السعيد الخميسي يكتب: الثورة بين الصمود والجحود
- دخل جنين الثورة المصرية فى شهره السابع فى رحم الصمود والثبات والإصرار والإستمرار وأوشك الجنين على الإكتمال وباتت لحظة الميلاد تدق الابواب .
ومصر الأم تصرخ بأعلى صوتها اليوم فى تلك اللحظة من هول آلام المخاض ويبدو أن جنين الثورة سيخرج إلى نور الحياة قيصريا وليس طبيعيا لأن الميلاد عسير والأمل كبير أن تشهد مصر حدثا عالميا يغير خريطة الشرق الأوسط بأكملها نظرا لأن العالم المتآمر كان يخطط لسقوط هذا الوطن وتقسيمه وتوارثه لأنه من وجهة نظرهم وطن عقيم بلا أبناء من صلبه يرثونه . .
ولكن خاب أمل المتآمرين وحبطت خططهم وباءت كل محاولتهم بالفشل الذريع وتجرعوا الحسرات قطرات والخيبة جرعات لما أخبرهم الطبيب المشرف أن المولود الجديد ذكرا وليس أنثى فى بطن أمه مصر وليس بالطبع الذكر كالأنثى .
ولايحق لهم أن يرثوا مصر بعد اليوم لأن الأصل الوارث أوشك على النزول ليقرع بصوته كل الآذان بلا استئذان ليمحو كل آثار الطمع والعدوان ...!
- إن ملحمة صمود الثوار فى الشوارع والميادين لحدث يعجز عن وصفه البيان ويقف القلم منه حائرا مضطربا فى يد الإنسان , وتقف كلمات اللغة العربية حائرة مضطربة على أطراف اللسان , لأننا بصدد ملحمة بطولية لم يشهدها العالم من قبل فى أى مكان وفى أى زمان .
ولما لا..؟ وقد زلزلت الأرض زلزالها تحت أقدام الإنقلابيين الغاشمين الخائبين الذين بنوا قصورهم الطفولية الوردية على رمال الصحراء فأتى الله بنيانهم من القواعد وخر عليهم السقف من فوقهم , فتهشمت رؤوسهم الخاوية تحت صمود وثبات الأحرار, فباتوا يترنحون كاالمساطيل الذين لايفيقون من سكرتهم فراحوا يهذون بالأكاذيب والأباطيل وهم لايدرون أعلى أرجلهم أم على رؤوسهم يسيرون بعدما فقدوا الوعى والإحساس بالمجتمع والناس.
هولاء هم الذين خدرتهم أهواؤهم وأطماعهم وشهواتهم . بل وأعمتهم أحقادهم وأضغانهم فتصوروا أنه ليس فى الحياة غيرهم فاندفعوا كالثور الهائج المذبوح يناطح فى الهواء بلا استحياء.! . إنهم يعيشون جاهلية جهلاء وغشومية عمياء على أحط مستوى من التدنى الأخلاقى والسلوكى والعقلى والإنسانى .
- إن استمرار صعود المنحنى الثورى فى كل بيت , وفى كل شارع , وفى كل حى , وفى كل قرية , وفى كل مدينة لهو نذير شؤم على هولاء الإنقلابيين لأن رقابهم قابت قوسين أو أدنى من حبل المشنقة.
إن الضريبة التى يدفعا الثوار وتدفعها الثورة اليوم لهى ضربية باهظة الثمن وفاتورة كبيرة تفوق كل الحسابات العقلية.
هناك دماء تسيل , وشهداء يسقطون , وجرحى يتألمون , ومصابون يعانون. ومعتقلون كثيرون ومسجونون مظلومون .
وهناك بيوت أغلقت , وأطفال يتمت , ونساء رملت , وأموال صودرت .
وتلك ضريبة الحرية وهى فى أفدح صورها وأعظم أثمانها , أقل بكثير من ضريبة العبودية...!؟
لأن ضريبة العبودية ثمنها استنعاج شعب وانبطاح أمة وموت أجيال وإذلال واستبداد بلا حدود , ونفى خارج الحدود , وغلق كل النوافذ وبناء كل السدود فى وجه الشعب فلايتحرك ولايتنفس إلا باوامر الطغاة .
وتلك ضريبة باهظة دفعتها الأمة سالفا ولم يعد لديها ماتدفعه مجددا لتجديد عقد العبودية لأن ثورة يناير أخرجت الشعب من قمقم العبودية ومن نفق الإستبداد وكهف الاستعباد للأبد .
- إن هذا الصمود البطولى لشباب مصر ورجالها ونسائها وإن شئت فقل وأطفالها قد أذهل العالم وأصاب الانقلابيين بالصدمة والرعب , ففقدوا توازنهم واختل قوامهم فوقع سيف البطش من أياديهم الملوثة بدماء شعب مصر.
فراحون كالحيوانات ينطحون وكالبغال يرفسون فى مشهد يثير الضحك أكثر مما يثير البكاء لأن شر البلية مايضحك..!
