الفلسطينيون وخيار العنكبوت..!!
2008-09-14
بقلم : د. ناجي صادق شراب *
لعل من أبرز مبادئ إدارة أي أزمة القدرة على الخروج من الأزمة بأقل الخسائر وليس إفتعالها، فمن السهل إختلاق الأزمات، لكن الأصعب هو في إدارتها والتحكم في تفاعلاتها وعناصرها، والسبب أن الأزمة عملية سريعة متراكمة تتداخل وتتشابك فيها العديد من العناصر والعوامل التي تخرج عن إطار التحكم، وهذا هو حال الفلسطينيين في ازمتهم الحالية.
فالفلسطينيون يجيدون فن إدارة إختلاق الأزمات سواء فيما بينهم وذلك لتعدد تنظيماتهم وإرتباطاتها الخارجية، أو حتى مع الدول العربية التي شكلت مركزا لهم في لبنان والأردن او غيرهما، وذلك لعدم القدرة على التوفيق والمواءمة ما بين إعتبارات المصلحة الوطنية التي تحكم الدول، وإعتبارات المقاومة والنضال والتصرف وكأن الدولة غير قائمة، وفي كل مرة كانت هناك فرصة لإحتواء أزماتهم الخارجية لأن المصلحة القطرية والدولية أيضا تقتضي التدخل السريع الذي غالبا ما كان يأتي لصالح الدول المعنية ذاتها..
أما اليوم فالحال مختلف إلى حد كبير، فالخلاف هذه المرة فلسطينيا فقط، ويتم على ارض فلسطينية، إذن الضرر المباشر لا يوجد، ولذلك الدور الخارجي مختلف بل قد يساهم في مزيد من تعقيد الأزمة وصعوبة حلها، وهذا ما تفسره تطورات الأزمة، والتقاعس العربي منذ البداية على إحتواء الأزمة، والدور الدولي الضاغط في إتجاه إستمرار حالة الإنقسام الفلسطيني، والتي تشكل مرحلة مؤقتة في سياق مرحلة أخرى جديدة لم تتضح بعد معالمها، وقد تكون أكثر تصادمية والغائية للقضية الفلسطينية، أو قد تكون أكثر تصالحية وهذا يتوقف على الدور الفلسطيني والمدركات السياسية التي يحملها الطرفان المتنازعان، وعلى الدور العربي التوافقي إذا ما توفر هذان العاملان يمكن تحييد التأثيرات السلبية للتدخلات الخارجية وخصوصا إسرائيل.
وقبل الحديث عن بعض الخيارات المتصورة للحالة الفلسطينية لا بد من إبداء بعض من الملاحظات التى قد تدعم الخيار الأكثر إحتمالا:
أول هذه الملاحظات أن الفلسطينيين يتحملون مسؤولية مباشرة فيما جرى وبالتالي يتحملون المسؤولية ذاتها في الخروج من الأزمة التي أوجدوا أنفسهم فيها.
وثانيا الدور السلبي العربي، وهي سلبية قد تدفع إلى مزيد من الشكوك حول موقع القضية الفلسطينية على الأجنده العربية، وهل هذه السلبية تقف ورائها الرغبة في التحلل من المسؤولية القومية إزاء القضية الفلسطينية؟ وهناك من يرد على ذلك بأن هناك دورا عربيا يبذل، لكن هذا غير صحيح، التعامل مع الأزمة كان يفترض أن يتم منذ اللحظة الأولى وعلى شكل عقد إجتماع طارئ لمجلس وزراء الخاجية العرب ومن ثم تشكيل لجنة وإحتواء الأزمة قبل أن تستفحل وتتعقد عناصرها.
والملاحظة الثالثة تستنبط من سابقتها هل الهدف من ذلك تمرير خيارات معينة كالخيار التفاوضي، ووضع "حماس" أمام خيارات جديدة، أو هو شكل من أشكال الفخ السياسي هذا ما قد تكشفه الشهور القادمة. ورابعا ان ما حدث فلسطينيا وكما أشرنا على أرض فلسطينية لا يشكل هذه المرة خطرا وتهديدا مباشرا للدول العربية بإستثناء مصر بحكم التجاور الجغرافي والإلتزام القومي بالقضية الفلسطينية، والإمتداد الديني، والأردن والتخوف من خيار الوطن البديل بحكم تشابك العلاقات التاريخية والسكانية والجغرافية، وهذه الملاحظة قد تفجر الحلول الإقليمية من ناحية ومستقبل اللاجئين الفلسطينيين في الدول ذات الكثافة مثل لبنان وسوريا والأردن وهنا الحديث عن التوطين وعدم القدرة على فرض حل بعودة مئات الآف اللاجئين إلى مدنهم وقراهم الأصلية.
وخامس الملاحظات وهو أن إسرائيل هي المتغير الرئيس في بوصلة التفاعلات الفلسطينية، فهي من صالحها إستمرار حالة الإنقسام تمهيدا لإنهاء المقاومة وإنتهاءا بفرض الحلول الإقليمية والدولية لتصفية القضية الفلسطينية. وفي سياق الملاحظة نفسها لا بد من الأخذ في الإعتبار إلى أين تتجه الخريطة السياسية الإسرائيلية هل إلى إنتخابات مبكرة وحل الكنيست ام إستمرار الحكومة الحالية برئاسة ليفني، ومن ثم دعم خيار إستمرار المفاوضات وهو ما يحتاج معه إلى إستمرار الدور التفاوضي الفلسطيني.
