقيا بامتياز، وأعطى مثالاً جيدًا لما يسمى في فلسفة الفن بالقدرات الهائلة للنحو على أن ينتج الموسيقا.

وإليك بعض هذه المقاطع:" أخيرا غلب النعاس عيون منى، سنة لذيذة من النوم أخذتها إلى خدر مريح تسلل إلى جسدها المتمدد على الفراش مستسلمة للفراش الناعم، على شفتيها شبه ابتسامة، كان يوما لا ينسى من عمرها أبدا تحولت فيه هى ومصطفى إلى عصفورين ... يطيران في كل اتجاه يملآن الكون بزقزقة مبهجة ... شعرت بأن الحياة تتوهج بفرح صاخب"

القلم لا يطاوعنى على الرحيل!

ومن حق أدباء الحركة الإسلامية ألا يكتفى النقاد الذين يتوقفون أمام إبداعاتهم بالتفسير والكشف عن القيم الفنية والجمالية فحسب، ذلك أن موجات الإقصاء والتهميش التي تعرضوا لها على امتدا زمنى طويل حرمتهم من المتابعة النقدية الأمنية والموجهة وهو ما يفرض على المتعامل مع أدبهم أن يفحص العناصر المؤسسة لأعمالهم، ويقومها، ويرشدها.

صحيح أن هذا النوع من النقد موصوم بالتقليدية، وربما بسبب قدرا من التوتر لكنه بات أمرا لازما لدعم الحركة الأدبية المنتمية للتيار الإسلامي.

ومن ثم فإن قلم الناقد لا يطاوعه على الرحيل قبل أن يفتش في هذه المجموعة كاشفا عن بعض ما ينال منها بسبب من التورط في بعض ما يخالف برامج كتابة القصة القصيرة.

وفيما يلي محاولة للتعليق على بعض هذه الملاحظات: أولاً- اللغة وهوية العمل الأدبي!

لا يمكن لأحد أن ينكر ولا يسعه أن اللغة هي العصب المركزي لأي عمل أدبي، وهى مادة حياته، وكينونته، وماهية وجوده وتشكله، ومن ثم فكل جهد يوجه نحو تعميقها والوعي بأسرارها، والتوسع في الإحاطة بفقهها هو أمر في الصميم من تطوير أدوات الأديب أيًّا ما كان الجنس الأدبي الذي يبدع من خلاله.

ومشكل اللغة في القصص عريق في العصر الحديث تعرض لمقاربات متنوعة بسبب من التخديم على رسم صور الشخصيات وتحقيق الصدق الفني فيما يتعلق بملامح صورة كل شخصية، وضرورة أن تكون اللغة جزءا أصيلا من بناء هذه الملامح.

ولكن المتفق عليه أنه لا يصح أن يخطئ الأديب في اللغة التي يروى بها أو يصف بها، أو تنطق بها شخوص أعماله القصصية أيا ما كان المستوى اللغوي الذي تنطق به هذه الشخوص.

وقد فرط من الصديق العزيز القاص عصام عبدالحميد بعض مما ينال من إشراق لغته من مثل:

ص 13/س5 = الغير محددة والصواب: غير المحددة
ص 13/7= محك قاسي والصواب: محك قاسٍ
ص 17/10= تجد رجل والصواب: تجد رجلا
ص 17/18 = التواجد والصواب: الوجود
ص30/10= لا يعرفوا والصواب: لا يعرفون
ص 31/4 = مجهود مضني والصواب: مجهود مضٍ
ص 32/6-7 = لا يفعل شيء تقريبا ولكنه يرقب بداخله اضطراب وخوف صغير والصواب: لا يفعل شيئا .. اضطربًا وخوفًا صغيرًا!
ص 45/8 = ولم تهتدي والصواب: ولم يهتد

وهناك أمثلة كثيرة جدًّا غير هذه وهو أمر يحتاج إلى نوع مراجعة وتنبه لأن اللغة ليست مجرد وعاء حامل بل هي خالقة ومشكلة ومؤسسة للهوية، وكل تهاون في حقها ضار بالعمل الأدبي، وربما يوشك أن يهدد بنيانه، ويشوه معماره.

