الحلقة العشرون: رحلة إلى أمريكا وأحداث سبتمبر 1981م

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
رحلة إلى أمريكا وأحداث سبتمبر 1981م

موقع القرضاوي/6-11-2008

سبتمبر سنة 1981م

في شهر سبتمبر سنة 1981م كنت في رحلة إلى أمريكا، بدعوة من اتحاد الطلبة المسلمين (WSA) لحضور مؤتمرهم السنوي. وكان مؤتمرهم من قبل يعقد في أواخر مايو من كل عام أي في أواخر العام الدراسي بالنسبة لي، فكان توقيته أنسب لأستاذ جامعي مثلي. ولكن الإخوة في أمريكا غيروا الموعد تبعا لتغير مواعيد الإجازات التي كانت تمكنهم من إقامة هذا اللقاء، حيث توجد عدة أيام إجازة متصلة.

وكنت على العادة أحضر المؤتمر ثم أقوم بجولة في بعض الولايات في طريق عودتي إلى المشرق. وفي أحد الأيام كنت مدعوا مع عدد من الإخوة للغداء عند أحد الإخوة من طلاب السعودية. لا أذكر اسمه الآن، وفوجئنا بأحد الإخوة يبلغنا بخبر شد انتباهنا، وأفزع قلوبنا، قال: إنه سمع من الإذاعة أن الرئيس السادات أمر باعتقال عدد كبير من القيادات الإسلامية والوطنية من رجال الأحزاب والمعارضة السياسية، مثل فؤاد سراج الدين، وعمر التلمساني وكثيرين، في بداية مواجهة مع القوى المصرية المعارضة، وأن عهد الحرية والانفتاح قد ولى، وأن الجو أصبح مكهربا، ولا يعلم إلا الله ماذا تكون العواقب.

أصبنا جميعا بالوجوم، ووقع النبأ علينا كالصاعقة، ولقد كنا نعلم أن الجو متوتر في مصر، ولكن لم نكن نتوقع أن السادات سيقدم على هذه الخطوة، ويعود بمصر إلى عهد المعتقلات المفتوحة لكل معارض، والتي كان يفاخر بأنه أغلقها إلى الأبد!

كنا في حاجة إلى معرفة المزيد من الأخبار والتفصيلات، حتى تتضح لنا الصورة، ونعرف ما يجري في ديارنا، وقال أحد الإخوة: بعد أقل من ساعة ستأتي نشرة الأخبار في التلفزيون الأمريكي، وأعتقد أنها ستبث علينا تفصيلا أكثر مما جاء في إذاعة الخبر لأول مرة.

وظللنا نتحدث إلى أن جاء وقت الغداء، ودعينا إلى المائدة، وأثناء تناولنا لطعامنا، تذكر أحد الإخوة، وقال: نسينا موعد النشرة التي بدأت من دقائق، افتحوا التليفزيون. ودهش الجميع عندما فوجئوا بصورة شيخ في التلفزيون يخطب في جمع كبير، وجم غفير. وقالوا: انظروا! هذه صورة الشيخ (يوسف) يخطب في ميدان عابدين بالقاهرة. وفعلا عرض التلفاز عدة لقطات لهذا المشهد: مشهد صلاة العيد الشهيرة في ميدان عابدين. لقطة للمصلين وهم سجود. ولقطة أخرى لي وأنا أخطب الجموع. ولقطة ثالثة للأخ الشاب الدكتور حلمي الجزار أمير طلاب الجماعة الإسلامية بجامعة القاهرة، وقد قدمته ليلقي كلمة الشباب.

كان للشيخ كشك طريقته الخاصة في التحريك والإثارة، كما له عشاقه الكثيرون ثم صورة أخرى للشيخ عبد الحميد كشك ـ رحمه الله ـ الخطيب المصري الأزهري الكفيف، الذي انتشرت أشرطة خطبه في مصر خاصة، وفي أنحاء العالم الإسلامي عامة، وكانت له طريقته الخاصة في التحريك والإثارة، كما له عشاقه الكثيرون.

كان التلفاز الأمريكي يتحدث عن الصحوة الإسلامية في مصر، والعناصر المؤثرة فيها. وكانوا يرصدون كل شيء عنها، ويعلمون علم اليقين أنها لو مضت في طريقها، وهيئت لها السبل، ووجدت من الحكماء من يرشد مسيرتها، لأمكن لها أن تغير المنطقة تغييرا جذريا، تغييرا ينبع من الداخل، ولا يفرض من الخارج، تغييرا يبدأ بإصلاح الأنفس أو إصلاح ما بالأنفس، وهو الأساس الحقيقي لكل تغيير، وفق السنة الثابتة التي قررها القرآن: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].

يمكن أن يبدأ التغيير في مصر، لتكون النموذج المحتذى، ثم يصدر إلى البلاد العربية الأخرى، ومنها إلى البلاد الإسلامية.

