الدكتور "العريني" شاهد على العصر(1)
الدكتور "العريني" شاهد على العصر(1)
﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات:55)
تعرَّفتُ على الصَّاغ طيَّار "عبدالمعنم عبدالرءوف"- وكان ضمن مجموعة من ضباط (الإخوان)، ومعهم الصاغ "جمال عبدالناصر"، ويرأسهم الصاغ متقاعد "محمود لبيب" وكيل جماعة (الإخوان المسلمون)- وذلك في منتصف الأربعينيات، وقد حرصت على لقائه وقتها؛ لأن معظم المصريين يعرفونه كضابط وطني مخلص لبلده، هرب مع الفريق "عزيز المصري" والنقيب طيار "ذو الفقار" في طائرة إلى (ألمانيا) للتفاهم مع الألمان؛ للتخلص من الاحتلال الإنجليزي الجاثم على أرض الوطن، وذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، وقدَّر الله أن تسقط الطائرة بعد إقلاعها في (قليوب)، واختفوا عن الأنظار في (إمبابة)، وفي حملةٍ تفتيشية للبوليس السياسي على آخرين تمَّ القبض عليهم، وحوكِموا وعادوا للجيش بعدها.
وفي حرب فلسطين عام (1947م- 1948م)، قامت مجموعة ضباط (الإخوان المسلمون) بتدريب الفدائيين قبل سفرهم للجهاد في فلسطين بعد وعد الإمام الشهيد "حسن البنَّا" الحاج "أمين الحسيني"- مفتي فلسطين- بأن (الإخوان) أولى بالجهاد في فلسطين من غيرهم، وقد تحقَّقت على أيدي الفدائيين- ومن عاونهم من الضباط المخلصين- بطولات عظيمة، فدكُّوا حصون اليهود، وألقوا في قلوبهم الرعب؛ وهو ما دعا "موشي ديان"- القائد اليهودي- إلى أن يأمر جنوده بعدم الاحتكاك بـ(الإخوان المسلمون)؛ لأنهم (جايين يموتوا).
وحوصر عدد كبير من الضباط المصريين في (الفالوجا) بقيادة السيد "طه الضبع الأسود"، الذي اغتيل بعد عودته للقاهرة، وكان من بينهم "جمال عبدالناصر"، فتسلَّل إليهم فدائيو (الإخوان) بالطعام والشراب والدواء وجميع احتياجاتهم بقيادة الشهيد "يوسف طلعت"، وبعد انسحاب الجيوش العربية- إثر خيانة ملوكها- قام الفدائيون (من الإخوان) بحماية الجيش المصري أثناء انسحابه، وعاد جنود الجيش سالمين إلى بلادهم، وتمَّ القبض على الفدائيين، وحوكِموا، وشهد أمام المحكمة قادةُ الجيش اللواء "المواوي" واللواء "فؤاد صادق"، وأشادوا بفدائيي (الإخوان).
وقد بذل إخوان الإسماعيلية- بقيادة الشهيد الأستاذ "محمد فرغلي"- دورًا كبيرًا في مؤازرة الفدائيين في فلسطين وفي القتال لمقاومة الإنجليز، وكانت كتائب فدائيي القنال تخرج من الجامعات، وقد أعطى مدير جامعة (فؤاد الأول)- جامعة القاهرة الآن- "مرو" باشا- عليه رحمة الله- تصريحًا بعمل معسكر للفدائيين في كلية العلوم، ويَسَّر لهم متطلباتهم من جيبه الخاص.
بعد حرب فلسطين قام "عبدالناصر" بتجميع الضباط الأحرار، فاتصل به الأخ "عبدالمنعم عبدالرءوف" ليذكره بما عاهدوا الله عليه من قبل- أن تكون الحركة إسلامية- فلم يوافق "عبدالناصر"، فكان رد "عبدالرءوف": "إننا نفترق، وكلٌّ منَّا يعمل في طريقه لخدمة بلدنا"، والتزم "عبدالرءوف" بالإسلام، وارتبط بالمنهج الذي حدده وبايع عليه الإمام "حسن البنَّا"، ولم يغيِّر، جزاه الله عنَّا خير جزاء.
وبعد انتخاب مرشدنا الثاني المرحوم الأستاذ "حسن الهضيبي" عام 1951م اتصل به الأخ "عبدالمنعم عبدالرءوف" وأبلغه بما حدث، وحذَّر (الإخوان) من التعامل مع "عبدالناصر"، وإثر ذلك قامت الثورة، وظنَّ (الإخوان المسلمون) أن "عبدالناصر" من (الإخوان)، فأعلن مرشدنا أن "عبدالناصر" ليس من (الإخوان).
وهنا أحب أن أذكر أن مرشدنا الثاني لم يكن بعيدًا عن (الإخوان)، فقد عاش بينهم، وارتبط بإمامنا الشهيد؛ عاش معه، وتربى على يديه، وكان حريصًا على لقائه باستمرار، ويرى فيه الخير الكثير.. كان إمامنا الشهيد يتعامل مع القلوب، فيرى بنور الله أن أحلامنا بالأمس حقائق الغد، وكان يربي إخوانه على بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الله، وهي التضحية المطلوبة من الأخ المسلم، التي ربَّى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه عليها: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية111).
تسلَّم مرشدُنا "الهضيبي" الراية فلم يغيِّر ولم يبدل، والتزم من أول يوم بثوابت الجماعة، ولم يفرِّط في شيء منها، وتحمَّل المسئولية كاملةً، وثبت هو وأهله وإخوانه أمام الهجمة الشرسة والابتلاءات الشديدة على الجماعة، فلم تلِن لهم قناةٌ، وثبتوا- وعلى رأسهم مرشدنا "حسن الهضيبي"- بثبات المؤمنين، الذين ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ (الأحزاب : من الآية23)، وكان مرشدنا الحالي الأستاذ "محمد مهدي عاكف"، ومن سبقه من مرشدينا الكرام، "المأمون الهضيبي" و"مشهور" و"أبو النصر" و"التلمساني"، من الذين آزروه ونصروه، والتزموا الطريق الذي بايعوا عليه إمامنا الشهيد.
وكان لمرشدنا "حسن الهضيبي" مآثرٌ عظيمةٌ مع إخوانه في أزمة التأييد لـ"عبدالناصر"، لم يمنع من يؤيد منهم؛ ولكن "حسن الهضيبي" (لا يؤيده).. هكذا يكون رجال الدعوات وقت الشدة، لا يخشون من يتآمر عليهم ويفرق وحدتهم وشملهم، فالله أولى به، فهي دعوته دعوة الحق والقوة، وقد وعد- جل شأنه- بنصرها والتمكين لها.. وللحديث بقية..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.