وآخر الملاحظات يتعلق بالدور الدولي وتراجعه وحصره في البعد الإنساني، ويبقى ان أي خيار مستقبلي سيتوقف على مصير خيار المفاوضات بالنجاح أو الفشل.
الخيارات والسيناريوهات المتوقعة..
بناءا على التصورات السابقة هناك أكثر من خيار وأول هذه الخيارات خيار الإستمرار في حالة الأمر الواقع من الإنقسام والخلاف والتجزئة وما يدفع في إتجاه هذا الخيار إسرائيل ومصلحتها المباشرة في إستمراره، والدور السلبي العربي، وحالة الحصار المفروضة دوليا، ووجود قوى فلسطينية في الإتجاهين ترى أن من مصلحتها الإستمرار في هذا الخيار وحتى ولو كمرحلة إنتقالية إنتظارا لعامل الوقت وما قد يكشف من تحولات إقليمية ودولية وتحولات في موازين القوى.. وما يدعم هذا الخيار أيضا رغبة الدول الإقليمية بتأجيل أي حل للأزمة حتى تتقرر مصير القضايا الرئيسة الأخرى كالملف النووي الإيراني ومستقبل المفاوضات السورية الإسرائيلية، ومستقبل الخيار التفاوضي.. هذا الخيار لا يشكل خيارا دائما أو إستراتيجيا، هو خيار إنتقالي ويتوقف على عامل الوقت وتوازنات القوى الإقليمية والدولية، أضف إلى ذلك خيار لا يتوافق وحالة الإحتلال الإسرائيلى وإستمراره، وصعوبة الذهاب بقطاع غزة بخصائصه السكانية والجغرافية إلى خيار إقامة حكم إسلامي خالص.
والسيناريو الثاني هو سيناريو نموذج الحكم الواحد ويقصد بذلك إمتداد نموذج غزة إلى الضفة الغربية وهو أمر مستبعد لأكثر من سبب أولا الطبيعة الجغرافية للضفة الغربية، وعلاقة الضفة بالأردن، وطبيعة نظام الحكم في الأردن، ومن جانبها إسرائيل لا يمكن أن تسمح بتكرار النموذج إلا وفقا لإستحقاقات معينة قد يصعب على حركة "حماس" قبولها، وعدم القدرة على تكرار التجربة بقوة السلاح.. حتى المستوى الثقافي المدني والمجتمعي في الضفة قد يشكل تحديا لذلك، وبالمقابل لا يمكن تصور إمتداد نموذج الضفة إلى غزة إلا عبر الوسائل العسكرية وهو أمر غير متاح، هذا النموذج يمكن تصوره فقط عبر الوسائل الديمقراطية، لكن إستمراره يحتاج إلى الإلتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية، وإبداء درجة عاليه من التكيف السياسي داخليا وخارجيا، وإعادة النظر في وسائل إدارة المقاومة.
أما الخيار الثالث وهو الخيار الإستراتيجي والثابت والذي يحفظ ماء الوجه للجميع ويضمن بقاء وإستمرار النظام السياسي وهو خيار المصالحة والتوافق السياسي وإعادة بناء النظام السياسي على أسس من الديمقراطية التي تضمن لجميع القوى المشاركة السياسية الحقيقة، وميزة هذا الخيار أنه قد يضمن لكلا القوتين الرئيسيتين "حماس" و"فتح" الحكم ولكن بمشاركة تنظيمات وقوى سياسية اخرى صغيرة، وهذا الخيار يتيح لجميع القوى ان تمارس برامجها السياسية في إطار من الشرعية الواحدة، لكن نجاح هذا الخيار يحتاج إلى إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني كله على أسس من الديمقراطية وتكامل بنية المؤسسات السياسية، وتحييد المنظومة الأمنية وإلتزام سلاح المقاومة بسلاح الشرعية، وتحقيق قدر من التوازن الإقتصادي والثقافي والإجتماعي، هذا هو الخيار الأفضل والذي يحقق مكاسب للجميع بعيدا عن المباراة الصفرية في إدارة الأزمة.
ويبقى إذا لم تتحقق أيا من هذه الخيارات الخيار العنكبوتي وهو خيار سيجد الفلسطينيون بموجبه أنفسهم في شبكة معقدة لن يستطيع أي طرف أن يحقق خياراته الذاتية وستكون الخسارة أكبر.. ووفقا لهذا الخيار ستتجه الأمور إلى مزيد من التصعيد والمواجهة العنيفة، وقد تذهب إلى مزيد من الخيارات اللاعقلانية كعدم الإعتراف بالرئاسة بعد نهاية العام، وقد نذهب إلى خيارات حل المجلس التشريعى وإعلان غزة إقليما متمردا وحالة من العصيان المدني التي قد تنتهى كلها إلى شكل من أشكال التدخل العسكري سواء عبر قوات اممية أو إسرائيلية، هذا الخيار ما ينبغى التحذير منه إذا إستمرت الحالة الفلسطينية على رفضها للتصالح مع نفسها وذاتها، وقد ندخل فى حالة من الفوضى الشاملة التة قد تقود إلى تكرار النموذج العراقي والصومالي ونموذج أفغانستان، وعنده سنخسر جميعا القضية والشعب..!! هذا مجرد تصور إفتراضي لكنه نابع من واقع الحال الفلسطيني.
- أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر- غزة