ومن المعروف: أن مصر رائدة في الخير، كما أنها رائدة في الشر، والقوم فيما وراء البحار يعلمون ذلك، ويدركون قدرة مصر على التأثير فيما حولها، وقدرة الإسلام على التغيير إذا أحسن فهمه، وأحسن تطبيقه. لهذا عُنُوا عناية بالغة ومكثفة بالصحوة الإسلامية التي فاجأتهم بظهورها وامتدادها وحيويتها، وتأثيرها في الشباب المثقف خاصة، في الجامعات المدنية والدينية، بل المدنية قبل الدينية، ولم يقتصر تأثيرها على الذكور، حتى أثرت في الفتيات، فبدأن يخلعن ـ باختيارهن ـ الثياب والأزياء التي استوردنها من الحضارة الغربية، التي سرن وراءها عقودا من الزمن، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، ويرتدين (الخمار) أو الطرحة أو (الإيشارب) وهو الذي أطلقوا عليه اسم (الحجاب).

إنها حركة نسائية طوعية اختيارية للمرأة المسلمة، بدأت في مصر، ثم انتقلت إلى غيرها، نتيجة طبيعية لتغير وعي الفتاة المسلمة بدينها، وشعورها بذاتها، وواجبها نحو ربها ونفسها.

سافر القرضاوي لأمريكا بدعوة من اتحاد الطلبة المسلمين (WSA) لحضور مؤتمرهم السنوي وكان القوم في أمريكا يدركون خطورة ما يجري في مصر، ويرصدونه ويدرسونه، وكم عقدوا عشرات الندوات، بل مئاتها، وكلفوا مراكز الأبحاث المختلفة بدراسة هذه الظاهرة اللافتة والمثيرة ـ وربما المفزعة لديهم ـ ظاهرة الصحوة الإسلامية، ومعرفة أسبابها ودوافعها ومؤثراتها، ونقاط القوة، ونقاط الضعف فيها، وحاضرها ومستقبلها.

لهذا لم يكن عجبا أن أرى صورتي في تليفزيون أمريكا، ضمن تقرير عن الصحوة في مصر، وأنشطتها المتميزة، ومنها: صلاة العيد في عابدين، التي كان ينظمها شباب الصحوة ويظهرون بها قوتهم، وقدرتهم على التجميع والتنظيم، وقد كان مئات الألوف يجتمعون وينصرفون في هدوء وسلام دون أن يحدث ما يعكر الصفو.

وقال لي الإخوة: الحمد لله، حيث لم تكن في القاهرة، وإلا فربما كنت الآن بين هؤلاء المعتقلين.

فقلت لهم: أحمد الله، لقد نجاني سبحانه من محنة 1965م بفضل من عنده، حيث لم أنزل في ذلك الصيف إلى القاهرة، وقد نجاني هذه المرة أيضا، ونحن لا نتمنى البلاء، ونسأل الله العافية، فإذا وقع البلاء سألنا الله تعالى الصبر عليه. وفي الحديث المتفق عليه: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، ولكن إذا لقيتم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"[1].

عودة إلى الدوحة

أحسب أني لم أطل المكث كثيرا في أمريكا بعد هذه الأحداث، إذ كان لا بد أن أعود إلى قطر، لأكون قريبا من الأحداث، التي قد تتسع وتتطور، وقد تفرض علينا أعباء وواجبات. وإن كنت أدعو الله تعالى ألا يتورط السادات فيما تورط فيه عبد الناصر، وينتقل إلى (جلاد) للشعب وللأحرار والشرفاء فيه. وبهذا يخسر رصيده الذي كان له عند المصريين، الذين ساندوه في تصفية مراكز القوى، وحين وجدوه متجها إلى إطلاق الحرية، وإنهاء الاعتقال، والمناداة بسيادة القانون.

هل كان تغيير السادات اتجاهه من نصير للحرية إلى سجان كبير أو مضيق على الحريات: انبثاقا من ذاته، وبدوافع من داخله، أو كان بتأثير من الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، أعني: الشيطان الأمريكي؟!


قطع القرضاوي زيارته لأمريكا وعاد إلى الدوحة حتى يكون قريبا من الأحداث هل خوّفه الشيطان الوسواس الأمريكي من خطر المد الإسلامي وتزايد بروزه وقوته، وأن الأولى مفاجأته بضربة عاجلة قبل أن يستفحل ويتطاير شرره، ويتضاعف خطره، ويصعب تداركه؟!

ليس هذا بمستبعد، بل هو المتوقع، وخصوصا بعد توقيع اتفاقية (كامب ديفيد) والمصالحة المنفردة مع إسرائيل، وكان القوم أرادوا أن يعزلوه عن الشعب المصري، بعد أن عزلوه عن الشعب العربي كله!

على أن السادات في السنوات الأخيرة من حكمه قد بدا عليه تغير كثير في حديثه وفي سلوكه وفي علاقاته، نتيجة الغرور والانتفاخ الذي أصابه بعد حرب العاشر من رمضان 1393هـ، أو السادس من أكتوبر 1973م. وسنعود إلى الحديث عن هذا، عند تقييمنا لعهد السادات بعد مقتله.

طالع في الحلقة القادمة:

الشيخ الغزالي في قطر متفق عليه