وهل رأيت يوما ما فى أى بلد فى العالم رجل أمن يتوارى خلف بلطجى ويحتمى به من مقاومة الثوار السلمية وزئير الأحرار التى أربكت حساباتهم الخاطئة الكاذبة..؟
إن صمود الثوار أصاب ضباط الانقلابيين باليأس والقنوط فراحوا يقدمون على أجازات وآخرون راحوا يطالبون بنقلهم من أماكن بعينها اشتد فيها الزخم الثورى .
وآخرون راحوا يدفعون مرتباتهم للبلطجية لينفذوا مهامهم الأصلية والتى كلفتهم بها وزارة الداخلية لأنهم لم يعد لديهم ساق عليها يقففون أو أيد بها عن أنفسهم يدافعون لأنهم وصلوا لمرحلة الوهن النفسى والخلل العصبى .
والسبب واضح وبسيط فهم ليس لديهم قضية يدافعون عنها أو مبدأ يؤمنون به .
- جدير بالذكر هنا أن معظم ثورات العالم استمرت سنين طويلة ومرت بفترات عصيبة وقدمت شعوب كثيرة كل غال ورخيص لقهر أنظمة ديكتاتورية حكمت فظلمت , وتحكمت فقتلت وأسالت دماء شعوبها .
لكن الملاحظ اليوم أن كل فئات الشعب تشارك فى الثورة والأمر لايتوقف على فئة معينة من الثوار.
وهذا من سر نجاح الثورة وزخمها حتى الآن .
يقول الراحل " إريك هوبزباوم " المؤرخ البريطاني الكبير ، المولود فى الإسكندرية ، عن العقد الخامس من القرن التاسع عشر في أوروبا، بعد أن انتصرت الثورة الفرنسية أخيراً، فيقول: " إنه كان من المحتوم زوال نظامي الرق والسخرة قانونياً، عاجلاً أم آجلاً، وأنه كان من المحتم أيضاً لا محالة أن الأرستقراطية المالكة للأرض، والملكيات المطلقة، ستندحر في جميع البلدان التى كانت تتنامى فيها برجوازية قوية مهما كان نوع التسويات والمعادلات السياسية".
ثم يقول : أما القانون الثوري الذي فرض ذلك كما يقول المؤرخ في كتابه الكلاسيكى "عصر الثورة" : " كان من المحتم أن تشحن الجماهير بالوعي السياسي وبالنشاط السياسى الدائم، وهذا هو الإرث الذى خلفته الثورة الفرنسية، مما يعنى أن هذه الجماهير ستسهم بدور رسمي في الأنشطة السياسية إن عاجلا أو آجلا... من المستحيل إرجاء هذه التغيرات، مهما كانت طبيعتها المؤسسية" وهذا ماذكرته سالفا أن الزخم الثورى اليوم يشمل كل أطياف الشعب .
وأن جماهير الشعب المصرى بإسهامها فى الزخم الثورى اليومى هى التى ستسقط هذا الإنقلاب الآثم الدموى .
- بلا شك مصر اليوم تمر بلحظة مفصلية من تاريخها قد تؤسس تلك اللحظة لاأقول لمستقبل مصر فحسب , بل لمستقبل المنطقة العربية فى السنوات القادمة .
وإن تلك اللحظة الثورية المتأججة ستعيد هيكلة الدولة ذاتها على أسس ديمقراطية وقواعد قوية تستطيع مصر الوقوف بها على قدم المساواة مع الدول العظمى .
إن قطار الشعب المصرى قد انطلق وبسرعة فائقة ولن يوقفه صفارات الإنذار التى تأتيه من هنا أو هناك .
إن الشعب اليوم يعلنها مدوية عاليه فى وجه الإنقلابيين رفضه التخلف والوصاية والإرهاب الفكري والثقافي والفساد المستشري ، وتعامل الأنظمة المستبدة مع شعوبها وكأنها رعايا لا مواطنون .
وكأنى بسلطة الإنقلاب اليوم تستنسخ جينات الإستعمار من معامل القرن الماضى لإعادة إحيائها وتنشيطها وتفعيلها وحقنها فى أوردة وشرايين الجسد المصرى وصبها فى عقل الشعب صبا لإعادة تشكيله وهيكلته وصياغته من جديد ليتواءم مع فلسفة الإنقلاب الجديدة المبنية والقائمة على قاعدة " أنت حر.. مالم تضر..!
والحرية هنا ليست حرية الرأى وحرية التظاهر وحرية تشكيل الأحزاب وإنما حرية العبيد فى حدود ونطاق مايسمح به الأسياد أولياء النعمة...! .
أو إن شئت فقل حرية لحس البيادة ثلاث مرات يوميا قبل الأكل وبعده حسب توصيات طبيب العسكر الإنقلابى...! ؟ .
- إن من نتيجة هذا التصعيد الثورى المستمر أن الشعب قد هان عليه كل غال ورخيص من تقديمه لشهداء جدد كل يوم ليلحقوا بموكب الشهداء الذين سبقوهم بالإيمان إلى الله عز وجل .
ورفضه فكرة دخول بيت الطاعة من جديد ليدفع فاتورة النفقة التى تحددها له محكمة الأسرة التى يديرها قضاة الإنقلاب.