ثانيًا: مزالق فنية

ومن جهة أخرى فقد تورطت المجموعة القصصية في بعض المزالق الفنية جاء أغلبها متعلقا بالتشكيل اللغوى، ومقامات استعمال اللغة مما أضر في أحيان ببنية تصوير بعض الشخصيات، وأثر سلبا في تمثل الرسالة الفكرية والجمالية للمجموعة القصصية(هان الود).

فمن ذلك بدت بعض الأساليب ناتج أثر عجمة من جانب، نتج عنها ترهل لغوى بسبب من الفائض المجانى، يقول عصام عبدالحميد هان الود(ص8):" أما هو فقد اكتشف أنه لن يحصل على الراحة إلا بمواصلة السير" والواضح أنه يريد " أما هو فقد اكتشف أن لن يرتاح"وهو ما يعنى أن عبارة " لن يحصل على بما هى أثر من الآثار الترجمة من اللغات الأجنبية على الأساليب العربية حقق فائضا مجانيا يخاصم الطبيعة المكثفة التي تخض عليها برامج كتابة القصة القصيرة.

ومن ذلك أيضا وقوع بعض الارتباك في حركة الضمائر اللغوية مما كان من شأنه كسر توحد المتلقى مع النص وصناعة قاطع اتصال موهم بعدم الاقتناع النسبى، ولعل المثال التالى يوضح ذلك، تقول ناهد في (هان الود) ص 28 في سياق مواجهة رغبة أبيها (مصطفى) الزاوج من محبوبته (منى) بعد وفاة زوجه يقول:" كانت تتكلم بصوت عال، بكلمات مرتبة كأنها قد أعدتها، سهام مسمومة صوبتها نحوه بدقة متناهية، أخذت تطلق حممها في كل اتجاه ... احترم سنك الكبير، ماذا سيقول الناس عن العجوز المراهق المتصابى ؛ لن تدنس البيت امرأة عاشت فيه أمها"

في هذا المقطع حركة مرتبة للضمير، سببها فقدان السيطرة على فارق ما بين الوصف وإنطاق الشخصية، فحتى جملة " أخذت تطلق حممها في كل اتجاه " تأسست هوية السرد على ضمير الغائب اختيار للوصف، ثم في التفات جيد هدفه محاولة الإقناع بموقف ناهد، وخلق إحساس صادق لعنفها في مواجهة أبيها، وهو ما بدا ظاهرا في التحول إلى استعمال ضمير الخطاب " احترم (أنت) سنك( الكاف)، والأصل كان يقضى أن يظهر ضمير التكلم بدلا من ضمير الغياب في (أمها) لتحقيق هذا الإحساس النفسي، متجسدا ومتحدا بشخصية (ناهد) في موقف التكلم والمواجهة .

من جهة أخرى بدت علامات اصطياد بطلة (الناب الأزرق) من قبل الفارس الوهمى هشة وغير مقنعة، إذ لا يعقل أن تتطور الأحداث لمجرد رسالة هاتف كما تحاول أن تصور هذه القصة.

إن عصام عبد الحميد بما يصنعه من تراكم إبداعي وقصصي يتخذ من المرأة مرتكزا يتقدم بسرعة ظاهرة نحو مكانة متميزة في عالم القصة القصيرة بوعي فكرى مائز امتلاك حقيقي لأدواته الفنية و الجمالية وإخلاص لقضايا الرومانسية الجديدة طلبا لطهارة العالم،ونقائه واستقامته.

إن مجموعة (هان الود) تفتح بابا واسعا لنجاة الإنسانية من طريق الحب و الحرية.


المصدر