تسمع وتشاهد على شاشة التلفاز كل يوم مواطنين بسطاء لاينتمون لأى فصيل يدينون اتهام إعلام الإنقلاب لهم بأنهم من الإخوان .
ويؤكدون أنهم خرجوا من أجل مصر وحريتها وليس من أجل أى فصيل آخر .
لقد أرادت تلك السلطة أن تخدع الشعب وتقنعه بأن من فى الشارع هم الإخوان فقط للضحك على ذقون الشعب وهم لايدرون أن الشعب كله الآن خارج البيوت لاسترداد ثورته وحريته .
إن قضية الحرية هى قضية كل الشعب وليس قضية فصيل بعينه كما يدعى الإنقلابيون .
- تشير الإحصاءات أن مصر فقدت فى حرب أكتوبر ضد العدو الصهيونى مايقرب من 667 شهيدا .
هم الشهداء الذين بذلو كل دماءهم علي أرض سيناء تحت علم مصر منذ بدء العمليات العسكرية في منتصف نهار السادس من اكتوبر 1973 وحتي النهاية...حتي آخر طلقة رصاص فى تلك المعركة وحتي آخر قطرة دم.... فما بالنا اليوم وقد تجاوز عدد الشهداء الآلاف .
والمصابون بلغوا عشرات الآلاف على أيدى ثلة باغية ظالمة دنسوا الجنسية المصرية بانتسابهم إليها ولوثوا شرف هذا الوطن وكرامته .
إن عدد ماسقط من شهداء اليوم قد يفوق عدد ماسقط من شهداء فى كل حروب مصر ضد العدو الصهيونى .
ولكن هذه المرة الذى يقتل شعبه هى أجهزة أمنية تدعى الوطنية وتزعم أنها تدافع عن مصر ضد الإرهاب .
وهى فى الحقيقة تدافع عن مصالحها الشخصية ومكتسباتها الفردية من خلال المحافظة على هذا النظام الانقلابى المستبد .
وهم الذين يمارسون الإرهاب بشتى صوره وأشكاله .
- إن الإنقلابات فى كل العالم باءت بالفشل ولاننسى سياد برى فى الصومال الذى انقلب على الحكومة المدنية وأرسى سياسة شيوعية ماركسية وحكم البلاد بالعنف والحديد والنار وكانت نهايته مأساوية .
ولاتنسى صفحات التاريخ ديكتاتور أندونسيا " سوهارتو " الذى حكم بلده بالحديد والنار وقتل مليونا من معارضيه وكانت نهايته المحاكمة والمرض والموت .
وهل ننسى الحاكم الديكتاتور تشاوتشيسكو فى رومانيا الذى أعدمه الشعب وهو وزوجته أمام شاشات شاشات التلفاز..؟
وهل ينسى العالم ديكتاتور السودان جعفر نميري الذى تولى الحكم بانقلاب عسكرى وكانت نهايته المرض والموت .
وهل ينسى العالم القذافى ونهايته وعلى عبدالله صالح ونهايته وزين العابدين ونهايته..؟
إن الطغاة قلة والمستضعفين كثرة ولايمكن للقلة ان تتحكم فى الكثرة إلا إذا كانت القلة مستانسة مستذلة أناخت ظهورها طوعا للطغاة لكى يركبوها ومدت أعناقها طوعا لكى يسحبوها وهذا ماترفضة الشعوب الأبية القوية الشريفة .
- إن المستقبل القريب سيشهد مفاجآت كثيرة نظرا للحالة المزرية التى وصل إليها الضباط والجنود بسبب تزايد الأمواج الهادرة من المتظاطرين كل يوم مما يوحى بحالة من الفيضان الثورى الذى سيغرق الانقلابيين فى موج كالجبال .
ولذا فإننى أرى ضرورة استمرار هذا الزخم الثورى لكسر شوكة هذا الانقلاب ومن يقف وراءه .
وسرعة ترميم الفجوة بين تحالف دعم الشرعية وبين كل القوى الثورية التى شاركت فى ثورة يناير على جناح السرعة .
إن المقاومة السلمية ستجبر العالم كله على احترام شعب مصر.
ثم إن كثيرا من شرفاء ضباط الجيش اليوم قلقون من سحب معدات ومدرعات وأسلحة الجيش فى مواجهة الشارع الثائر مما يوحى بأن الأمر ليس مستتبا لقائد الإنقلاب وربما تأتى اللحظة الفارقة قريبا التى ينحاز فيها الجيش لإرادة الشعب وإعادة الشرعية المخطوفة وعودة الجيش إلى ثكناته مرة أخرى ومعاقبة كل من قتل وسجن واعتقل كل برئ فى هذا الشعب .
وسيعترف بالثورة كل من جحد بها علوا واستكبارا .
لم يهزم أى جيش شعبه فى يوم ما.. لأن إرادة الشعوب أقوى من كل الخطوب على مر الازمنة وفى كل العصور والعهود .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون .
المصدر
- مقال:السعيد الخميسي يكتب: الثورة بين الصمود والجحود موقع: إخوان الدقهلية